مناظرة التيجاني مع السيد الصدر (قدس سره) في حكم الجمع بين الصلاتين(1)

قال الدكتور التيجاني في معرض حديثه عن مسألة جواز الجمع بين الصلاتين : وأنا أتذكّر بأنّ أوّل صلاة جمعت فيها بين الظهر والعصر كانت بإمامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ عليه رضوان الله ـ إذ كنتُ أنا في النجف أفرّق بين الظهر والعصر ، حتّى كان ذلك اليوم السعيد الذي خرجتُ فيه مع السيد محمد باقرالصدر من بيته إلى المسجد الذي يؤمّ فيه مُقلّديه الذين احترموني وتركوا لي مكاناً خلفه بالضّبط ، ولّما انتهت صلاة الظهر وأقيمت صلاة العصر ، حدّثتني نفسي بالانسحاب ، ولكن بقيتُ لسببين أوّلهما هيبةُ السيد الصّدر وخشوعه في الصلاة حتى تمنّيتُ أن تطول ، وثانيهما وجودي في ذلك المكان ، وأنا اقرب المصلّين إليه ، وأحسستُ بقوّة قاهرة تشدّني إليه .
ولّما فرغنا من أداء فريضة العصر وانهال عليه النّاس يسألونه بقيتُ خلفَه أسمع الاَسئلة والاَجابة عليها إلا ما كان خفيّاً ، ثم أخذني معه إلى بيته للغذاء وهناك وجدتُ نفسي ضيف الشرّف ، واغتنمتُ فرصة ذلك المجلس وسألته عن الجمع بين الصلاتين ؟
ـ سيدي ! أيمكن للمسلم أن يجمع بين الفريضتين في حالة الضرورة ؟
قال : يمكن له أن يجمع بين الفريضتين في جميع الحالات وبدون ضرورة.
قلتُ : وما هي حجّتكم ؟
قال : لاَن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع بين الفريضتين في المدينة في غير سفر ولا خوف ولا مطر ولا ضرورة ، وإنها فقط لدفع الحرج عنّا ، وهذا بحمد الله ثابت عندنا من طريق الاَئمة الاَطهار(2) وثابت أيضاً عندكم .
ـ استغربتُ كيف يكون ثابتاً عندنا ولم أسمع به قبل ذلك اليوم ، ولا رأيتُ أحداً من أهل السنّة والجماعة يعمل به ، بل بالعكس يقولون ببطلان الصلاة إذا وقعت حتى دقيقة قبل الاَذان ، فكيف بمن يصلّيها قبل ساعات مع الظهر ، أو يصلّي صلاة العشاء مع المغرب ، فهذا يبدو عندنا مُنكراً وباطلاً !!
وفهِمَ السيد محمد باقرالصّدر حيرتي واستغرابي ، وهمس إلى بعض الحاضرين فقام مسرعاً وجاءه بكتابين عرفتُ بأنّهما صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وكلّف السيد الصدر ذلك الطالب بأن يطلعني على الاَحاديث التي تتعلّق بالجمع بين الفريضتين ، وقرأتُ بنفسي في صحيح البخاري(3) كيف جمع النبي صلى الله عليه وآله فريضة الظهر والعصر وكذلك فريضة المغرب والعشاء كما قرأت في صحيح مسلم(4) باباً كاملاً في الجمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوفٍ ؟ ولا مطر ولا سفر.
ولم أخفِ تعجّبي ودهشتي ، وإن كان الشكّ داخلني بأنّ البخاري ومسلم اللذين عندهم قد يكونان محرفين ، وأخفيتُ في نفسي أن أراجع هذين الكتابين في تونس .
وسألني السيد محمد باقر الصدر عن رايي بعد هذا الدّليل ؟
قلت : أنتم على الحق ، وأنتُم صادقون في ما تقولون ، وبودّي أن أسألكم سؤالاً آخر .
قال : تفضّل .
