قضايا وأحداث غير عسكرية

   

صفحة : 5-24   

قضايا وأحداث غير عسكرية

عودة بعض المهاجرين من الحبشة:

وبلغ المسلمين في الحبشة نبأ هجرة الرسول «صلى الله عليه وآله» والمسلمين إلى المدينة، فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، وثماني نسوة، فمات منهم رجلان في مكة، وحبس سبعة، وانتهى بقيتهم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» في المدينة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون([1]).

واستمروا يخرجون إليه «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة([2]) إلى أن قدم جعفر «عليه السلام» مع الجماعة الباقية في سنة سبع، حين فتح خيبر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وهؤلاء الثلاثون المشار إليهم هنا، هم غير الذين عادوا إلى مكة في السنة الخامسة من البعثة، قبل الهجرة إلى المدينة بثماني سنوات.

وأما السبب في مرورهم على مكة، مع أنها البلد الذي فروا منه، فهو أن طريقهم إلى المدينة كان يمر بقرب مكة، على ما يظهر.

ويدل على ذلك ما ورد عن الصنعاني حيث قال: «فلما قاتل رسول الله «صلى الله عليه وآله» كفار قريش، حالت بين مهاجرة أرض الحبشة، وبين القدوم على رسول الله، حتى لقوه بالمدينة زمن الخندق»([3]) انتهى.

لكن قوله: «زمن الخندق» لا يمكن تأكيده ولعله تصحيف خيبر، وبالنسبة لهؤلاء الذين نحن بصدد الحديث عنهم، فإن المعروف هو ما ذكرناه، ولعل عدداً منهم قد دخل مكة، سراً أو جهراً، بهدف الحصول على أموالهم التي كانت في مكة، وتجديد العهد بأهلهم وذويهم، وبالبيت العتيق، ثم يسافرون إلى المدينة.

ولكن قريشاً واجهتهم بالعنف والقسوة، ولم ترع لهم حرمة، ولا غربة، ولا قرابة.

وواضح: أن وصول هذه الثلة من مهاجري الحبشة إلى المدينة، كان بعد عدة أشهر من وصول النبي «صلى الله عليه وآله» إليها، إذ أن وصول نبأ هجرة النبي «صلى الله عليه وآله» إليهم، ثم هجرتهم إلى مكة، وتصفية بعضهم علاقاتهم بها، ثم ما جرى لهم مع قريش، ثم سيرهم إلى المدينة، يحتاج إلى وقت طويل.

حتى إن البعض يذكر: أن ابن مسعود قد كان من جملة الثلاثين العائدين إلى مكة، فالمدينة، فوصل إلى المدينة حين كان النبي «صلى الله عليه وآله» يتجهز إلى بدر([4]).

عائشة في بيت النبي صلى الله عليه وآله:

وفي السنة الأولى من الهجرة، وقيل في التي بعدها، انتقلت عائشة إلى بيت النبي «صلى الله عليه وآله»، وذلك في شهر شوال.

وقالوا: إنه «صلى الله عليه وآله» لم يتزوج بكراً غيرها، ولكننا لا نطمئن إلى صحة ذلك، لأمور:

أولاً: لما تقدم حين الكلام على زواجه «صلى الله عليه وآله» بخديجة حيث قلنا: إن زواج خديجة برجل آخر سوى رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمر مشكوك فيه إلى حد كبير، ولربما نشير إلى ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثانياً: سيأتي في هذا الكتاب ما يدل على أن عائشة كانت متزوجة برجل آخر غير رسول الله «صلى الله عليه وآله» وكان لها منه ولد.

مراسم الزفاف:

ولا نعرف لماذا كان زفاف عائشة غير ذي أهمية لدى النبي «صلى الله عليه وآله»؟!

فقد روي: أنه «صلى الله عليه وآله» ما أولم على عائشة بشيء ـ رغم توقع الناس منه ذلك وقدرته عليه في تلك الفترة ـ غير أن قدحاً من لبن أهدي إليه من بيت سعد بن عبادة، فشرب النبي «صلى الله عليه وآله» بعضه، وشربت عائشة منه!!([5]). ولا يصح أن يعد ذلك وليمة عرس لها؛ إذ من الطبيعي أن لا يغفل النبي عن عرض الطعام على جليسه، فضلاً عن زوجته.

