«اللَّهُمَّ وَامْزُجْ مِيَاهَهُمْ بِالْوَبَاءِ،
وَأَطْعِمَتَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ، وَارْمِ
بِلَادَهُمْ بِالْخُسُوفِ، وَأَلِحَّ عَلَيْهَا
بِالْقُذُوفِ، وَافْرَعْهَا بِالْمُحُولِ،
وَاجْعَلْ مِيَرَهُمْ فِي أَحَصِّ أَرْضِكَ
وَأَبْعَدِهَا عَنْهُمْ، وَامْنَعْ حُصُونَهَا
مِنْهُمْ، أَصِبْهُمْ بِالْجُوعِ الْمُقِيمِ
وَالسُّقْمِ الْأَلِيمِ».. |
|
اللَّهُمَّ وَامْزُجْ
مِيَاهَهُمْ بِالْوَبَاءِ، وَأَطْعِمَتَهُمْ بِالأَدْوَاءِ:
قلنا فيما
سبق:
إن الإمام «عليه السلام» قد طلب من الله تبارك وتعالى
أن يحول نعمة الماء والطعام التي لم يحفظها الطغاة والجبارون، بل
جعلوها من وسائل التقوي على أهل الحق، وارتكاب الجرائم والمخزيات في حق
الإنسانية ـ طلب من الله تعالى ـ أن يحولها إلى مرض ووباء يتعذر عليهم
الإستفادة منه ما داموا يمارسون هذا الظلم البغيض، ويحاربون الحق
وأهله..
هذا إن لم
نقل:
إن المقابلة بالمثل حق معترف به إذا لم يمكن ردع المعتدي عن عدوانه إلا
بذلك، ونحن نريد أن نسوق الحديث هنا على سبيل التجسيد الحي لما طلبه
الإمام «عليه السلام»، فنقول:
لقد طلب «عليه السلام» أن
تمزج مياه الأعداء بالوباء. فإذا أصبحت المياه ملوثة، على نحو الإمتزاج
الذي لا يقبل الإنفكاك عادة إلا بفقد الماء لهويته، فإنه سيصبح سبباً
لانتشار الأوبئة، وكذلك الحال إذا أصبحت أطعمتهم مصدراً للأمراض بسبب
الإمتزاج الذي لا يقبل الإنفكاك، فإن ذلك سيشغلهم بأنفسهم عن أهل
الإيمان، ويكون من أسباب كسر شوكتهم، وذهاب ريحهم، من دون أن تتعرض
أرواح أهل الإيمان وسلامتهم لأي خطر..
وقد أجازت أمريكا لنفسها أن
تضرب هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية، فلماذا لا يجوز لنا أن نطلب
من الله أن يربك العدو المحارب، ويلهيه عنا بتلوثات تصيب مياهه
وأطعمته، ولو بأن يفعل ذلك العدو بنفسه؟! أو يحصل له بأي سبب آخر؟!
ونحن حين نتحدث عن هذا الأمر،
فإنما نتحدث عنه بالنسبة للمقاتلين.
والفرق بين الوباء والداء ظاهر، فالوباء هو الموت
الذريع الذي ينتشر بسرعة كالطاعون.. والداء هو المرض. سواء أقام في
البدن، أو تعافى البدن منه.
ويلاحظ هنا:
أنه «عليه السلام» خص الوباء بالمياه، والأمراض بالأطعمة، ربما لأن
الماء يساعد على انتشار عدد من الأوبئة، وربما يكون هو المصدر لها..
يضاف إلى
ذلك:
أن الماء نوع واحد، لا يمكن لأحد أن يستغني عنه، أو أن يعيش بدونه..
أما الطعام، فهو وإن كان لا غنى عنه، ولكن تنوعه وكثرته، وتعدد
الخيارات، وإمكانية استبدال نوع بنوع يقلل من إمكانية، أو يصعِّب جعل
الداء في أنواعه المختلفة، ولذلك طلب «عليه السلام» جعل الوباء والموت
في الماء الذي لا غنى عنه..
أما ما يمكن الإنتقال عنه إلى
غيره، فقد طلب «عليه السلام» جعل المرض فيه، حتى إذا انتقل عن هذا
النوع إلى غيره، ثم جعل الداء في الغير، فإن إمكانية العودة إلى الأول،
أو الإقدام على اختيار جديد تبقى قائمة..