قلت : هل يجوز الجمع بين الصلوات الاَربع كما يفعل كثيرٌ من الناس عندنا لما يرجعوا في الليل يصلّون الظهر والعصر والمغرب والعشاء قضاءً ؟
قال : هذا لا يجوز .
قلتُ : إنّك قلتَ لي فيما سبق : بأن رسول الله صلى الله عليه وآله فرّق وجَمع ، وبذلك فهمنا مواقيت الصلاة التي ارتضاهاالله سبحانه .
قال : إنّ لفريضتي الظهر والعصر وقتاً مشتركاً ، ويبتدىء من زوال الشمس إلى الغروب ، ولفريضتي المغرب والعشاء أيضاً وقتٌ مشترك ، ويبتدىء من غروب الشمس إلى منتصف الليل ، ولفريضة الصبح وقتٌ واحدٌ يبتدىء من طلوع الفجر إلى شروق الشمس ، فمن خالف هذه المواقيت يكون خالف الآية الكريمة ( إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتٌ عَلىَ المؤُمِنِينَ كِتَاباً مَّوقُوتاً )(5)فلا يمكن لنا مثلاً أن نصلّي الصبح قبل الفجر ، ولا بعد شروق الشمس ، أذأً كما لا يمكن لنا أن نصلّي فريضتي الظهر والعصر قبل الزوال أو بعد الغروب ، كما لا يجوز لنا أن نصلّي فريضتي المغرب والعشاء قبل الغروب ، ولا بعد منتصف الليل .
وشكرتُ السيد محمد باقر الصدر ، وإن كنتُ اقتنعتُ بكلّ أقواله ، غير أنّي لم أجمع بين الفريضتين بعد مغادرته ، إلاّ عندما رجعتُ إلى تونس وانهمكتُ في البحث واستبصرتُ.
هذه قصّتي مع الشهيد الصدر رحمه الله في خصوص الجمع بين الفريضتين أرويها ليتبيّن إخواني من أهل السنّة والجماعة أولاً ، كيف تكون أخلاق العلماء الذين تواضعوا حتّى كانوا بحق ورثة الاَنبياء في العلم والاَخلاق .
وثانياً : كيف نجهلُ ما في صحاحنا ، ونُشنّعُ على غيرنا بأمور نعتقدُ نحن بصحّتها ، وقد وردت في صحاحنا :
فقد أخرج الاِمام أحمد بن حنبل في مسنده(6) عن ابن عباس قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله في المدينة مقيماً غير مسافر سبعاً وثمانياً.
وأخرج الاِمام مالك في الموطاً(7)عن ابن عباس قال : صلّى رسول اللهصلى الله عليه وآله الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاءَ جميعاً ، في غير خوف ولا سفرٍ.
وأخرج الاِمام مسلم في صحيحه(8)في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، قال : عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، في غير خوف ولا سفر .
كما أخرج عن ابن عباس أيضاً قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بين الظُهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، بالمدينة في غير خوفٍ ولا مطرٍ ، قال : قلتُ لابن عباس : لم فعلَ ذلك ؟ قال : كي لا يحرجَ أُمّتَهُ(9).
ومّما يدلّك أخي القارىء أن هذه السنة النّبوية كانت مشهورة لدى الصحابةويعملون بها ، ما رواه مسلم أيضاً في صحيحه(10) في نفس الباب قال : خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غَرُبت الشمس وبدت النجوم ، وجعل النّاس يقولون : الصّلاة الصّلاة ، قال : فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتُعلّمني بالسّنة لاَ أمّ لك ! ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء . وفي رواية أخرى(11) قال ابن عباس للرجل : لااُم لك ! أتعلّمنا بالصّلاة ؟ وكنّا نجمعُ بين الصّلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله .
وأخرج الاِمام البخاري في صحيحه(12) في باب وقت المغرب قال : حدّثنا آدم ، قال : حدّثنا شعبة ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، قال : سمعتُ جابر بن زيد عن ابن عبّاس قال : صلّى النبي صلى الله عليه وآله سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً.
