(والتقية [يعني: عند الاثني عشرية] أن يخفي المؤمن بعض ما يعتقد ولا يجهر به؛ خشية الأذى، أو للتمكن من الوصول إلى ما يريد من نصرة لدين الله أو للحق في ذاته. والأصل فيها ـ التقية ـ قوله تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإلى اللّهِ الْمَصِيرُ) (1)..)(2).
ويقول الإمام (محمد أبو زهرة) في صدد الرد على الوهابية الذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ثم يخلطون بين مقام الإمام عند الغلاة ومقامه عند الاثني عشرية:
(وإنّ الإمامية [الاثني عشرية] لا يصلون بالإمام إلى مرتبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم)(3).
وكان إمام أهل السنّة الإمام الأكبر شيخ الأزهر (محمود شلتوت) ـ رحمه الله ـ من أكثر الذين دافعوا عن منهج قدماء أهل السنّة في التعامل مع المذهب الاثني عشري، وبذلوا جهوداً في محاربة المنهج الوهابي في دراسة هذا المذهب؛ لأنّهم
____________
(1) سورة آل عمران: 28.
(2) الإمام الصادق، محمد أبو زهرة: ص 22.
(3) الإمام الصادق، محمد أبو زهرة: ص 151.
ولقد حاول الإمام شلتوت ـ رحمه الله ـ دعوة الوهابية البريئة إلى الرجوع لمنهج أهل السنّة، كما حاول أن يزيل الضجة التي خلقتها الوهابية بين الاثني عشرية وأهل السنّة، فحاربه الذين ما زالوا مصابين بمشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة من الوهابيين، وحسبوا أنّه يدعو للتقريب بين أهل السنّة وبين فرق الغلاة.
وأراد ـ رحمه الله ـ أن يبين للوهابيين أنّ المقالات التي ينسبوها للاثني عشرية هي مقالات السبئية والخطابية والبيانية الذين كفرهم الاثنا عشرية وأهل السنّة، واعتبر أنّهم نسبوا تلك المقالات القبيحة إلى الاثني عشرية لأنهم يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ومن ثَمَّ فلا غرابة أن يخلطوا بين حقائق الاثني عشرية ومقالات الغلاة.
وقد اضطر إلى مهاجمة بعض المعاصرين من أهل السنّة الذين تأثروا بالمنهج الوهابي، وبدأوا يشككون في منهج قدماء أهل السنّة في التعامل مع الاثني عشرية؛ لأنّهم كانوا العقبة الكبرى ـ في نظره ـ أمام التقريب بين السنّة والاثني عشرية، قال رحمه الله:
(حارب هذه الفكرة [أي فكرة التقريب بين السنّة والاثني عشرية] ضيقوا الأُفق، كما حاربها صنف آخر من ذوي الاغراض الخاصّة السيئة، ولا تخلوا أية أُمة من هذا الصنف من الناس.. حاربها من يجدون في التفرق ضماناً لبقائهم وعيشهم، وحاربها ذوو النفوس المريضة [من أمثال المصابين بمرض الخلط بين الاثني عشرية والغلاة] وأصحاب الأهواء والنزعات الخاصّة، هؤلاء وأولئك ممن يؤجرون أقلامهم لسياسات مفرقة، لها أساليبها المباشرة وغير المباشرة في
والذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية هم الذين لا يميزون بين الاثني عشرية والغلاة، وبالتالي لا يمكن لهم أن يدركوا ـ أيضاً ـ الفرق بين الرافضة والاثني عشرية. وقد واجه المفكّر السنِّي الكبير (أنور الجندي) أتباع الوهابية الذين لا يفرِّقون بين الرافضة وبين الاثني عشرية وقال: (والرافضة غير السنّة والشيعة)(2)؛ لأنّ الرافضة كلمة عامة في كتب الفرق تشمل الكثير من الفرق المغالية التي كفرّها علماء الاثني عشرية قبل أن يكفرّها أهل السنّة.