استدلال طريف:

وقد كانت عائشة تستدل على حظوتها عند النبي «صلى الله عليه وآله» بأنه قد تزوجها في شوال، فتقول:

تزوجني رسول الله «صلى الله عليه وآله» في شوال، فأي نساء رسول الله «صلى الله عليه وآله» كانت أحظى عنده مني؟([6]) وهو استدلال طريف حقاً، فمتى كان لشوال هذه الفضيلة العظيمة التي تدل على الحظوة؟!

أضف إلى ذلك: أن خديجة، وأم سلمة، وسائر نسائه «صلى الله عليه وآله» قد كن أحظى عنده منها، ولذا فقد كانت تحسدهن، وتؤذيهن، وتسيء إليهن كثيراً، حتى أمام رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك حين الكلام عن العقد على عائشة قبل الهجرة.

وأطرف من ذلك: أننـا نجد البعض يحكم باستحباب العقد في شوال([7]).

ويبدو أن حبهم لعائشة، وتقديرهم لرغباتها، وهي التي كانت الساعد الأيمن للهيئة الحاكمة بعد النبي، والتي حاربت علياً الشوكة الجارحة في أعينهم، الذي لم تكن تقدر أن تذكره بخير أبداً([8]) ـ إن ذلك هو الذي دفعهم إلى وضع هذا التشريع ـ مع أنهم يروون: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تزوج بجويرية، وبحفصة في شعبان، وبزينب بنت خزيمة في شهر رمضان، وبزينب بنت جحش في ذي القعدة كما يقال، فالنبي إذاً، قد ترك هذا المستحب، ولم يفعله إلا بالنسبة لعائشة وحدها، ووحدها فقط!! إن ذلك عجيب حقاً وأي عجيب!!.

فاتحة عهد جديد:

وعلى كل حال، فإن بدخول عائشة إلى بيت النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد بدأت في هذا البيت، الذي كان مثالاً للهدوء والسكينة، والجلال ـ حتى عهد قريب ـ تحولات وتغيرات ذات طابع معين، حينما صار مجالاً لكثير من التناقضات، التي كانت مصدراً لهمّ النبي «صلى الله عليه وآله» وغمه أحياناً كثيرة، وكانت عائشة هي السبب المباشر والمحرك في القسم الأعظم منها.

ولا نقول ذلك من عند أنفسنا، وإنما نستند في ذلك إلى ما أثبته التاريخ والحديث المتواتر عنها، بل إنها هي نفسها تصرح: بأنها كانت السبب في كل ما كان يجري في بيته «صلى الله عليه وآله» من مشاحنات وتناقضات كما جاء في بعض المصادر، على ما ذكره لي بعض المحققين.

آية الصلح بين المؤمنين:

ويذكر البعض: من الحوادث التي كانت قبل غزوة بدر([9]): أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ذهب ليعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي بن سلول؛ فمر «صلى الله عليه وآله» ـ وهو على حماره ـ بمجلس ابن أبي، وفي المجلس أخلاط من المسلمين، والمشركين، واليهود، وفيهم عبد الله بن رواحة؛ فثار غبار من مشي الحمار، فخمر ابن أبي أنفه بردائه، وقال: لا تغبروا علينا.

فنزل إليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ودعاهم إلى الله؛ فقال له ابن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً؛ فلا تؤذينا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك؛ فمن جاءك فاقصص عليه.

فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشانا، فإنا نحب ذلك.

فاستب المسلمون والمشركون، حتى كادوا يتبادرون، فلم يزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» يخفضهم حتى سكنوا.

ثم دخل على سعد بن عبادة، فحدثه بما جرى، فطلب منه سعد أن يصفح عن ابن أبي؛ لأنهم كانوا على وشك أن يتوجوه قبل قدومه «صلى الله عليه وآله»، فلما قدم انصرفوا عن ذلك.

وفي رواية أخرى: إنه «صلى الله عليه وآله» ذهب ومعه المسلمون إلى ابن أبي تألفاً لقومه، فلما أتاه قال له: إليك عني، والله لقد آذاني ريح حمارك.

