غـزوات وسرايـا دفـاعـيـة

   

صفحة :317-344   

غـزوات وسرايـا دفـاعـيـة

 غزوات وسرايا:

هناك سرايا وغزوات حصلت بين المسلمين والمشركين، وأخرى كانت بين المسلمين واليهود. ونحن نشير هنا إلى كلا النوعين، فنقول:

أما بالنسبة لما كان بين المسلمين وغير اليهود، فنشير إلى:

غزوات لبني سليم وغطفان:

1 ـ يقول المؤرخون: إن النبي «صلى الله عليه وآله» غزا بنفسه بني سليم بعد بدر بسبع ليال، واستخلف على المدينة ابـن أم مكتوم، أو سبـاع بن عرفطـة؛ فلما بلغ ماء من مياههم يقال لـه: الكدر، أقام «صلى الله عليه وآله» هناك ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلقَ كيداً، وكان يحمل لـواءه أمير المؤمنين «عليه السلام»، وكان اللواء أبيض اللون.

ويبدو أن هذه هي نفس الغزوة التي يقال لها: «غزوة قرقرة الكدر». وسببها أنه قد بلغه «صلى الله عليه وآله»: أن جمعاً من بني سليم وغطفان بقرقرة الكدر (والظاهر أنهم كانوا ينوون غزو المدينة) فسار إليهم في مائتين من أصحابه، فغنم منهم خمسمائة بعير، فخمَّسها، وقسم الباقي على أصحابه. ووقع غلام اسمه يسار في سهمه؛ فأسلم، ورآه النبي «صلى الله عليه وآله» يصلي، فأعتقه.

وقال الواقدي: إن قرقرة الكدر كانت في المحرم سنة ثلاث([1]).

2 ـ ويقول الدمياطي: إن غزوة بني سليم هي نفس غزوة بحران، حيث بلغه: أن جمعاً كثيراً من بني سليم كانوا في بحران؛ فخرج إليهم في ثلاثمائة من أصحابه، لستٍ خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث للهجرة، ولم يظهر وجهاً للسير؛ فرجع ولم يلق كيداً([2]).

غزوة السويق:

وبعد رجوعه «صلى الله عليه وآله» من غزوة قرقرة الكدر، أي في ذي الحجة من السنة الثانية أو الثالثة: كانت غزوة السويق، فبعد أن أصيبت قريش في بدر حلف أبو سفيان: أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً «صلى الله عليه وآله» وقال:

كـروا على يـثـرب وجـمـعـهـم           فـإن مـا جــمـعـوا لـكـم نفـــل
إن يك يوم القلـيب كـــان  لهـم           فــإن مــا  بــعــده لــكــم  دول
آلـيـت لا أقــرب الـنســاء  ولا           يـمـس رأســي وجـلـدي الغسل
حتى تـبـيـدوا قبــائــل الأوس            والخــزرج  إن الــفــؤاد يشتـعـل

فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه؛ وليثبت للناس: أن قريشاً لا تزال قادرة على التحرك، وأيضا ليشد قلوب المهزومين في بدر.

فلما كان على بريد من المدينة (والبريد اثنا عشر ميلاً) نزل هناك، فاتصل ببعض بني النضير من اليهود، ثم أرسل بعض أصحابه إلى بعض نواحي المدينة، فحرقوا بعض النخل، ووجدوا رجلين فقتلوهما، وهما: معبد بن عمرو وحليف له، ثم انصرفوا راجعين؛ فنذر الناس بهم؛ فخرج «صلى الله عليه وآله» في طلبهم لخمس خلون من ذي الحجة، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون بجرب السويق([3]) تخففاً للهرب، فجعل المسلمون يأخذونه، ولم يدركهم المسلمون، فعادوا إلى المدينة بعد خمسة أيام([4]).