وهناك مئات الأقوال لكبار علماء أهل السنة التي تحذر من مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية أو من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة؛ لو ذكرناها كلها لتضاعف حجم الكتاب، وسنذكر الكثير منها في القسم الثاني من هذا الكتاب.
بعد أن ذكرنا أقوال كبار علماء أهل السنّة في خطورة مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو خطورة مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة؛ يتضح لنا أنّه ليس هناك مشكلة اخترعها خصوم الإسلام في سبيل ضرب المسلمين وهدم وحدتهم أعظم من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة. وتأتي الخطورة الكبرى في هذه المشكلة أنها من المشكلات غير البارزة والظاهرة التي يمكن كشفها ومعرفتها لأوّل وهلة، بل هي مشكلة خفية استطاع
____________
(1) مجلة (رسالة الإسلام) المصرية، ونحن نأسف كثيراً اننا وجدنا بعض المسلمين يحاربون فكرة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، مع أنهم يقولون بأن كلا الطائفتين من المسلمين. والغريب من هؤلاء أنهم يزعمون أن الخصومة بين الاثني عشرية وبين الوهابية اشد من الخصومة بين المسلمين وبين اليهود!!! وهذا بهتان عظيم والله المستعان على ما يقولون.
(2) الإسلام وحركة التاريخ، أنور الجندي: ص 28.
ومن ثَمّ وقع في حبال هذه المشكلة الخبيثة القبيحة بعض عوام أهل السنّة في العصور المتأخرة، الذين انخدعوا بالمنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية، ولم يَكتشف خباياها ومقاصدها الخطيرة إلاّ كبار علماء أهل السنّة المحققين. وبفضل جهود كبار علماء أهل السنّة بدأت هذه المشكلة تنحصر في إطار جماعة قليلة مهددة بالانقراض.
ونحب ـ هنا ـ أنّ ننبه إلى أننا رأينا تلك الوهابية البريئة تقول: بأنّ هنالك مشكلة غلو عند الاثني عشرية. وهم لا يدركون أنّه يوجد عندهم في الحقيقة مشكلة خلط بين الاثني عشرية والغلو، أو مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. وحقيقة الأمر أنّ هنالك مشكلة خلط عند الوهابية لا مشكلة غلو عند الاثني عشرية. ونرى هؤلاء المصابين بمشكلة الخلط يبحثون عن علل الغلو عند الاثني عشرية، وهم لا يدركون أنه كان الأولى لهم أن يبحثوا عن علل خلطهم بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة، وأنّه ليس هناك مشكلة غلو عند الاثني عشرية، بل هي مشكلة خلط بين فرق الغلاة والاثني عشرية أو مشكلة خطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية.
وقد لاحظت أنّ أتباع الوهابية ـ من حيث لا يعلمون ـ يبحثون ويجهدون أنفسهم في البحث عن علل الغلو عند الاثني عشرية، ويبحثون عن مشكلة الغلو عند الاثني عشرية. أما أهل السنّة المحققون المعاصرون فقد اكتشفوا أنّ أتباع الفرقة الوهابية مصابون بالخلط بين الاثني عشرية والغلاة، بسبب عدم قراءتهم الصحيحة لكتب قدماء أهل السنّة عن الاثني عشرية. ومن ثَمّ اتجه كبار أهل السنّة المعاصرين المحققين إلى دراسة علل الخلط بين الغلاة والاثني عشرية عند الوهابية، وصرّحوا بأنّ الوهابيين يحسبون أنّ هنالك مشكلة غلو عند الاثني
ونحن بعد دراسة طويلة لمناهج البحث عن حقائق الاثني عشرية وخصائصها قد حصرناها في مناهج ثلاثة:
1 ـ المنهج الأول: منهج الجماعة الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
2 ـ المنهج الثاني: منهج قدماء أهل السنّة ومتأخريهم في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
3 ـ المنهج الثالث: منهج علماء الاثني عشرية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
ونحن ـ في بداية الأمر ـ كنا نؤمن بمنهج الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها، ثم تعرّفنا على منهج قدماء علماء أهل السنّة ومتأخريهم وانتقلنا إليه، ثم اهتدينا إلى منهج علماء الاثني عشرية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها. وقد لاحظنا أنّ هنالك تناقضاً في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ بين منهج الوهابية ومنهج قدماء علماء أهل السنّة ومتأخريهم. ولا شك أنّه من المستحيل أن تكون كل تفسيراتهم صحيحة في الوقت الذي ينعدم الاتفاق بينها. ولو قلنا بصحتها مع تعارضها وتباينها للزم أن تكون كلها باطلة ـ بالمعنى المنطقي ـ أي غير صحيحة، ولما استحق أي تفسير يقدّمه علماء الوهابية أو علماء أهل السنّة لحقائق الاثني عشرية وخصائصها أن ينظر إليه بتقدير واحترام.
