إستطراد، أو مثال وشاهد:
ونذكر هنا شاهدين اثنين، يدخلان في نطاق ما ذكرناه من
مسؤولية النبي والإمام عن تحصين الأمة عن أن تقع فريسة التزوير
الإعلامي هما:
الأول:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد طلب في مرض موته أن يأتوه بكتف
ودواة، ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده، رغم أنه كان قد نص على إمامة
علي «عليه السلام» في كثير من المناسبات والمواقف قبل ذلك، ولا سيما في
يوم الغدير، حيث أخذ له البيعة من الناس أيضاً.
ولكنه «صلى الله عليه وآله» أراد أن يحصن الأمة عن أن
تقع فريسة التزوير، حتى لا يقال لها: إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد
عدل عن رأيه، وقد استجدت أمور، ونشأت ظروف اقتضت استبعاده «عليه
السلام» عن هذا الأمر.
وقد أظهرت مبادرة النبي هذه حقيقة ما كان يكنه البعض في
نفسه، وما كانوا يبيتونه تجاه هذه القضية بالذات، حين قيل ورسول الله
«صلى الله عليه وآله» يسمع: إن النبي ليهجر، أو نحو ذلك. ولم يعد مجال
للتعلل بأن صحابته «صلى الله عليه وآله» أتقياء مخلصون، يحترمون رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، ويحرصون على تنفيذ أوامره، وكسب رضاه. فإن
قولهم: إن النبي ليهجر، قد أظهر مدى جرأتهم على الرسول الكريم، فإذا
كانت مطامعهم ومصالحهم تدعوهم إلى هذه الجرأة، وإذا كانوا يواجهون أعظم
نبي
بهذا الأسلوب الجاف، فهل يتورعون عن ضرب النساء، وعن
طمس الحقيقة في سبيل تحقيق أهدافهم؟!
الثاني:
حمل الحسين «عليه السلام» معه النساء والأطفال إلى كربلاء حتى لا يدعي
الحكام المجرمون إن اللصوص قتلوا الحسين، أو أنه تاه في الصحراء، فمات
عطشا، كما جرى لدليلي مسلم بن عقيل، أو أن السباع قد افترسته أو ما إلى
ذلك.
ثم يأتي هؤلاء المزورون، ويشيعون جنازته بالاحترام
والتبجيل، مع إظهار مزيد من الحزن والأسى على فقده، ويخدعون الناس
بذلك، ويؤكدون نهجهم الانحرافي والإجرامي.
ولأجل ذلك أيضاً،
خرج «عليه السلام» من مكة في يوم التروية، مع أن المفروض هو أن يتوجه
في هذا اليوم إلى عرفات، مع العلم أن الحسين «عليه السلام» هو الوحيد
الباقي من ذرية النبي «صلى الله عليه وآله»، وهو الرمز، وهو الذي يراه
الناس مسؤولا عن حفظ هذا الدين ورعايته، وتعليمهم أحكامه، فكيف يخرج
ويتركهم، في يوم تبدأ فيه مراسم، شعيرة هي من أعظم شعائر الإسلام؟!
فبدل أن يتوجه إلى عرفات يتوجه إلى جهة أخرى!!. إن ذلك سوف يصرف
الانتباه، ويطرح الكثير من التساؤلات.
إنه يخرج من مكة إلى غير مكة، ومن قلب العالم الإسلامي
النابض، الذي يحتضن أعظم المقدسات الإسلامية إلى بلد آخر لا مقدسات
فيه، وهو يتركها في أيام الحج، لا في أيام العادية، وبالذات، في أول
يوم من أيامه، والمفروض أن يكون هو أمير الناس، وقائدهم، ومرجعهم الذي
يرجعون إليه، ليعلمهم مناسك حجهم، وأحكامه.
والحسين «عليه السلام» نفسه هو ذلك الشخص الذي تتمنى
القلوب والعيون أن تراه، ولو مرة في العمر، فضلا عن السعادة الغامرة
لكل مسلم بالتحدث إليه، والجلوس بقربه.
ثم إنه «عليه السلام» يعلن للناس
جميعا:
أن الله شاء أن يراه قتيلا، وعن النساء: إن شاء الله أن يراهن سبايا.
فهناك إذن جريمة، وهي غير عادية، إنها جريمة قتل لانسان
عظيم، وفي ظروف غير عادية. إنها جريمة تستهدف أعظم إنسان على وجه
الأرض، وقتله في حرب مدمرة، تقتل فيها الرجال كل الرجال من ذرية
الرسول، وكل من معهم، وتسبى بنات الوحي وأهل بيت النبوة.
إذن، فلا بد أن يتساءل الناس عن هذا المجرم من هو، وعن
موقفهم ومسؤولياتهم تجاه هذه الواقع الخطير والمرير.. ولسوف ينتظرون
نبأ الجريمة بفارغ الصبر.
فخروج الحسين «عليه السلام» لم يكن لأجل دنيا وسلطان،
ولا فرارا من خطر، ولا للإستجمام والنزهة، بل كان لمواجهة الخطر بأعظم
مراتبه، ومواجهة التحدي.
والذين سمعوا من الحسين «عليه السلام» هذا القول،
وواجهوا هذا الحدث، قد جاؤا من كل بقاع الإسلام، وربما من كل مدينة
وقرية، ومن كل حي وشارع، سيرجعون بذكريات تلامس مشاعرهم وعواطفهم،
وعقيدتهم، وتهز ضمائرهم، وتوقظ وجدانهم، وسيتحدثون لزوارهم عن هذه
الذكريات التي لا تزال نابضة بالحياة، لأنها منذ بدايتها جعلتهم يعيشون
حالة الترقب والانتظار.
وهذا ما سيضعف قدرة سلطات القهر والظلم على تزوير
الحقيقة مهما حاولت ذلك، وستبقى الشكوك وعلامات الاستفهام الكبيرة
تواجه ذلك التزوير بقوة، مهما كان خفيا وذكيا. فصلوات الله على الحسين
وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
|