وقد صوّر علامة أهل السنة في العصر الحديث الإمام (يوسف القرضاوي) تلك الحالة المأساوية، التي خَلَقت حقداً عند الوهابية لقدماء أهل السنة ولقدماء الاثني عشرية ومتأخريهم ومعاصريهم، بسبب أنّهم اتهموا جمهور أهل السنَّة من الماتريدية والاشاعرة واتهموا الاثني عشرية بالغلو، بعد أن وسّعوا من مدلول الغلو وفسَّرو كلمة (الغلو) تفسيراً غريباً.. وفي هذا يقول الإمام الشيخ (يوسف القرضاوي) ـ حفظه الله ـ:
(إنّ تشويه الرموز الإسلامية، وتحطيم الأعلام، وتدمير القمم؛ عمل لا يستفيد منه غير أعداء الإسلام، وخصوم المسلمين. وهو ـ للأسف ـ ما أصبح هواية لبعض المنتمين إلى الدين [يعني الوهابيين]، لقد زرت المملكة العربية السعودية في العام الماضي، فوجدتُ أمراً رابني وساءني: مجموعة من الكتب تتهم العلماء والدعاة، [مثل اتهامهم بالغلو] وتوسعهم سباً وقذفاً، صَنَّفَ هذه الكتب بعض الإخوة الغلاة ممن ينسبون أنفسهم إلى السلفية، والحق أنّ السلفية منهم براء.
لم يكن هؤلاء يدعون عالماً كبيراً، [من أهل السنة أو من الاثني عشرية] سابقاً أو لاحقاً أو معاصراً، يخالفهم في قضيةٍ ما، إلاّ كالوا له الذم بأوسع مكيال.
لم يسلم مِنْ طول ألسنتهم الباقلاني، ولا إمام الحرمين، ولا الإسفراييني، ولا الغزالي، ولا الرازي، ولا النووي، ولا ابن حجر العسقلاني، ولا السيوطي، ولا غيرهم من المتقدمين.
كما لم يسلم منهم من المحدّثين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا، وفريد وجدي.. وغيرهم من دعاة الإصلاح.
إلى أن يقول:
(ونسي هؤلاء [يعني: الوهابيين] أنَّ حُسن الظن بالمسلمين أولى من سوئه، وأنّ الأصل حمل حال المسلمين على الصلاح، والتماس المعاذير لأهل الإسلام، وافتراض نية الخير منهم)(2).
ويرى كبار أهل السنّة في العالم الإسلامي أنّه ليست نظرة الوهابيين للغلو غريبة فحسب، بل إنّ نظرتهم للدين الإسلامي بصورة كلية غريبة عن هذا الدين، وفي هذا يقول إمام أهل السنّة في العصر الحديث الشيخ محمد الغزالي:
(إنّ فهم هؤلاء الناس [يعني: الوهابيين] للدين غريب)(3).
ومن ثَمّ اعتبر الإمام الغزالي الوهابية أخطر خصوم الصحوة الإسلامية... وقال ـ رحمه الله ـ:
(الصحوة الإسلامية المعاصرة مهدَّدة من أعداء كثيرين، والغريب أنّ أخطر خصومها نوع من الفكر الديني يلبس ثوب السلفية [يعتقد الإمام الغزالي أن الوهابية لا علاقة لها بالسلفية]، وهو أبعد الناس عن السلف، إنّها ادعاء السلفية وليست السلفية الصحيحة)(4).
____________
(1) كتاب (الشيخ الغزالي كما عَرفته رحلة نصف قرْن)، تأليف الإمام ام الدكتور يُوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ: ص 263. الطبعة الأولى 1417 هـ. دار الوفاء ـ المنصورة ـ مصر.
(2) المصدر السابق.
(3) هموم داعية للإمام محمد الغزالي: ص 152.
(4) سر تأخر العرب للإمام محمد الغزالي: ص 52.