إننا حين نراجع المنهج الوهابي في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها نجده عاجزاً عن الاهتداء إلى التفسير الصحيح لحقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ الذي اهتدى إليه قدماء علماء أهل السنّة ومتأخريهم.
إنّ الاثني عشرية التي تبحث عن حقائقها وخصائصها الوهابية لا تعني أهل السنّة في شيء؛ لأنّ بحث الوهابية عن الاثني عشرية ـ على ذلك المنهج الغريب ـ لن يجعلها تدرك أنّ الاثني عشرية الحقة هي التي صوّرها ورسمها علماء أهل السنّة، وهي التي دلّنا عليها كبار علماء الاثني عشرية.
وقد عجزت الوهابية عن الاهتداء إلى حقيقة الالوهية والنبوة عند الاثني عشرية، وعجزت عن إدراك كل حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ لأنّها حاولت دائماً أن تفسر هذه الحقائق وأن تصورها تحت نفوذ مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة، في حين أن الاثني عشرية ليس لها صلة بالغلو.
وبمثل هذا العجز فسرّت الوهابية خصائص الاثني عشرية، وضربت في التيه عندما حاولت دراسة (خصائص الاثني عشرية).
والعجب العُجاب ما يصادفه الإنسان من بعض عوام أهل السنّة؛ أنّك تجدهم يؤمنون بما قاله بعض الوهابية عن حقائق الاثني عشرية وخصائصها، بينما
____________
(1) في القسم الثاني من هذا الكتاب.
ويعجب الإنسان ـ أيضاً ـ أن الكثير من عوام أهل السنّة لم يبحثوا عن سبب اختلاف الوهابية البريئة وقدماء أهل السنّة؛ في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها، مع اتحاد الموضوع المبحوث عنه، أي موضوع الاثني عشرية! ومن الغريب أنّ بعض عوام أهل السنّة يغفلون عن الصراع الكبير والخطير بين الوهابية وبين أهل السنّة حول تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها!
ويبدو أنّ هذه المشكلة الخبيثة ـ مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية ـ كانت وما زالت وراء هذا الصراع الشديد بين الوهابية وعلماء أهل السنّة.
وإذا كانت هذه المشكلة سبباً في توسيع مساحة الصراع بين السنّة وبين الاثني عشرية منذ ظهور الوهابية في القرن الثامن عشر؛ فقد أصبحت هذه المشكلة ـ في عصرنا ـ سبباً في توسيع مساحة الصراع بين الوهابية وأهل السنّة. ولا يمكن لنا أن نكشف سرّ اختلاف الوهابية مع أهل السنّة في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها ما لم ندرك هذه المشكلة.
والذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو يخلطون بين الاثني عشرية وفرق الغلاة هم الذين فسروا حقائق الاثني عشرية وخصائصها بصورة مخالفة لتفسير الذين أصابوا في إدراك مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، وميزوا بين المذهب الاثني عشري وبين فِرَق الغلاة.
ولقد لاحظنا أنّ الكثير من القضايا المُثارة المتنازع عليها بين الاثني عشرية وبين الوهابية أصبحت ـ الآن ـ قضايا مثارة ومتنازع عليها بين الوهابية وكبار أهل السنّة في العصر الحديث.
