التطبير وضرب السلاسل

   

صفحة : 12-24  

التطبير وضرب السلاسل

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد..

ما هو رأيكم في التطبير وضرب السلاسل، وغيرها من الشعائر الحسينية، التي يعتبرها البعض عنيفة ومؤذية للنفس؟.

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

وبعد..

إن ذلك كله ليس حراماً.. وإن ادَّعى البعض ذلك استناداً إلى ما يلي:

 

إلقاء النفس في التهلكة:

ا ـ قالوا: إن فيه إلقاء للنفس في التهلكة..

ونقول:

هو دليل باطل..

أولاً: ليس في التطبير وضرب السلاسل هلاك..

ثانياً: لو سلم أن ذلك قد يتفق أحياناً، فإن المحرم منه هو خصوص ما يؤدي إلى الهلاك، ولا دليل على تحريم ما سواه..

ثالثاً: إن آية: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}([1]).. إنما يراد بها الهلاك الأخروي، والتعرض لعذاب الله..

توهين المذهب:

2 ـ واستدلوا بأن في التطبير، وضرب السلاسل، ونحوهما توهيناً للمذهب، ومن موجبات السخرية والاستهزاء به، وبأهله..

وهذا دليل لا يصح أيضاً: بل هو دليل المشروعية، وذلك لأن معناه المحرم هو التوهين، وليس اللطم والضرب، فإن أوجب الضرب والتطبير عز المذهب، فإنه يكون مطلوباً ومحبوباً، ويكون الحرام هو خصوص ما يوجب التوهين دون ما عداه..

ومن الواضح: أن ما يحصل في بلاد الشيعة إنما يوجب عز المذهب وقوته، وأما لو حصل في بعض بلاد أوروبا، وفي الملأ العام في ظروف معينة، فقد يوجب ذلك نفور كثير من الناس، بسبب عدم إعدادهم لمثل هذه الأمور..

وهذا نظير نفرتهم من رمي الجمرات في الحج، أو من رجم الزاني، وقطع يد السارق، و.. ونحو ذلك من شعائر، فإن فهمهم لها، وانسجامهم معها، يحتاج إلى أن يمروا بمراحل من التفهيم والتوجيه والتعريف بالمباني والأصول، والمنطلقات..

الضرر والإيذاء للنفس:

3 ـ واستدلوا على حرمة ذلك أيضاً، بأنه يتضمن الضرر والإيذاء للنفس. والإيذاء، والضرر محرمان شرعاً وعقلاً..

ونقول:

أولاً: بالنسبة لتحريم الإيذاء عقلاً، نلاحظ: أن جرح الرأس واللطم، ليسا من قبيل الظلم الذي هو قبيح على كل حال، وحرام شرعاً أينما وجد، إذ لو كانا كذلك لم يجز فعل الجرح في أي مورد كان، حتى في موارد الحجامة، والختان، وثقب أذن المولود، ونتف شعر الإبطين، والعمليات الجراحية للتجميل و.. و..

وذلك لأن القبيح عقلاً، لا يصير مستحباً أبداً ولا محبوباً للشارع، وتجويز ارتكابه في صورة التزاحم لا يخرجه عن صفة القبح، والحرمة الواقعية..

ثانياً: إن الجرح ليس ضرراً دائماً، وإن كان فيه ألم، فإن الألم ليس ضرراً في جميع الأحوال..

ثالثاً: لو سلم أنه ضرر، فليست جميع مراتب الضرر محرمة شرعاً.. إذا كان ذلك بالنسبة للشخص نفسه، إلا إذا بلغ حد قطع عضو أو إتلافه..

وإن كان محرماً بجميع مراتبه بالنسبة للغير، لكن حرمته هذه إنما هي من حيث كونه تعدياً على حقوقه، وهتكاً لحرمته. ولأجل ذلك يحرم حتى غمز جسد الغير بغير إذنه، فضلاً عن ضربه أو جرحه.. الذي قد يشتمل على هتك الحرمة والضرر معاً..

رابعاً: إن احتمالات الضرر، بل احتمالات الهلاك إذا صاحبتها أغراض عقلائية مَرضيَّة لدى الشارع، فإن العقلاء لا يمنعون منها، والشارع، لا يحرم الإقدام على مواردها أيضاً، ولذلك جاز عقلاً وعقلائياً، وشرعاً للمرأة أن تطلب الحمل وتواجه مخاطر الولادة, وجاز للناس أن يركبوا السيارات، والقطارات، والطائرات، وتسلق الشجر، والأبنية الشاهقة، وركوب البحر، وغير ذلك.. مع ما في ذلك كله من احتمالات الهلاك..

وذلك يدل على: أن الضرر الذي يحكم العقل بلزوم دفعه، هو الذي يكون كبيراً كالهلاك، أو قطع عضو، أو فيه خسارة كبيرة، وحيث يكون احتماله معتداً به، داعياً للتحرز منه عندهم.. ومع عدم وجود نفع أعظم منه.

أما الجرح اليسير، أو المرض الخفيف، كالزكام ونحوه، فإن العقلاء لا يمنعون من الإقدام عليه إذا كان هناك نفع أعظم.

والشارع تابع في هذه الأمور للعقلاء.

وليس هناك دليل يدل على حرمة تصرف الإنسان في نفسه مطلقاً، بل الأدلة قائمة على جواز كثير من التصرفات التي يصاحبها ألم، بل جرح أيضاً، خصوصاً إذا عرضت لها عناوين راجحة، أو مطلوبة شرعاً..

خامساً: الدليل النقلي الدال على مشروعية تحمل الأذى حزناً على أولياء الله وأصفيائه، وهذا ما نلاحظه في الدليل النقلي التالي:

الدليل النقلي:

هناك نصوص كثيرة تدل على مشروعية تحمل الأذى، حزناً على أولياء الله وأصفيائه، ومن أجل أمور أخرى، نذكر منها ما يلي:

1 ـ إن النبي يعقوب عليه السلام، بكى على ولده النبي يوسف عليه السلام ـ رغم أنه كان يعلم بأنه على قيد الحياة ـ حتى ابيضت عيناه من الحزن، وقد قال له أبناؤه أيضاً: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}..([2]).

2 ـ لقد بكى الإمام السجاد عليه السلام على أبيه، حتى خيف على عينيه([3]). بل خيف عليه أن يكون من الهالكين أيضاً..([4]).

3 ـ كما أن الإمام السجاد عليه السلام حين رأى الشهداء صرعى، كادت نفسه الشريفة تخرج، فقالت له عمته السيدة زينب عليها السلام: >مالي أراك تجود بنفسك الخ..<([5]).

4 ـ وفي زيارة الناحية المقدسة: >ولأبكينك بدل الدموع دماً، حسرة عليك، وتأسفاً على ما دهاك، حتى أموت بلوعة المصاب، وغصة الإكتئاب<([6]).

5 ـ النصوص التي دلت علىمطلوبية زيارة الإمام الحسين عليه السلام، حتى في حال الوجل والخوف على النفس من الظالمين..([7]).

6 ـ وعن الإمام الرضا عليه السلام: >إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا<([8]).

7 ـ روي أن الإمام السجاد عليه السلام، كان يبكي عند شرب الماء، حتى يجري مع الدمع الدم في الإناء..([9]).

8 ـ يذكرون أن السيدة زينب عليها السلام قد ضربت جبينها بمقدم المحمل، حتى سال الدم من تحت قناعها..([10]).

9 ـ حين عاد السبايا إلى المدينة، >ما بقيت مخدرة إلا برزن من خدورهن، مخمشة وجوههن، لاطمات خدودهن<([11]).

وهكذا جرى في الكوفة أيضاً، حين وصول السبايا إليها، حيث خطب حينئذ الإمام السجاد عليه السلام، وأم كلثوم، وفاطمة بنت الحسين عليه السلام، فراجع..([12]).

10 ـ روى الصدوق عليه الرحمة، عن النبي صلى الله عليه وآله: >أن شعيباً بكى حتى عمي، فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فرد الله بصره، ثم بكى حتى عمي، فرد الله عليه بصره..<([13]).

11 ـ روي عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث: >أن آدم بكى على الجنة، حتى صار في خديه أمثال الأودية<([14]).

12 ـ روي بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام، أن النبي صلى الله عليه وآله، لم يعترض على نساء الأنصار فيما فعلن في أنفسهن بعد قضية أحد، حيث إنهن >قد خدشن الوجوه، ونشرن الشعور، وجززن النواصي، وخرقن الجيوب، وحزمن البطون على النبي صلى الله عليه وآله، فلما رأينه قال لهن خيراً، وأمرهن أن يستترن، ويدخلن منازلهن..<([15]).

اللطم بحضور المعصوم:

وأما الروايات الدالة على اللطم، بحضور المعصوم، وظهور موافقته، ورضاه، وفي بعضها الحث عليه منه عليه السلام، فكثيرة، وقد تقدم آنفاً بعضها، ونزيد على ذلك هنا ما يلي:

1 ـ عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: >ولقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي. وعلى مثله تلطم الخدود، وتشق الجيوب<.

وفي الجواهر: أن حديث لطم الفاطميات متواتر، ونقله رحمه الله عن ابن إدريس أيضاً..([16]).

2 ـ وحين سمعت السيدة زينب عليها السلام أخاها الإمام الحسين عليه السلام ينشد:

يا دهر أف لك من خليل، الخ..

لطمت وجهها، وهوت إلى جيبها فشقته، ثم خرت مغشياً عليها..([17]).

3 ـ وحين أخبر الإمام الحسين عليه السلام أخته، بأنه عليه السلام رأى رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه قال له: إنك تروح إلينا: >لطمت أخته وجهها، ونادت بالويل، الخ..<([18]).

4 ـ ولما مروا بالسبايا على الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه عليهم السلام، وهم صرعى >صاحت النساء، ولطمن وجوههن، وصاحت السيدة زينب عليها السلام: يا محمداه..<([19]).

5 ـ وفي زيارة الناحية: >فلما رأين النساء جوادك مخزياً إلى أن قال: على الخدود لاطمات، الخ..<([20]).

6 ـ وحين رجع السبايا من الشام إلى كربلاء، ووجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وجماعة من بني هاشم، >تلاقوا بالبكاء، والحزن، واللطم. وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد<([21]).

وكان الإمام السجاد عليه السلام معهم يرى ويسمع..

7 ـ وحين أنشد دعبل الخزاعي تائيته المشهورة، أمام الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، وفيها:

أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً             وقـد مـات عطشانـاً بشط فرات

إذن للطمت الخد فاطم عنـده            وأجريت دمع العين في الوجنات

لم يعترض الإمام عليه، ولم يقل: إن أمنا فاطمة عليها السلام لا تفعل ذلك لأنه حرام، أو مرجوح، بل هو قد بكى، وأعطى الشاعر جائزة، وأقره على ما قال..([22]).

8 ـ وقد روي في الأحاديث الكثيرة: أن الجزع مستحب على الإمام الحسين عليه السلام، وفي بعض الروايات أن الإمام الباقر عليه السلام، فسر هذا الجزع بما يشمل اللطم، فقال عليه السلام: >أشد الجزع: الصراخ بالويل، والعويل، ولطم الوجه، والصدر..<([23]).

هذا كله عدا عن أن كثيرين، قد لطموا صدورهم، أو خدودهم، أو ضربوا رؤوسهم حزناً على الإمام الحسين عليه السلام، مثل:

السيد المرتضى رحمه الله وتلاميذه..([24]).

والناشي الشاعر، ومعه المزوق، والناس كلهم..([25]).

وابن عمر..([26]).

وسليمان بن قتة..([27]).

والجن..([28]).

بالإضافة إلى اللطم الذي حصل في بيت يزيد لعنه الله نفسه..([29]) وغير ذلك.

لماذا نهى الإمام الحسين عن اللطم؟!

وأما ما روي من أن الإمام الحسين عليه السلام قد نهى النساء في ليلة العاشر من المحرم عن خمش الوجوه، وعن لطمها، وعن شق الجيوب..

فيوضحه ما رواه السيد ابن طاووس، حيث قال: فلطمت زينب عليها السلام على وجهها، وصاحت، فقال لها الإمام الحسين عليه السلام: >مهلاً، لا تشمتي القوم بنا..<([30]).

ويوضحه أيضاً ما روي من أنه عليه السلام قد قال للنساء في وداعه الثاني:

>فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم..<([31]).

فإذا كان لطم الوجوه ينقص من قدرهن، أو يشمت به وبهن الأعداء، فإن عليهن أن يمتنعن عنه.

وأما إذا كان تعبيراً عن الأسى، وكان موجباً لإظهار المظلومية، وإدانة المجرمين، فلا شيء يمنع منه، بل هو مستحب ومطلوب، حسبما مر في حديث الإمام الباقر عليه السلام، وفي غيره..

النتيجة:

وبذلك يتضح: أنه لا مانع من الناحية الشرعية، من ممارسة هذه الأساليب في إحياء أمرهم عليهم السلام، إلا في المواضع التي توجب شماتة الأعداء، أو إنقاص القدر أو المهانة، أو غير ذلك من الآثار المبغوضة للشارع.

وأما إذا أوجبت زيادة التعلق بالإمام الحسين عليه السلام، وشدة الكراهية للظلم وللظالمين، والربط على قلوب المؤمنين، وإحياء أمرهم صلوات الله عليهم، فإن مشروعيتها تصبح في غاية الوضوح..


 

([1]) الآية 195 من سورة البقرة.

([2]) الآية 85 من سورة يوسف.

([3]) البحار ج46 ص108 عن المناقب لابن شهرآشوب ط النجف ج3 ص303.

([4]) كامل الزيارات ص107 والبحار ج79 ص87 وفي هامشه عن الخصال ج1 ص131.

([5]) كامل الزيارات ص261 (قسم: الزيادات) والبحار ج28 ص57.

([6]) راجع: البحار ج98 ص238 و241 و317 و320، والمزار الكبير ص171 ومصباح الزائر ص116.

([7]) راجع كامل الزيارات ص127 و126 و260 و261 و125، وإرشاد العباد إلى لبس السواد ص59، ومكيال المكارم ج2 ص288، والبحار ج45 ص179.

([8]) الأمالي للصدوق ص113 المجلس 27، والبحار ج44 ص284.

([9]) تاريخ النياحة ج6 ص146 عن جلاء العيون للسيد عبد الله شبر، وعن أعيان الشيعة.

([10]) البحار ج45 ص115 والفردوس الأعلى ص19ـ 22 والمجالس الفاخرة ص298.

([11]) اللهوف ص114 ط صيدا والبحار ج45 ص147 ودعوة الحسينية ص117.

([12]) اللهوف ص88 ط صيدا سنة 1929م. والبحار ج45 ص112.

([13]) علل الشرايع ج1 ص54 باب 51 والبحار ج12 ص380.

([14]) البحار ج79 ص87 وج11 ص204 وفي هامشه عن الخصال ج1 ص131.

([15]) الكافي ج8 ص318 والبحار ج20 ص107 ـ 109 وتفسير الصافي ج1 ص387 وتفسير نور الثقلين ج1 ص398.

([16]) تهذيب الأحكام ج8 ص325 وكشف الرموز ج2 ص263 والمهذب البارع ج3 ص568 والمسالك للشهيد الثاني ج10 ص29 وجامع أحاديث الشيعة ج3 ص392 والوسائل ج15 ص583 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الكلام ج4 ص371 وج33 ص184.

([17]) الإرشاد للمفيد ص232 ط سنة 1399 هـ ومقتل سيد الأوصياء للكاظمي ص98.

([18]) الإرشاد للمفيد ص230.

([19]) مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص39.

([20]) تقدمت مصادرها..

([21]) اللهوف ص112 و113 والبحار ج45 ص146 وجلاء العيون ج2 ص272 و273.

([22]) راجع عيون أخبار الرضا ج2 ص263 و264 والبحار ج49 ص237 و239 ـ 252 ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص131 والغدير وغير ذلك كثير..

([23]) وسائل الشيعة ج2 ص915 ط المكتبة الإسلامية.

([24]) تاريخ النياحة ج2 ص26 عن كتاب المواكب الحسينية لعبد الرزاق الأصفهاني عن كتاب عمدة الأخبار ص43.

([25]) تاريخ النياحة ج2 ص22 عن بغية النبلاء ص161.

([26]) الخصائص الحسينية ص187.

([27]) أعيان الشيعة ج25 ص368 ط أولى.

([28]) البحار ج45 ص194 وجلاء العيون ج2 ص292 و293.

([29]) إقناع اللائم ص153 عن العقد الفريد لابن عبد ربه، عن المدائني.

([30]) اللهوف ط صيدا ص51 والبحار ج44 ص391.

([31]) مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم رحمه الله ص337 عن جلاء العيون للعلامة المجلسي قدس سره.

 
   
 
 

موقع الميزان