اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ،
وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ
ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ،
وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ
الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ
أَعْيُنِهِمْ، وَلَوِّحْ مِنْهَا لِأَبْصَارِهِمْ
مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ
وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ
وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ
الْأَشْرِبَةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ
بِصُنُوفِ الثَّمَرِ حَتَّى لَا يَهُمَّ أَحَدٌ
مِنْهُمْ بِالْإِدْبَارِ، وَلَا يُحَدِّثَ
نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارٍ».. |
|
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ،
وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ
الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ:
إن أكثر وأشد ما يشعر الإنسان بذاته هو حين يجد
شخصه مستهدفاً، وحياته في خطر، لأن الإستهداف إنما هو لهذه الصلة
القائمة بين الإنسان وبين الدنيا، حيث يسعى العدو إلى قطعها..
فالحفاظ على هذه الصلة، يدعو الإنسان للتراجع
والتخلي عن القتال. في حين أن استراتيجية القتال تقوم على نسيان
هذه الصلة، والتخلي عنها.. أو على الأقل عدم المبالات بها..
ولا يكون هذا التخلي إلا بأحد أمرين:
أولهما:
إدراك أن حفظ هذه الصلة غير منطقي، من حيث أنها غير
واقعية، لأنها قائمة على أساس الخداع المتواصل له من قبل الدنيا،
والغش المتعاقب منها له، مرة بعد أخرى.
الأمر الثاني:
تقديم البديل.
أما بالنسبة للأمر الأول، فلا بد من إدراك حقيقة
الخداع المتواصل للدنيا أولاً، ثم إدراك الغش المتعاقب ثانياً.
وذلك يحتاج إلى إعلام قوي وحاسم في هاتين
الناحيتين، قادر على كشف هذين الأمرين، وإقناع المقاتل بهما.
وربما يكون الخداع باتخاذ أوضاع تظهر خلاف الواقع،
فقد يظهر القوة من ليس بقوي، أو يظهر الضعف من ليس بضعيف، وقد يظهر
الغنى، وهو فقير، أو الفقر، وهو غني، أو يظهر الغفلة، وهو متيقظ،
أو العكس، وقد يظهر المرض، وهو صحيح، والعكس.. وهكذا.
وكل ذلك من أجل أن يوقع الطرف الآخر في الشرك،
ويلحق به الخسارة، ويورد عليه ضربته.
وما أكثر هذه الظواهر الخداعة في الدنيا، الموجبة
للوقوع في العناء والبلاء.. فإن الدنيا «غَرُور» بصيغة المبالغة.
أي أنها كثيراً ما تظهر للإنسان أحوالاً يظن معها أنه سيحصل على
مغانم كبيرة، ثم يكتشف أن ما ظنه لا واقع له، بل هو: ﴿كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئًا﴾([1]).
فما يتمناه الإنسان من الخلود والبقاء، ومن الغنى،
ومن الوصول إلى كل ما يشتهيه، ويحقق به السعادة والسكينة والرضا
لنفسه لا يحصل عليه في أي حال..
ولأجل ذلك ترى أنه كل ما وصل إلى شيء وجد في نفسه
الحاجة إلى غيره.. ولا تحصل له السكينة، ولا يجد الغنى ولا الرضا
به..
فلا بد لهذا الإعلام من أن يضع الخطط لكي يقنع
المقاتل بهذه الحقائق، وأن يعمل على أن ينسي الغازي والمرابط هذه
الدنيا، ويبعدها عن آفاقه، ويبعده عن التفكير بزخارفها..
وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ
الْفَتُونِ:
ويلاحظ:
أن
المال وإن كان من جملة حطام الدنيا، ووسائل خدعها، وغرورها، إلا أن
الإمام «عليه السلام» قد نص عليه بخصوصه. وذكر أن المطلوب هو محو
خطراته من القلوب. ووصفه بأنه فَتُون (أي كثير الفتنة للناس)، وقد
ورد في القرآن الكريم:
﴿وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾([2]).
