صفحة 7-20   

الفصل الأول: المرحلة السابقة بنظر علي ..

الخطبة الشقشقية:

قال الشيخ المفيد «رحمه الله»:

روى جماعة من أهل النقل، من طرق مختلفة عن ابن عباس، قال: كنت عند أمير المؤمنين «عليه السلام» بالرحبة، فذكرت الخلافة، وتقديم من تقدم عليه، فتنفس الصعداء، ثم قال([1]) والنص لنهج البلاغة:

أما والله، لقد تقمصها فلان [ابن أبي قحافة]، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى. ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً. وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده.

ثم تمثل بقول الأعشى:

شـتـان مـا يـومي عــلى كـورهــا                ويـــوم حـيـــان أخـي جـــابـر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها [كلمها] ويخشن مسها. ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم.

فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض.

فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة.

حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر. لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا.

فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن. إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة [خضم] الإبل نبتة الربيع.. إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته.

فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليَّ، ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم.

فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ([2]).

بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها.

أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه.

قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت.

فقال: هيهات يا ابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرت.

قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين «عليه السلام» بلغ منه حيث أراد.

قوله: «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم». يريد: أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها، وإن أرخى لها شيئاً مع صعوبتها، تقحمت به فلم يملكها.

يقال: «أشنق الناقة» إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه، وشنقها أيضاً، ذكر ذلك ابن السكيت في «إصلاح المنطق».

وإنما قال: «أشنق لها»، ولم يقل: «أشنقها»، لأنه جعله في مقابلة قوله: أسلس لها، فكأنه «عليه السلام» قال: إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها»([3]).

ونقول:

إننا قبل أن نذكر بعض ما يرتبط بهذه الخطبة نشير إلى المسائل التي قدمها الإعرابي إليه، فمنعته «عليه السلام» من مواصلة خطبته، فلاحظ ما يلي:

هذه هي مسائل الأعرابي:

قال ابن ميثم:

«قال أبو الحسن الكيدري «رحمه الله»: وجدت في الكتب القديمة: أن الكتاب الذي دفعه الرجل إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» كان فيه عدة مسائل:

أحدها: ما الحيوان الذي خرج من بطن حيوان آخر، وليس بينهما نسب؟!

فأجاب «عليه السلام»: بأنه يونس بن متى «عليه السلام»، خرج من بطن الحوت.

الثانية: ما الشيء الذي قليله مباح، وكثيره حرام؟!

فقال «عليه السلام»: هو نهر طالوت، لقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ([4]).

الثالثة: ما العبادة التي لو فعلها واحد استحق العقوبة، وإن لم يفعلها استحق أيضاً العقوبة؟!

فأجاب «عليه السلام»: بأنها صلاة السكارى.

الرابعة: ما الطائر الذي لا فرخ له، ولا فرع، ولا أصل؟!

فقال: هو طائر عيسى «عليه السلام»، في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي([5]).

الخامسة: رجل عليه من الدين ألف درهم، وله في كيسه ألف درهم، فضمنه ضامن بألف درهم، فحال عليه الحول، فالزكاة على أي المالين تجب؟!

فقال: إن ضمن الضامن بإجازة من عليه الدين، فلا يكون عليه. وإن ضمنه من غير إذنه فالزكاة مفروضة في ماله.

السادسة: حج جماعة، ونزلوا في دار من دور مكة، وأغلق واحد منهم باب الدار، وفيها حمام، فمتن من العطش قبل عودتهم إلى الدار، فالجزاء على أيهم يجب؟!

فقال «عليه السلام»: على الذي أغلق الباب، ولم يخرجهن، ولم يضع لهن الماء.

السابعة: شهد شهداء أربعة على محضر [الصحيح: محصن] بالزنا، فأمرهم الإمام برجمه، فرجمه واحد منهم دون الثلاثة الباقين، ووافقهم قوم أجانب في الرجم، فرجع من رجمه عن شهادتهم، والمرجوم لم يمت ثم مات، فرجع الآخرون عن شهادته عليه بعد موته، فعلى من يجب ديته؟!

فأجاب: يجب على من رجمه من الشهود، ومن وافقه.

الثامنة: شهد شاهدان من اليهود على يهودي أنه أسلم، فهل تقبل شهادتهما أم لا؟!

فقال: لا تقبل شهادتهما، لأنهما يجوزان تغيير كلام الله، وشهادة الزور.

التاسعة: شهد شاهدان من النصارى على نصراني، أو مجوسي، أو يهودي أنه أسلم؟

فقال: تقبل شهادتهما لقول الله سبحانه: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ([6]).. ومن لا يستكبر عن عبادة الله لا يشهد الزور.

العاشرة: قطع إنسان يد آخر، فحضر أربعة شهود عند الإمام، وشهدوا على قطع يده، وأنه زنى وهو محصن، فأراد الإمام أن يرجمه فمات قبل الرجم.

فقال: على من قطع يده دية يد، حسب. ولو شهدوا أنه سرق نصاباً لم يجب دية يده على قاطعها»([7]).

هل الأعرابي غبي أو منافق؟!:

قال السيد عبد الزهراء الخطيب: الرجل السوادي الذي ناول أمير المؤمنين «عليه السلام» الكتاب هو أحد رجلين:

إما أن يكون منافقاً ماكراً، أراد أن يقطع عليه كلامه، في حيلة لم يستطع أن يدبر غيرها.

وإما أن يكون بليداً مغفلاً، قليل المعرفة، سيء الأدب، حداه جهله على (إلى) التسرع في مناولة الكتاب، ولم يمهل حتى يبلغ الإمام قصده.

