صفحة :140   

وجاء الرد على المالكي كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

وأغرب ما قرأناه هو ما أجبت به على السؤال السادس ـ حسب ترتيب الأسئلة التي وردت عليك من هذا السائل.

ونحن نسجل عليه ما يلي:

أولاً: قد ذكرنا فيما سبق: أنك تعقل أن تنسب إلى مئات الملايين من البشر بأنهم حتى لو ظهرت لهم المعايير الشرعية الواضحة، فإنهم يطبقونها على غيرهم، ولا يطبقونها على أنفسهم، انطلاقاً من تعصبهم المذهبي.. مع أن ذلك معصية بلا ريب، إذ يجب عليهم تحري الحق، والالتزام به إذا ظهر لهم..

كما أنك تعقل وتقبل أن يحارب عشرات الألوف علياً، ولو أنهم ظفروا به لقتلوه حسب تصريحك، وذلك ظلما منهم له، وبغيا منهم عليه. وذلك في أكثر من حرب.

ثم إنك تعقل وتقبل أيضاً بأن يسب علي «عليه السلام» على منابر الإسلام في شرق البلاد الإسلامية وغربها من علماء الأمة وجهالها..

ولكنك تقول هنا: إنك لا تعقل أن يتفق جمهور المهاجرون والأنصار على تعطيل وصية النبي «صلى الله عليه وآله».. مع أن المهاجرين والأنصار هم ثلة صغيرة من الناس قد لا يصل عددها إلى ألفي رجل، بين شيخ وشاب، وعالم وجاهل، ومهاجري وأنصاري، والمهاجرون هم القلة القليلة جداً فيهم..

ثانياً: كيف تقبل بأن يتفق الأنصار، وهم الكثرة الكاثرة، ونسبة المهاجرين إليهم نسبة واحد إلى سبعة، وحتى لو كانت أزيد من ذلك.. ـ نعم كيف تقبل بأن يتفقوا على مخالفة حديث: الأئمة من قريش الذي أعلنه النبي «صلى الله عليه وآله» على المنبر في مسجد المدينة..

ولا تقبل بأن يسعى بعض المهاجرين إلى الحصول على مقام الخلافة والإمامة، وهو مقام تهفو إليه النفوس، وتشرئب إليه الأعناق؟..

مع أنه لم يوافقهم على ذلك، لا بنو هاشم، ولا الأنصار، ولا كثيرون من المهاجرين إلا بعد أن ظهر لهم أن عواقب الإصرار ستكون وخيمة، وسوف تجرهم إلى أخطاءٍ جسام.

ثالثاً: إنك قد اعترفت في مورد آخر: أن بني هاشم، والأنصار، وغيرهم قد كانوا مخالفين لخلافة أبي بكر.. ثم لحق الأنصار بأبي بكر، وقبلوا خلافته..

ونقول لك: إن لحوق الأنصار بأبي بكر لم يكن عن اختيار ولا عن قناعة. بل كان بسبب ضعفهم الناشئ عن اختلافهم، الذي نشأ عن خطاب أبي بكر في السقيفة وتذكير الفريقين بإحن الجاهلية.. ثم انحياز أُسيد بن حُضير الأوسي، إليه، لقرابته له من جهة، ولحسده لسعد بن عبادة الخزرجي من جهة أخرى.

ثم كان مجيء قبيلة بني أسلم بصورة مفاجئة وغامضة إلى المدينة حتى تضايق بهم سكك المدينة، فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: «ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر»([1]).

وقال ابن الأثير: «وجاءت أسلم فبايعت»([2]).

وقال الزبير بن بكار: «فقوي بهم أبو بكر»([3]).

وعن أبي مخنف، عن محمد بن السائب الكلبي، وأبي صالح، عن زائدة بن قدامة: أن قوماً من الأعراب دخلوا المدينة ليمتاروا منها، فأنفذ إليهم عمر فاستدعاهم، وقال لهم: «خذوا بالحظ والمعونة على بيعة خليفة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه.

قال: فوالله لقد رأيت الأعراب قد تحزموا، واتشحوا بالأزر الصنعانية، وأخذوا بأيديهم الخشب، وخرجوا حتى خبطوا الناس خبطاً. وجاؤوا بهم مكرهين إلى البيعة»([4]).

وقد روى المعتزلي عن البراء بن عازب: أنه فقد أبا بكر وعمر حين وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله» «وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر. فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر، وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه، فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى»([5]).

وإجبار الزبير على البيعة، وكذلك سلمان، وبنو هاشم الذين كانوا في بيت علي معروف، ومصادره متوفرة لدى الجميع.

وعلى كل حال فإننا بالنسبة لبني أسلم نقول: لو غضضنا النظر عما رواه المفيد في الجمل، فإننا لابد أن نسأل: لماذا قوي بهم جانب أبي بكر(!!!).

ونسأل أيضاً لماذا لم يقو بهم جانب علي؟ أو سعد بن عبادة؟ أو لماذا لم ينقسموا، فيؤيد فريق منهم هذا، وفريق منهم ذاك؟!!

ولماذا حضر هذا العدد الهائل من خصوص قبيلة أسلم إلى المدينة؟!

ولماذا في هذا الوقت بالذات؟.. وهل في المدينة من المحاصيل ـ وهي قرية صغيرة ـ ما يكفي لتموين هذه الأعداد الهائلة لو صح ما ذكره أبو مخنف من أنهم قد جاؤوا ليمتاروا؟! وهل لذلك كله علاقة بغيبة أبي بكر حين وفاة النبي «صلى الله عليه وآله»، حيث زعموا أنه كان غائباً في السنح؟!

