بين الإفراط.. والتفريط:

وبعد.. فإننا نشعر: أن من الضروري الإشارة هنا إلى ذلك النهج من البحث، الذي يفرط في الاعتماد على الغيب في فهمه لمواقف الأئمة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، وتفسيرها. ويفصلهم عن واقع الحياة وحركتها، ويصورهم على أنهم يحركون الحياة، ويتعاملون معها بصورة خفية، ومن وراء الحجب، بل إنك تكاد تذكر له أمراً عن إمام حتى يصدمك بالقول بأن ذاك إمام معصوم، له حكمه الخاص به، حتى كأن الإمام عنده لا يجوز الائتمام به، وليس قوله وفعله وتقريره حجة علينا وعلى الناس جميعاً.

وذلك إن دل على شيء، فإنما يدل على أن صاحب هذا النهج يعاني من مشكلة في فهمه للأئمة «عليهم السلام»، ولدورهم، الذي رصدهم الله للقيام به، ألا وهو نفس دور الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله»، الذي أرسله الله سبحانه مبلغاً ومعلماً، ومربياً، وولياً، وحافظاً ومهيمناً على الواقع العملي، وقائداً، وقاضياً، وحاكماً بالإضافة إلى مهمات صرح بها القرآن الكريم، ولهج بها النبي العظيم «صلى الله عليه وآله».

كما أنه لم يأخذ بنظر الاعتبار تأكيدات القرآن والرسل على بشريتهم:

{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَ بَشَراً رَسُولاً، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الهُدَى إِلاَ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً} ([1])

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ([2])

إلى آخر ما هنالك من آيات لها هذا الطابع، أو تصب في هذا الاتجاه.

وفي مقابل ذلك، فإننا لا نوافق الآخرين أبداً، بل نخطؤهم بقوة في نظرتهم المادية إلى الأئمة «عليهم السلام»، بعيداً عن عنصر الغيب، وعن الكرامات الإلهية، وعن التصرف الغيبي، والهيمنة على الواقع الراهن، فيفسرون مواقفهم «عليهم السلام» وكل سلوكهم، وأنحاء تعاملهم، ويفهمونها على أساس مادي، خاضع لحسابات عملية، وظاهرية رياضية، ولها آثار ونتائج طبيعية وذاتية بالدرجة الأولى.

وهم يتجاهلون بذلك هاتيك النصوص ذات الطابع الغيبي، التي تقوم على الألطاف الخفية، والكرامة الإلهية لعباد الله الأصفياء، وحججه على عباده، وأمنائه في بلاده.

فلا يكاد يقترب من تلك النصوص والآثار التي تسجل ـ على سبيل المثال ـ حقيقة: أنه يوم قتل الحسين «عليه السلام» لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا ووجد تحته دم عبيط.

ثم ظهور الحمرة في يوم عاشوراء، وقول زينب «عليها الصلاة والسلام» لابن زياد أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ولا يتصدى لبحث ذلك وتأييده، أو رده وتفنيده رغم أن ذلك قد تأكدَ حصوله، وليفترض لنا أن زينب «عليها السلام» إنما تفترض الحدث ولا تنقله لنا على أنه حقيقة واقعة.

وهم أبعد ما يكونون عن الحديث عن كلام الرأس المقدس فوق الرمح بالآية الكريمة:

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً}([3]).

بالإضافة إلى حديث ارتفاع جدران المسجد، حينما همت «عليها السلام» بالدعاء على الذين يضطهدون أمير المؤمنين «عليه السلام»، ويغتصبون حقه، بعد ضربهم لها، وإسقاطهم جنينها، حين وفاة أبيها الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله».

إلى غير ذلك من نصوص وآثار، تشير إلى ظهور الكرامات، وخوارق العادات لهم «عليهم السلام»، وشمول الله لهم بألطافه الخفية، تماماً كتلك المعجزات والكرامات التي سجلها القرآن للأنبياء، كما في قضية عصا موسى، ونقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى بيت المقدس، وغير ذلك.

نعم.. إن هؤلاء الباحثين والكتاب، لا يكادون يقتربون من النصوص التي لها هذا الطابع، وتصب في هذا الاتجاه، حتى كأنهم لا يريدون الاعتراف بها، أو أنهم يخجلون من وجودها. تماماً كخجل البعض منهم وإبائه من طرح موضوع الإمام المهدي الغائب «صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين» في أي من كتبه وأبحاثه، متمحلاً أعذاراً واهية لا تسمن ولا تغني من جوع.

ولا ندري إن كان بعد ثبوت صحة هذه النصوص، وسلامتها، يمكن لهؤلاء أن لا يعتبروها جزءاً من تاريخ الأئمة، ومن حياتهم.

وأخيراً..

فإننا نؤكد لهؤلاء ولغيرهم على حقيقة: أن الأئمة «عليهم السلام» يمثلون الرعاية الإلهية لإنسانية الإنسان، من خلال الاعتراف بواقعية وجوده المادي، ثم الانطلاق بهذا الواقع بالذات، والسمو به إلى المطلق، إلى رحاب الله سبحانه، من خلال الإمداد الغيبي، حيث يكون ذلك ضرورياً، وإكرامه بالكرامات الظاهرة، واكتنافه بالألطاف الإلهية الخفية اللامحدودة، حيث يصبح محلاً وأهلاً لها.

أما أولئك الذين يحجّمون دور الائمة، ويقصرونه على الأخلاق، مثلاً أو على الدور الاجتماعي، أو خصوص التحرك السياسي مثلاً، ويصبون كل تصوراتهم في هذا القالب المحدود أو ذاك، فإنما يقدمون للآخرين صورة تفقد معظم معالمها الأساسية، ولا يمكن أن يعكس بحث كهذا واقع حياتهم، وحقيقة دورهم «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».


 

([1]) الآيتان 93 و94 من سورة الإسراء.

([2]) الآية 9 من سورة الأنعام.

([3]) الآية 9 من سورة الكهف.

 
     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان