إستدراكات لا بد منها
وبعد..
فإننا لا ندَّعي أننا قد استقصينا الكلام في السيرة النبوية الشريفة،
أو أننا وفينا ما أوردناه منها حقه..
وشاهدنا على ذلك، نفس عقدنا لهذا الفصل، الذي أردنا أن
نورد فيه بعض ما فاتنا إلحاقه بمواضعه المناسبة، وهو أربعة مباحث هي
التالية:
1 ـ
ووجدك ضالاً فهدى.
2 ـ
شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد.
3 ـ
لماذا ولد علي «عليه السلام» في الكعبة؟!
4 ـ
أهل الكتاب ليس عندهم علم الكتاب.
مع اعتذارنا من القارئ الكريم على هذا الخلل، الذي قد
لا يروق له.. فإلى ما يلي من استدراكات، وما تضمنته من مطالب.
هناك سؤال لا يزال يطرح حول المراد من قوله تعالى:
{أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ
عَائِلاً فَأَغْنَى}([1]).
فمتى كان النبي «صلى الله عليه وآله» ضالاً فهداه الله
تعالى؟! وهل يصح القول بأنه قد كان ضالاً قبل بعثته، ثم هداه الله
تعالى بالبعثة؟!
الجواب:
قال تعالى:
{أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ
عَائِلاً فَأَغْنَى}.
هذه ثلاث آيات، تضمنت إحداها، وهي الوسطى ذكر هذه
الحقيقة، التي تحتاج إلى بعض التوضيح، والبيان، والإجابة على السؤال
المتقدم تستدعي الحديث عن كل آية منها على حدة، وقد آثرنا البدء
بالحديث عن الآية الأولى، ثم الثالثة، ثم عدنا إلى الحديث عن الثانية
التي هي مورد السؤال.. لأن طبيعة البيان الذي توخيناه اقتضت ذلك.
فجاء الحديث كما يلي:
أولاً:
بالنسبة لقوله تعالى:
{أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى}.
نقول:
إن ظاهر هذه الآية المباركة:
1 ـ
أن الله تعالى قد وجد نبيه «صلى الله عليه وآله»
يتيماً.
2 ـ
إنه بمجرد أن وجده كذلك آواه.
ونحن نتحدث عن هذين الأمرين هنا، فنقول:
أما بالنسبة لوجدان الله تعالى للنبي «صلى الله عليه
وآله» يتيماً، فنقول:
إن من الواضح:
أن وجدان الله سبحانه لأمر، يختلف عن وجداننا نحن له.. فإن الوجدان
بالنسبة إلينا إنما يكون بعد الفقدان. حيث يكون الشيء غائباً عنا، ثم
نجده..
وأما بالنسبة لإيواء الله تعالى لنبيه «صلى الله عليه
وآله» بمجرد أن وجده يتيماً، فإنه تعالى لا يغيب عنه شيء، بل كل شيء
حاضر لديه، منذ أن أوجده. فلا فصل بين وجود الشيء، وبين وجدان الله
تعالى له..
وبعبارة أخرى:
إن التقدم تارة يكون من قبيل تقدم الصباح على المساء، أو تقدم ولادة
الوالد على ولادة ولده..
وتارة يكون من قبيل تقدم حركة اليد على حركة المفتاح
حينما يدار في قفل الباب. فإن التفريق والسبق بين الحركتين في هذه
الصورة، إنما هو في الذهن. وليس زمانياً..
وتقدم وجود الشيء على وجدان الله تعالى له من هذا
القبيل، فإن الله تعالى حين أمات عبد الله والد الرسول، قد وجد رسول
الله «صلى الله عليه وآله» يتيماً. ولم يغب عنه في أي ظرف أو حال.
فلا يوجد أي فصل زماني بين هذين الأمرين.
فهو على حد قوله تعالى:
{ثُمَّ
بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا
أَمَداً}([2]).
وقوله تعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ}([3]).
أي ليتجسد ذلك على صفحة الوجود، ليكون وجوده العيني عين
وجوده العلمي.. وإن اختلفا من حيث التحليل العقلي، فيما.يرتبط بالإدراك
والتعقل بالنسبة لنا.
وكذلك الحال في الإيواء في قوله تعالى:
{أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى}.
فإنه قد جاء مصاحباً لوجدان الله تعالى له يتيماً. فلم يتركه سبحانه،
مدة ثم آواه..
وذلك لأنه تعالى قد عبر هنا بالفاء الدالة على التعقيب
بلا فصل، فقال:
{فَآوَى}.
لا بكلمة «ثم» الدالة على التعقيب مع المهلة.. فلم يقل «ثم» (آوَى).