غزوة ذي أمر:

وفي أول سنة ثلاث للهجرة، أو لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، كانت غزوة ذي أمر، ولربما تكون هي غزوة غطفان. جمع فيها دعثور بن محارب في ذي أمر، جمعاً من بني ثعلبة بن محارب لحرب الرسول، أو ليصيبوا من أطراف المدينة، فخرج الرسول «صلى الله عليه وآله» إليهم، وأصاب أصحابه «صلى الله عليه وآله» رجلاً يقال له: جبار (أو حباب)، فأسلم، ودلهم على الطريق إليهم؛ فسمعوا بمسير الرسول «صلى الله عليه وآله»؛ فهربوا في رؤوس الجبال([5]).

ويذكر هنا: أنه أصاب الرسول «صلى الله عليه وآله» مطر كثير، فنزع «صلى الله عليه وآله» ثوبيه، ونشرهما على شجرة، واضطجع بمرأى من المشركين. واشتغل المسلمون في شؤونهم، فنزل إليه دعثور (زعيم المشركين الغطفانيين) حتى وقف على رأسه، ثم قال: من يمنعك مني اليوم؟

فقال «صلى الله عليه وآله»: الله.

ودفع جبريل في صدره، فوقع على ظهره، ووقع السيف من يده، فأخذ النبي «صلى الله عليه وآله» السيف، وقال له: من يمنعك مني؟

قال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فأعطاه «صلى الله عليه وآله» سيفه؛ فرجع إلى قومه، وجعل يدعوهم للإسلام.

ونزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ([6]) الآية.

ولعل هذه هي نفس غزوة ذي القصة، التي يقال: إنها في المحرم سنة 3 للهجرة‍. كما يظهر من المقارنة بينهما.

سرية القردة:

وفي جمادى الأولى، في السنة الثالثة، كانت غزوة القردة، وكان أميرها زيد بن حارثة، في أول إمارة له.

وذلك: أن نعيم بن مسعود قدم المدينة مشركاً، فشرب الخمر مع بعض أصحابه، وذلك قبل تحريم الخمر (مع أننا قد قلنا فيما سبق: أن الخمر كانت قد حرمت في مكة)، وأخبرهم بالعير([7]).

وذلك: أن قريشاً قالت: «قد عور علينا محمد متجرنا، وهو على طريقنا».

وقال أبو سفيان، وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا.

فاتفقوا بعد بدر على العدول عن طريقهم المعتاد إلى الشام، وسلوك طريق العراق، فخرج جماعة فيهم صفوان، وأبو سفيان في تجارة أكثرها من الفضة. فبعث «صلى الله عليه وآله» إليهم زيداً، فلقيهم على ماء يقال له: (القردة)؛ فأصاب العير وما فيها؛ وأعجزه الرجال، ورجع بالغنيمة إلى الرسول «صلى الله عليه وآله»، فخمسها، فبلغ الخمس عشرين ألفاً، وقسم الباقي للسرية([8]).

وقفات مع ما تقدم:

ألف: الأعمى والقضاء:

بالنسبة لاستخلاف ابن أم مكتوم على المدينة في غزوة بني سليم، وغيرها: نشير إلى ما ذكره البعض من أن رواية أبي داود تقول: إنه إنما استخلفه على الصلاة؛ لأنه ضرير، لا يجوز له الحكم بين الناس في القضايا والأحكام؛ لأنه لا يدرك الأشخاص، ولا يثبت الأعيان، ولا يدري لمن الحكم، وعلى من يحكم([9]).

ولكننا لا نرتضي هذا الكلام: وذلك لما يلي:

1 ـ إن تولي ابن أم مكتوم للمدينة لا يعني إصداره الأحكام وتوليه منصب القضاء، لأن من الممكن حل مشاكل الناس بطريقة الصلح بين المتخاصمين، أو على أن يكون قاضي تحكيم يرضى بحكمه الخصمان، خصوصاً بملاحظة قصر فترة غيابه «صلى الله عليه وآله» عن المدينة في سفراته تلك، أو بأن يوكل من له صلاحية القضاء بين الناس، ويكون هو الوالي العام الحافظ للنظام، والمنفذ لتلك الأحكام.

2 ـ إن القول بأن المراد من تولي ابن أم مكتوم المدينة من قبل النبي «صلى الله عليه وآله» هو توليه خصوص الصلاة بعيد جداً، وهو لا ينسجم مع إطلاق عباراتهم، مثل قولهم: (إستخلفه على المدينة) أو (ولاه المدينة) أو نحو ذلك، خصوصاً إذا لاحظنا: أنه «صلى الله عليه وآله» قد استخلفه عليها اثنتي عشرة مرة، أو أكثر.