وبعبارة أُخرى: مصابون بمشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة.
لقد بيّن أهل السنّة أنّ القضايا التي أثارتها الوهابية البريئة ضد الاثني عشرية إنّما هي من شأن الغلو والغلاة؛ لأن أهل السنّة يدركون الفرق بين الاثني عشرية والغلو. ومن ثَمّ لا يوجد نزاع وصراع بين السنّة والاثني عشرية، بينما يوجد هذا الصراع وذلك النزاع بين أهل السنّة والوهابية الذين يخلطون بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
ومن هنا فهذه المشكلة الخبيثة وسّعت الخلاف بين السنّة والاثني عشرية من خلال تأثير الوهابيين، ثُمّ وسّعت الخلاف بين السنّة والوهابية. وهذا هو الذي يفسرّ لنا سرّ تحذير كبار علماء أهل السنّة وكبار علماء الاثني عشرية من هذه المشكلة، ويفسرّ لنا السبب الذي جعلهم يعدّونها أكبر مشكلة زُرعت من أجل تمزيق الصف بين السنّة والاثني عشرية، وتمزيق الصف بين السنّة والوهابية، لأن اختلاف أهل السنّة مع الوهابية حول الاثني عشرية قد خلق صراعاً شديداً بين الوهابيين وأهل السنّة، ولا يمكن أن يتم التقريب بين الاثني عشرية والوهابية إلا إذا عالجنا هذه المشكلة، كما لا يمكن أن يتم التقريب بين أهل السنّة والوهابية إلا إذا عالجنا هذه المشكلة.
وقد عبّر عن حالة الصراع الشديد والاضطراب المرير بين مفهوم الاثني عشرية عند الوهابية ومفهومه عند أهل السنّة؛ أحدُ الكتاب المكفرّين للاثني عشرية والمؤيدين للمنهج الوهابي في دراستها، صاحب المؤلفات المشهورة ضد الاثني عشرية، وهو الدكتور الشيخ (ناصر القفاري) من كبار الوهابيين المعاصرين، فقال:
(استرعى انتباهي تضخم الخلاف حول الاثني عشرية لدى الكتّاب المعاصرين؛ فمن فريقٍ يرى أنّهم كفرة وأنّ غلوهم تجاوز الحدود الإسلامية، كما في كتابات
ومن ثَمّ كان تأكيدي على ضرورة معالجة هذه المشكلة، فجعلت رسالة الماجستير الجامعية تحت عنوان (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية)، وبينت أنّ هذه المشكلة هي وراء تعدد مناهج دراسة الاثني عشرية.
وإنّني بعد دراسة طويلة للمناهج الثلاثة التي ذكرتها ـ منهج الجماعة الوهابية، ومنهج أهل السنّة، ومنهج الاثني عشرية ـ استيقنت بأنّه لا يصّح أن يستفاد من المنهج الوهابي، لا سيما بعد الاختلاف الشديد بين منهج الوهابية في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها من جهة، وبين منهج أهل السنّة ومنهج الاثني عشرية في تفسيرها من جهة أخرى..
إنّ دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها ـ حسب المنهج الوهابي ـ تتمُ بطريقة تقتضي أن يُضّحى بالموضوع (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) في سبيل المنهج، وكأنّ الموضوع (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) لا يفرضُ منهجه من داخله، وكأنّ أتباع المذهب الاثني عشري الذي ينتمي إليهم الموضوع (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) لا منهج لهم.
____________
(1) أُصول مذهب الشيعة الإمامية لاثني عشرية للشيخ الدكتور ناصر القفاري حفظه الله، مقدمة الكتاب: ج1، ص10 ـ 11.
(2) ستصدر مؤسسة الفكر الاسلامي كتاباً تناولتُ فيه نقد منهج ناصر القفاري في الكتابة عن الاثني عشرية.
