ما عشت أراك الدهر عجباً
المسابقة
بين البطلين:
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا:
أن هذه الغزوة كانت عظيمة البركة على عائشة، وعلى الأمة.
كما
أن
بركة هذا العقد كانت أجل وأعظم..
ففي هذه الغزوة أيضاً ـ غزوة المريسيع ـ جرت المسابقة
الشهيرة في قلب الصحراء بين رسول الإسلام، أعظم رجل على وجه الأرض،
وبين حبيبته عائشة،
حيث تحزمت بقبائها، وكذلك فعل رسول الله «صلى الله عليه
وآله»،
وجرى البطلان في حلبة السباق،
وفاز الرسول فيها على البطلة القوية والذكية، وقال لها:
هذه بتلك.
وكان قد سابقها مرة قبل ذلك، فسبقته،
فبقي الرسول
«صلى الله عليه وآله» يترصد الفرصة، حتى سمنت عائشة، وثقلت، وطلب منها
في هذه الغزوة السباق من جديد، فسابقته، فسبقها، فقال لها: هذه بتلك([1]).
فهل يليق هذا بمقام الرسول؟!
وهل هذا هو تفكيره؟
وهذه هي آفاقه؟
وهذه هي حياته؟!
إننا نربأ نحن بأنفسنا عن تصرف كهذا، فكيف برسول الله
«صلى الله عليه وآله»، ولا نريد أن نقول أكثر من هذا.
قد تقدم:
أن
قضية الإفك كانت في غزوة المريسيع ونزل عذر عائشة من السماء،
وكان ذلك بسبب ضياع عقدها المبارك في وقت الرحيل،
وكان عقدها من جزع ظفار،
وكان يساوي اثني عشر درهماً.
وفي هذه
الغزوة كذلك ضاع عقد عائشة بالذات مرة أخرى!! أو انقطع!! وفي وقت
الرحيل أيضاً!! وكذلك هو من جزع ظفار!! وأيضاً فإنه كان يساوي ـ كعقد
الإفك ـ اثني عشر درهماً!!([2])
وفي مكان لا ماء فيه، وأقام النبي «صلى الله عليه وآله»، والجيش كله
وعائشة على التماسه، وأرسل «صلى الله عليه وآله» في طلبه الرجال، حتى
نزلت آية التيمم.
ولأسيد بن حضير ههنا أيضاً دور! ـ وفي كل واد أثر من
ثعلبة ـ حيث كان مع الرجال الذين أرسلوا في طلب العقد.
ولما نزلت آية التيمم قال:
ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ثم لما بعثوا الجمل وجدوا العقد
تحته([3]).
وقال ابن عبد البر في التمهيد:
يقال:
إنه كان في غزوة بني المصطلق،
وجزم بذلك ابن
عبد البر في الاستذكار. وسبقه إلى ذلك ابن سعد، وابن حبان([4]).
وأضاف الدياربكري وغيره قولهم:
وفيها كانت
قصة الإفك لعائشة، وكان ذلك بسبب وقوع عقدها أيضاً، فإذا كان ما جزموا
به ثابتاً، حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين، لاختلاف
القضيتين([5]).
والواقدي جاء بحديث التيمم، وحديث الإفك، وحديث مسابقة
البطلين عن عائشة في سياق واحد،
وقد صرح:
بأن ذلك كان في غزوة المريسيع([6]).
وقال محمد بن حبيب الأخباري، وغيره:
إن عقد عائشة سقط في ذات الرقاع، والمصطلق([7]).
ونقول:
ومستندنا في ذلك ما يلي:
أولاً:
كيف يكون ذلك في غزوة المريسيع، وهم يقولون: إن هذا
العقد قد وقع في البيداء، أو بذات الجيش،
وهما بين خيبر
والمدينة، والمريسيع بين مكة والمدينة كما جزم به النووي([8]).
أي أنها بين قديد والساحل([9]).
وقد يناقش في ذلك:
بأن ابن التين قد جزم بأن البيداء وذات الجيش يقعان
بين مكة والمدينة([10]).
فإن البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق
مكة. أما ذات الجيش فهي وراء ذي الحليفة، على بريد من المدينة، بينها
وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق على طريق مكة لا على طريق خيبر([11]).
وقيل:
إن ذا الجيش على ستة أميال، أو عشرة، أو ميلين من ذي
الحليفة، وهي أحد المنازل النبوية إلى بدر([12]).
وفي مسند الحميدي:
أن القلادة سقطت بالأبواء، وهي بين مكة والمدينة، وفي رواية جعفر
القرناني: أنها سقطت بمكان يقال له: الصلصل ـ بضم المهملتين ـ جبل عند
ذي الحليفة. قاله البكري([13]).
ويصرح أبو عبد الله البكري:
بأن البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة([14]).
وكل ذلك يؤيده ما ذكره ابن التين.
إلا أن يقال:
إن تناقض الروايات يمنع من الوثوق بها، خصوصاً مع جزم
النووي بخلاف ذلك كما أوضحناه، كما أنه
يمكن أن يكون قد اعتمد في ذلك على الرواية القائلة: إن
قضية التيمم والإفك كانتا معاً في غزوة المريسيع.
ثانياً:
لقد روى البيهقي في سننه، وابن جرير طريقة لهذا التيمم
الذي نزل بسبب عقد عائشة، وهي أن يضرب بيده ضربة للوجه، وضربة أخرى
باليدين إلى المناكب والآباط.
ومن الواضح:
أن هذه
الطريقة مخالفة لجميع الروايات الأخرى، حتى اضطر الشافعي إلى الحكم بأن
ما ورد في رواية عقد عائشة منسوخ([15]).
ثالثاً:
إننا لو أغمضنا النظر عن قولهم: إن العقد كان يساوي
اثني عشر درهماً، ولا يعقل أن يتوقف الجيش بكامله حيث لا ماء من أجل
عقد ثمنه اثنا عشر درهماً فقط حتى يضج الجيش، ثم يرسل الرسول الرجال في
طلبه، وأغمضنا النظر عن تناقض رواياته وعن إشكالات
أخرى
فيه.
فإننا نقول:
لقد صرح البخاري:
بأن آية التيمم التي نزلت هي الآية التي في سورة المائدة([16]).
ومن المعلوم:
أن سورة المائدة قد نزلت في وقت متأخر عن غزوة المريسيع
بسنوات، وهي من أواخر ما نزل..
رابعاً:
يقول أبو
هريرة ـ حسبما روى ابن أبي شيبة ـ : لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف
أصنع([17])..
ومن المعلوم:
أن أبا هريرة
قد أسلم بعد المريسيع بمدة طويلة بلا خلاف([18]).
خامساً:
إنهم يقولون: إن آية التيمم نزلت في الأسلع بن شريك كما رواه غير واحد([19]).
أو في الأنصار الذين كانوا يمرون في المسجد
في حال الجنابة([20]).
أو في مريض لم يكن يقدر على الوضوء([21]).
أو في الصحابة الذين فشت فيهم الجراح، ثم ابتلوا
بالجنابة، فإن اغتسل أحدهم خاف أن يموت، فشكوا ذلك إلى النبي «صلى الله
عليه وآله»، فنزلت الآية:
{وَإِن
كُنتُم مَّرْضَى}([22]).
وهكذا..
فإن هذه الرواية التي
تحاول أن تضيف فضيلة أخرى لعائشة، ونزول آية قرآنية فيها، وفيها تعظيم
لبركة عائشة، وبركة عقدها وثناء من أبي بكر تارة، ومن أسيد بن حضير
أخرى.. إن هذه الرواية ليست إلا كسراب بقيعة، أو كرمادٍ اشتدت به الريح
في يوم عاصف.
والحمد لله والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد
وآله الطاهرين.
([1])
صفة الصفوة ج1 ص176 ومسند أحمد ج6 ص129 و 182 و 280 و 39 و 261
و 264 والسيرة الحلبية ج2 ص290 ومغازي الواقدي ج2 ص427 وسنن
أبي داود ج3 ص30 ورواه النسائي، وابن ماجة. وشرح الزرقاني على
المواهب اللدنية ج4 ص386 عن أبي داود والنسائي وسبل الهدى
والرشاد ج11 ص173 ومسند الطيالسي ج3 ص253 والمعجم الكبير
للطبراني ج23= = ص47 ومسند أحمد رقم 2492 ومسند الحميدي رقم
261 وسنن ابن ماجة رقم 1979.
([2])
المواهب اللدنية ج1 ص109 وإرشاد الساري ج1 ص366 وفتح الباري ج1
ص366.
([3])
هذه الرواية ـ كرواية الإفك أيضاً ـ لا يكاد يخلو منها كتاب في
الحديث والفقه، ومع ذلك نشير إلى: مصنف عبد الرزاق ج1 ص227 و
214 و 228 وصحيح مسلم ص192 وصحيح البخاري (ط الميمنية) ج1 ص46
و (ط مشكول) ج1 ص86 وج6 ص64 وسنن أبي داود ج1 ص86 وأسباب
النزول للواحدي ص88 وتاريخ الخميس ج1 ص473 والسيرة الحلبية ج2
ص307 ومغازي الواقدي ج2 ص426 و 427 والمعجم الكبير ج23 ص49 و
50 وراجع ص121 و 122 ومسند أحمد ج6 ص179 وأبو داود رقم313
والنسائي ج1 ص163 و 164 وجامع البيان ج18 ص89 ـ 92 وج5 ص72.
وطبقات ابن سعد ج2 ص65 وصفة الصفوة ج2 ص37 والثقات ج1 ص264
وحبيب السير ج1 ص359 وزاد المعاد ج2 ص112 والمحافل ج1 ص245 و
246 وشرحه للأشخر اليمني ج1 ص245 والمواهب اللدنية ج1 ص79 عن
ابن عبد البر في التمهيد، وجزم به في الإستذكار، وسبقه إليه
ابن سعد، وابن حبان، والجامع للقيرواني ص283 والتنبيه والإشراف
ص216 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص506 ووفاء الوفاء ج1 ص300
والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص267 والدر المنثور ج2 ص67 عن ابن
مردويه، والبيهقي، وغير ذلك كثير.. وعدد ممن ذكرنا كالواقدي
وغيره قد نص على: أن هذه القضية كانت في غزوة المريسيع.
([4])
راجع: المواهب اللدنية ج1 ص109 وتاريخ الخميس ج1 ص473 ووفاء
الوفاء ج1 ص314 وإرشاد الساري ج1 ص365 وفتح الباري ج1 ص365.
([5])
تاريخ الخميس ج1 ص473 والمواهب اللدنية ج1 ص109.
([6])
مغازي الواقدي ج2 ص426 و 427.
([7])
المواهب اللدنية ج1 ص109.
([8])
المواهب اللدنية ج1 ص109 وتاريخ الخميس ج1 ص473.
([9])
شرح بهجة المحافل ج1 ص246.
([10])
المواهب اللدنية ج1 ص109 وتاريخ الخميس ج1 ص473 وشرح بهجة
المحافل للأشخر اليمني ج1 ص246.
([11])
تاريخ الخميس ج1 ص473 والمواهب اللدنية ج1 ص109، وراجع: شرح
بهجة المحافل للأشخر اليمني ج1 ص246.
([12])
تاريخ الخميس ج1 ص473 عن خلاصة الوفاء، وشرح بهجة المحافل ج1
ص246.
([13])
شرح بهجة المحافل ج1 ص246.
([14])
شرح بهجة المحافل ج1 ص246.
([15])
الدر المنثور ج2 ص167.
([16])
راجع البخاري في تفسير سورة المائدة.
([17])
المواهب اللدنية ج1 ص109 وفتح الباري ج1 ص368 وتاريخ الخميس ج1
ص474.
([18])
تاريخ الخميس ج1 ص473 والمواهب اللدنية ج1 ص109.
([19])
السيرة الحلبية ج2 ص309 والدر المنثور ج2 ص165 عن الطبراني في
سننه ومعجمه، والضياء في المختارة، والبيهقي في سننه،
والبارودي في الصحابة، وأبي نعيم في المعرفة، والطحاوي في مشكل
الآثار، والقاضي إسماعيل في الأحكام، والحسن بن سفيان في
مسنده، وعبد بن حميد، والدارقطني، وابن سعد، وابن جرير،
والبغوي.
([20])
الدر المنثور ج2 ص166، عن ابن جرير.
([21])
الدر المنثور ج2 ص166 عن ابن المنذر، وابن أبي حاتم..
([22])
الدر المنثور ج2 ص166 عن ابن المنذر، وابن أبي شيبة، وابن أبي
حاتم، وعبد بن حميد، والبيهقي عن ابن عباس..
|