الشهيد الثاني الحسن بن زين الدين الجبعي العاملي

(911 هـ ـ 965 هـ)

نشأته:

نشأ هذا العالم في أُسرة علميّة فاضلة، يكفي أنّ ستّة من آبائه وأجداده كانوا من العلماء الفضلاء. وكان قد اجتمع لديه عاملان مهمّان نهضا به إلى تسلّق سَنام المجد وهما:

 

الأوّل:

الجوّ العلميّ الذي تأثّر به فبَلوَر ذهنيّته، ونمّى فيه مواهب الفقاهة والمعرفة.

 

الثاني:

الحالة الروحيّة التي كان يتمتّع بها الشهيد الثاني منذ صباه، فقد بكّر بختم القرآن والتوجّه العباديّ.

وإلى جانب هذين العاملين كانت الهجرة من وطنه طلباً للعلم سبباً آخر في ارتقائه مدارجَ المعرفة. فسافر إلى (ميس) إحدى قرى جبل عامِل في جنوب لبنان ولم يكن تجاوز سنَّ المراهقة، فأكمل دراسته المعمّقة مشفوعةً بالبحث الجادّ والمراجعة المركّزة.. فقطع مراحلَ عديدة في مدّة قصيرة وهو في شوق إلى العلم وحُسن استماعٍ لحديث الأكابر، وكان شجاعاً في ساحات الحوار والمباحثة، يُفيد ويستفيد.

رحلاته:

قضى قرابة ثلاثين عاماً من عمره في أسفار ورحلات:

1 ـ منها علميّة: درس خلالها على أفضل العلماء، ودرّس جمعاً غفيراً.

2 ـ ومنها عباديّة: تشرّف فيها بالحج والعمرة، وزيارة بيت المقدِس، وزيارة العتبات المقدّسة في النجف الأشرف وكربلاء والكاظميّة وسامرّاء بالعراق.

وكانت سفراته العلميّة إلى ميس، وكرك نوح، وجُبَع، ودمشق ومصر والحجاز وبيت المقدس والروم وحلب وأسكدار وبعلبك.. وغيرها، حتّى لم يُبق السفر من عمره إلاّ عشر سنوات قضاها مقيماً في بلاده.

أقوال العلماء فيه:

وهو تقييم نطلبه من أهل المعرفة والاختصاص، منهم:

يقول ابن العُوديّ، وهو تلميذه: كان (الشهيد الثاني) شيخ الأُمّة وفتاها، ملك من العلوم زِماماً، وجعل العكوف عليها إلزاماً.. زرع أوقاته على ما يعود نفعه عليه في اليوم والليلة، أمّا النهار ففي تدريسٍ ومطالعة، وتصنيف ومراجعة، وأمّا الليل فله فيه استعداد كامل، لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل.

وقال فيه الشيخ الحرّ العامليّ: أمره في الفقه والعلم والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق والتبحّر وجلالة القَدْر وعِظم الشأن وجمع الفضائل والكمالات.. أشهر من أن يُذكر، ومصنّفاته مشهورة.. كان فقيهاً مجتهداً، ونحويّاً حكيماً متكلّماً قارئاً جامعاً لفنون العلوم، وهو أوّل مَن صنّف من الإماميّة في دراية الحديث.

مزاياه

مكانته العلمية:

يمكن تلخيص الخصائص العلمية للشهيد الثاني - رحمه الله ـ بما يأتي:

أوّلاً:

إحاطته بثقافات عصره وآراء المذاهب الإسلاميّة كلّها. وقد تسنّى له ذلك بتواضعه وشوقه للاطّلاع العلمي النزيه، إضافة إلى رحلاته التي التقى فيها بجملةٍ من علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم، حتّى حضر حلقات دروسهم، وأخذ عن مشايخهم إجازات عديدة بعد أن أمضى معهم بحوثاً ودراسات واعية مستوعبة في حقول الحديث والفقه وغيرهما، وهو إلى سعة صدره كان يتمتّع بأصالته، ويتّخذ المواقف العلميّة المحكمة.

ثانياً:

تفوّقه العلميّ اللاّفت، فهو رحمه الله:

1- قد بلغ في بعض المجالات ما لم يبلغه الأوائل قبله.

2- جمع بين دقّة الملاحظة وعمق النظر.