ونستنتج من ذلك: إنّه لا يمكن للوهابية أن تقوم بعملية تصحيح لمفهومها الغريب عن كلمة (الغلو) إلاّ من خلال مرحلتين:
المرحلة الأولى: النقد الذاتي لمفهومها عن كلمة (الغلو).
المرحلة الثانية: إعادة النظر من جديد إلى كلمة (الغلو).
أمّا إذا بقيت الوهابية جامدة على تفسيرها الغريب لكلمة (الغلو)، فلن يكون بمقدورها أن تستوعب انتقادات كبار أهل السنّة وكبار الاثني عشرية على تفسيرها لهذه الكلمة.
إنني لاحظت من خلال قراءتي للكتب التي كتبها الوهابيون عن الغلو والغلاة أنّهم وقعوا في أخطاء كثيرة في تحديد وتعريف كلمة (الغلو)... وأنّهم وسّعوا من مدلول هذه الكلمة وأدخلوا فيها محتويات ومضامين غريبة عنها.
ولا بد لنا من الإشارة إلى حقيقة هامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع هذا الكتاب وهي: إنّ الوهابية ـ من حيث لا يعلمون ـ لم يميزوا بين معنى (الغلو) الذي ذكره فقهاء أهل السنّة وفقهاء الاثني عشرية، في أبواب ومسائل أحكام المرتدين الخارجين عن الإسلام، وبين معنى (الغلو) الذي يُطلق ـ أحياناً ـ على بعض رواة الحديث من المسلمين، ولا يُقصد منه ـ غالباً ـ ذلك المعنى الخطير للغلو الذي ذُكر في أبواب ومسائل أحكام المرتدين.
(وهم الذين غلوا في حقِّ أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية، وحكموا فيهم بأحكام الإ لهية، فربّما شبّهوا واحداً من الأئمة بالإله، وربّما شبهوا الإله بالخلق، وهم على طرفي الغلو والتقصير. وإنّما نشأت شبهتهم من مذاهب الحلولية، ومذاهب التناسخية، ومذاهب إليهود والنصارى)(1).
ونستخلص من كلام الشهرستاني: إنّ الغلو الذي ذُكر في مسائل وأبواب أحكام المرتدين يرتكز على مرتكزين أساسيين:
المرتكز الأول: تإليه الإنسان.
والمرتكز الثاني: أنْسَنتْ الإله.
ولا شك أنّ القولَ باتحاد الذات الإ لهية أو حلو لها في الإنسان ـ أي إنسان ـ يقتضي أنسنت الذات الإ لهية؛ كما أنّ القول بقدم الإنسان ـ أي إنسان ـ يستلزم تإليه الإنسان. والباحث عن الفِرَق المغالية ـ التي غالت غلواً ـ بهذا المعنى الذي ذكرناه ـ يجد أنّ مقالات هذه الفرق لا تخرج عن هذين المرتكزين الأساسين الخطيرين.
إذن، فالغلو الذي ذُكر في أبواب ومسائل أحكام المرتدين يشتمل على صفات معينة وردت في كلام الشهرستاني، أما الغلو الذي يطلقه علماء الرجال على بعض رواة الحديث فهو في الغالب لا يرتبط بذلك الغلو، بل يرتبط بمسائل فرعية خلافية بعيدة عن قضايا أُصول الدين الإسلامي.
____________
(1) كتاب الملل والنحل للإمام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني الشافعي الأشعري.
وتكمن الخطورة الكبرى في الخلط عند الوهابية بين معنى الغلو الذي ذُكر في أبواب ومسائل أحكام المرتدين، وبين معنى الغلو الذي أطلق على بعض رواة الحديث مِن المسلمين، ذلك الخلط الخطير جعل الوهابية تخلط بين رجال الغلاة بالمعنى الأول وبين رجال الغلاة بالمعنى الثاني؛ كما صنع الوهابي المعاصر عبد الرحمن عبد الله الزرعي ـ حفظه الله ـ في كتابه (رجال الشيعةِ في الميزان)، وقد خلط في هذا الكتاب ـ من حيث لا يعلم ـ بين رواة الحديث من المسلمين الذين أطلق عليهم كلمة (الغلو)؛ لأجل اختلافهم مع بعض علماء الرجال في مسائل فرعية خلافية، وبين رجال الغلاة بالمعنى الذي ذكره العلماء في أبواب ومسائل أحكام المرتدين، وهم من الرجال الذين أجمع على تكفيرهم علماء الاثني عشرية وعلماء أهل السنّة.
ولو كان (عبد الرحمن الزرعي) أدرك معنى ومفهوم الغلو ومراتبه وأنواعه لما وقع في هذا الخلط الخطير؛ الذي يلزم منه تكفير الكثير من رواة الحديث النبوي.
وسنقوم بدراسة نقدية لكتاب الزرعي عندما نتحدث عن السبب الثالث في تكوين مشكلة الخلط بين الاثني وفِرَق الغلاة(1).
إنّ الوهابيين المعاصرين عندما يقرؤون الكتب الرجالية عند قدماء أهل السنة، يجدون أنّ قدماء أهل السنّة أطلقوا كلمة (الغلو) على رواة اختلفوا معهم في مسألة (التفضيل بين الصحابة)، وحسبوا أن اطلاق كلمة (الغلو) على هؤلاء كان بسبب أنّهم يقولون بتإليه غير الله ـ تعالى ـ.
____________
(1) تناولنا نقد كتاب عبد الرحمن الزرعي في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
ومن ثَمّ لم يكن بد ـ وقد ابتعدت الوهابية من حيث لا يعلمون عن مفهوم الغلو عند قدماء أهل السنّة ـ من أن نفصلَ ونميز بين حقيقة (الغلو) عند أهل السنّة وبين حقيقة (الغلو) عند الجماعة الوهابية؛ لأنّ الوهابية بعد أن وسعت من مدلول كلمة (الغلو) أصبحت ترى أنّ جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية من فرق الغلاة الضالين والمنحرفين، وأصبحت الوهابية تطلق كلمة (الغلو) على الاثني عشرية، من دون ملاحظة الفرق بين مفهوم ومراد قدماء أهل السنّة من كلمة (الغلو) عندما أطلقوه على (الاثني عشرية)، وبين مفهوم ومراد قدماء أهل السنّة من كلمة (الغلو) عندما أطلقوه على (الخطابية). ومن هنا وجدت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين الغلاة عند الوهابية من جهة، ومشكلة الخلط بين جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية وفرق الغلاة من جهة أُخرى. وهذا هو الذي يفسّر لنا سرّ الحملة العنيفة التي قام بها الوهابيون ضد الاثني عشرية وضد جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية.
النتائج الخطيرة لتوسيع مدلول كلمة (الغلو) عند الوهابية
على أننا نحب أن نذكر النتائج الخطيرة لتوسيع مدلول كلمة (الغلو) عند الوهابية، ويكفينا أن نعرف أثر توسيع مدلول كلمة (الغلو) على كيفية تعامل الوهابية مع مخالفيها من الاثني عشرية ومن أهل السنّة، من أجل قضايا كان يجب أن تعالجها الوهابية بحكمة، لكن الوهابية حشرَت كلمة (الغلو) في هذه القضايا وخلقت ضجة وفتنة مفتعلة ومتخيلة ـ من حيث لا تعلم ـ بين المسلمين، تحت غطاء محاربة الغلو في هذه القضايا التي اختلف حو لها علماء الإسلام، وأصبحت الوهابية تحسب وتظن أنّ من خالفها في قضية معينة من هذه القضايا الخلافية يعتبر من الغلاة المنحرفين.
ولعله مما يحتم علينا هنا أن نذكر أهمّ القضايا التي خلقت الوهابية بسببها فتنة بين المسلمين، بسبب توسّعها في مفهوم كلمة (الغلو). وإليك تلك القضايا ا لهامة بالترتيب:
القضية الأُولى: وهي الضجة الكبرى المفتعلة التي خلقتها الوهابية ـ من دون قصد ـ بسبب قضية (الصفات الخبرية للذات الإ لهية)، فهم اعتبروا كل من خالفهم في قضيّة (الصفات الخبرية) من أهل السنّة والاثني عشرية من الغلاة.