(يُخطىء كثيراً من يدعي أنّه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم، مهما بلغ هؤلاء الخصوم منْ العلم والإحاطة، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى. أقول هذا جازماً بعد أن قضيت ردحاً طويلاً من الزمن أدرس فيه عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصّة، وعقائد الشيعة بعامة، فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحاً في كتب المؤرخين والنقاد... بشيء ذي بال، وما زادني إلى هذه الدراسة، وميلي الشديد في الوقوف على دقائقها إلاّ بعداً عنها وخروجاً عليها... ذلك لأنّها دراسة بتراء
____________
(1) نقلنا عبارته في ص 47 ـ 48 من هذا الكتاب.
(2) وهو من كبار مفكري أهل السنّة في العصر الحديث، وكان مشرفاً على الدراسات الإسلامية بجامعة (عليكرة) با لهند.
ومن البديهي أنّ رجال المذاهب أشدّ معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة، أو أُوتوا حظاً من اللسن والإبانة عمّا في النفس، وفضلاً عن ذلك فإنّ الأمانة العلمية التي هي من أوائل أسس المنهج العلمي الحديث، وهو المنهج الذي اخترته وجعلته دستوري في أبحاثي ومؤلفاتي حين أحاول الكشف عن الحقائق المادية والروحية؛ هذه الأمانة المذكورة تقتضي التثبت التام في نقل النصوص والدراسة الفاحصة لها، فكيف لباحث بالغاً ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في إدراك الحقائق أن يتحقق من صحة النصوص المتعلقة بالشيعة والتشيع في غير مصادرهم؟!
إذن، لارتاب في بحثه العلمي على غير أساس متين.. ذلك ما دعاني أن أتوسع في دراسة الشيعة والتشيع في كتب الشيعة أنفسهم، وأن أتعرف عقائد القوم نقلاً عمّا كتبوه بأيديهم ونطقت به ألسنتهم، لا زيادة ولا نقص، حتى لا أقع في الإلتباس [والخلط بين الاثني عشرية والغلاة] الذي وقع فيه غيري من المؤرخين والنقاد حين قصدوا للحكم على الشيعة والتشيع. وإنَّ الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها ومظانها الأصلية إنّما يسلك شططاً ويفعل عبثاً، ليس هو من العلم ولا من العلم في شيء. ومثل هذا ما وقع فيه العلامة الدكتور (أحمد أمين) حين تعرّض لمذهب الشيعة في كتبه، فقد حاول
ولكي يدرك القارئ الخطورة الكبيرة في منهجية الوهابية في بيان (حقائق الاثني عشرية وخصائصها)؛ نذكر مثالاً هاماً يبيّن ويوضّح مشكلة خلط أتباع الوهابية بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، فقد نقل الوهابية في كتبهم أن ّ الرافضة ـ ويقصدون الاثني عشرية لأنّهم يخلطون بين الاثني عشرية والرافضة ـ تقول: (إنّ عليّاً في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي منادٍ من السماء، ـ يريد علياًَ ينادي ـ: اخرجوا مع فلان)!
ومن المعلوم أنّ الذين يزعمون أنّ علياً في السحاب هم الغلاة لا الاثني عشرية.. كما أن الذين يزعمون ان الإمام علياً ينادي من أعلى السحاب: (اخرجوا مع فلان) هم الغلاة لا الاثني عشرية!
ونحن بعد دراسة عميقة في المذهب الاثني عشري عند كبار علمائه، وفي أعظم مدينة علمية للاثني عشرية في العصر الحديث؛ وجدنا الاثني عشرية في كتبهم القديمة والحديثة يتبرؤون ويلعنون من يقول: (إن علياً في السحاب أو إنه ينادي من السحاب)! والثابت عندهم هو عين الثابت عند أهل السنّة، وهو: أنّه عندما يخرج الإمام المهدي ـ الذي أجمع على خروجه أهل السنّة والاثنا عشرية ـ سوف ينادي ملك من السماء باسمه، ويأمر بنصرته. ومن ثمَّ يجب علينا أن لا نعتمد على كتب الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
____________
(1) كلمة مقتطفة من مقدمة علامة أهل السنّة حامد حنفي داود لكتاب عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر: ص 20 ـ 23. وانظر كتاب في سبيل الوحدة الإسلامية للسيد مرتضى الرضوي: ص 75 ـ 83، مطبوعات النجاح في القاهرة، ط 3، سنة 1400 هـ ـ 1980م.