فقال أحد الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك، فتعصب لابن أبي رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والنعال؛ فنزل قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..}([10]).

وفي مجمع البيان: أن الذي قال لابن أبي ذلك، هو عبد الله بن رواحة، وأن التضارب كان بين رهط ابن رواحة من الأوس، ورهط ابن أبي من الخزرج، ولكن لا تخلو كلتا الروايتين من الإشكال.

فأولاً: إن آية الصلح بين المؤمنين لا يمكن أن تنطبق على الرواية الأولى؛ فإن النزاع فيها كان بين المشركين والمسلمين، وليس بين طائفتين من المؤمنين.

بل لم يظهر من الرواية الثانية كون النزاع كان بين طائفتين من المؤمنين، فإذا جعلنا الروايتين رواية واحدة؛ لتقارب سياقهما ومضمونهما، لم يمكن الاطمئنان إلى صحة كون الآية قد نزلت بهذه المناسبة.

وثانياً: إن الآية موجودة في سورة الحجرات، وهي قد نزلت بعد سنوات من الهجرة، لأنها نزلت بعد المجادلة والأحزاب، التي نزلت في مناسبة الخندق وغيرهما.

وتقدم قولهم: إن هذه القضية قد حصلت قبل بدر.

هذا كله عدا عن التنافي بين مضمون كل من الروايتين كما هو ظاهر.

ولكن ذلك لا يعني أن الرواية مختلقة من الأساس؛ فلربما تكون قد حصلت بعد سنوات من الهجرة، بعد نزول سورة الحجرات، وبعد إظهار ابن أبي للإسلام؛ ويكون النزاع قد حصل بين طائفتين من المؤمنين، وبذلك تكون الرواية الثانية هي الأرجح.

إسلام سلمان المحمدي:

وفي السنة الأولى من الهجرة، ويقال: في جمادى الأولى منها([11]) كان إسلام سلمان المحمدي، المعروف بسلمان الفارسي، حشرنا الله معه وفي زمرته، والذي قال النبي «صلى الله عليه وآله» وغير واحد من الأئمة عنه: سلمان منا أهل البيت([12]).

وكان سلمان قد هاجر من بلاده في طلب الدين الحق، وتعرض في هجرته تلك إلى المصائب والمصاعب، حتى ابتلي بالرق، وأعتق على يد النبي «صلى الله عليه وآله».

وملخص ذلك ـ على ما ذكره الصنعاني: أنه كان في بلده راهب، فأخذ عنه بعض التعاليم، وعلم أهله بالأمر فأخرجوا الراهب من البلد، فخرج معه بالسر عن أهله، فجاء الموصل، فوجد أربعين راهباً، وبعد أشهر ذهب مع أحدهم إلى بيت المقدس، ورأى عبادة الراهب واجتهاده، ثم ضاع عنه، فسأل عنه ركباً من الأنصار، فقالوا:

هذا عبد آبق، فأخذوه إلى المدينة، وجعلوه في حائط لهم، وكان الراهب قد أخبره أن نبياً من العرب سيخرج، لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، وأمره باتباعه([13]).

وفي المدينة ـ وبالذات في قباء كما يقولون ـ التقى بالنبي «صلى الله عليه وآله»، فقدم إليه رطباً على أنها صدقة، فأبى النبي «صلى الله عليه وآله» أن يأكل منها، وأمر أصحابه فأكلوا، وعدها سلمان واحدة.

ثم التقى به في المدينة، فقدم إليه رطباً على أنها هدية، فقبلها وأكل منها، فعدها سلمان ثانية.

ثم التقى به في بقيع الغرقد وهو في تشييع جنازة بعض أصحابه، فسلم عليه، ثم استدار خلفه، فكشف النبي «صلى الله عليه وآله» عن ظهره، فرأى خاتم النبوة، فانكب عليه يقبله ويبكي، ثم أسلم وأخبره بقصته، وبعد ذلك كاتب سيده، واستمر يعمل من أجل أداء مال الكتابة، وأعانه النبي «صلى الله عليه وآله» على ذلك.

وكان أول مشاهده الخندق، ثم شهد ما بعدها من المشاهد.