وقد كتبوا مئات الكتب في الرد على أهل السنّة وفي الرد على الاثني عشرية؛ لأنّهم أصبحوا في نظرهم من الغلاة والمنحرفين. وعمّت العالم الإسلامي معركة كبيرة حول (الصفات الخبرية للذات الإ لهية) ضاعفت من التمزيق للصف الإسلامي.
الفريق الاول: هم الوهابيون المسلمون الذين يفسرون (الصفات الا لهية) على الطريقة الوهابية.
والفريق الثاني: هم من الغلاة المنحرفين الضالين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية الذين يقولون بتأويل آيات الصفات.
وقد تكلّم علماء أهل السنّة عن الفتنة التي أوجدتها الوهابية عندما أطلقوا كلمة (الغلو) على كل الذين رفضوا منهجهم في تناول الصفات الإ لهية ـ من أهل السنّة والاثني عشرية ـ في الكثير من كتبهم، ورأوا أنّه كان الاولى للوهابيين أن يطرحوا منهجهم في تناول آيات الصفات من دون اتهام المسلمين من الاثني عشرية وأهل السنّة بـ (الغلو).
ونجد أنّ العلامة السنّي (محمد عادل عزيزة) ـ حفظه الله ـ من أجل أنْ يبين للوهابيين أنّ قدماء أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا من الغلاة؛ احتج عليهم بشخصية لا يطعنون فيها، وهو الإمام (ابن كثير الدمشقي)، فبين في كتابه المعروف (عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير ـ من أئمة السلف الصالح ـ في آيات الصفات) أنّ الإمام ابن كثير كان يُؤول بعض آيات الصفات.
فكأنّه يريد أنْ يقول لهم: إذا كان جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية من الغلاة لأنّهم أولوا آيات الصفات، فلماذا لا يكون ابن كثير الدمشقي من الغلاة؟! لأنني ساثبت في كتابي (عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير في آيات الصفات) أنّه ينهج نهج أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية ونهج الاثني عشرية في القول بتأويل الصفات، لا منهجكم وطريقكم.
ولم يتمكن علماء الاثني عشرية وعلماء أهل السنّة أن يجدوا صلة تربط بين القائلين بتأويل آيات الصفات من أهل السنّة والاثني عشرية وبين الغلاة، وانتقدوا الوهابية لأنّها تريد أن تلصق كلمة (الغلو) بهؤلاء الذين يمثّلون جمهور الأُمة الإسلامية، ومن ثَمّ بيّنوا أنّ مفهوم الجماعة الوهابية عن (الغلو) يعتبر مفهوماً جديداً بعيداً عن معناه ومفهومه عند أهل السنّة والاثني عشرية.
ونحن سوف ننقل ـ هنا ـ نماذج من كلمات أهل السنّة التي كتبت بقصد (الدفاع) عن القائلين بتأويل الصفات من أهل السنّة والاثني عشرية؛ في وجه المهاجمين لهم الذين اتهموهم بالغلو من الوهابيين.
ولقد واجه أهل السنّة جماعة جامدة بسيطة وبريئة تتهم كل من يخالفها في موضوع (الصفات الإ لهية) بـ (الغلو)، وبسبب هذا الاتهام الخطير أصبحت الوهابية تحتقر جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية وتحتقر الاثني عشرية، وتطوّر الأمر حتى خلقت الوهابية فتنة بسبب موضوع الصفات، وقد صوّر أهل السنّة هذه الفتنة بهذه الصورة، قال العلامة السني (محمد عادل عزيزة):
(ولقد قصدت بنشر هذا العمل تضييق شقة الخلاف بين المسلمين، وإماتة الحفائظ والأضغان بينهم، فقد بلينا في هذا العصر وأصاب كثيراً من علماء أهل السنّة ما أصابهم من اتهام [يقصد من قبل الجماعة الوهابية]، ونبز بالألقاب، وافتراء وتضليل وتكفير ومسبّة.. وغير ذلك؛ لقو لهم في آيات الصفات بقول مالك وأحمد والشافعي...)(1).