وقد دلت هذه الفقرة من الدعاء، على أن مجرد الهاجس
والأمل المخادع بالحصول على المال، بل خطور ذلك للإنسان بصورة
متعاقبة يكفي لحصول الإفتتان المؤدي للإنحراف عن المسار الصحيح..
وهذا يعني:
حاجة الإنسان دائماً ومهما بلغ من علو المقام والدرجة إلى
الإستمرار في مراقبة نفسه، وإلى استمرار إتحافه بالألطاف الإلهية..
ومحو الخطرات عن القلوب يحتاج إلى جهد تربوي كبير،
وإلى وسائل فاعلة ومؤثرة في ذلك..
ومعنى ذلك:
أن العمل الإعدادي لحماة الثغور صعب وشاق، ويجب أن لا يقتصر على
العلوم الحربية، والتدريب العسكري، وما إلى ذلك.. بل لا بد أن يكون
شاملاً، ومتوازناً..
ويجب أن يكون المرابطون ذوي مواصفات روحية عالية،
لأنهم نخبة غير عادية.
والإغراء بالمال هو مفتاح شراء الضمائر، وبه تتحقق
فتنة الإنسان عن دينه، وعن الحق، ولأن خطراته على القلوب، كما أن
تنامي ذلك إلى حد صيرورته هاجساً يراود القلب من وقت لآخر، يهيئ
الإنسان للإفتتان به، ولا سيما مع توفر الفرصة للخطرات، التي تصادف
خلوة وفراغاً في المرابطة التي يطول أمدها، فيعاود الخاطر القلب
مرة بعد أخرى، حتى تتحقق الفتنة بالمال، ثم يكون التحول إلى مسارات
بعيدة عن المسار الصحيح، الذي يفترض أن يكون المجاهد المرابط عليه
وفيه.
ويلاحظ:
وصف المال بكلمة
«الفتون»،
التي هي صيغة مبالغة أيضاً، في إشارة إلى استمرار فتنته وتواصلها
كلما التفت إليه الإنسان، أو مر في خاطره.
وكما أن المال يفتن الإنسان عن الحق، فإنه يفتنه عن
الآخرة، ويزيد تعلقه في الدنيا، وحب البقاء فيها، لأنه يريد أن
يكون حارساً للمال.
ولكن ليس من ديدن الإسلام الرفض والإعتراض،
وتسجيل التحفظات والتخطئة.. وحسب.. بل هو يخطئ ويصوب في آن واحد،
وهو يردع عن هذا هنا.. ثم يقدم البديل الأمثل والأفضل هناك. فلا
يترك الإنسان في فراغ..
وهذا ما تلاحظه هنا أيضاً، فإن الفقرات التالية قد
صرحت بالبديل، فهي تقول:
وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ:
ومن الواضح:
أن جعل الجنة نصب أعين المقاتلين، يحتاج قبل كل شيء إلى تحصيل
اليقين بها، وبمفردات عقائدية كثيرة تؤسس لهذا اليقين، وتؤكد ثباته
وتحفظ له نقاءه وصفاءه..
وهذا يعطي:
أن على هؤلاء المقاتلين أن يكونوا على درجة كبيرة من الوعي
العقائدي العميق، المستند إلى الأدلة الواضحة، والبراهين اللائحة
من جهة، وأن يبذلوا الكثير من الجهد التربوي والروحي، القادر على
إحداث تغيير أساسي في البنية النفسية والروحية، وفي خصائص الإنسان
وميزاته من جهة أخرى..
ولا يكون ذلك إلا بممارسة طويلة ومؤثرة للعبادات،
والرياضات الروحية. والتصفية والتزكية، والتركيز عليها..
وكل ذلك يحتاج إلى إعداد برامج تربوية، وثقافية،
وعبادية، من شأنها أن تحقق هذه النتائج، إذ ليس من السهل أن يبلغ
الإنسان حداً تصبح الجنة فيه نصب عينيه.
إذن، فليس كل عالم بفنون الحرب، مدرب على السلاح،
يصلح لأن يكون من حماة الثغور.. بل هناك أمور أخرى لا بد أن تتوفر
في الغازي والمرابط..