وقال ابن عبد البر: إن أول ما شهده بدر؛ وهو المناسب لمعونة النبي «صلى الله عليه وآله» له، فراجع في سيرة سلمان وفضائله كتب الحديث والتراجم([14]) بالإضافة إلى ما كتبناه عنه في كتابنا: «سلمان الفارسي في مواجهة التحدي».

ملاحظة:

ويلاحظ هنا: أن سلمان لم يسلم بدافع عاطفي، أو مصلحي؛ ولم يسلم أيضاً استجابة لضغوط أو لجو معين، وإنما دخل في الإسلام عن قناعة فكرية خالصة، وبعد أن سعى من أجل الوصول إلى الدين الحق، ولاقى المصاعب والمتاعب الطويلة في سبيل ذلك، وذلك يؤيد فطرية هذا الدين، وكونه ينسجم مع أحكام العقل، ومقتضيات الفطرة السليمة، وقد أشرنا إلى ذلك أيضاً حين الكلام عن إسلام أبي ذر، فليراجع.

بئر رومة في صدقات عثمان:

وقد ذكروا في جملة فضائل عثمان: أنه لما قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة، وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، قال: من يشتري بئر رومة من خالص ماله؛ فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟.

فاشتراها عثمان من صلب ماله، وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين، ثم لما حصر عثمان منعوه من الشرب منها حتى شرب ماء البحر.

وللروايات نصوص مختلفة جداً كما سنرى، وسنشير إلى بعض مصادرها فيما يأتي.

ونحن نشك في صحتها، وذلك استناداً إلى ما يلي:

أولاً: تناقض نصوصها الشديد جداً، حتى إنك لا تجد نصاً إلا ويوجد ما ينافيه ويناقضه، ونذكر على سبيل المثال:

أنهم يروون: أن عثمان قد ناشد الصحابة بقضية بئر رومة، وذلك حين الثورة عليه.

فرواية تقول: إنه اطلع عليهم من داره وهو محصور فناشدهم.

وأخرى تقول: إنه ناشدهم في المسجد.

ورواية تقول: إنه اشترى نصفها بمائة بكرة، والنصف الآخر بشيء يسير.

وأخرى تقول: إنه اشتراها بأربعين ألفاً.

وثالثة: بخمس وثلاثين.

ورابعة: إنه اشترى نصفها باثني عشر ألف درهم، والنصف الآخر بثمانية آلاف.

ورواية تقول: إن هذه البئر كانت ليهودي لا يسقي أحداً منها قطرة إلا بثمن.

وأخرى: إنها كانت لرجل من مزينة.

وثالثة: لرجل من بني غفار.

ورواية تقول: إنه اشترى البئر.

وأخرى تقول: إنه حفرها.

والجمع بأنه اشتراها، ثم احتاجت إلى الحفر([15]) لا يصح، لأنهم يقولون: إن عثمان قال ذلك حين المناشدة، والمناشدة كانت واحدة ولم تتكرر.

ورواية تقول: إنها كانت عيناً (أي فيها نبع وسيلان على وجه الأرض).

وأخرى تقول: كانت بئراً.

ورواية تقول: إنه اشتراها عند مقدم النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين المدينة.

وأخرى تقول: إنه اشتراها وهو خليفة.

ورواية تقول: إن النبي طلب منه ذلك.

وأخرى تقول: إنه «صلى الله عليه وآله» ناشد المسلمين من يشتريها منهم.

وثالثة تقول: إن غفارياً أبى بيعها للنبي بعينين في الجنة!! فبلغ ذلك عثمان فاشتراها منه بخمسة وثلاثين ألفاً([16]).

وثمة تناقضات كثيرة أخرى لا مجال لذكرها؛ فمن أراد المزيد فليراجع وليقارن.

ثانياً: إن ما ورد في الرواية ـ كما عند النسائي وأحمد والترمذي ـ من أنه «صلى الله عليه وآله» قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب، لا يصح بوجه، فقد كان في المدينة آبار كثيرة عذبة، وقد استمر النبي «صلى الله عليه وآله» على الاستقاء والشرب منها إلى آخر حياته، ومنها بئر السقيا، وبئر بضاعة، وبئر جاسوم، وبئر دار أنس التي تفل فيها النبي «صلى الله عليه وآله» فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها([17])، وغير ذلك من آبار كثيرة لا مجال لذكرها([18]).

