الثابت عند السيد شرف الدين:
ينقل البعض عن العالم العلم الحجة السيد عبد الحسين شرف
الدين: أنه قال له: الثابت عندنا أنهم جاؤا بالحطب ليحرقوا باب البيت،
فقالوا: إن فيها فاطمة، قال: «وإن»...
ويضيف هذا البعض في تأييد ذلك قوله: «ولم
يذكر السيد عبد الحسين في النص والإجتهاد، ولا في المراجعات، أي شيء من
هذا الذي يقال. راجعوا!!».
ونقول في الجواب:
أولا:
إن السيد عبد الحسين شرف الدين لم يكن في تآليفه بصدد تفصيل هذا الأمر
وتحديد ما هو الثابت منه، وما ليس بثابت، بل إنه لو أراد أن يبحث بهذه
الطريقة فلربما كان قد أساء إلى الهدف الذي كان يسعى له، من وراء
تآليفه تلك. وقد قال الله سبحانه: ﴿ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([1]).
ومراعاة المشاعر، وعدم تكدير الخواطر من هذا القبيل، إلا إذا كان
المقام مقام وضع النقاط على الحروف، حتى في الأمور الحساسة حيث يخاف من
ضياع الحق، وتمس الحاجة إلى عملية جراحية حتى في المواضع الحساسة
والخطيرة، ولم يكن الأمر بالنسبة للسيد شرف الدين فيما تصدى له من هذا
القبيل ولأجل ذلك: نجده رحمه الله يذكر هذا الأمر بصورة عابرة وسريعة،
فيقول:
«فهل يكون العمل بمقتضيات الخوف من السيف، أو التحريق
بالنار إيمانا بعقد البيعة؟! ومصداقا للاجماع المراد من قوله «صلى
الله عليه وآله»: لا تجتمع أمتي على الخطأ؟!»(1).
ويقول: «وما إن فاؤا إلى مواراته حتى فاجأوا أولياءه
وأحباءه بالبيعة، منهم أو التحريق عليهم، كما قال شاعر النيل حافظ
إبراهيم في قصيدته السائرة:
وقـولـة لعلي قالهـا عـمـر * أكـرم
بسامعها أعـظـم بملقيها.
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم
تبايع وبنت المصطفى فـيها
ما كان غير أبي حفص بقائلهـا * أمام
فارس عدنان وحـاميهـا(2)»
ثم إنه رحمه الله قد قال في هامش كتابيه: المراجعات،
والنص والإجتهاد: «تهديدهم علياً بالتحريق ثابت بالتواتر القطعي»
(3).
ــــــــــــــــــــ
(1)
المراجعات: ص346، تحقيق وتعليق، الشيخ حسين آل راضي.
(2)
النص والإجتهاد: ص79، منشورات مؤسسة الأعلمي.
(3)
هامش كتابي النص والإجتهاد: ص79. والمراجعات: ص346. (*)
/ صفحة 208 /
ثم ذكر رحمه الله في هامش الكتابين المذكورين مصادر
كثيرة تعرضت لضرب «الثاني» لها «عليها السلام»، وإسقاط جنينها، وغير
ذلك من أمور، فإذا اطلع عليها مراجعها، فلسوف يدرك أنه قد أحسن إليه
حين لم يحرجه بهذا الأمر الخطير، ولو أنه أحرجه بأمر كهذا فلسوف نجده
يلتمس المسارب، والمهارب، والتأويلات، بعصبية وانفعال، يمنعه من
استيعاب الفكرة بصورة عفوية وطبيعية.
ولو كان السيد شرف الدين رحمه الله لا يهدف إلى ذلك
لكان عليه أن يقتصر على المصادر التي تحدثت عن خصوص التهديد بالاحراق.
وإهمال ما عداها..
والخلاصة:
إن النقاش والاحتجاج والحوار يستبطن معه شعورا بالتحدي
للشخص في قناعاته، فيندفع بطريقة لا شعورية للدفاع عن أمرين: عن
الفكرة، وعن نفسه.
فإن كان ثمة مستمع للمتحاورين فإنه سيستوعب الفكرة
مجردة عن حالة التحدي، وسوف يقبل ويستسلم للحق قبل ذينك المتحاورين،
لأنه لا يشعر بحساسية، ولا يواجه مشكلة وراء فهم الحوار وتقييمه، ولا
يطلب منه التراجع عن شيء، ولا يشعر بالتقصير، أو بالإدانة الشخصية على
قلة التثبت، أو عدم الدقة، أو ما أشبه ذلك.