3 ـ إن الاستدلال على عدم جواز تولي الأعمى للقضاء بما ذكر، مدفوع بأن طريق معرفة الأشخاص والأعيان لا ينحصر بالنظر والرؤية؛ فيمكنه إثبات ذلك بالشهود، أو بالإقرار، أو بغير ذلك من وسائل. وليكن نفس توليته «صلى الله عليه وآله» لابن أم مكتوم (لو ثبت كون القضاء داخلاً في ولايته) اثنتي عشرة مرة، دليلاً على جواز تولي الأعمى للقضاء.

ب: من أهداف تلك السرايا والغزوات:

إن العرب قد رأوا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» الذي خرج بالأمس إلى المدينة لاجئاً، لا قوة لـه، قد أصبح هو وأصحابه يقفون في وجـه قريش، ويجلون اليهود ـ كما سنرى ـ  ويرسلون السرايا تتهدد المسالك، ويقتلون، ويأسرون.

وعرفوا: أن ثمة قوة يجب أن يحسب لها حسابها، ولا بد من التفكير ملياً قبل الإقدام على أي عمل تجاهها في المنطقة. ولكن الغرور كان يستولي على بعض تلك القبائل، إلى حد التفكير في الدخول في حرب مع النبي «صلى الله عليه وآله»، على حد تعبير البعض([10]).

فكان «صلى الله عليه وآله» يبادر إلى الهجوم، بمجرد أن يعرف: أنهم قد جمعوا واستعدوا له، أو أنهم يستعدون للإغارة على أطراف المدينة، أو بعد حصول الإغارة والإفساد منهم، الأمر الذي يدلنا على أن تلك الغزوات والسرايا كانت وقائية بالدرجة الأولى، وتستهدف أموراً:

1 ـ إفشال مؤامرات الأعداء، ورد كيدهم إلى نحورهم.

2 ـ إن ذلـك منه «صلى الله عليه وآله» كـان يمثل حرباً نفسية للمشركين؛ إذ ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، خصوصاً إذا كان انكسارهم بعد التعبئة الكاملة والشاملة منهم لحرب هذه الفئة بالذات.

فإذا كانت هزيمتهم على يده «صلى الله عليه وآله»، وفي عقر دارهم، وفي أوج قدرتهم واستعدادهم؛ فسوف تتحطم معنوياتهم، ويجعلهم ذلك في المستقبل مضطرين لأن يتريثوا كثيراً، قبل أن يقرروا أي موقف لهم تجاهه. وهذا مصداق آخر لكونه «صلى الله عليه وآله» قد نصر بالرعب.

3 ـ ثم هناك الصدي والتأثير الإعلامي على المشركين في المنطقة، وعلى قريش بالذات؛ فإذا انهزم المشركون في المنطقة وقريش روحياً ونفسياً، فإن هزيمتهم العسكرية سوف تكون أسهل وأيسر، وقد سئل أمير المؤمنين «عليه السلام»: بأي شيء غلبت الأقران؟

فقال: «ما لقيت رجلاً إلا أعانني على نفسه».

قال الرضي: يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب([11]).

ج: العتق والصلاة:

يلاحظ: أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد أعتق الغلام يساراً، حيث رآه يصلي.

وقد رأينا في الحديث أن الإمام السجاد «عليه السلام» كان يعتق مواليه بعد أن يذكرهم بذنوبهم([12]).

كما أنه قد أعتق غلاماً له، لأنه أكل كسرة خبز كان قد أعطاه إياها، حين وجدها ملقاة([13]).

ورأينا أيضاً أن الإمام الحسن «عليه السلام» رأى غلاماً يطعم كلباً، فاشتراه من سيده، وأعتقه([14]).

وعن أبي البلاد، قال: قرأت عتق أبي عبد الله «عليه السلام»: هذا ما أعتق جعفر بن محمد، أعتق فلاناً غلامه لوجه الله، لا يريد منه جزاء ولا شكوراً، على أن يقيم الصلاة، ويؤدي الزكاة، ويحج البيت، ويصوم شهر رمضان، ويتولى أولياء الله، ويتبرأ من أعداء الله. شهد فلان، وفلان، وفلان([15]).

ولعل سر عتقه «عليه السلام» لهم في هذه المناسبات، ولا سيما في مناسبة أنه رآه يصلي يعود إلى: أن العتق في مناسبة كهذه يهدف إلى ربطهم بالصلاة، ودفعهم إلى الالتزام بها، ولا سيما حينما تطرح كقضية حاسمة في أسعد لحظات حياتهم، اللحظات التي ينالون فيها حريتهم، التي هي في الحقيقة عنوان هويتهم ووجودهم.

وهذا ما سوف يدفعهم لاكتشاف واقع وحقيقة الصلاة، ثم التفاعل معها بشكل جدي وعميق، ولتكون من ثم سبباً في تكاملهم الإنساني، وسعيهم إلى الالتزام بسائر التعاليم الأخلاقية والإنسانية الإسلامية.

وقد لاحظنا في رواية: أبي البلاد: أن الإمام «عليه السلام» قد جعل إقامة الصلاة، وأداء الزكاة، والحج، والصيام، ثمناً لحرية ذلك الرجل.. وقرن ذلك بالتولي لأولياء الله، والتبري من أعداء الله تعالى.. مع علمهم بأن هذا الالتزام هو نفس ما فرضه الله تعالى عليهم في دينه، وليس في ذلك ما يعود بأي نفع دنيوي للإمام «عليه السلام»..

فإن ذلك يشير: إلى حقيقة الأهداف السامية التي يعيش الإمام «عليه السلام» ويجاهد ويضحي من أجلها..

ولا بد أن يتأكد لديهم المغزى العميق لحقيقة الربط بين العبودية الحقيقية لله، وبين الحرية الحقيقية من كل التأثر والخضوع لكل ما ومن سواه.

كما أن ذلك يجعل هذا الإنسان يرى في شخصية النبي «صلى الله عليه وآله» مثلاً جديداً للإنسان الهادف، الذي يعيش من أجل هدفه، ويفنى فيه بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

ويعرفه: أنه لا يهدف إلى استعباد أحد، بل لا يمكن أن يكون ذلك هدفاً له، ما دام أن هدفه الأسمى هو ـ فقط ـ إعلاء كلمة الله تعالى، وذلك تحت شعار: إن من يصبح عبداً لله بحق، فهو جدير بالحرية حقاً.

وكذلك الحال كان بالنسبة لما قدمناه عن الإمام الحسن، والإمام السجاد عليهما الصلاة والسلام، وقد أشرت إلى هذا الموضوع في مقال مستقل ([16]).

د: التورية بالغزوات:

لقد رأينا أيضاً: أنه «صلى الله عليه وآله» في غزوة بحران لم يظهر وجهاً للسير، وذلك لا يختص بهذه الغزوة! إذ قد كان من عادته «صلى الله عليه وآله»: أنه إذا أراد غزوة ورى بغيرها([17]).

ومعنى ذلك: هو أنه «صلى الله عليه وآله» أراد تفويت الفرصة على عيون العدو وجواسيسه، إن كان له ثمة عيون وجواسيس، وعلى المنافقين الذين يوادون من حاد الله ورسوله، وكذلك على اليهود الذين كانوا لا يألون جهداً، ولا يدخرون وسعاً في مساعدة أعدائه ضده، ولا أقل من أنهم كانوا يهتمون في أن يفوته أعداؤه، ولا يتمكن من الظفر بهم. وأسلوب إخفاء أمره «صلى الله عليه وآله» في فتح مكة كان رائعاً جداً.

ولسوف يأتي التعرض له في موضعه من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.

هـ : قريش في مواجهة الأخطار:

إن سرية زيد بن حارثة للاستيلاء على قوافل قريش قد جاءت في سياق السياسة القاضية بالمحاصرة الاقتصادية لقريش وباسترجاع الأموال التي تمالأ المشركون على حرمان المسلمين منها؛ حيث اضطروهم إلى ترك أوطانهم، وديارهم، وأموالهم، والهجرة إلى موضع يجدون فيه الحرية، والأمن.

وقد سمعنا كلام صفوان، وأبي سفيان، الذي يوضح لنا: أن قريشاً قد أصبحت تعتبر حربها مع النبي والمسلمين حرباً مصيرية، ومعركتها معه معركة حياة أو موت. ولم يكن ذلك ليخفى على النبي «صلى الله عليه وآله»، فكان دائماً على استعداد لكل طارئ، ويتتبع كل تحركات العدو بدقة متناهية، وقد طوقهم من جميع الجهات تقريباً.

ويكفي أن نذكر هنا قول صفوان بن أمية لقريش: «إن محمداً وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا؛ فما ندري كيف نصنع بأصحابه؟ وهم لا يبرحون الساحل. وأهل الساحل قد وادعوهم؛ فما ندري أين نسكن. وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا، فلم يكن لنا بقاء. وحياتنا بمكة تقوم على التجارة إلى الشام في الصيف، والى الحبشة في الشتاء»([18]).

و : مناقشة قضية دعثور:

وأما قصة دعثور مع الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»؛ فإننا وإن كنا لا نستبعد وقوعها..

ولكن قولهم: إن آية: ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ..([19]) قد نزلت في هذه المناسبة، لا يصح. وذلك:

أولاً: إنه إذا كان المراد: أن الآية قد نزلت مباشرة حين وقوع قضية دعثور، كما هو ظاهر التفريع بالفاء.

فيرد عليه: أن الآية في سورة المائدة، وهي قد نزلت في أواخر حياته «صلى الله عليه وآله» مرة واحدة.

وغزوة ذي أمر كانت ـ كما يقولون ـ في أوائل السنة الثالثة للهجرة.

ومن غير المعقول: أن يحتفظ «صلى الله عليه وآله» بآيات تبقى معلقة في الهواء ـ إلى عدة سنوات ـ ثم يجعلها في سورة نزلت حديثاً.

ثانياً: إن الآية تذكر:

1 ـ أن «قوماً» قد هموا بأن يبسطوا أيديهم إلى المسلمين، ودعثور شخص واحد، ولم نعهد إطلاق كلمة «قوم» على الواحد.

وقول البعض: إن قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ([20])، يشمل سخرية فرد من فرد، لا يصح؛ لأنه إنما يشمله بالملاك، لا بالظهور اللفظي، والآية التي نحن بصددها إنما هي إخبار عن حادث وقع، وليس فيها شمول ملاكي، كما هو ظاهر.

إلا أن يقال: إن نسبة ذلك إلى القوم باعتبار رضاهم بفعل دعثور هذا وهو كما ترى.

2 ـ ومن جهة أخرى فإنها قد عبرت عن النبي «صلى الله عليه وآله» بضمير الجمع، ولم نعهد التعبير عن الرجل الواحد بضمير الجمع إلا في مقام التعظيم، وبضرب من التجوز.

وهو هنا يمتن على المسلمين جميعاً بأن الله قد صرف عنهم من هموا ببسط أيديهم إليهم، ولو كان المقصود هو النبي «صلى الله عليه وآله» فقط، فلماذا يعبر عنه بضمائر الجمع؟

وقد يجاب عن ذلك: بأن ذهابه «صلى الله عليه وآله»، وفقده، يكون سبباً لذهابهم وتشتتهم، وضعفهم، وبسط اليد إليه بسط لها إليهم؛ لأنه قائدهم، وبه قوام اجتماعهم.

إلا أن يقال: إن ذلك خلاف المفهوم من الآية، وفيه نوع من التجوز والادعاء؛ فلا يعتمد عليه إلا بدليل.

ثالثاً: قال الحسني: «وموضع التساؤل في هذه القصة: أن النبي «صلى الله عليه وآله» هل كان ينفرد عن أصحابه في غزواته؟! وهل يتركه أصحابه وحيداً في تلك الفلاة، والمشركون على مقربة منهم؟! وهب أنه ذهب إلى الشجرة ليجفف ثيابه من المطر، ولكن كيف تركه ذلك الجيش المؤلف من «450» مقاتلاً؟ وخفي عليهم ذلك الرجل الذي تحدر من الجبل لاغتياله، وهو بعيد عن أصحابه الخ..»؟ ([21]).