والغرض من توضيح مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية أو مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، والتي توسعنا عامدين في عرضها من خلال أقوال كبار مفكري أهل السنة وعلمائهم؛ إنّما يعود للأسباب التالية:
أولاً: خطر هذه المشكلة باعتبارها كانت وما زالت السبب الأول في توسيع الاختلاف بين السنّة والاثني عشرية، بعد أن اندسَّ الوهابيون في صفوف أهل السنّة؛ كما أصبحت هذه المشكلة سبباً في توسيع الاختلاف بين السنّة والوهابية.
ثانياً: خطأ منهج الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها كان نتيجة حتمية لهذه المشكلة. ولا شك أنّ خطأ منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية كان سبباً لاختلاف أهل السنّة مع الوهابية في تفسير مفهوم الاثني عشرية.
ثالثاً: معرفة هذه المشكلة بينّت لنا أهمية هذه المرحلة، أي مرحلة المعرفة الانتسابية؛ لأنّها قاعدة رئيسية في هذا المنهج الذي رسمناه من أجل تصحيح منهج الوهابية في دراسة حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه، ومن أجل التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، ومن أجل التقريب بين أهل السنة والوهابية كما أسلفنا في أوائل البحث عن هذه المرحلة.
رابعاً: يكتسب البحث عن مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة أهمية كبيرة، لأنّ مشكلة الخلط بين الحقائق والأوهام تمثل أكبر خطر يهدد جميع الديانات والمذاهب الدينية. وإذا كانت الأفكار المادية الإلحادية تمثل أكبر عدو
خامساً: لقد كانت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة، عند الوهابية هي السبب الأول الذي جعلهم يقولون بأنّ هنالك صلة بين الاثني عشرية وبين غلاة الصوفية، في حين أن علماء الاثني عشرية يكفرّون الطرق الصوفية المغالية.
كان هذا توضيحاً وتبييناً للمرحلة الأُولى في معرفة المذهب الاثني عشري.
ومن المسائل ا لهامة في المرحلة الأولى لمعرفة المذهب الاثني عشري، معرفة أسباب وعوامل خطأ الوهابية في المرحلة الأولى لمعرفة الاثني عشرية، فالخطأ في هذه المرحلة يساوي ايجاد مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
وسوف نبحث ـ الآن ـ عن أسباب وعوامل خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري، أو بتعبير آخر: أسباب وعوامل مشكلة الخلط بين المذهب الاثني عشري وفِرَق الغلاة عند أتباع الوهابية. وهي ترجع إلى قسمين:
القسم الأول: الأسباب والعوامل التي ترجع إلى جهل أتباع الوهابية. وهي ترجع إلى عدة أسباب:
السبب الأُول: الجهل بمعنى الغلو.
السبب الثاني: الجهل بمعنى المذهب الاثني عشري.
السبب الثالث: الجهل بموقف المذهب الاثني عشري من الغلو وفِرَق الغلاة.
السبب الرابع: طريقة التفكير عند الوهابية.
السبب الخامس: الخروج عن منهج أهل السنّة في التعامل مع المذهب الاثني عشري.
وقبل تناول هذه الأسباب بصورة مفصلة(1) نريد أن نبين للقارئ الكريم أننا لا نريد من البحث عن هذه المشكلة مجرّد (المعرفة الباردة)، إنّما نبتغي من القارئ الكريم أن يدرك خطورة هذه المشكلة على الوحدة الإسلامية المقدسة.. نبتغي أنّ تستحيل معرفة القارئ لهذه المشكلة إلى قوةٍ تفصله وتبعده عن الوقوع في حبا لها، ومن ثمَّ آثرنا أن نرسم هذه المشكلة على شكل قنبلة يدوية من أجل تجسيم وتصوير شدّة خطرها على وحدة المسلمين، فهي المشكلة التي وسعت دائرة الخلاف بين السنّة والاثني عشرية من جهة، وبين الاثني عشرية والوهابية من جهة أُخرى، وبين السنّة والوهابية من جهة ثالثة.