ثانياً:
بالنسبة لقوله تعالى:
{وَوَجَدَكَ
عَائِلاً فَأَغْنَى}.
نقول:
المراد بالعائل:
الفقير ذو العيلة من غير جدة.. في إشارة إلى تنوع الحاجات، وإلى عظم
المسؤوليات الملقاة على عاتقه «صلى الله عليه وآله» سواء فيما يرتبط
بنفسه، أو فيما يرتبط بالآخرين. وخصوصاً مسؤوليات هداية البشر منذ خلق
الله آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام..
وقد ذكرت هذه الآية المباركة:
أن الله تعالى قد وجد نبيه عائلاً محتاجاً إلى النعم والألطاف، والعون.
سواء في ذلك ما يرجع لنفسه أو لغيره([4])،
من خلاله.. فأفاض عليه منها ما يليق بمقامه الأسمى والأقدس. وما يناسب
حاجته، وموقعه، ومسؤولياته في جميع مراحل وجوده، حتى حينما كان نوراً
معلقاً بالعرش.
ولسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأنه تعالى قد وجده،
واطلع على حاجاته وعلى فقره على كونه عائلاً، بمجرد حدوثها، ولم يغب
عنه ذلك لحظة واحدة.
ثم أفاض تعالى نعمه عليه بمجرد وجدانه كذلك، ومن دون أي
فصل زماني، أو مهلة، وذلك من خلال التعبير بالفاء الدالة على التعقيب
بلا فصل في قوله:
{فَأَغْنَى}،
ولم يأت بـ «ثم» الدالة على التعقيب مع المهلة، فلم يقل: «ثم»
(أَغْنَى)..
ثالثاً:
بالنسبة لقوله تعالى:
{وَوَجَدَكَ
ضَالاً فَهَدَى}.
نقول:
إنه تعالى بمجرد أن خلق نبيه روحاً أولاً، ثم روحاً
وجسداً تالياً قد وجده في جميع مراحل وجوده محتاجاً إلى أنواع كثيرة من
الهدايات، فأفاضها عليه مباشرة، ومنذ اللحظة الأولى، وبلا مهلة، كما دل
عليه التعبير بالفاء في قوله:
{فَهَدَى}
حيث لم يقل: «ثم» (هَدَى)..
فأعطاه الهداية التكوينية، بمجرد ظهور حاجته إلى هذه
الهداية..
وأعطاه أيضاً هداية الفطرة..
وأعطاه هداية العقل..
وأعطاه هداية التشريع والإلهام والوحي..
وأعطاه هداية الحكمة..
ويتجلى أثر هذه الهدايات في موقع الحاجة في نطاق سعيه
الدائب، وتطلبه المستمر للوصول إلى مواضع القرب، والحصول على مواقع
الزلفى..
فاتضح أنه تعالى يجد حاجة نبيه إلى الهداية من دون حاجة
إلى الزمان، لأنه لا يمكن أن يغيب عنه تعالى شيء.. ثم هو يفيض الهدايات
عليه مباشرة أيضاً، وبلا فصل ولا مهلة. فذلك يعني أن الله سبحانه قد
منحه هداية لم يسبقها ضلال، ولو للحظة واحدة.
ويكون هذا الترتيب البياني بين الضلال والهدى، لا
يستبطن التدرج في الوجود الخارجي، بمعنى أن يتجسد ضلال، ثم تأتي
الهداية فتزيله..
بل هو ترتيب قد جاء في دائرة تمكين الناس من إدراك معنى
الهدايات، والنعم، والتفضلات الإلهية على النبي الأقدس «صلى الله عليه
وآله»..
أي أنه ترتيب نشأ عن السعي الذهني إلى التجزئة بين
المدركات، وتلمُّس الحدود القائمة فيما بينها، بالإستناد إلى التحليل
العقلي، بهدف تيسير إدراك الحقائق بصورة أعمق وأتم.
وهكذا.. فإنه بإمكاننا بعد هذا البيان أن نقول:
إن هذه الآية المباركة هي أحد الأدلة الظاهرة على أن
الله سبحانه منذ خلق نبينا الأعظم «صلى الله عليه وآله» كان قد أعطاه
جميع الهدايات التي يحتاجها، والتي توصله إلى الغايات الإلهية.. ولا بد
أن يكون من بينها هداية الإلهام والوحي والتشريع وغيرها. وذلك هو ما
يفرضه إطلاق قوله تعالى:
{فَهَدَى}.
بل ربما يحاول البعض استفادة ذلك أيضاً من قوله تعالى،
خطاباً للمشركين
{مَا
ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ
هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى}([5]).