وقد كان السيد شرف الدين يحرص على أن لا يحرج من
يحاوره، وأن لا يضطره إلى هذا الخيار الصعب.
ثانيا:
إن ما نقل شفاها عن السيد شرف الدين، لا يمكن التعويل عليه هنا، إذ
لعله رحمه الله لم يكن في مقام نفي الثبوت لما سوى التهديد بالتحريق،
بل كان رحمه الله يريد التأكيد على ثبوت هذا
/ صفحة 209 /
الشق والسكوت عما عداه لمصلحة يراها في هذا السكوت، هي
نفس المصلحة التي منعته عن الدخول في تفاصيل هذا الأمر في كتبه.
والشاهد، بل الدليل على ما نقول ما يلي:
1 ـ
إن هذا الأمر لم يسجله السيد في كتبه، ولم ينقل لنا أحد من العلماء
الآخرين أنه قاله له، فلماذا اختصه ـ إذن ـ بهذا السر الخطير، الذي
يطال قضية حساسة جدا، مع أنه كان لا يزال شابا مراهقا، في مقتبل عمره،
حيث كان له من العمر حوالي سبعة عشر عاما، إذا كان قد قاله له في أوائل
الخمسينات، وإن كان قد عاد فقال: أنه ذكر له ذلك في أواسطها أي في سنة
1995 م، لكن الغريب أنه قال هنا أيضاً: إن عمره 23 أو 24 سنة مع العلم
بأنه قد ولد في سنة 1935 م!! ولم يبلغ هذا المقدار من العمر حتى في سنة
وفاة السيد شرف الدين أي سنة 1957 م.
2 ـ
إن الرواية التي ذكرها بعنوان «الثابت عندنا.. إلى أن قال: فقالوا إن
فيها فاطمة فقال: وإن..!!» إنما ذكرت في كتاب الإمامة والسياسة، وهو لم
يذكر لها سندا، وغيرها من الروايات أكثر تداولا ونقلا، وأصح سندا،
وأكثر عددا، حتى إنها لتعد بالعشرات، ولها طرق وأسانيد كثيرة ومتنوعة،
فكيف يعتبر السيد شرف الدين تلك الرواية هي ما ثبت عندنا، ويترك سائر
الروايات والنصوص الكثيرة والمسندة، والتي تعد بالعشرات فلا تكون
ثابتة؟!
وبالنسبة لروايات التهديد بالاحراق لماذا تكون هي
الثابتة، ولا تكون روايات ضربها، وإسقاط جنينها ثابتة معها أيضاً. مع
أن الروايات تلك ليست بأكثر ولا أصح من هذه؟! وقد ذكر عدد من الروايات
أن كل تلك الأمور قد حصل. كما يتبين لك في هذا الكتاب.
/ صفحة 210 /
ثالثا:
من الذين يقصدهم آية الله شرف الدين بقوله: «عندنا» هل يقصد «عندنا»
نحن الشيعة؟! أم يقصد نفسه فقط؟!.
فإن كان مراده الأول، فإن ذلك لا يصح، وقد تقدم كلام
الطوسي وكاشف الغطاء حول ذلك، كما أن تتبع كلمات علماء المذهب في
مؤلفاتهم ـ وقد أوردنا شيئاً منها في هذا الكتاب ـ يكشف لنا أن ما قاله
الطوسي في تلخيص الشافي هو الأجدر بالرضا، وبالنقل، والقبول.
وإن كان مراده الثاني، فقد يكون صحيحا إذا أخذنا بنظر
الاعتبار: حجم المصادر التي كانت بحوزته رحمه الله تعالى، والتي يستشف
من هوامش كتبه أنها قليلة ومحدودة بالنسبة لما هو متوفر في أيدي الناس
في هذه الأيام.