كما أخرج البخاري في صحيحه في باب وقت العصر ، عن سهل بن حُنيف قال سمعتُ أبا أمامة يقول : صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ، ثم خرجنا حتّىدخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلّي العصر ، فقلتُ : يا عمّ ، ما هذه الصلاة التي صلّيت ؟ قال : العصْرُ وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله التي كنّا نصلّي معه.(3)
ومع وضوح هذه الاَحاديث فإنك لا تزال تجد من يشنع بذلك على الشيعة ، وقد حَدث ذلك مرة في تونس ، فقد قام الاِمام عندنا في مدينة قفصة ليشنع علينا ويُشهّر بنا وسط المصلّين قائلاً : أرأيتم هذا الدّين الذي جاؤوا به ، إنهم بعد صلاة الظهر يقومون ويصلّون العصر ، إنه دين جديد ليس هو دين محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ، هؤلاء يخالفون القرآن الذي يقول : ( إنَّ الصلاةَ كانتْ عَلى المؤمنينَ كِتاباً مَوقُوتاً )(14) وما ترك شيئاً إلاّ وشتم به المستبصرين .
وجاءني أحد المستبصرين ، وهو شاب على درجة كبيرة من الثقافة ، وحكى لي ما قاله الاِمام بألم ومرارة ، فأعطيته صحيح البخاري وصحيح مسلم وطلبتُ منه أن يطلعه على صحّة الجمع ، وهو من سنّة النبي صلى الله عليه وآله ، لاَنني لا أريد الجدال معه ، فقد سبق لي أن جادلته بالتي هي أحسن فقابلني بالشتم والسبّ والتّهم الباطلة ، والمهم أن صديقي لم ينقطع من الصلاة خلفَه ، فبعد انتهاء الصلاةجلس الاِمام كعادته للدّرس فتقدّم إليه صديقي بالسؤال عن الجمع بين الفريضتين ؟
فقال : إنها من بدع الشيعة .
فقال له صديقي : ولكنّها ثابتة في صحيح البخاري ومسلم .
فقال له : غير صحيح ، فأخرج له صحيح البخاري وصحيح مسلم وأعطاه فقرأ باب الجمع بين الصلاتين .
يقول صديقي : فلمّا صدمتهُ الحقيقة أمام المصلّين الذين يستمعون لدروسه ، أغلق الكتب وأرجعها إليّ قائلاً : هذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وآله ، وحتى تصبح أنت رسول الله فبإمكانك أن تصلّيها .
يقول هذا الصديق : فعرفتُ أنّه جاهل متعصّبُ ، وأقسمتُ من يومها أن لا أصلّي خلفَهُ ، بعد ذلك طلبتُ من صديقي بأن يرجع إليه ليُطلِعَه على أنّ ابن عبّاس كان يصلّي تلك الصلاة ، وكذلك أنس بن مالك ، وكثير من الصحابة ، فلماذا يريد هو تخصيصها برسول الله ، أو لم يكن لنا في رسول الله أسوةٌ حسنة ؟ ولكنّ صديقي اعتذر لي قَائلاً : لا داعي لذلك ، وإنّه لا يقتنع ولو جاءه رسول الله صلى الله عليه وآله .
وإنّه والحمد لله بعد أن عرف كثيرٌ من الشباب هذه الحقيقة ، وهي الجمع بين الصلاتين ، رجع أغلبهم إلى الصّلاة بعد تركها ، لاَنهم كانوا يُعانُونَ من فوات الصلاة في وقتها ، ويجمعون الاَوقات الاَربعة في اللّيل فتملّ قلوبهم ، وأدركوا الحكمة في الجمع بين الفريضتين ، لاَن كل الموظفين والطلبة وعامة الناس يقدرون على أداء الصلوات في أوقاتها وهم مطمئنُّون ، وفهموا قول الرسول صلى الله عليه وآله ، كي لا أحرج أمّتي(15).