وَارْمِ بِلادَهُمْ
بِالْخُسُوفِ:
ثم إن عدم استقرار الأرض تحت الأقدام، والخوف من
انخسافها، يعد من أقوى أسباب الهزيمة النفسية، وفقدان ثقة الإنسان
بنفسه، وبما يخطط له، ويعدّه.. لا سيما وأن الأرض رمز الثبات
والإستقرار، وهي تمثل الصلابة، والقوة، فكيف ستكون الحال إذا أصبحت هي
سبب الخوف والرعب، والتضعضع، والإختلال؟! حيث ينشغل الإنسان بنفسه،
ليتمكن من حفظ الإستقرار والثبات لها، وتتوزع اهتماماته، وتتضاعف
مشكلاته..
ويلاحظ:
التعبير بكلمة «ارم» الظاهرة في السرعة، ولم يقل: اخسف، التي لا تدل
على ذلك، كما أن التعبير بكلمة «الخسوف» صريحة بطلب التعدد والكثرة،
ولم يقل: اخسف بهم. لأنه إن أمكن النجاة من خسف، فلا نجاة لهم من سائر
الخسوف التي تلم بهم.
كما أن كلمة «بلادهم» جاءت
بصيغة الجمع، الظاهر في أن المطلوب هو شمول الخسف لجميعها..
وَأَلِحَّ عَلَيْهَا
بِالْقُذُوفِ:
وقد طلب «عليه السلام» مواصلة
استهداف بلاد العدو بالقذوف والنوازل بإلحاح، وكان الناس في السابق
يستفيدون من المجانيق الضخمة لإسقاط الصخور والنيران، ومن المقاليع
لقذف الحجارة على مكان تواجد الأعداء، وعلى بلادهم..
فالمطلوب هو استمرار رمي الله
لهم بالبلايا والنوازل، كما أن المطلوب هو المواظبة على قذف أماكن
تواجدهم بأنواع القذائف، فلا يشعرون بالأمن في أية لحظة..
والقذوف جمع قذف. وهو دليل
على أن التعدد ومواصلة القذف والرمي.. كما أن النوع مطلوب، وقد يشير
إلى ذلك أنه «عليه السلام» لم يشر إلى المرمي، فقد يكون حجراً، وقد
يكون ناراً، أو أي شيء آخر من وسائل التدمير والتخريب..
وَافْرَعْهَا بِالْمُحُولِ:
أي لتكن الضربات على فرعها،
أي ساقطة عليها من فوق. أي إضربها من أعلى بأنواع الجدب والقحط، بحيث
يشمل أنواعاً متعددة..
وقد جاءت كلمة المحول بصيغة الجمع ليشمل كل شيء يطلب
الخصب والزيادة فيه.. فإذا أصابه المحل، والإنقطاع، وكان ذلك شاملاً
لمختلف الجهات الحيوية والأساسية لحياتهم، فإنه سيعيق خططهم العدوانية،
وسيقصر من خطواتهم باتجاه التعديات على بلاد المسلمين، وسيدعوهم إلى
الإقتصاد في نفقات الحرب، والإنكماش والتقوقع في داخل بلادهم..
ولعل اختيار كلمة «افرعها»
بدل اضربها، ليفيد أن المحول تكون هي المهيمنة على البلاد، ولا سبيل
للهروب منها، ولا منعها من إصابتهم بحدة وبشدة..
وَاجْعَلْ مِيَرَهُمْ فِي
أَحَصِّ أَرْضِكَ وَأَبْعَدِهَا عَنْهُمْ:
فإذا رميت بلادهم بالخسوف،
وألحَّت عليها القذوف، وفُرِعت بالمحول. وكانت مياههم قد مزجت بالوباء،
وأطعمتهم بالأدواء، فمن الطبيعي أن لا يتهيأ لهم أي طعام أو ماء، أو
عدة أو عتاد من أرضهم، بل عليهم أن ينتظروا المدد من خارجها، وهو ما
يسمى بالميرة. فجاءت الخطة التالية الهادفة إلى أن يعمل المسلمون على
إلجاء أعدائهم، إلى أشد البلاد جدباً.
فإن الحص
حلق الشعر، والحاصة:
داء يتناثر منه شعر الرأس.
وانحص شعره:
تناثر وذهب.
وأحص
البلاد:
أكثرها جدباً، وقد ذهب بنيانها وخضرتها ونضارتها كما يذهب شعر الرأس.
فإذا أصبحت الميرة، وهي
الطعام المجلوب من خارج البلاد، في أبعد البلاد مسافة، وفي أكثرها
جدباً، فإن الخوف من انقطاعها بالجدب، وبقطاع الطرق، وبمهاجمة أعدائهم
لقوافلها، مع عدم إمكان حمايتها منهم، وصعوبة وصول النجدة إليها
لتخليصها. إن ذلك كله يوجب إثارة بلابل الصدور، والقلق الذي لا يداويه
ولا يدفعه شيء، ولا بد أن يشغلهم ذلك عن التفكير باستنباط الخطط،
والإعداد للحرب..
فلا بد من العمل على حصر
ميرهم بتلك البلاد المبتلاة بالجدب الشديد.. ولو بتكثير الغارات على
القوافل الناقلة لها، وإشاعة أجواء الخوف من حملها ونقلها، أو انتهاج
سياسات معينة تؤدي إلى ذلك، كالقيام بمبادلات تجارية مع البلاد
القريبة، ولو بأموال زائدة على المتعارف، واشتراط عدم بيعها شيئاً من
ذلك لذلك العدو المحارب، ونحو ذلك..
وَامْنَعْ حُصُونَهَا
مِنْهُمْ:
الضمير في
الحصون:
إن كان راجعاً للميرة، التي يحتاجون إليها، فهو كناية عن امتناع وصولهم
إلى تلك المواضع، لأن الحصن يمنع الآخرين من الوصول إلى ما في جوفه،
لشدة مناعته، أي لا بد من إيجاد موانع قوية جداً، تجعل وصولهم إلى
الميرة متعذراً..
وإن كان
راجعاً إلى الأرض فيكون المراد:
أن لا يتمكن الأعداء من الوصول إلى تلك الحصون، ومن دخولها، حتى لا
يبقى لهم ملجأ أو ملاذ يلجأون إليه لحماية أنفسهم، فلا بد من العمل على
تحقيق هذا الهدف أيضاً..
أَصِبْهُمْ بِالْجُوعِ
الْمُقِيمِ:
وقد ركزت فقرات هذا الدعاء الشريف على الناحية
الإقتصادية بصورة كبيرة ولافتة، الأمر الذي يشير إلى أهمية ومدى تأثير
الحرب الإقتصادية على العدو في قراراته، وفي سير عملياته، فلا بد من
انتهاج سياسات تؤدي إلى محاصرة العدو إقتصادياً، وضرب منشآته الحيوية
في هذا المجال.. ليواجه الشدائد والصعوبات الكبيرة جداً في هذا المجال.
وهو ما عبر عنه «عليه السلام» بقوله:
«أَصِبْهُمْ
بِالْجُوعِ المُقِيمِ»
الدال على ضرورة أن يستمر ذلك آماداً طويلة.
ولذلك
نلاحظ:
أن أعداءنا يهتمون بصورة لافتة بإشغالنا عن زراعتنا إلى حد تلاشي
الزراعة، وبضرب سدودنا، أو إتلاف محاصيلنا، أو ضرب مخازن تمويننا، أو
العمل على أن تنفق مواشينا، وأن تنضب مياهنا الزراعية، ومنعنا من إيجاد
البديل، حتى يهاجمنا الجوع الدائم، ولا نستطيع التخلص منه بأي حال من
الأحوال..
ومن الواضح:
أنه إذا عمَّ الجوع الناس كلهم فعلاً، فإن الأمور ستتخذ إتجاهات أخرى،
وسينشغل الناس وحكامهم بمعالجة هذا الأمر.. قبل أن تظهر آثاره السلبية
خللاً بالأمن الإجتماعي، وأن يشيع السلب والنهب، وتكثر التعديات، فإن
الأمور إذا بلغت إلى هذا الحد، فلا مجال للتفكير في حرب ولا في سواها.
بل يصبح همُّ كل منهم حفظ نفسه، وحمايتها، وتأمين ما يقيم أوده، ويحفظ
له خيط الحياة.
فاتضح:
أن الحرب الإقتصادية لها تأثير مباشر في النصر على العدو، وهي من أهم
أنواع الحروب.. ولذلك كثر التركيز عليها في هذا الدعاء.
ويلاحظ:
أنه ليس في هذه الجملة عاطف، وذلك ليشير إلى كمال الإتصال بينها وبين
ما قبلها. ولعل هذا يفيد في ترجيح الإحتمال الأول في فقرة: «وامنع
حصونها منهم».
وَالسُّقْمِ الأَلِيمِ:
فإذا صاحب الجوع سقم، أي مرض
يطول ويستمر، ومعه أوجاع أليمة، فقد اكتملت عناصر النصر على العدو..
كما هو ظاهر لا يخفى.. |