أما الكتاب فيحتوي على مسائل غير مهمة بالنسبة للغرض الذي فوته على أمير المؤمنين «عليه السلام» مما دعا ابن عباس (إلى) أن يأسف لذلك أشد الأسف([8]).

وهناك احتمال آخر: وهو أنه قد وصل إلى ذلك الجمع لتوه، فبادر إلى إعطائه الأسئلة دون أن يعلم بواقع الحال..

أو أن المطلوب هو بيان هذا المقدار، لأن الزائد على ذلك قد يثير أموراً، أو يؤسس لأمور لا تحمد عقباها. ولعل الله سبحانه هو الذي أرسل هذا الأعرابي بذلك الكتاب.

مضامين الشقشقية:

ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن مضامين الشقشقية ليست غريبة عن كلمات ومواقف أمير المؤمنين «عليه السلام».. فإن هذه المضامين كثيرة جداً في كلماته «عليه السلام» في المناسبات المختلفة. وفي نهج البلاغة نفسه العدد الوفير منها فضلاً عما عداه مما هو مبثوث في عشرات، بل مئات المصادر التي ألفها العلماء على اختلاف أذواقهم ومشاربهم، ونحلهم ومذاهبهم.

فمحاولة التشكيك بنهج البلاغة، لأجل الخطبة الشقشقية لا تجدي لأن عليهم أن يسقطوا معظم الكتب المعتمدة عند المسلمين عن الإعتبار أيضاً.

توضيح للمسألة العاشرة:

المراد بالمسألة العاشرة من أسئلة الأعرابي: أنه لو قطع إنسان يد آخر، ثم شهدوا على الذي قطعت يده بأنه سرق نصاباً. ثم مات فلا تؤخذ له من قاطعها ديتها، بل تحتسب هي حد السرقة. إذ لو أعطوه دية يده التي قطعت، فلا بد من قطع يده الأخرى لأجل السرقة.

أما لو شهدوا عليه بالزنا وهو محصن، فلا بد من دفع دية يده له ثم رجمه، فإن مات قبل ذلك سقط الرجم.

هل بقي شيء لم يقله؟!:

قال المعتزلي: «حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وست مئة، قال: قرأت على الشيخ أبي أحمد عبد الله بن أحمد، المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فلما انتهيت إلى هذا الموضع (يعني قول ابن عباس: ما أسفت..) قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له:

وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة، لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟! والله، ما رجع عن الأولين، ولا عن الآخرين، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله «صلى الله عليه وآله».

قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل.

قال: فقلت: أتقول: إنها منحولة؟!

فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق.

فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي «رحمه الله» تعالى.

فقال: أنى للرضي، ولغير الرضي هذا النفس، وهذا الأسلوب. فقد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور. وما يقع في هذا الكلام في خلٍ ولا في خمر.

ثم قال: والله، لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة. ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها. وأعرف خطوط من هو من العلماء، وأهل الأدب، قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي»([9]).

وقال المعتزلي معقباً أيضاً: «قلت: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة. وكان في دولة المقتدر، قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة.

وقال أيضاً: وجدت كثيراً منها في كتاب أبي جعفر ابن قبة، أحد متكلمي الإمامية، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف. وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي «رحمه الله» تعالى. ومات في ذلك العصر، قبل أن يكون الرضي «رحمه الله» موجوداً»([10])..


  ([1]) راجع: الإرشاد للمفيد ص135 و (ط دار المفيد) ج1 ص287 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص281 وبحار الأنوار ج29 ص505 و 506 ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه الأصفهاني ص134 وعلل الشرائع ج1 ص150.

([2]) الآية 83 من سورة القصص.

([3]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص30 الخطبة رقم3 وعلل الشرائع ج1 ص150 ـ 151 ومصادر نهج البلاغة ج1 ص309 ـ 324 عن كتاب الإنصاف لابن قبة، وأبي القاسم البلخي، وأبي أحمد العسكري، ومعاني الأخبار للصدوق ص343 و 344 و (ط مركز النشر الإسلامي ـ قم المقدسة) 360 ـ 362 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي، ونقلها في بحار الأنوار ج29 ص497 و (ط حجرية) ج8 ص160 وعن ابن الجوزي في مناقبه، وأبي علي الجبائي في كتابه، وابن الخشاب في درسه، والحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، وابن عبد ربه في الجزء الرابع من العقد الفريد، وعن الطرائف والفرقة الناجية للقطيفي، والإرشاد للمفيد ص135 و (ط دار المفيد) ج1 ص287 ـ 289 وفي المغني لعبد الجبار شروح لبعض فقراتها، والغدير ج7 ص81 وكما في الشافي للسيد المرتضى (ط حجرية) ص212 و 303 و 304 ونثر الدر للآبي، وكتاب نزهة الأديب للآبي أيضاً، والأمالي للطوسي ج1 ص392 وقطب الدين الرواندي في شرح نهج البلاغة، والإحتجاج للطبرسي ج1 ص95 و (ط دار النعمان) ج1 ص281 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص48 والطرائف لابن طاووس ص419 وتذكرة الخواص، وقد شرح الكثير من ألفاظها مع ذكر فقرات منها في مجمع = = الأمثال للميداني ج1 ص369 وفي نهاية ابن الأثير فقرات كثيرة وراجع ج2 ص294 ولسان العرب، والقاموس للفيروزآبادي، وكتاب الأربعين للشيرازي ص167 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص457 ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه الأصفهاني ص134.

([4]) الآية 249 من سورة البقرة.

([5]) الآية 110 من سورة المائدة.

([6]) الآية 82 من سورة المائدة.

([7]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص269 و 270.

([8]) مصادر نهج البلاغة ج1 ص317 و 318.

([9]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص205.

([10]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص206.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان