مناظرة التيجاني مع أحد علماء السنة في حكم التقيّة

يقول الدكتور التيجاني : وقد عمل بالتقيّة الصحابة الكرام في عهد الحكام الظالمين ، أمثال معاوية الذي كان يقتل كلّ من امتنع عن لعن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وقصّة حجر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة(1) وأمثال يزيد وابن زياد والحجّاج وعبد الملك بن مروان وأضرابهم ، ولو شئتُ جمع الشواهد على عمل الصحابة بالتقيّة(2) لاستوجب كتاباً كاملاً ، ولكن ما أوردته من أدلّة أهل السنّة والجماعة كاف بحمد الله .
ولا أترك هذه الفرصة تفوت لاَروي قصّة طريفة وقعت لي شخصيّاً مع عالم من علماء أهل السنّة ، التقينا في الطائرة وكنّا من المدعوين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنّة ، وكان من دعاة الوحدة ، وأُعجبت به غير أنّه ساءني قوله : بأنّ على الشيعة الآن أن تترك بعض المعتقدات التي تُسبب اختلاف المسلمين والطعن على بعضهم البعض.
وسألته مثل ماذا ؟
وأجاب على الفور : مثل المتعة والتقيّة ، وحاولت جهدي إقناعه بأنّ المتعة هي زواج مشروع ، والتقيّة رخصة من الله ، ولكنّه أصرّ على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلّتي ، مدّعياً أن ما أوردته كلّه صحيح ، ولكن يجب تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين ، واستغربت منه هذا المنطق الذي يأمر بترك أحكام الله من أجل وحدة المسلمين ، وقلت له مجاملة : لو توقّفت وحدة المسلمين على هذا الاَمر لكنت أوّل من أجاب .
ونزلنا في مطار لندن وكنتُ أمشي خلفه ولمّا تقدّمنا إلى شرطة المطار سُئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا ؟ فأجابهم : بأنه جاء للمعالجة ، وأدّعيت أنا بأني جئت لزيارة بعض أصدقائي ، ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة استلام الحقائب ، عند ذلك همست له : أرأيت كيف أن التقيّة صالحة في كل زمان ؟
قال : كيف ؟
قلت : لاَنّنا كذبنا على الشرطة ، أنا بقولي : جئت لزيارة أصدقائي ، وأنت بقولك : جئت للعلاج ، في حين أنّنا قدمنا للمؤتمر .
إبتسم ، وعرف بأنّه كذب على مسمع منّي فقال : أليس في المؤتمرات الاِسلامية علاج لنفوسنا ؟ ضحكت قائلاً : أو ليس فيها زيارة لاِخواننا(3) ؟
____________
(1) راجع : تاريخ الطبري : ج5 ص 253 ، الكامل في التاريخ لابن الاَثير : ج3 ص472.
(2) قال العلاّمة المظفر في كتابه عقائد الامامية ص 343 ـ 346 : (عقيدتنا في التقيّة) :
روي عن صادق آل البيت عليه السلام في الاَثر الصحيح : « التقيّة ديني ودين آبائي » و « من لا تقيّة له لا دين له » ، وكذلك هي ، لقد كانت شعاراً لآل البيت عليهم السلام ، دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين وجمعاً لكلمتهم ، ولمّاً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الاِمامية دون غيرها من الطوائف والاَُمم ، وكلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به لا بد أن يتكتّم ويتقي في مواضع الخطر ، وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول ومن المعلوم أن الامامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة أو اُمّة أخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقيّة بمكاتمة المخالفين لهم وترك مظاهرتهم وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا ، ولهذا السبب امتازوا (بالتقية) وعُرفوا بها دون سواهم .
وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية. وليست هي بواجبة على كل حال ، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الاَحوال كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للاِسلام ، وجهاد في سبيله ، فإنّه يستهان بالاَموال ولا تعز النفوس ، وقد تحرم التقية في الاَعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة أو رواجاً للباطل ، أو فساداً في الدين ، أو ضرراً بالغاً على المسلمين باضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم ، وعلى كل حال ليس معنى التقية عند الامامية أنها تجعل منهم جمعية سرية لغاية الهدم والتخريب ، كما يريد أن يصورها بعض أعدائهم غير المتورعين في إدراك الاَُمور على وجهها ، ولا يكلِّفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا ، كما أنه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سراً من الاَسرار لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به ، كيف وكتب الاِمامية ومؤلفاتهم فيما يخص الفقه والاَحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحد الذي ينتظر من أية أُمّة تدين بدينها.
بلى ! إن عقيدتنا في التقيّة قد استغلها من أراد التشنيع على الاِمامية ، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم ، وكأنهم كان لا يشفي غليلهم إلاّ أن تقدم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الاَمويين والعباسيين ، بل العثمانيين .
وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية ، فإنا نقول له : « أولاً » أننا متبعون لاَئمّتنا عليهم السلام ونحن نهتدي بهداهم ، وهم أمرونا بها وفرضوها علينا وقت الحاجة ، وهي عندهم من الدين وقد سمعت قول الصادق ـ عليه السلام ـ : (من لا تقية له لا دين له) (راجع : بحار الاَنوار : ج 64 ص 103 ح 21 و ج 75 ص 347 ح 4).
و « ثانياً » قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله تعالى : « النحل : 106 » ( إلاّ مَن أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الاِسلام ، وقوله تعالى : ( إلاّ أن تتقوا منهم تقاة ) ، وقوله تعالى « المؤمن : 28 » : ( وَقالَ رَجُلٌ مِن آلِ فِرعونَ يَكتُم إيمانَهُ ).
(3) مع الصادقين للدكتور التيجاني السماوي : ص188 .

العودة