مناظرة أروى(1) بنت الحارث بن عبد المطلب مع معاوية

روى ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة، فلما رآها قال: مرحباً بك يا عمه.
قالت: كيف أنت يا بن أخي، لقد كفرت بعدي بالنعمة أسأت لابن عمك الصحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، بغير بلاء كان منك ، ولا من آبائك في الإسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ فأتعسَ الله منكم الجدود، وأصعر منكم الخدود حتى رد الله الحق إلى أهله، وكانت كلمة الله هي العليا، ونبينا محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هو المنصور على من ناواه ولو كره المشركون، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظاً ونصيباً وقدراً، حتى قبض الله نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مغفوراً ذنبه مرفوعاً درجته، شريفاً عند الله مرضيّاً، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى(2)، حيث يقول: ( ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) (3) ولم يجمع بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لنا شمل ولم يسهل لنا وعر وغايتنا الجنة وغايتكم النار.
قال عمرو بن العاص : أيتها العجوز الضالة، أقصري من قولك، وغضي من طرفك.
قالت: ومن أنت لا أم لك؟
قال: عمرو بن العاص.
قالت: يا بن اللخناء النابغة، أتكلّمني أربع على ظلعك، واعن بشأن نفسك، فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها، ولقد ادّعاك ستة من قريش، كلّ يزعم أنه أبوك ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر (أي فاجر) فأتم بهم فإنك بهم أشبه.
فقال مروان بن الحكم: أيتها العجوز الضالة، ساخ بصرك مع ذهاب عقلك، فلا يجوز شهادتك.
قالت: يا بني، أتتكلم فوالله لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم وإنك لشبهه في زرقة عينيك وحمرة شعرك مع قصر قامته وظاهر دمامته، ولقد رأيت الحكم مادّ القامة، ظاهر الأمة سبط الشعر، وما بينكما قرابة إلاّ كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب، فاسأل أمك عما ذكرت لك فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.
ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما عرضني لهؤلاء غيرك وإن أمك للقائلة في يوم اُحد في قتل حمزة ـ رحمة الله عليه ـ :

نـحــن جزينـاكم بيوم بدر *** والحرب يوم الحرب ذات سُعر
ما كان عن عُتبة لي من صبر *** أبي وعمي وأخـي وصهـري
شـفيت وحشي غليل صدري *** شفيت نفسي وقـضيت نـذري
فـشـكر وحشي علي عمري *** حتى تغيب أعظمـي في قبري

فأجبتها:

يابـنـت رقاع عظيم الكفر *** خُزِيـت فـي بـدر وغير بدر
صـبـحـك الله قبيل الفجر *** بالهاشميين الـطــوال الزهر
بكل قطاع حـســام يفري *** حمزة ليثي وعلي صـقــري
إذ رام شبيب وأبوك غـدري *** أعطيت وحشي ضمير الصدر
هتك وحشي حجاب الستـر *** ما للبغايا بعدها مـن فـخــر

فقال معاوية لمروان وعمرو: ويلكما أنتما عرضتماني لها وأسمعتماني ما أكره، ثم قال لها: يا عمة اقصدي قصد حاجتك ودعي عنك أساطير النساء.
قالت: تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار وألفي دينار.
قال: ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟
قالت: أشتري بهاعينا خرخارة في أرض خوارة تكون لولد الحارث بن المطلب.
قال: نعم الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟
قالت: أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.
قال: نعم الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟
قالت: أستعين بها على عسر المدينة وزيارة بيت الله الحرام.
قال: نعم الموضع وضعتها، هي لك نعم وكرامة، ثم قال: أما والله لو كان علي ما أمر لك بها.
قالت: صدقت إن علياً أدى الأمانة، وعمل بأمر الله ، وأخذ به، وأنت ضيعت أمانتك، وخنت الله في ماله، فأعطيت مال الله من لا يستحقه، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبيئها، فلم تأخذ بها ودعانا (أي عليُّ) إلى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها، وما سألتك من مالك شيئا فتمن به، إنما سألتك من حقنا ولا نرى أخذ شيء غير حقنا، أتذكر عليّاً فض الله فاك وأجهد بلاءك، ثم علا بكاؤها وقالت:

ألا يـا عـين ويحك أسعدينا *** ألا وابكي أمير المؤمنـيـنا
رزينا خير من ركب المطايا *** وفارسها ومن ركب السفـينا
ومن لبَـسَ النعالَ أو احتذاها *** ومن قرأ المثاني والمئــينا
إذا استقبـلت وجه أبي حسن *** رأيت البدر راعَ النـاظـرينا
ولا والله لا أنـســى علياً *** وحُـسن صلاته في الراكعينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا *** بخير الناس طُرّاً أجـمــعينا


فأمر معاوية لها بستة آلاف، وقال لها: يا عمة أنفقي هذه في ما تُحبين، فإذا احتجتيني فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك ومعونتك إن شاء الله (4).
____________
(1) هي: أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ابنة عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ ، أمها غزية بنت قيس بن طريق بن عبد العزى بن عامر بن عميرة ابن وديعة بن الحارث بن فهر ، تزوّجها أبو وداعة بن صبرة بن سعيد بن سعد ابن سهم فولدت له: المطلب، وأبا سفيان، وأم جميل، وأم حكيم، والربعة بني أبي وداعة، توفيت حدود سنة 50 هـ.
وهي من ربات الفصاحة والبلاغة، كانت أغلظ الوافدات على معاوية بن أبي سفيان، حيث أسمعته ومن معه كلاماً قارصاً ـ ووبخَته على أخذه ما ليس له، واحتجت بأدلة وبراهين على خلافة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وأظهرت مظلوميته.
نعم هكذا كنّ نساء العقيدة والمبدأ يتحلين بالشجاعة والصبر والثبات على ما أنعم الله عليهن بمعرفة الولاية الحقّة، فتراهنَّ في حياة الإمام علي ـ عليه السلام ـ يقفن إلى جنبه يجاهدن بلسانهن، ويحضرن معه واقعة صفين يحرّضن الرجال على القتال بشعر أو نثر، وبعد استشهاده ـ عليه السلام ـ واغتصاب معاوية الخلافة نراه يبعث وراءهن قاصداً إذلالهنّ وإظهار نفسه أمام الناس بأنه يتحلى بالعفو عند المقدرة إذ يعفو عنهن ويُكرمُ بعضهن، إلا أنهن يقفن موقفاً بطولياً ويسمعن معاوية ومن معه كلاماً قارصاً يدل على ثبات عقيدتهن ورسوخها، نعم إنها كلمة حق عند سلطان جائر. عن كتاب أعلام النساء المؤمنات ص99 ـ 103 ( لمحمد الحسون وأم علي مشكور ).
راجع ترجمتها في: الطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص50، أعلام النساء ج1 ص28، الأعلام للزركلي ج1 ص290، أعيان النساء ص24.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) سورة الأعراف: الآية 150.
وجاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص20: تحت عنوان: (كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه) … وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟
قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبدالله وأخا رسوله، قال عمر: أما عبدالله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك، فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يصيح ويبكي، وينادي: ( يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني )… الخ.
(4) بلاغات النساء لابن طيفور ص27، العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ج1 ص357 باختلاف.

العودة