ثالثاً: لو صح حديث بئر رومة؛ فلا بد إذاً من الإجابة على التساؤلات في المجالات التالية:

أ ـ إنه إذا كان عثمان قد قدم من الحبشة جديداً، ولم يكن له مال؛ فمن أين جاء عثمان بالأربعين، أو الخمسة والثلاثين، أو العشرين ألفاً من الدراهم، أو المئة بكرة؟! ومتى وكيف اكتسب هذا المال؟!.

ب ـ لماذا لا يعين المسلمين في حرب بدر بشيء من تلك المبالغ الهائلة من الدراهم؟ أو بشيء من تلك البكرات التي أخرج منها مئة من صلب ماله، حسبما تنص عليه الرواية؟!. مع أن المسلمين كانوا في بدر بأمس الحاجة إلى أقل القليل من ذلك، وكان الاثنان والثلاثة منهم يعتقبون البعير الواحد، ومع أنه لم يكن معهم إلا فرس واحد، ولم يكن معهم إلا ستة أدرع وثمانية سيوف، والباقون يقاتلون بالعصي وجريد النخل، كما سيأتي بيانه مع مصادره.

أم يعقل أن يكون قد بذل كل ما لديه في بئر رومة حتى أصبح صفر اليدين؟!.

أو لماذا لا يطعم المسلمين، ويسد حاجاتهم، ويكفيهم معونة الأنصار؟!

ولماذا لا يعين النبي نفسه بشيء من ماله، وقد كان يعاني أشد الصعوبات، ولم يتسع الحال عليه وعليهم إلا بعد سنوات من الهجرة؟!

ج ـ وتقول روايات المناشدة: إنهم قد منعوه من الشرب منها حتى اضطر إلى الشرب من ماء البحر، وهذا عجيب حقاً!! فإنه إذا كان يستطيع الحصول على الماء فلماذا لا يشرب من غيرها من العيون العذبة التي كانت في المدينة والتي تعد بالعشرات؟!.

كما أن من كان يمنعه من شرب الماء، فإنه لم يكن ليسمح بدخول أي ماء كان إليه، ومن أي مصدر كان.

ويقولون: إن عماراً أراد أن يدخل إليه روايا ماء؛ فمنعه طلحة([19]) ولم يستطع الحصول على الماء إلا من قبل علي الذي أرسل إليه الماء مع أولاده، وعرضهم للأخطار الجسيمة، كما هو معلوم.

وهل يمكن أن نصدق أنه شرب من ماء البحر حقاً؛ مع أن البحر يبعد مسافة كبيرة جداً عن المدينة، أم أن ذلك كناية عن شربه للمياه غير العذبة والمالحة؟!

د ـ وإذا كان عثمان قد بذل هذا المال حقاً، فلماذا لم تنزل فيه ولو آية واحدة تمدح فعله، وتثني عليه؟! وكيف استحق علي أن تنزل فيه آيات حينما تصدق بثلاثة أقراص من شعير، وحينما تصدق بخاتمه، وحينما تصدق بأربعة دراهم، وحين قضية النجوى؟! وهذا عثمان يبذل عشرات الآلاف، ومئة بكرة من الإبل، ولا يذكره الله بشيء، ولا يشير له بكلمة ولا بحرف؟! بل إن الرواية التي تنقل هذه الفضيلة الكبرى عنه نراها متناقضة متهافتة، لا تقوى ولا تثبت أمام النقد العلمي الحر والصريح.

وبعد.. لماذا امتنع ـ كغيره ـ عن التصدق بدرهم في آية النجوى، حتى نزل القرآن يلوم الصحابة وهو معهم على إشفاقهم: أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة؟!!.

بئر أريس:

وأخيراً: فلسنا ندري لماذا اختصت بئر رومة بهذا التعظيم والتبجيل، دون بئر أريس، مع أنها أيضاً ـ كما يدَّعون!! ـ قد اشتراها عثمان؛ وقد اشتراها أيضاً من يهودي، وكذلك هو قد تصدق بها!!([20]) بارك الله في آبار عثمان، وليمت اليهود بغيظهم، فإنهم يملكون الآبار، ويشتريها منهم عثمان، ويتصدق بها، وينال الأوسمة، ويحصل على الفضائل والكرامات!!.