وهذه هي صورة المشكلة مع الأسباب الخمسة التي كانت وراء تكوين أو توسيع هذه المشكلة رسمناها بالشكل التالي:
____________
(1) تناولناها بصورة مفصلة في القسم الثاني من هذا الكتاب.
وكما ترى في الشكل فإننا رسمنا الأسباب الخمسة المكونة أو الموسعة للمشكلة عند الوهابية بصورة الأسهم التي تقوم بتعبئة القنبلة اليدوية أو العقل الوهابي بالمواد المفجِّرة، وهو تعبير حاسم وصريح عن النتائج الخطيرة التي ستنبثق من هذه المشكلة الخبيثة، فعندما يُستكمل تعبئتها سوف تنفجر فتمزق وحدة الصف بين السنّة والاثني عشرية من جهة، ثُمّ تمزق وحدة الصف بين السنّة والوهابية من جهة أُخرى، ثم تمزق وحدة الصف بين الاثني عشرية والوهابية من جهة ثالثة، وسوف تخلق اختلافاً شديداً بين منهج أهل السنّة في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها وبين منهج الوهابية في تفسير هذه الخصائص وتلك الحقائق، وسوف تكون السبب الأول في خطأ أتباع الوهابية في تفسيرهم لحقائق الاثني عشرية وخصائصها.
النتائج السلبية لهذه المشكلة:
سوف نكتفي بالإشارة إلى الأخطاء التي طرأت على العقل الوهابي ـ من حيث لا يعلم ـ بعد أن تمكَّنت هذه المشكلة من السيطرة عليه وهي:
1 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الأولى وهي: (حقيقة الألوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين موقف الاثني عشرية من هذه الحقيقة وموقف الغلاة منها.
2 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الثانية وهي: (حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين موقف الاثني عشرية من هذه الحقيقة وموقف الغلاة منها.
3 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الثالثة وهي: (حقيقة أهداف المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين أهداف الاثني عشرية وأهداف فِرَق الغلاة.
5 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الخامسة وهي: (حقيقة منابع المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين منابع الاثني عشرية ومنابع فِرَق الغلاة.
6 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة السادسة وهي: (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين حقيقة معنى الإمامة عند الاثني عشرية وحقيقة معناها عند فِرَق الغلاة، والخلط ـ أيضاً ـ بين حقيقة معنى الإمامة عند الاثني عشرية وبين معنى الإمامة عند أهل السنّة.
7 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة السابعة وهي: (حقيقة هوية المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين هوية الاثني عشرية وهوية فِرَق الغلاة.
8 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الثامنة وهي: (حقيقة نشأة المذهب الاثني عشري وعلل هذه النشأة)، والذي انبثق منه الخلط بين نشأة الاثني عشرية ونشأة فِرَق الغلاة من جهة، والخلط بين علل نشأة الاثني عشرية وبين علل نشأة فرق الغلاة من جهة أُخرى.
النتيجة النهائية لهذه الأخطاء الثمانية:
لقد تولّدَ من هذه الأخطاء الثمانية قضية خطيرة وهي: الخطأ في تفسير (خصائص المذهب الاثني عشري) وبالتالي أدّى إلى الخلط بين خصائص الاثني عشرية وخصائص فِرَق الغلاة.
وحتى يتضح للقارئ أنّ هذه الأخطاء الثمانية الخطيرة في تفسير حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه قد انبثقت من انفجار مشكلة الخلط بعد استكمال أسبابها الخمسة؛ قمنا برسم صورة تلك المشكلة الخبيثة وهي في حالة الانفجار الخطير.. ورسمناها بهذا الشكل: