النشاط الاجتماعي للزهراء
:
قد يورد البعض ملاحظة ذات مغزى! تقول: «إننا
لا نجد في التاريخ ما يشير إلى نشاط اجتماعي للسيدة فاطمة الزهراء في
داخل المجتمع الإسلامي إلا في رواية أو روايتين».
وتعليقا على هذا نقول:
كل زمان له متطلباته وتقنياته، وأطر نشاطه. وإنما يطالب
كل من الرجل والمرأة ويحاسب وفقا لذلك، ويتم تقويم نشاطاته أيضاً على
هذا الأساس، من حيث حجم تأثيرها في الواقع الإسلامي كله.
وبالنسبة لعصر النبوة، فإن تعليم الزهراء القرآن
للنساء، وتثقيفهن بالحكم الشرعي، وبالمعارف الإلهية الضرورية. ثم
مشاركتها الفاعلة والمؤثرة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في
المواقع المختلفة،
ــــــــــــــــــــ
(1)
سورة الحشر: الآية 7.
(2)
سورة الأحزاب: الآية 21. (*)
/ صفحة 50 /
حتى في المباهلة مع النصارى. ثم دورها الرائد في الدفاع
عن القضايا المصيرية، ومنها قضية الإمامة. ثم خطبتها الرائعة في
المسجد، التي تعتبر مدرسة ومعينا يرفد الأجيال بالمعرفة...
هذا، عدا عن إسهامها المناسب لشخصيتها ولقدراتها،
ولظروفها في حروب الإسلام المصيرية. وعدا عن طبيعة تعاملها مع الفئات
المحتاجة إلى الرعاية كاليتيم، والأسير، والمسكين، وهو ما خلده الله
سبحانه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.
وأعظم من ذلك كله..
موقفها القوي والمؤثر، الذي وظفت فيه حتى فصول موتها ودفنها لصالح حفظ
ثمرات الجهاد، في سبيل قضية الإسلام الكبرى، تماما فعلته ابنتها زينب
«عليها السلام» في نطاق حفظها القوي والمؤثر لثمرات الجهاد والتضحيات
الجسام للإمام الحسين «عليه السلام» وصحبه في كربلاء..
نعم،
إن ذلك كله، ونظائره، يدل على أن الزهراء «عليها السلام»، قد شاركت في
العمل الإنساني، والسياسي، والثقافي، والإيماني بما يتناسب مع واقع،
وحاجات، وظروف عصرها. وفي نطاق أطر نشاطاته، وفقا للقيم السائدة فيه..
وقد حققت إنجازات أساسية على صعيد التأثير في حفظ
الدعوة، وفي نشرها، وتأصيل مفاهيمها، وسد الثغرات في مختلف المجالات
التي تسمح لها ظروف ذلك العصر بالتحرك فيها.
وهنا الذي حققته قد لا يوازيه أي إنجاز لأية امرأة عبر
التاريخ، مهما تعاظم نشاطها، وتشعبت مجالاته، وتنوعت مفرداته، لأنه
استهدف تأصيل الجذور. فكان الأبعد أثرا في حفظ شجرة الإسلام، وفي منحها
المزيد من الصلابة والتجذر، والقوة. وفي جعلها أكثر غنى
/ صفحة 51 /
بالثمر الجني، والرضي، والهني..
فيتضح مما تقدم:
أن الاختلاف في مجالات النشاط وحالاته، وكيفياته بين عصر الزهراء
«عليها السلام» وهذا العصر، لا يجعل الزهراء في دائرة التخلف والنقص
والقصور. ولا يجعل إنجاز المرأة في هذا العصر أعظم أثرا، وأشد خطرا.
حتى ولو اختلفت متطلبات الحياة، واتسعت وتنوعت آفاق النشاط والحركة
فيها.. لأن من الطبيعي أن يكون عصر التأصيل لقواعد الدين. والتأسيس
الصحيح لحقائق الإيمان، وقضايا الإنسان المصيرية هو الأهم، والأخطر،
والانجاز فيه لا بد أن يكون أعظم وأكبر..
وهكذا يتضح:
أنه لا معنى للحكم على الزهراء «عليها السلام» بقلة النشاط الاجتماعي
في عصرها قياسا على مجالات النشاط للمرأة في هذا العصر..
وبعد ما تقدم فإننا نذكر القارئ الكريم بالأمور
التالية:
أولا:
ليته ذكر لنا الرواية أو الروايتين لنعرف مقصوده من النشاط الاجتماعي.
فإن كان المقصود به هو أنها قد تخلفت عن وظيفتها ولم تقم بواجبها
كمعصومة وبنت نبي، وزوجة ولي.
فقد كان على خصومها أن يعيبوها بذلك وكان على أبيها
وزوجها أن يسددوها في هذا الأمر وإن كان المقصود بالنشاط في داخل
المجتمع الإسلامي هو إنشاء المدارس، والمؤسسات الخيرية، أو تشكيل
جمعيات ثقافية، أو خيرية، أو إقامة ندوات، واحتفالات، أو إلقاء
محاضرات، وتأليف كتب تهدى أو تباع، فإن من الممكن أن لا تكون الزهراء
«عليها السلام» قد قامت بالكثير من هذا النشاط كما يقوم به بعض النساء
اليوم، ولا يختص ذلك بالزهراء «عليها السلام»، بل
/ صفحة 52 /
هو ينسحب على كل نساء ذلك العصر، والعصور التي تلته.
فإن طبيعة حياة المجتمع وإمكاناته وكذلك طبيعة حياة المرأة آنذاك كانت
تحد من النشاط الذي يمكنها أن تشارك فيه إلا في مجالات خاصة تختلف عن
المجالات في هذه الأيام، بقطع النظر عن المبررات الشرعية التي ربما
يتحدث عنها البعض بطريقة أو بأخرى.
أما إذا كان المقصود هو أن التاريخ لم يذكر: أنها كانت
تجهر بالحق، لمن أراد معرفة الحق، ولا تقوم بواجباتها في تعليم النساء
وتوجيههن وفي صيانة الدين، وحياطته، على مستوى قضايا الإسلام الكبرى،
وغيرها خصوصا ما أثير عنها من معارف نشرتها، حتى ولو في ضمن أعمالها
العبادية وغيرها. فإن ما أنجزته في هذا المجال كالنار على المنار،
وكالشمس في رابعة النهار.
وإن خطبتيها
في مسجد النبي «صلى الله عليه وآله»، ومع نساء الأنصار تعتبران
بحد ذاتيهما
مدرسة للأجيال، ومنبعاً
ثرّاً
للمعرفة على مدى التاريخ لو أحسن فهمهما،
وصحت الاستفادة منهما.
هذا مع وجود أبيها رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وابن عمها أمير المؤمنين «عليه السلام»، اللذين هما محور الحركة
الاجتماعية، والإنسانية والاسلامية وكان نشاطها «عليها السلام» جزءا من
مجموع النشاط العام الذي كان آنئذ.
على أن قوله «إلا
في رواية أو روايتين»
يبقى غير واضح وغير دقيق. فهناك العديد من الروايات التي ذكرت مشاركتها
في أنشطة مختلفة، إجتماعية وسياسية وثقافية وتربوية، وقد ذكرنا بعضا من
ذلك فيما سبق، بل إن بعض الروايات تذكر: أنها كانت تشارك حتى في
مناسبات غير المسلمين. وذلك حينما دعاها بعض اليهود إلى
/ صفحة 53 /
حضور عرس لهم.
وثمة رواية تحدثت عن ذلك الأعرابي الذي أعطته عقدها،
وفراشا كان ينام عليه الحسن والحسين «عليهما السلام»، فاشتراهما عمار
بن ياسر.. في قصة معروفة.
بل إن الله سبحانه قد تحدث أنها وأهل بيتها «عليها
السلام» من طبيعتهم إطعام الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وحين خطبت خطبتها في المسجد جاءت في لمة من النساء
كانوا يؤيدونها في ما تطالب به، بل ويتحدث البعض عن وجود تكتل نسائي
لها «عليها السلام» في مقابل تكتلات مناوئة.
هذا كله عدا عن أن اهتمامها (بالجار قبل الدار) يعطينا
صورة عن طبيعة اهتماماتها، وأنها لو وجدت أية فرصة لأي نشاط اجتماعي أو
نشاط إنساني أو ثقافي فستبادر إليه بكل وعي ومسؤولية وحرص.
وثانيا:
إن تأكيدات النبي «صلى الله عليه وآله» للمسلمين بصورة
مستمرة قولا وعملا، على ما لها من مقام ودور، وموقع في الإسلام
والإيمان، والمعرفة، قد جعل لها درجة من المرجعية للناس، وأصبح بيتها
موئلا للداخلات والخارجات(1) وكان
«..يغشاها نساء المدينة، وجيران بيتها» (2).
وصار الناس يقصدونها لتطرفهم بما عندها من العلم والمعرفة
(3).
ــــــــــــــــــــ
(1)
شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي: ج9 ص198.
(2)
المصدر السابق: ج9 ص193.
(3)
ستأتي حين الحديث عن «مصحف فاطمة» قصة مجئ أحدهم يطلب منها شيئاً تطرفه
به، فطلبت صحيفة كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أعطاها إياها،
فلم تجدها في بادئ الأمر. فانتظر. (*)
/ صفحة 54 /
وكان النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه يوجه حتى بأصحاب
الحاجات المادية إلى بيت فاطمة «عليها السلام»، كما في قضية الإعرابي
الذي أعطته عقدها، وفراشاً للحسنين «عليهما السلام» كما أسلفنا.
وكان الناس يترددون عليها لطلب المعرفة أيضاً، وكل ذلك
من شأنه أن يملأ حياتها «عليها السلام» بالحركة والنشاط، الذي يضاف إلى
نشاطاتها البيتية، حيث كانت تطحن حتى مجلت يداها..
ثالثا:
إنه لا يمكن تقييم إنسان ما على أساس إنجازاته ونشاطاته
الاجتماعية، أو ذكائه السياسي، فهناك أذكياء سياسيون كثيرون، ولكنهم لا
يتمتعون بالقيمة الحقيقة للإنسان، لأن النشاط الاجتماعي والذكاء لا
يعطي الموقف السياسي أو غيره قيمة، وإنما تتقوم السياسة بمنطلقاتها
ومبادئها، وهي إنما تؤخذ من المعصوم: كالنبي والوصي، ومن الزهراء
أيضاً. فهي «عليها السلام» تحدد لنا ما به تكون القيمة للسياسة، أو لأي
عمل آخر، اجتماعيا كان أو غيره، ولا تكتسب الزهراء قيمتها من سياساتها،
أو من نشاطاتها الاجتماعية، وإلا لكان بعض المجرمين أو المنحرفين أعظم
قيمة حتى من الأنبياء، والأولياء، والأصفياء، إذا قام بنشاط اجتماعي أو
سياسي كبير، بسبب توفر المال، أو الجاه، أو السلطة له، مع عدم توفر ذلك
للنبي أو الولي «عليهم السلام».
والحقيقة:
أن قيمة الإنسان إنما تنبع من داخل ذاته، ومن قيمه التي يجسدها، ومن
مثله وإنسانيته، ومن علمه النافع المنتج للتقوى والخشية من الله
سبحانه، وما سوى ذلك فهو في سياق الأسباب والنتائج، وقد يكون في الطرف
الآخر من المعادلة.
رابعا:
إننا لا بد أن نتحقق أولا من حقيقة موقع الزهراء عليها
/ صفحة 55 /
السلام فيما يرتبط بإيمان الإنسان المسلم، ونتحقق أيضاً
من حقيقة المهام التي يفترض فيها أن تضطلع بها في تأييد هذا الدين
وتشييده، فنقول:
إن ولاء الإنسان المسلم للنبي والأئمة والزهراء «عليها
السلام» له دور أساسي ومفصلي في بلورة إيمانه، وتحقيق هويته وشخصيته
الرسالية والإنسانية، فوجود الزهراء ـ المرأة ـ التي ليست هي بإمام ولا
نبي، بصفتها المرأة الكاملة في إنسانيتها هو الذي نحتاجه كضرورة
حياتية، واعتقادية، وسلوكية، وحتى منهجية في حياتنا، أما نشاطها
الاجتماعي أو السياسي، فليس له هذه الدرجة من الأهمية أو الحساسية مع
وجود أبيها وزوجها.
إننا نحتاج إلى هذا الوجود لنرتبط به، وتحنو عليه
قلوبنا، وهو يجسد لنا القيم والمثل، والكمال الإنساني الذي نحتاج إليه
هو الآخر، لتحتضنه قلوبنا من خلال احتضانها للزهراء «عليها السلام»،
وليسهم ـ من ثم ـ في بناء عقيدتنا، وتركيز المفاهيم الإسلامية والقيم
والمثل في قلوبنا وعقولنا، لتنتج ولتصوغ عواطفنا وأحاسيسنا وكل وجودنا،
هذا هو دور فاطمة «عليها السلام»، وليس دورها ودورهم هو بناء المؤسسات،
أو إنشاء الجمعيات الخيرية أو الإنسانية، أو ما إلى ذلك!!.
خامسا:
إنه لا شك في أن للزهراء «عليها السلام» الدور الكبير والحساس في بقاء
هذا الدين ونقائه، ولولاها لطمست معالمه وعفيت آثاره، فالزهراء هي
نافذة النور، وهي برهان الحق، وهي ـ كما هو زوجها. علي أمير المؤمنين
«عليه السلام» ـ مرآة الإسلام التي تعكس تعاليمه، وأحكامه، ومفاهيمه،
ونظرته للكون وللحياة. فهي مع الحق يدور معها كيفما دارت وتدور معه
كيفما دار.
/ صفحة 56 /
إنها المعيار والميزان الذي يوزن به إيمان الناس، ودرجة
استقامتهم على طريق الهدى والخير والخلوص والاخلاص. ونعرف به رضا الله
ورسوله، وغضب الله ورسوله «صلى الله عليه وآله». وهذا ما يشير إليه
قول النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: هي بضعة مني وهي قلبي الذي بين
جنبي، من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، أو يرضيني ما أرضاها
ويسخطني ما أسخطها، أو نحو ذلك.
والملاحظ:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد جعل المرتكز لمقولة يرضيني ما يرضيها أو
من آذاها فقد آذاني هو كونها بضعة منه «صلى الله عليه وآله»(1).
ــــــــــــــــــــ
(1)
هذا الحديث لا ريب في تواتره وصحته. وصرح بتواتر نقله بين الفريقين
الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه المعروف كشف الغطاء: ص12 فراجعه. وبما
أن هذا الحديث قد ذكر في مختلف المصادر التي تحدثت عن الزهراء، فإن
استقصاء مصادره متعسر لنا الآن بل متعذر، ولا نرى حاجة إلى ذلك، ولذا
فسوف نكتفي هنا بذكر ما تيسر منها. ومن أراد المزيد، فعليه بمراجعة
الكتب التي تتحدث عن سيرة الزهراء «عليها السلام» أو عن كراماتها
ومزاياها، فسيجد هذا الحديث أمامه أينما توجه.
أما المصادر التي نريد الإشارة إليها فهي التالية:
فرائد السمطين: ج2 ص46، ومجمع الزوائد: ج9 ص203، ومقتل الحسين
للخوارزمي: ج1 ص52 و 53، وكفاية الطالب: ص364 و 365، وذخائر العقبى:
ص37 و 38 و 39، وأسد الغابة: ج5 ص522، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم،
وينابيع المودة: ص173 و 174، و 179 و 198، ونظم درر السمطين: ص176، و
177 ومستدرك الحاكم: ج3 ص154 و 158 و 159، وتلخيصه للذهبي مطبوع
بهامشه، وكنز العمال: ج13 ص93 و 96 و ج6، ص219، و ج7 ص111، والغدير: ج7
ص231 ـ 236، وسير أعلام النبلاء: ج2 ص132 والصواعق المحرقة: ص186 و 188
وشرح المواهب للزرقاني: ج4 ص335 وغير ذلك كثير. (*)
/ صفحة 57 /
ومن الواضح:
أن كونها جزءا من كيانه الجسدي والمادي من حيث بنوتها النسبية له، ليس
هو السبب في كون ما يرضيها يرضيه، وذلك لأمرين:
الأول:
إنه «صلى الله عليه وآله» لا ينطلق في مواقفه من موقع العصبية للقرابة
أو للعرق أو ما إلى ذلك، بل هو «صلى الله عليه وآله» إنما يريد أن
يكون كل ما لديه من خصوصيات، أو امتيازات، أو قدرات مادية أو معنوية في
خدمة هذا الدين، ومن أجله، وفي سبيله.
الثاني:
إن البنوة النسبية أو بالتبني لا تكفي بحسب طبيعتها لاكتساب امتياز
بهذا المستوى من الخطورة، وإن كانت لها أهميتها من حيث أنها تشير إلى
صفاء العنصر، وطهارة العرق، لأنها «عليها السلام» كانت نورا في الأصلاب
الشامخة، والأرحام المطهرة، ولكن من الواضح إن الحفاظ على هذا الطهر
بحاجة إلى جهد، وحين لم يبذل ابن نوح «عليه السلام» ـ الذي تحدثت بعض
الروايات عن أنه ابن له «عليه السلام» بالتبني لا بالولادة([1])
ـ هذا الجهد هلك وضل، حتى قال الله عنه لأبيه نوح: ﴿إِنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾([2])،
ولذلك لم يكن رضا ابن نوح رضا الله ورسوله، ولا غضبه غضب الله ورسوله.
فالمراد بكونها (بضعة منه) لا بد أن يكون معنى يصلح أن
يكون مرتكزا لكون رضاها رضاه «صلى الله عليه وآله»، وأذاها أذاه،
خصوصا مع علمنا بأنه «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك حينما أجابت عن
سؤال: ما خير للمرأة؟
فقالت: أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، كما سيأتي
إن شاء الله تعالى.
أو أنه «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك لعلي «عليه
السلام» بحضور أولئك الذين تسببوا في أذى فاطمة «عليها السلام»، حين
أخبروها بأنه قد خطب بنت أبي جهل.
فقال له علي «عليه السلام»: والذي بعثك بالحق نبيا ما
كان مني مما بلغها شيء، ولا حدثت بها نفسي.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: صدقت وصدقت. ففرحت
فاطمة «عليها السلام» بذلك وتبسمت حتى رأى ثغرها. فقال أحد الرجلين
لصاحبه: ما دعاه إلى ما دعانا في هذه الساعة الخ..(1)
فالنبي إذن أراد أن يقول لمن أخبر فاطمة هذا الخبر
الكاذب أنه آذاها وآذاه.
ومهما يكن من أمر، فإن المراد بهذه الكلمة لا بد أن
يكون معنى منسجما مع كون أذاها أذاه. وهو أن مزاياها من مزايا رسول
الله «صلى الله عليه وآله» وكمالها من كماله، فالحديث عنها بما هي جزء
من كيان النبي «صلى الله عليه وآله» ووجوده الإنساني والرسالي بكل
ميزاته، ودقائقه، وخصوصياته التفصيلية، كإنسان إلهي كامل، يمثل
الإنسانية والفطرة، والكمال والصفاء، والحق والصدق، بأجلى وأدق هذه
المعاني وأسماها.
وواضح أن فاطمة إنما تغضب إذا انتقصت الإنسانية، والقيم
واعتدي عليها، وترضى إذا كرمت وتكاملت هذه الإنسانية والقيم وتجذرت،
فالاعتداء عليها لا يغضبها من حيث هي شخص بل يغضبها من حيث أنه اعتداء
على الإنسانية، وعلى الكمال الروحي والسمو المعنوي، ولكون ذلك محاولة
للانتقاص، من هذا الوجود الكريم.
/ صفحة 59 /
إن العدوان عليها عدوان على الحق، وعلى الفطرة وعلى
الإنسانية، وعلى الفضل، وذلك هو الذي يغضبها، ويغضب الله ورسوله، وكل
عمل يأتي على وفق الفطرة، ويصون هذا الوجود، فهو الذي يرضيها ويرضي
الرسول ويرضي الله. وبذلك تصلح أن تكون معيارا وميزانا حين ترضى، وحين
تغضب.
ولنا أن نقرب هذا المعنى بالإشارة إلى شاهد قرآني وهو
قوله تعالى: ﴿مَنْ
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾([3]).
فإن الجسد الذي هو لحم وعظم لا يزال موجوداً، والذي فقد
هو إرادته، واختياره، وعقله، وخصائصه الإنسانية، من نبل وكرم، وعواطف،
ومشاعر، و... إن الجسد قد أفرغ من محتواه بواسطة إزهاق روحه.
([1])
فلا موقع لما يقوله البعض: من أن العاطفة الأبوية لنوح قد أثرت
عليه، فانساق معها، حتى إنه لم يلتفت لخطاب الله له بهذا
الشأن. راجع: البرهان في تفسير القرآن: ج2 ص220.
([2])
الآية 46 من سورة هود.
([3])
الآية 32 من سورة المائدة.
|