فهل كان في السنح حقاً؟ أم أنه كان يدبر الأمر استعداداً لساعة الصفر، حين وفاة النبي «صلى الله عليه وآله»؟! وكيف يغيب عن الرسول وهو في آخر لحظات حياته، مع أنه رفض الانخراط في جيش أسامة حتى لا يسأل عنه الركبان كما قال؟! رغم أن النبي كان غاضباً جداً من تخلف الأصحاب عن ذلك الجيش، وقد حث الجميع على الالتحاق به.

وعلى كل حال.. فقد توفي الرسول «صلى الله عليه وآله» وأبو بكر غائب، وشكك عمر بوفاة النبي وأصر على ذلك حتى حضر أبو بكر.. فأزال الشك عنه مباشرة في آية قرأها عليه مع أنهم كانوا قد قرأوها عليه في المسجد فلم يقنع ـ وها هو يقنع بها الآن وبينما هم كذلك إذ جاءهم النذير باجتماع الأنصار في السقيفة، فذهبوا مسرعين إليها، وجرى ما جرى هناك، وبويع أبو بكر من قبل عمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير، وربما من رجل آخر أو رجلين أيضاً.. وتركوا الأنصار مختلفين، وخرجوا إلى المسجد ليكونوا أول من يلقى علياً، لأنه هو الذي يخيفهم، فجرى لهم مع فاطمة «عليها السلام» ما جرى، وحاصروا الباب إلى اليوم التالي وجلس أبو بكر على المنبر ليبايع له، وظهرت أسلم على الساحة، فقوي بهم أبو بكر!!

وقد جرت البيعة لأبي بكر في ظل هذه القوة القاهرة، حيث كان الناس في المسجد يجبرون على الجلوس، ويقهرون على البيعة، دون أن يقدر أحد منهم على التكلم..

وقد ظهر لي من سياق الأحداث أن أحداً لم يصلِ على رسول الله «صلى الله عليه وآله» سوى علي، وأنه قد دفن بعد ساعات يسيرة من وفاته «صلى الله عليه وآله»، ولم يبق إلى يوم الأربعاء كما يزعمون.. ولست هنا بصدد إثبات هاتين النقطتين وإنما ذكرتهما عرضاً.

وأقول أخيراً:

سواء أكان كل هذا الذي ذكرناه مقبولاً عندك، أو غير مقبول.. فإننا لم نأت به من عند أنفسنا، بل هو مما روته المصادر التي تسعى لتقوية جانب أبي بكر، ودفع الشبهات عن خلافته..

فإن كانت مكذوبة، فلم يأت هذا الكذب من قبل الروافض ولله الحمد.. وإن كانت صحيحة.. فلا بد من التأمل ودراسة هذا الحدث من جديد..

وفي مجمل الأحوال.. لا بد لك من الإجابة على السؤال التالي..

لماذا قلت: إن جمهور المهاجرين والأنصار لا يعقل أن يخالفوا نص وصية النبي «صلى الله عليه وآله».. مع أن الجمهور لم يكن في وارد تسجيل هذه المخالفة على نفسه، بل كان فريق أبي بكر في البداية هو الفريق الأقل أنصاراً، ثم نشأت ظروف ألزمت حتى علياً بالكف عن المطالبة لمصالح لا بد من مراعاتها..

واضطر الأنصار أيضاً للتخلي عن مشروعهم رغم أن جمهورهم كان يسعى إلى عقد الخلافة لغير أبي بكر..

رابعاً: صحيح: أن سلب النص أخف من معاندة النص. ولكن كيف ترى عاند عشرات الألوف النصوص الكثيرة التي تنهى عن البغي على حكام العدل فحاربوا علياً.. ثم كيف عاند مئات الألوف والملايين من الناس فسبوا علياً طيلة عشرات السنين ـ ولم يلتفتوا إلى النصوص الدالة على لزوم مراعاة حرمة المؤمن على الأقل فكيف بالنصوص التي وردت عن النبي «صلى الله عليه وآله» في حق علي «عليه السلام».. نعم لقد سبه علماء الأمة وجهالها على منابر الإسلام طيلة عشرات السنين..

خامساً: إن التضحية بالخيرات السابقة ليست دائماً دليل قلة الدين، بل قد تكون لظروف قاهرة، فإن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد اضطر للكف عن المطالبة لأجل مصالح عليا.. ولعل سكوت بني هاشم قد كان مراعاة لمصالح راعاها أمير المؤمنين..

كما أن سكوت خالد بن سعيد بن العاص ـ وهو أموي، وسكوت المقداد وسلمان و.. و.. إلخ.. وكذلك سكوت الأنصار قد كان اضطراراً للسكوت.. لأكثر من سبب وسبب لزمهم مراعاته..

وليس بالضرورة أن تكون مجاراتهم ومراعاتهم كاشفةً عن قلة الدين.. بل قد يكون ذلك هو عين التدين. إذا كانوا يخافون على الإسلام.. أو كانوا يخافون على أنفسهم، أو على وحدة المسلمين، أو غير ذلك..

نعم.. لو أثبت لنا: أن سكوت الجميع كان حباً بخلافة أبي بكر، وسعياً لإبطال وصية الرسول «صلى الله عليه وآله»، لأمكن أن نرى لكلامك وجهاً مقبولاً أو معقولاً..

ولكن كيف يمكن إثبات ذلك والشواهد تشير إلى خلافه؟!


 

([1]) راجع: تاريخ الطبري ج2 ص458/459 ط الاستقامة.

([2]) راجع: الكامل في التاريخ ج3 ص331.

([3]) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي.

([4]) الجمل للمفيد ص119.

([5]) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج1 ص219.

 
   
 
 

موقع الميزان