3- ألمّ باختصاصات متعدّدة من حقول المعرفة.. فإلى إحاطته بالثقافات الإنسانية في عصره وتضلّعه في الفقه والأُصول والحديث، درس علوم: الهيئة والفلَك، والطبّ والرياضيّات، والأدب والفلسفة، واللغة والنحو والصرف والبلاغة والشعر والقراءات القرآنية. كذلك ألمّ إلمامة واسعة بالعلوم العقلية في وقته، من منطق وكلام.

مؤلفاته:

وهي تتجاوز الثلاثين مؤلَّفاً، نذكر أشهرها:

1- الروضة البهيّة في شرح اللُّمعة الدمشقيّة ـ عشرة أجزاء

2- مسالك الإفهام في شرح شرائع الإسلام ـ في سبعة مجلّدات.

3- تمهيد القواعد الأُصوليّة والعربيّة.

4- التنبيهات العَليّة على وظائف الصلاة القلبية.

5- مُنية المريد في آداب المفيد والمستفيد.

6- مسكّن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد.

7- جوابات المسائل.

8- الفوائد المليّة في شرح النَّفليّة.

9- حقائق الإيمان.

10- الدراية (في الحديث).

11- غُنية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدّثين.

12- منار القاصدين في معرفة معالم الدين.

13- كشف الرِّيبة عن أحكام الغِيبة.

إضافة إلى: منسك الحجّ والعمرة، ورسالة في عشرة علوم، وكتاب الرجال والنسب، والاقتصاد والإرشاد.. في الأُصول العقائدية، والفروع والواجبات الفقهيّة.

سيرته:

يحدّثنا تلميذه ابن العُوديّ عن ذلك فيقول:

هذا.. مع غاية اجتهاده في التوجّه إلى مولاه، وقيامه بأوراد العبادة حتّى تَكِلَّ قدماه. وهو مع ذلك قائم بالنظر في أحوال معيشته على أحسن نظام، وقضاء حوائج المحتاجين بأتمّ قيام، يَلقى الأضياف بوجهٍ مُسْفر عن كرم كانسجام الأمطار، وبشاشةٍ تكشف عن شَممٍ كالنسيم المعطار.

ويستمرّ ابن العوديّ فيتحدّث عن تواضع أستاذه مع علوّ رتبته وسمّو منزلته، فيذكر أنّه إذا اجتمع بالأصحاب عَدّ نفسَه واحداً منهم، ولم يَمِل إلى تمييز نفسه بشيء عنهم. وقد شاهده ابن العوديّ نفسه ينقل الحطب لعياله في الليل على حمار، ويصلّي الصبح في المسجد، ثمّ يشتغل بالتدريس بقيّة نهاره، وأنّه كان يصرف أوقاته في الطاعات وتهذيب النفس، كما كان يصرفها في المطالعة والبحث والدرس.

كما استطاع الشهيد الثاني رضوان الله عليه أن يصلح مجتمعاً غارقاً في الجهل والفساد، فبثّ فيه الخير والنور والفضيلة، وأحيا فيه معالمَ الدين التي عَفَت آثارها، مُجدِّداً شعائر السُّنن الحنيفيّة.

ثمّ كان منه أن عَمَّر مساجد الله وأشاد بنيانها، ورتّب وظائف الطاعات فيها معظِّماً شأنها، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، مرشداً أصحابَ العبادات في مناسكهم وشعائرهم، مخلصاً لله تعالى بأعماله، فتأثّرت القلوب بأقواله.

إنّ ما امتاز به الشهيد الثاني أيضاً هو إخلاصه لعقيدته وغَيرته على دينه، وجهاده وتفانيه من أجل الحقّ الإلهيّ.. حتّى شرّفه الله تعالى بخاتمة مباركة.

الخاتمة المشرّفة:

بالرغم من الروح الإنسانيّة والأخلاقيّة التي تحلّى بها الشهيد الثاني مع المسلمين المخالفين له في الرأي، إلاّ أنّه لم يسلم من الضغط الشديد والمراقبة الخانقة وإحاطة العيون والجواسيس بمنزله. حتّى اضطرّه ذلك إلى ترك مدينة (بعلبك) سنة 955 هجريّة والرجوع إلى بلدته (جُبَع).

ولم يَنتهِ الحقد الدفين، فما يزال في قلوب أعدائه فاغتاله أحد أزلام ملك الروم بوشاية من قاضي صيدا.

وقد كانت شهادته رضوان الله عليه سنة 965 هجريّة، عن عمرٍ مبارك لم يتجاوز الرابعة والخمسين أو الخامسة والخمسين عاماً.

مراجع وعلماء منتديات موقع الميزان العودة إلى الصفحة الرئيسية سجل الزوار