وفي مجال فهم عوامل هذا الاختلاف الظاهر بين ذينك
التاريخين، لابد من التأكيد على الحقيقة التالية:
أن ذلك الفريق الذي اهتم بتسجيل بعض اللمحات من
حياة الأئمة ومواقفهم «عليهم السلام». يختلف كثيراً في عقليته، وفي
مفاهيمه، وفي طموحاته، ثم في حوافزه ودوافعه، وكذلك في أهدافه وغاياته
عن ذلك الفريق الذي تصدى للتاريخ وللحياة العامة لتلك الفترة الزمنية،
التي عايشها الأئمة «عليهم السلام».
والأهم من ذلك الاختلاف الظاهر، بين هذين الفريقين
في مجمل المعايير والمنطلقات التي رضيها كلُّ لنفسه، وانطلق منها
لتمييز الحق من الباطل، والصحيح من السقيم، وعلى أساسها كان الرد أو
القبول، والخروج، والدخول، في مختلف المواقع والمواضع.
وقد وجدنا: أن المنطلقات، والمعايير، التي انطلق منها، وتحرك
على أساسها أولئك الذين أرخوا لتلك الحقبة من الزمن، وكتبوا ما يسمى بـ
«التاريخ الإسلامي»؛ كانت في مجملها مزيفة ومضللة أريد منها تكريس
الانحراف، وتأكيده، وتبريره، والحفاظ عليه، وتسديده.
ولا نقول ذلك تعصباً، ولا تجنياً على التاريخ والمؤرخين، ما
دام أن الكل يعترف لنا بحقيقة:
أن التاريخ المكتوب ليس هو تاريخ الشعوب والأمم،
ولا يملك القدرة على أن يعكس لنا آمالها، ولا آلامها، ولا معاناتها أو
حركتها في واقع الحياة. وإنما هو تاريخ الحكام والسلاطين، ومن يدور في
فلكهم.
وحتى تاريخ الحكام هذا، فإنه لم يستطع أن يعكس
واقعهم بأمانة ودقة ونزاهة، مادام أنه غير قادر إلا على تسجيل ما يرضي
الحكام، ويصب في مصلحتهم، ويقوي من سلطانهم، مهما كان ذلك محرفاً وغير
نقي، أو مزوراً وغير واقعي.
فلم يكن ثمة مؤرخ يملك حرية الرأي، ولا هو مطلق
التصرف فيما يريد أن يقول أو يكتب. كيف وهو يرى بام عينه كيف أن رواية
واحدة يرويها أحدهم في فضل علي «عليه السلام»، تثير عليه غضب الحاكم،
فيصدر الأمر بجلده مئات السياط.
ويروي الطبري حديث الطير، فيرجم العامة داره، حتى
كان على بابه تل من الحجارة.
ويروي أحدهم رواية حول مناظرة بين آدم وموسى «عليهم
السلام»، فيشكل الأمر على احد الحاضرين ولا يعرف أين اجتمع آدم وموسى،
وبين موت ذاك. وولادة هذا مئات السنين، فيدعوا الخليفة له بالنطع
والسيف، إلى آخر ما هنالك مما يحتاج استقصاؤه إلى وقت طويل وجهد وافر.
أضف إلى جميع ما تقدم: أن الكثير مما كتب وسجل، فإنما كتب
بعقلية خرافية، قاصرة وغير ناضجة.
ولا أقل من أن كثيراً منهم ينطلق من تعصبات مقيتة،
أو من هوى مذهبي رخيص لا يلتزم بالمنطق السليم، ولا يهتدي بهدى العقل،
ولا يؤمن بالحوار والفكر كأسلوب أفضل للتوضيح وللتصحيح.
هذا..
إلى جانب أهواء وطموحات لا مشروعة ولا مسؤولة، تتوسل بالتحوير
والتزوير. لتتوصل إلى المناصب والمآرب.
ومن خلال ذلك كله، وسواه، يصبح من الطبيعي:
أن لا يجد الباحث في كتب التاريخ الملامح الحقيقة للشخصيات التي تقف في
موقع التحدي للحكام، ولمخططاتهم، وتتصدى لأصحاب الأهواء المذهبية،
والتعصبات العرقية، وغيرها، ولانحرافاتهم.
رغم أن هذه الشخصيات تركت آثاراً عميقة في واقع
الحياة السياسية والاجتماعية، والعلمية والتربوية وغير ذلك.
ومن هنا.. نعرف: أنه لابد من البحث عن الأيدي الأمينة
والمخلصة وتعهد لها بأن ترسم الملامح الحقيقية لهؤلاء الأفذاذ من
الرجال. وأن تسعى لالتقاط ما تناثر هنا وهناك من لمعات، أو ندّ من
لفتات ولمحات، لم يجد الحكام فيها خطراً، ولربما أراد المؤرخون أن
يقضوا بها وطراً. |