____________
(1) عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير في آيات الصفات ـ من أئمة السلف الصالح ـ للعلامة محمد عادل عزيزة: ص 7.
(كما أنّ هذه الرسالة الصغيرة التي جمعت شتات أقوال الحافظ ابن كثير السلفي في آيات الصفات، تجعل المسلم المتحرر من ربقة العصبية وا لهوى أكثر اتزاناً وهدوءاً في حكمه على من قال بقول ابن كثير، الذي شهدت له الأمة بسلامة المعتقد والعدالة، ودقة النقل، وسعة العلم وغزارته. وعندها لا يستطيع أن يعتقدَ أن التأويل لبعض آيات الصفات ضلال ومروق عن الدين [يقصد الشيخ الوهابيين الذين يتهمون أهل السنّة والاثني عشرية بالغلو والانحراف بسبب تأويل آيات الصفات]، وقد قال به حبر الأُمة سيّدنا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ عند تفسير قوله تعالى (يومَ يكشفُ عن سَاقٍ)(1)، قال ابن كثير: قال ابن عباس: يكشف عن أمرٍ عظيم. كما لا يمكنه أن يعتقدَ أنّ التفويض منهج أهل الضلال)(2).
وفي الحقيقة أنّ الإشكالية الكبرى لا تعود إلى طريقة الوهابية في تناول آيات الصفات، ونحن نحترم وجهة نظرهم في آيات الصفات، إنّما الإشكالية تعود لأنّهم يرون أن جمهور أهل السنّة من القدماء والمتأخرين، وهكذا قدماء ومتأخري الاثني عشرية؛ قد أصبحوا من الغلاة بسبب تأويل آيات الصفات. وبسبب هذا الاتهام بالغلو تلقّى أهل السنّة والاثنا عشرية من الوهابية ـ منذ ظهورها في القرن الثامن عشر الميلادي ـ شتى الضربات وا لهجمات التي لم تضع أوزارها إلى اليوم.
____________
(1) سورة القلم: الآية 42.
(2) عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير في آيات الصفات: ص 7- 8.
(وقد لاحظت ولاحظ معي العاملون في الحقل الإسلامي الحديث في السنوات القليلة الأخيرة تياراً [يعني: التيار الوهابي] يزعم أنّ منهجه قائم على تصحيح العقيدة، ومحاربة مظاهر الشرك في المجتع الإسلامي.. يُشغِل الجو الإسلامي بالمساجد وغيرها بمناقشات عقيمة حول تفسير آيات الصفات الخبرية).
إلى أن يقول:
(وكان هذا الوضع المؤلم دافعي الأوّل في العودة إلى آيات الصفات وقراءتها قراءة جديدة)(1).
ولقد شغلت هذه الفتنة الوهابية ـ التي جعلتهم يحسبون أنّ جمهور أهل السنّة وأنّ الاثني عشرية قد أصبحوا من الغلاة الضالين والمنحرفين ـ الكثير من علماء أهل السنّة منذ ظهور الوهابية.
وفي هذا السياق نذكر العلامة والمفكّر السنّي الدكتور (محمد عياش الكبيسي) ـ حفظه الله ـ الذي عالج هذه الفتنة الوهابية في كتابين من مؤلفاته، ومما قاله في شأن هذه الفتنة الوهابية:
(ولقد دفعني هذا [أي: الفتنة التي أثارتها الوهابية بين المسلمين بسبب قضية تفسير آيات الصفات] ـ أيضاً ـ لاختيار موضوع البحث في رسالة الماجستير
____________
(1) تفسير آيات الصفات للعلامة السنّي الدكتور محسن عبد الحميد، مقدمة الكتاب.
وقال ـ أيضاً ـ بعد أن بحث بحثاً مفصّلاً في آيات الصفات، وقدّم بعض الملاحظات حول تفسير آيات الصفات:
(هذه الملاحظات تقودنا ـ أيضاً ـ إلى أن نفسح صدورنا لتقبل الخلاف في تفسيرها، ولا ينبغي أن تعدّ الفيصل بين الإيمان والكفر وبين التوحيد والشرك، لا سيما أنّ السلف لم يقفوا عندها طويلاً، ومَنْ وقف عندها فسّرها بتفسيرات كثيرة، تصح أن تكون الجذور الحقيقية للمذاهب الكلامية في الصفات)(2).
ويجب أن أذكر حقيقة هامة ترتبط بموضوع هذا الكتاب، أي (المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين) وهذه الحقيقة ناتجة من خلال تجربة شخصية مرّ بها كاتب هذه السطور عندما كان وهابياً، وهي: لقد كنت أعتقد أنّ مَنْ خالف الوهابية في مسألة الصفات فهو ضال ومغال ومنحرف عن الإسلام، وأعتقد أنّ رأي الوهابية في الصفات لا يمكن أن يحتمل الخطأ بأيّ صورة من الصور. وأذكر عندما كنت في جامعة الإمام محمد بن سعود في سنة (1988م) كانت هنالك حملة شديدة على أهل السنّة من الأشعرية والماتريدية بسبب موضوع الصفات، وكنّا نتبرّأ من العلامة والمفكر السنّي (عبد الفتاح أبو غدة)، ومن الإمام (محمد الغزالي المصري)، ومن العلامة السنّي (محمد علي الصابوني)، ومن الإمام (حسن البنا)، ومنْ العشرات من علماء أهل السنَّة؛ لأنّهم خالفوا الوهابية في مسألة الصفات.
____________
(1، 2) العقيدة الإسلامية في القرآن ومناهج المتكلمين للعلامة الدكتور السنّي محمد عياش الكبيسي: ص 122، هامش رقم: 122.
وطريقتي في الحوار معهم أنني أذكر كلمات العلماء الذين تثق بهم الوهابية كابن كثير ـ مثلاً ـ، تلك الكلمات الصريحة في تأويلهم آيات الصفات؛ لأنك إذا ذكرت له اسم شيخ الطائفة الإمام (محمد بن الحسن الطوسي) من الاثني عشرية، أو ذكرت له اسم الإمام (أبو حامد الغزالي) من أهل السنَّة، فلن يتحمّل مجرّد ذكر اسمهما، فكيف سيسمع رأيهما؟! ومنْ ثمَّ بعد أن تذكر له رأي الإمامين الطوسي والغزالي لا بد أن تأتيَ له بما يؤيدهما من كلام ابن كثير، حينئذٍ بالإمكان أن يحسن الظن برأي الإمامين. وهذه الطريقة اضطر إليها العلامة السنّي محمد عادل عزيزة في كتابه (عقيدة الحافظ ابن كثير في آيات الصفات).
إذن، فلا داعي لذكر علماء أهل السنّة أو علماء الاثني عشرية الذين ينفرُ منهم الوهابيون، بل يكفي أن تجد ما يؤيدهم من كلام ابن كثير، حينئذ سيقبلون ما تريد أن تبينه لهم حول الصفات، والعبرة بالأفكار لا بالاشخاص.
وا لهدف الرئيسي هو التقريب بين الوهابيين وبين الاثني عشرية من جهة، وبينهم وبين أهل السنة من جهة ثانية، وبين الاثني عشرية وأهل السنّة من جهة ثالثة.
وإن من الحكمة في التعامل مع هذه الجماعة الوهابية البريئة والبسيطة التي تحتاج منّا إلى المعالجة والمعاينة لا المجادلة والمخاصمة؛ أنْ ننظر إليها كما ينظرُ
إنّ أتباع هذه الجماعة البريئة يحسبون أنّ كل المذاهب الكلامية الإسلامية من أهل السنّة ومن الاثني عشرية قد أصبحوا من الغلاة، ومن ثَّم فهم يرون أنّ العالم الإسلامي قد امتلأ بالغلاة، فلا توجد مدينة أو قرية من مدن وقرى المسلمين إلاّ وفيها غلاة! وهم لا يعرفون أنّهم يعيشون في حالة نفسية جعلتهم يتوّهمون أن المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية أصبحوا من الغلاة.