حقيقة القضية:

وبعد كل ما تقدم، فإن الظاهر: أن الصحيح في القضية هو ما رواه ابن شبة: «عن عدي بن ثابت، قال: أصاب رجل من مزينة بئراً يقال لها: رومة؛ فذكرت لعثمان بن عفان، وهو خليفة، فابتاعها بثلاثين ألفاً من مال المسلمين، وتصدق بها عليهم»([21]).

وقد ضعف السمهودي الرواية بأن في سندها متروكاً، ورواها الزبير بن بكار في عتيقه، وردها بقوله: وليس هذا بشيء، وثبت عندنا أن عثمان اشتراها بماله، وتصدق بها على عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»([22]).

ونقول نحن: لقد ثبت عدم صحة تلك الروايات التي أشار إليها الزبير بن بكار بأي وجه، ولا سيما مع تناقضها، ومع ما تقدم من الإيراد عليها ومن وجوه الإشكال فيها، مما لا دافع له.

هذا، عدا عما في أسانيدها من نقاش كبير وكثير، فوجود المتروك في سند هذه الرواية لا يضر، ما دامت منسجمة مع الواقع التاريخي، ومع الظروف التي كانت قائمة آنذاك.

وما دام لا يمكن أن يصح غيرها، فالظاهر: أنها قد حرفت وحورت ليمكن الاستفادة منها في إثبات فضيلة لعثمان لا يمكن أن تثبت له بدون هذا التحوير والتزوير.

ولكننا لم نفهم قوله: «ابتاعها بثلاثين ألفاً من مال المسلمين، وتصدق بها عليهم»؛ فإنها إذا كانت من مالهم، فما معنى الصدقة بها عليهم؟

إلا أن يقال: إن عثمان والهيئة الحاكمة كانوا يرون أنهم يملكون بيوت الأموال حقاً، وقد ذكرنا بعض الشواهد والدلائل على نظرتهم هذه في مورد آخر، فراجع([23]).

تأبير النخل:

ويقولون: إن النبي «صلى الله عليه وآله» لما قدم المدينة مر بقوم يؤبرون النخل، أي يلقحونه ـ أو سمع ضجتهم ـ فقال: لو لم تفعلوا لصلح، فتركوا تلقيحه، فخرج شيصاً([24])، فمر بهم (أو قيل له) فقال: ما لنخلكم؟

قالوا: قلت: كذا وكذا.

قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم، أو قال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل([25]).

ونحن نشك في صحة ذلك، إذ مضافاً إلى الاختلاف الظاهر في نصوص الرواية، كما يظهر بالمراجعة والمقارنة، لا بد أن نسأل:

لماذا يتدخل النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» فيما لا يعنيه، وما ليس من اختصاصه؟!

ألا يعلم: أن الناس يهتمون بكل كلمة تصدر منه، ويرتبون الأثر عليها، ويلتزمون بها؟!.

ولماذا يعرض الناس إلى هذا الضرر الجسيم؟!.

ومن هو المسؤول عن هذه الأضرار التي سببتها مشورته تلك؟!.

ثم إنه كيف يقول ذلك لهم، وهو الذي أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بأن يكتب عنه كل ما يسمع؛ فإنه لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق؟!.

وقد قدمنا الرواية مع مصادرها في الجزء الأول فلتراجع هناك.

وأيضاً: لقد كان النبي «صلى الله عليه وآله» يعيش في قلب المنطقة العربية، وقد جاوز الثلاث وخمسين سنة؛ فهل يمكن أن نصدق أنه لم يكن يعرف تأبير النخل وفائدته، وأن النخل لا ينتج بدونه؟

وكيف لم يسمع طيلة عمره المديد شيئاً عن ذلك، وهو يعيش بينهم ومعهم؟ أو على الأقل بالقرب منهم؟!.

وأخيراً: هل صحيح: أنه ليس على الناس أن يطيعوه في أمور دنياهم؟! وأنه إنما كان يقول برأيه فيها؟!.

وهل صحيح: أن الإسلام يفصل بين الدين والدنيا؟ وأن مصب اهتماماته هو ما عدا أمور دنياهم؟!