ويمكن المناقشة في هذا بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تخلف عن الجيش الراجع من غزوة بدر ليمرض علياً «عليه السلام» كما تقدم في موضعه.

إلا أن يقال: إنه في بدر قد تخلف في موضع أمن، لا في موضع مخافة.

وأما الإيراد على ذلك بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تخلف في بعض غزواته، ليسابق زوجته عائشة([22]) فهو لا يصح، لأننا نعتقد أنها مجرد قصص مختلقة وخيالية، لا أساس لها من الصحة كما سيأتي.

وخلاصة الأمر: إن تخلف النبي «صلى الله عليه وآله» عن جيشه إلى مكان قريب، ليجفف ثوبه، مع الإحساس بالأمن، ليس بالأمر المستهجن، ولا النادر الوقوع، لا سيما إذا كان يريد حاجة يطلب فيها الستر عن أعين الناس.

وقد كان أفراد الجيش ينفصلون عن الجيش قليلاً لقضاء بعض حاجاتهم. ولعل الآية قد نزلت فيمن يهم الرواة إبعاد التهمة عنهم، فلفقوا هذه المناسبة لإبعاد الشبهة عمن يحبون.


  ([1]) السيرة الحلبية ج2 ص211 و 212، وراجع ص205 ومصادر ذلك كثيرة فراجع كتب السيرة والتاريخ.

([2]) راجع في هذه السرية: تاريخ الخميس ج1 ص416، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج2 ص18، والسيرة الحلبية ج2 ص213، والمواهب اللدنية ج1 ص91، والمغازي للواقدي ج1 ص196 و 197.

([3]) السويق: قمح أو شعير يغلى ثم يطحن ليسف إما بماء، أو عسل، أو لبن.

([4]) راجع فيما تقدم: تاريخ الأمم والملوك ج2 ص175 ـ 177، وتاريخ الخميس ج1 ص410 و 411، والسيرة الحلبية ج2 ص211 وغير ذلك.

([5]) السيرة الحلبية ج2 ص212، والمغازي للواقدي ج1 ص194، والمواهب اللدنية ج1 ص91.

([6]) الآية 11 من سورة المائدة، وراجع في قضية دعثور تاريخ الخميس ج1 ص415، والسيرة الحلبية ج2 ص213، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج2 ص18، والمواهب اللدنية ج1 ص91، والبداية والنهاية ج4 ص2، والمغازي للواقدي ج1 ص195، ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج3 ص168 و169.

([7]) البداية والنهاية ج4 ص5، والمغازي للواقدي ج1 ص198.

([8]) تاريخ الخميس ج1 ص416، والبداية والنهاية ج4 ص5، والمغازي للواقدي ج1 ص198، والكامل في التاريخ ج2 ص145، وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص182.

([9]) راجع: السيرة الحلبية ج2 ص205.

([10]) سيرة المصطفى، ص 383.

([11]) نهج البلاغة، بشرح محمد عبده، قسم الحكم، رقم 318.

([12]) البحار ج46 ص103، وإقبال الأعمال.

([13]) تاريخ جرجان ص418.

([14]) البحار ج44 ص194، ومناقب آل أبي طالب ج4 ص75.

([15]) مستدرك سفينة البحار ج7 ص78، والبحار ج47 ص44.

([16]) البحث هو بعنوان: «الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد» في كتابنا: «دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام» ج1 ص77.

([17]) المصنف ج5 ص398، والمنتقى لابن تيمية ج2 ص765.

([18]) مغازي الواقدي ج1 ص197.

([19]) الآية 11 من سورة المائدة.

([20]) الآية 11 من سورة الحجرات.

([21]) سيرة المصطفى ص384.

([22]) راجع: صفة الصفوة ج1 ص176 عن أحمد، والسيرة الحلبية ج2 ص290، ومغازي الواقدي ج2 ص427، وسنن أبي داود ج3 ص30، وعن النسائي وابن ماجة.

   
 
 

العودة إلى موقع الميزان