لقد عشت هذه الحالة النفسية فترة زمنية من حياتي، وكنت أحسب أنّ المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية قد صاروا من فرق الغلاة، وكنت أعتقد أنّه لم تسلم من الغلو إلاّ الجماعة(1) (الوهابية) الناجية. ولم يكن يخطر ببالي أنني أعيش في حالة نفسية تولّد منها الشعور بأنّ المسلمين أصبحوا غلاة، ومن ثَمّ قررت في بداية حياتي أنْ أخوض معركة مع الذين كنت أحسبهم من الغلاة، وفي هذه الفترة من حياتي قررت أن أبدأ بمعالجة الغلو عند الاثني عشرية، ثم أشرع في معالجة الغلو عند جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية. وبالفعل حسبت نفسي طبيباً يقفُ أمام رجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ، وبعد أن كشفت على هذا الرجل خُيّل إليّ أنّه مصابٌ بمرضٍ خطير أطلق عليه الأطباء مرض (الغلو).
____________
(1) من أجل تحقيق فكرة التقريب بين الاثني عشرية وبين الوهابية ـ التي هي الغرض من تأليف هذا الكتاب ـ لا بد من مراعاة قضية عدم استخدام الكلمة التي تتعارض مع هذه الفكرة، ومن هنا عنى كاتب هذه الدراسة أن يطلق على الوهابية كلمة (جماعة) لا كلمة (فرقة)؛ لأنني رأيت أن كلمة (فرقة) مرفوضة عند الاثني عشريين وعند الوهابيين، ولا يمكن أن تتحقق قضية التقريب إلا إذا تعاملنا وفقاً للآداب الإسلامية المقدسة عند الاثني عشرية وعند الوهابية.
وقصتي مع هذا الرجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ تشبه قصة طبيبٍ أُصيب بمرض السرطان في رأسه، وبسبب شدّة المرض تكوّنت عنده حالة نفسية، فأصبح يحسب أنّ كل رجلٍ سليمٍ في العالم قد أُصيب بمرض السرطان، كما كنت أحسَبُ أنّ المسلمين من أهل السنّة والإثنى عشرية قد أُصيبوا بمرض الغلو. وكان هذا الطبيب يكشف على الرجل السليم ـ أي رجلٍ ـ ويخبره بأنّه مصابٌ بمرض السرطان، إلى أن جاءهُ رجلٌ سليم مُتخصصٌ في معالجة أمراض السرطان ومتخصص ـ أيضاً ـ في معالجة الأمراض النفسية، فكشف عليه الطبيب وأخبره أنّه قد أُصيب بالسرطان، ولكن هذا الرجل ـ بسبب أنّه كان متخصصاً في أمراض السرطان وأمراض الحالات النفسية ـ لاحظ أنّ الطبيب قد خلط بين أنواع وأصناف الامراض، كما لاحظ سلامة أولئك الرجال الذين حسبهم الطبيب من المصابين بالسرطان، وحينئذ قرر هذا الرجل أن يذهب إلى الطبيب، وبعد محادثات طويلة بينة وبين الطبيب تبين له أنّ الطبيب مصابٌ
والشيء الجديد في هذا الكتاب هو أنّ الدراسات السابقة كانت تدافع عن الأنا (الاثني عشرية) ضد تهمة الآخر (الوهابية)؛ لأنّها تتهم الأنا (الاثني عشرية) بأنها مصابة بـ (مشكلة الغلو)، لكن هذا الكتاب عكس المعادلة واثبت أنّ الآخر (الوهابية) مصابة بـ (مشكلة الخلط الأكبر لا الأصغر) فحسب بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، وتطالبه ـ أعني تطالب الوهابية ـ بأن يدفع عن نفسه هذه الحقيقة (حقيقة الخلط الأكبر لا الأصغر)(1)، فحسب بعد أن ظل يتهم الأنا (الاثني عشرية) منذ ظهور الآخر (الوهابية) في القرن الثامن عشر.
____________
(1) ونحن نستخدم كلمة الخلط في هذا الكتاب بمعنى خلط الشيء بالشيء بصورة كبيرة وكاملة، بحيث يحسب الرائي انّ هذين الشيئين المختلفين متساويان، من قبيل قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا...) التوبة 102. ومعنى كلمة (خلطوا) في الآية الكريمة ـ كما ذكر المفسرون ـ: أي مزجوا وضمّوا. ووردت في القرآن الكريم كلمة أخرى قريبةٌ من حيث المعنى لـكلمة (الخلط) وهي: كلمة (اللبس)، كما في قوله تعالى: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ...) البقرة 42. ووردت كلمة (الخلط) في السنّة النبوية في موارد عديدة، قال الإمام مجد الدين ابن الأثير ـ رحمه الله ـ (ت 606): ((خلط: في حديث الزكاة (لاخِلاط ولا ورَاط))، الخِلاط: مَصْدَر خَالَطه يُخالطُه مُخالَطة وخِلاطاً، والمراد به أن يخْلط الرجل إبله بإبل غيره..). النهاية في غريب الحديث والأثر (ج 2، ص 62).
ووردت كلمة (الخلط) في الروايات المنقولة عن الأئمة الاثني عشر الذين أشار إليهم البخاري ومسلم في صحيحيهما بنفس هذا المعنى، قال الإمام المحدِّث الطريحي (ت 1085 هـ) في تفسيره
=>
ويمكن لنا تصوير وتجسيم هذه القضية بالشكلين الآتيين:
____________
<=
لمعاني كلمة (الخلط) في روايات الأئمة الاثني عشر: (الاختلاطُ بالشيء: الامتزاج به، سواء كان مع التمييز وعدمه). مجمع البحرين (ج 4، ص 246).
وبإمكاننا هنا أن نقسم الخلط إلى قسمين:
القسم الأول: (الخلط الأصغر)، وهذا النوع من الخلط موجود عند بعض علماء المذاهب الإسلامية، ولا يترتب على هذا النوع من الخلط نتائج خطيرة؛ لأنّه خلط في المسائل الفرعية.
القسم الثاني: (الخلط الأكبر)، وهذا النوع من الخلط موجود عند الوهابية، وهو خلطٌ خطير وكبير؛ لأنّ من مظاهره السقوط في هاوية التكفير الأكبر للمسلمين. وهو خلط في مسائل أُصول الدين لا فروع الدين. وأبرز مورد لهذا النوع من الخلط؛ الخلط الذي وقع فيه الخوارج حين خلطوا بين معنى (الحكم) في قوله تعالى (إِن الحُكْمُ إلاّ للهِ...) الانعام: 57 وبين معنى (التحكيم) في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) النساء 35. ونتيجة لهذا الخلط الأكبر ـ عند الخوارج ـ بين مفهوم ومعنى (الحكم) في تلك الآية الذي هو من مختصات الذات الإ لهية، وبين معنى ومفهوم (التحكيم) في هذه الآية الذي لا علاقة له بالمعنى الأول؛ إذ إن كل رجل يختلف مع رجل آخر لا بد لهما أن يحكّما رجلاً ثالثاً.. أقول نتيجة لهذا الخلط الأكبر عند الخوارج كفروا الإمام عليّاً وكفرّوا كبار الصحابة!
ومن نماذج هذا الخلط عند الوهابية أنّهم خلطوا بين الغلو الأكبر الذي يُخرج عن الإسلام، وبين الغلو في مصطلح بعض المحدثين الذي أطلقوه ـ احياناً ـ على رواة الحديث من المسلمين، ومن هنا كفروا الاثني عشرية!