أليس هذا بهتاناً على الإسلام وافتراء عليه؟!! ألا يتنافى ذلك مع القرآن والسنة، ومع الإسلام بمجموعه؟!.

 


([1]) راجع: طبقات ابن سعد ج1 قسم1 ص139.

([2]) راجع: طبقات ابن سعد ج1 قسم1 ص139، وزاد المعاد ج1 ص25، وج2 ص24 و45، والبدء والتاريخ ج4 ص152، وفتح الباري ج7 ص145.

([3]) المصنف للصنعاني ج5 ص367.

([4]) فتح الباري ج7 ص145.

([5]) تاريخ الخميس ج1 ص358، والسيرة الحلبية ج2 ص121.

([6]) تاريخ الطبري ط الإستقامة ج2 ص118، والسيرة الحلبية ج2 ص120، وتاريخ الخميس ج1 ص358.

([7]) راجع: نزهة المجالس للصفوري الشافعي ج2 ص137.

([8]) فتح الباري ج2 ص131، ومسند أحمد ج6 ص228، والندير ج9 ص324.

([9]) السيرة الحلبية ج2 ص64.

([10]) الآية9 من سورة الحجرات، السيرة الحلبية ج2 ص63 و64، والدر المنثور ج6 ص90، عن مسلم، والبخاري، وأحمد، والبيهقي في سننه، وابن مردويه، وابن = = جرير، وابن المنذر، وحياة الصحابة ج2 ص578 و579 و560، عن البخاري ج1 ص370 وج3 ص845.

([11]) راجع: تاريخ الخميس ج1 ص351.

([12]) راجع: قاموس الرجال ج4 ترجمة سلمان الفارسي.

([13]) المصنف للصنعاني ج8 ص418. وتفصيل ما لاقاه سلمان من المتاعب والمصاعب في أسفاره تلك يطلب من كتب الحديث، والتاريخ، والتراجم.

([14]) مثل: قاموس الرجال ج4، والإصابة ج2 ص62 والإستيعاب، وغير ذلك.

([15]) هذا الجمع ذكره السمهودي في وفاء الوفاء ج3 ص970.

([16]) راجع في الروايات وقارن بينها: وفاء الوفاء للسمهودي ج3 ص697 ـ971، وسنن النسائي ج6 ص235 و236 و234، ومنتخب كنز العمال ج5 ص11، وحياة الصحابة ج2 ص89 عن الطبراني وابن عساكر، ومسند أحمد ج1 ص75 و70، والسيرة الحلبية ج2 ص75، وروي ذلك أيضاً عن البغوي، وابن زبالة وابن شبة، والترمذي ص627، وابن عبد البر، والحازمي، وابن حبان، وابن خزيمة.

وراجع: حلية الأولياء ج1 ص58، والبخاري هامش الفتح ج5 ص305، وفتح الباري ج5 ص305 و306، وسنن البيهقي ج6 ص167 و168، والتراتيب الإدارية ج2 ص95.

([17]) راجع وفاء الوفاء للسمهودي ج3 ص972 و956 و958 و959 و951.

([18]) راجع: المصدر السابق، فصل آبار المدينة.

([19]) وفاء الوفاء ج3 ص945.

([20]) وفاء الوفاء ج3 ص945.

([21]) وفاء الوفاء ج3 ص967 عن ابن شبة، وروى ذلك الزبير بن بكار أيضاً.

([22]) المصدر السابق.

([23]) راجع كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام، بحث (أبو ذر إشتراكي أم شيوعي، أم مسلم).

([24]) الشيص هو: رديء التمر، وهو الذي لا يشتد نواه.

([25]) راجع: صحيح مسلم ج7 ص95، وسنن ابن ماجة ج2 ص825، كتاب الرهون باب15، ومسند أحمد ج6 ص123 وج3 ص152، والبرصان والعرجان ص254، ومشكل الآثار ج2 ص294، وكشف الأستار عن مسند البزار ج1 ص112، ومسند أبي يعلى ج6 ص238 و198، وصحيح ابن حبان ط مؤسسة الرسالة ج1 ص201.

   
 
 

العودة إلى موقع الميزان