بالإضافة إلى ما استجد من مصادر كانت في عداد
المخطوطات، غير المتداولة ثم أخذت طريقها إلى التحقيق والنشر، ولم يتسن
للسيد شرف الدين أن يطلع على شيء منها، وهذا يجعلنا نستبعد أن يكون قد
اكتفى بما نسب إليه «أنه ثبت عنده، وهو رواية: وإن»، فإن المفروض فيه
وهو العالم البحاثة أن يستقصي البحث في المصادر، ولا يستعجل في إصدار
حكمه لو صح أنه قد حكم.
رابعا:
إن عدم ثبوت ذلك عند آية الله شرف الدين، لا يعني أنه
لا يمكن أن يثبت أصلا، إذا أمكن للباحث أن يتتبع نصوص هذه القضية ويحشد
لها من القرائن والشواهد ما يكفي للعالم المنصف.
فربما كانت له رحمه الله انشغالات كبيرة وكثيرة تحجزه
عن
/ صفحة 211 /
التتبع في كثير من القضايا التي تحتاج إلى ذلك، إذا
كانت لا تقع في دائرة اهتماماته الفعلية.
وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن الإشكال العلمي يرد على
السيد شرف الدين، كما يرد على غيره، فإن القضايا العلمية والدينية
تابعة للدليل والبرهان. إلا إذا كان المعصوم هو الذي يقرر ويتحدث.
خامسا:
إننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة السؤال الذي وجه إلى السيد، لأن السؤال
هو الذي يتحكم في وجهة الجواب ومداه.
فقد يكون السؤال:
هل أحرقوا دار الزهراء؟!
فيأتي الجواب هكذا:
الثابت عندنا هو التهديد بالاحراق لا نفس الإحراق، أما إسقاط الجنين،
فلا سؤال عنه ولا جواب، أي أن الجواب يريد أن ينفي الإحراق فعلا، ويثبت
التهديد به فقط، ولكنه ساكت بالنسبة لإسقاط الجنين، وبالنسبة لضربها،
وغير ذلك من أمور حيث لا يتعرض لها لا بنفي ولا بإثبات، فهو كما لو
قلت: زيد طويل، فإنه لا يعني أنه ليس بأسمر اللون، أو ليس بعالم.
وقد يكون السؤال هكذا:
هل ضربت الزهراء وأسقط جنينها.
فيأتي الجواب:
الثابت هو التهديد بالاحراق..
فيدل على نفي ثبوت ما عدا التهديد، وهو ما ينقله ذلك
البعض عن السيد شرف الدين.
وعليه فمع عدم إحرازنا طبيعة السؤال الموجه فلا نستطيع
أن ننسب للسيد شرف الدين أنه ينفي ما عدا التهديد بالاحراق.
وسادسا:
إن الناقل لهذا الكلام الخطير قد كان شابا حين وجه
/ صفحة 212 /
السؤال إلى السيد وسمع منه الجواب، وربما لا يزيد عمره
آنئذ على السبعة عشر عاما ـ كما أشرنا إليه ـ ولم يكن قد خبر الأساليب
العلمية التي تمتاز بالدقة ولا اعتاد عليها، فلعله قد وقع في خطأ في
فهم الأسلوب العلمي، أو قدم كلمة أو أخرها، فاختلف المعنى، وهو إنما
ينقل عن أمر يقول إنه قد كان قبل حوالي خمسة وأربعين عاما، كما صرح به
في بعض رسائله المؤرخة في سنة 1414 ه. على أن احتمال النسيان، أعني
نسيان نص الإجابة وارد هنا.
والشاهد على أن السؤال:
إنما كان عن وقوع الإحراق، أو التهديد به ـ كما هو الاحتمال الثاني ـ
أن الإمام السيد شرف الدين نفسه، قد أشار ـ كما تقدم ـ إلى أنه قد كان
ثمة خوف من السيف أو من التحريق.
مع أنه لم يشر إلى السيف في إجابته لسائله عن هذا
الأمر.
ثم إن قول هذا البعض:
إنه عثر أخيرا على رواية في البحار.. يدل على أنه لم يكن منذ وفاة
السيد شرف الدين بصدد التحقيق في هذا الأمر، إذ لا يعقل أن يبقى أكثر
من أربعين سنة يبحث في هذا الأمر الذي تدل عليه عشرات الروايات عن
المعصومين، وعشرات بل مئات النصوص عن غيرهم.. ثم لا يعثر في هذه المدة
كلها إلا على رواية واحدة!!.
([1])
الآية 125 من سورة النحل.
|