____________
(1) مسألة الجمع بين الصلاتين من المسائل التي اختلفت فيها آراء المذاهب الاِسلامية ، وذلك مع وضوح دليل جواز الجمع في كتب الجمهور ورووا أن النبي صلى الله عليه وآله جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، من غير سفر ولا خوف ولا مطر ، ومع ذلك قد شُنّع على الشيعة الاِمامية في مسألة الجمع إذ عملوا بسنة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته ، أضف إلى ذلك ما ثبت عن بعض الصحابة في جواز ذلك كما في كتب الصحاح ، مع أن المذاهب الاِسلامية يرون جواز الجمع بين الظهر والعصر في عرفة ويسمى جمع تقديم ، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة ويُسمى جمع تأخير ، وإنما الخلاف هو في مسألة الجمع بدون عذر السفر وغيره من سائر الاَعذار .
فأما المالكية ، عندهم أن أسباب الجمع هي السفر والمرض والمطر والطين مع الظلمة في آخر الشهر ، ووجود الحاج بعرفة أو مزدلفة .
وأمّا الشافعية ، قالوا : بجواز الجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو تأخير للمسافر مسافة القصر ، ويجوز جمعها جمع تقديم فقط بسبب نزول المطر .
وأما الحنفيّة ، قالوا : لا يجوز الجمع بين صلاتين في وقت واحد لا في السفر ولا في الحضر بأي عذر من الاَعذار إلاّ في حالتين .
الاَولى : يجوز جمع الظهر والعصر في وقت الظهر جمع تقديم بشروط أربعة ، منها أن يكون ذلك في يوم عرفة .
الثانية : يجوز جمع المغرب والعشاء في وقت العشاء جمع تأخير بشرطين : أن يكون ذلك بالمزدلفة ، وأن يكون محرماً بالحج ، وكل صلاتين لا يؤذن لهما إلا أذان واحد ، وان كان لكل منهما إقامة واحدة .
وأمّا الحنابلة ، قالوا بجواز الجمع المذكور تقديماً وتأخيراً فانه مباح ولكن تركه أفضل ، واباحة الجمع عندهم لا بد أن يكون بأحد الاعذار التالية كأن يكون المصلي مسافراً أو مريضاً تلحقه مشقة بترك الجمع ، أو امرأة مرضعة أو مستحاضة وللعاجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة ، وللعاجز عن معرفة الوقت كالاَعمى والساكن تحت الاَرض ، ولمن خاف على نفسه أو ماله أو عرضه ، ولمن خاف ضرر يلحقه بتركه في معيشته ، وفي ذلك سعة للعمال الذين يستحيل عليهم ترك أعمالهم . راجع : كتاب الفقه على المذاهب الاَربعة للجزيري : ج 1 ص 483 ـ 487 .
(2) راجع : وسائل الشيعة للحر العاملي : ج 3 ص 160 ، (ب 32 من أبواب المواقيت) .
(3) صحيح البخاري : ج 1 ص 143 (ب تأخير الظهر إلى العصر) و ج 2 ص 57 ، (ب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء) و ص 199 (ب الجمع بين الصلاتين بعرفة).
(4) صحيح مسلم : ج 1 ص 489 ، (ب 6 الجمع بين الصلاتين في الحضر) .
(5) سورة النساء : الآية 103 .
(6) مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 221 .
(7) موطاً الإمام مالك : ج1 ص144 ح 4 .
(8) صحيح مسلم ج1 ص489 ح 49 (705) (باب الجمع بين الصلاتين في الحضر) ح 49.
(9) صحيح مسلم ج1 ص491 ح 54 (705).
(10) صحيح مسلم ج1 ص491 ح 57 (باب الجمع بين الصلاتين في الحضر) .
(11) صحيح مسلم : ج 1 ص 492 ح 58 ، (باب الجمع بين الصلاتين) .
(12) صحيح البخاري : ج1 ص147 (باب وقت المغرب).
(13) صحيح البخاري ج1 ص144 ـ 145 (باب وقتُ العصر).
(14) سورة النساء : الآية 103 .
(15) مع الصادقين للتيجاني : ص 210 ـ 215 .

العودة