ولعل المقصود من جعلها نصب عينيه:
أن تكون هي الهدف الذي يتمحض كل سعيه فيه. وينصبُّ كل جهده على
العمل الموصل إليه.. وهذا الهدف لا بد أن يكون لدى كل مقاتل بشخصه،
فلا يكفي مجرد الإيمان بالجنة، ولا الإعتقاد بوجودها.. بل لا بد أن
تصبح بحيث يراها أمام عينيه. ولا تكون غائبة عنه..
وهذا بنفسه يمثل داعياً له إلى المبادرة إلى ساحة
الجهاد، من دون حاجة إلى تحريض من أحد.. بل المحرض موجود في داخل
نفسه. يحرضه بوجوده العيني، وبالمشاهدة المتواصلة له، ولذلك قال:
«نصب
أعينهم»،
فإن هذا أقوى في التحريك من كل شيء.
وَلَوِّحْ مِنْهَا لأَبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ
فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ:
ولا بد من بذل الجهد ثقافياً وتربوياً إلى الحد
الذي يجعل المرابط المجاهد يعيش نعيم الجنة وكأنه حاضر أمامه،
ويبدأ ذلك بإيصاله إلى مرحلة تحصل فيها النفس قبل كل شيء على ما هي
الأحوج إليه، ألا وهو السكون في مقابل القلق. فإن الإنسان يعيش
القلق على نفسه في بقائها، فيحتاج إلى السكون في هذا الأمر بالذات.
فيأتيه السكون ليس إلى مجرد الإستمرار والبقاء، بل إلى ما فوق ذلك
أيضاً، وهو الخلد الذي هو غاية طموح الإنسان..
واختار الإمام «عليه السلام» الحديث عن سكنى الخلد
لا عن جنات عدن مثلاً، ربما ليفيد أن في تلك المساكن خصوصية تفهم
الناس بأن الخلد حاصل فيها، وقد جاء في زيارة الإمام الحسين
«عليه
السلام»:
«أشهد
أن دمك سكن في الخلد»([3]).
وهذه الخصوصية تفهم بمجرد رؤية تلك المساكن، بل
بمجرد لمحها حين يلوَّح للإنسان بها أمام بصره..
والتعبير بالأبصار ربما ليفيد:
أن إدراك هذا المعنى ناشئ من إجراء معادلة فكرية توصل إلى ذلك. لأن
الإبصار هو الإدراك الناشئ عن ذلك..
وهذا الخلود ليس مملاً، ولا يمثل عبئاً على النفس،
وليس هو خلود إهمال، وخمول، وانكماش، ونسيان، وغياب عن الذاكرة. بل
هو خلود فاعل، وحي. ومناقض لذلك كله. إنه خلود فيه انتعاش وامتداد،
وفيه كرامة وسؤدد.
ولذلك طلب أن يلوح لأبصارهم ما أعده في الجنة لهم
من منازل الكرامة، مما يعني أنه بمجرد أن يلمح البصر تلك المنازل
والدرجات، فإنه يجد خصوصية تبين له معنى الكرامة فيها. فمنازل
الكرامة ليست كسائر المنازل..
كما أن للكرامة درجات ومراتب، فلكل منزل درجته
الخاصة به. وميزاته التي تُظهِر تلك الدرجة..
ولعله يريد
«عليه
السلام»
أن يكون ذلك على سبيل الكشف والمشاهدة، ولو بصورة التلويح العابر..
فإن هذا المقدار يكفي ليدركوا بذلك مقامهم عند الله، ورعايته تعالى
لهم. ولذلك لم يقل: عرفهم ذلك، بل قال:
«لوح
لأبصارهم».
وَالْحُورِ الْحِسَانِ:
وبعد أن قدم «عليه السلام» لهم الحديث عن اللذات
المعنوية الروحية، عطف عليها لذات الجسد، بدءاً بلذة النظرة الأولى
للجمال، المتمازجة مع الإندفاع الغريزي، فذكر الحور الحسان، حيث
لذة الغريزة الجنسية إذا زينها الجمال حين يلوح للرائي، فإنه سوف
يشتاق إليها، ويسعى لتجاوز كل الموانع، وقطع كل المسافات للوصول
إليها.
وَالأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ
الأَشْرِبَةِ:
وبما أن أخشى ما يخشاه الإنسان بعد تجاوز عقدة
الخوف على صلته بالدنيا، هو المتاعب والمشقات التي تواجهه، خصوصاً
ما يتعلق منها بفقدان الماء، ومعاناة العطش، فإنه «عليه السلام»
طلب من الله تعالى: أن يريه بأم عينيه ما يدفع هذا الخوف، ويؤمِّن
له الإرتواء التام مرة بعد أخرى.
ثم زاد على ذلك أن ذكر أن مصدر هذا الإرتواء متواصل
ومطرد، فلا خوف من الإنقطاع، وبغزارة لا يحتمل معها النقص عن مقدار
الحاجة..
فهي أنهار في كثرتها وغزارتها، وهي مطردة ومتواصلة.
ثم هي في تنوعها تعطيه القدرة ليس فقط على التلذذ
بها، وإنما توفر له أنواعاً من التلذذات التي لا يحتمل معها الملل،
الناشئ من الإعتياد على نوع واحد. ولذلك كانت مطردة بأنواع
الأشربة..
فلا بد إذن، من إيجاد الوسائل التي تقنع المرابط
المجاهد بأن الأمور لا تخرج عن هذا السياق..
وَالأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ
الثَّمَرِ:
ولا يقتصر الأمر على الأشربة، وأنواعها.. بل هو
كذلك أيضاً بالنسبة للمأكولات.
وقد اختار «عليه السلام» الحديث أولاً عن الأشجار،
دون النباتات، فإن الأشجار قادرة على حمل الكثير والكبير، وهي ترمز
إلى الثبات والبقاء، والإستمرار بخلاف النباتات، فإنها توحي
بالتلاشي والضعف، فتحتاج إلى التجدد المتواصل الذي قد تضعف الأسباب
عنه، أو قد لا تتوفر له في بعض الأحيان..
فالأشجار تعرض أمام أبصار المجاهدين، ويتلمحونها
متدلية أمامهم بصنوف الثمر، التي توحي بتنوع الطعوم، تبعاً لتنوع
الثمار..
أما التعبير بكلمة صنوف، بدل كلمة أنواع.. فلعله
ليفيد أن الجميع من نوع واحد، وهو ما تثمره تلك الشجرة، وإن كانت
ثمرتها صنوفاً متعددة، أي أنه اعتبر الشجرة نوعاً واحداً، واختلاف
الثمار إنما هو باختلاف أصنافها، فالشجرة الواحدة تحمل صنوفاً
مختلفة من الثمر، تماماً كما تحمل الشجرة الواحدة بعد تلقيحها
لوزاً وكمثرى، أو أصنافاً مختلفة من التين، أو غيره..
حَتَّى لا يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالإِدْبَارِ:
وكل هذا الذي يلمحونه، أو يلوَّح لهم به، أو يرونه
نصب أعينهم.. لا بد أن يثمر ثباتاً واستبسالاً في مواجهة العدو.
فإن الإدبار عنه معناه تفريط بالخلود الذي تطمح تلك النفوس إليه،
ولا سيما إذا كان مع هذا الخلود كل هذه الأحوال، والنعم، والعطايا،
حيث يكون الإدبار عنه انتكاسة إلى الشقاء، والحرمان، والعناء،
والنقص، والأذى.
فالمنطق، والفطرة، والحكمة تدعوه إلى التصلب
والإقدام، وعدم التفريط بالفرصة. لا سيما مع المعاينة والشهود
الواعي.
والمطلوب:
أن يكون الجميع على هذه الوتيرة،
وبمستوى واحد في هذا الوعي والوضوح، والتصميم.
فلا بد من التأكد من واقع هؤلاء المقاتلين،
ومستوياتهم. والتدقيق في اختيارهم، وفي استمرار هذه الحالات فيهم،
فإن أي خلل يتسرب إلى واحد منهم قد تكون له تداعيات غير محمودة على
الجميع.
وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارٍ:
وحين تكون المبارزة للقِرن هي الذروة والفيصل، فمن
الطبيعي أن تحدث لدى المقاتل عملية موازنة بين قدراته وقدرات قرنه،
ويرجع إلى دنياه، وتحضر نفسه أمام ناظريه، ويتجسد لديه أن قرنه
يسعى ليقطع صلته بها.. مع ملاحظة: أن الإنسان يتلمس قدراته بصورة
حقيقية وحضورية، أما قدرات عدوه فهو يدركها بضروب من التخيل
والإفتراض، لأنها محجوبة عنه، ومن الطبيعي أن يتوهما أكبر وأكثر
مما هي عليه..
وذلك مما يثير القلق لديه ويدعوه للتردد والإنكفاء،
ولكن معاينته لما يعطاه من الخلود، وما يناله في جنات الله يرفع
نقائصه، ويلبي حاجاته، بل ويشبع غرائزه وشهواته، وسيجعل هذه
الموازنة غير ذات جدوى في إضعاف عزيمته، ونقض تصميمه على المواجهة
والثبات، بل يصير كل همه هو أن يعمل بواجبه الذي يرى أنه ينيله ما
عاينه، إن عاجلاً فيما لو كانت الغلبة لقرنه عليه، أو آجلاً لو كان
هو المنتصر على قرنه.
وقد لخص ذلك بعض العارفين بهذا الشأن على النحو
التالي:
إن القدرة القتالية التي يتم إعدادها تتعرض أثناء
الحرب للتآكل والتفتت، وتحتاج إلى ترميم دائم.. فكانت الوقفات
التعبوية هي الحل والعلاج..
ولكن الإسلام أراد أن يكون التجديد ذاتياً، تنتجه
نفس المعركة، من خلال الحيوية التي ينتجها الوعي والإيمان، والتوهج
المشاعري والروحي، حيث إن كل مقاتل يرى الهدف وينطلق نحوه بصبر
وثبات، وثقة، وصلابة، وتصميم..
ومن الواضح:
أن إرادة الفرد، واندفاعه وإيمانه هو الركيزة الأهم التي تؤسس
للنصر بنظر الإسلام. والإعتبارات الأخرى وإن كان لها تأثيرها، ولكن
لا يصل في حجمه وقوته إلى حجم وقوة هذا العامل..
إذ إن العدة، والعدد، والتجهيزات، والتحصينات،
والخطط، وغير ذلك، لا أثر له في النصر إن كان الفرد الذي سوف
يستفيد من ذلك كله لا يملك الإرادة والقوة والصبر، والحزم والعزم،
والثبات والإقدام، وما إلى ذلك..
وقد أوضحت فقرات هذا الدعاء هذا الأمر بما لا مزيد
عليه..
وقد ركزت أيضاً على إيضاح حقيقة:
أن أفضل الخطط، والتحضير الشامل والدقيق للحرب، يبقى غير قادر على
إعطاء الطمأنينة للقادة بحسم الحرب لصالحهم. بل يبقى القلق هو
المهيمن عليهم، فهم يخشون باستمرار من عدم انضباط الجنود، وعدم
تنفيذ الخطط بدقة. فيفقد القادة توازنهم عند الإشتباك مع العدو،
فينتج ذلك أموراً عديدة منها: الهيبة من الإشتباك، والخوف الغريزي،
والحيرة في اختيار القرار المناسب، والتردد في التنفيذ، والإنشغال
بالذات لحفظها في الحاضر والمستقبل، والإضطراب والتوتر، وعدم
القدرة على التركيز وغير ذلك..
([1])
الآية 39 من سورة النور.
([2])
الآية 28 من سورة الأنفال.
([3])
الكـافي ج4 ص576 وكامـل الزيـارات ص364 ومن لا يحضره
الفقيـه ج2 = = ص595 وتهذيب الأحكام ج6 ص55 والوسائل (ط
دار آل البيت) ج14 ص491 و (ط دار الإسلامية) ج10 ص383
والبحار ج98 ص152 و 266.