من حيث أن الآية قد نفت عنه «صلى الله عليه وآله» الضلال مطلقاً، وفي
مختلف الحالات والأزمان.
وذلك يؤكد لنا:
أنه «صلى الله عليه وآله» كان نبياً منذ ولد([6]).
بل كان نبياً وآدم بين الماء والطين أو بين الماء
والجسد([7]).
كما دلت عليه الروايات الشريفة.
وبذلك نستطيع أن نفهم بعمق الإشارة الخفية، التي
تضمنتها كلمات أمير المؤمنين «عليه السلام» في نهج البلاغة، حيث يقول:
«.. ولقد قرن الله به «صلى الله عليه وآله» من لدن أن
كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق
العالم، ليله ونهاره!!.»([8]).
ولا بد من لفت النظر إلى التنصيص على واقع هذا الملك
الذي قرنه الله سبحانه وتعالى، برسوله حيث وصفه «عليه السلام» بأنه
أعظم ملائكته في إشارة منه «عليه السلام» إلى أن هذه المهمة قد بلغت في
أهميتها وخطرها حداً جعلت من هذا الإختيار ضرورة لا بد منها.
وأن هذه الضرورة قد فرضت نفسها في وقت مبكر من حياته
«صلى الله عليه وآله»، أي منذ كان «عليه السلام» فطيماً.
وبعد ما تقدم نقول:
إن من يراجع الآيات القرآنية يجد: أنها في بياناتها لبعض القضايا
الحساسة تعتمد أسلوباً مميزاً وفريداً، من حيث أنها تورد الحديث عن تلك
القضايا بطريقة يحتاج معها نيل تلك المعاني إلى الخروج من حالة الغفلة
والاسترخاء الفكري، لكي يتمكن من تلمُّس تلك الإشارات القوية حين تضطره
إلى استنفار كل قواه العقلية، وتفرض عليه مستوى من التعمق، والإحاطة
الواعية بدقائق وحقائق مختلفة، ونيل معانٍ عالية ودقيقة، تعطيه درجة من
المناعة والحصانة عن التأثر بالشبهات، التي تجد فرصتها في حالات الغفلة
والسطحية، والإستسلام البريء.
إنه تعالى يريد للإنسان أن يأخذ الفكرة بوعي، وبعمق،
وشمولية، وبحساسية فائقة، لتخرج ـ من ثم ـ عن مستوى التصور، وتدخل في
دائرة التصديق واليقين المستند إلى البرهان.
ولتتغلغل ـ من ثم ـ في قلب الإنسان، وتصبح فكره،
وعقيدته، ووجدانه، وضميره. ويكون ذلك هو الضمانة القوية، والحصن
الحصين.
قد يسأل سائل ويقول:
هل هناك أدلة صحيحة السند على حادثة شق الكعبة لفاطمة
بنت أسد لكي تلد أمير المؤمنين
«عليه
السلام»
فيها؟!
ونجيب:
بأنه لا شك في ولادة علي
«عليه
السلام»
في الكعبة، لأن الإجماع قائم على ذلك كما صرح به الحاكم في المستدرك
وغيره.
واللافت هنا:
أن حديث شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد «رضوان الله تعالى عليها»، لتضع
مولودها في داخلها، قد روي عن أناس حارب بعضهم علياً «عليه السلام»،
وسعى إلى قتله، أو كان يكرهه، ولا يرضى بالإقرار بفضيلة له..
فقد رواه:
سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عائشة([9]).
ورواه:
أبو داود، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن عباس
بن عبد المطلب([10]).
ورواه:
ابن شاذان، عن إبراهيم، بإسناده عن جعفر بن محمد «عليه
السلام»([11]).
ورواه:
الحسن بن محبوب عن الإمام الصادق «عليه السلام»([12]).
ورواه:
علي بن أحمد الدقاق، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي،
عن موسى بن عمران النخعي، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن الحسن بن علي
بن أبي حمزة، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس([13]).
ورواه:
علي بن أحمد الدقاق، عن محمد بن جعفر الأسدي، عن موسى
بن عمران، عن النوفلي، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن ثابت بن
دينار، عن ابن جبير، عن يزيد بن قعنب([14]).
فظهر مما تقدم:
أن أكثر الذين رووا هذه القضية هم من غير الشيعة، بل
فيهم من عرف بعدائه لعلي «عليه السلام»، وبغضه له.
وظهر أيضاً:
أن الرواية به مستفيضة..
وظهر:
أن هذه الرواية قد جاءت عن:
1 ـ
عائشة بنت أبي بكر.
2 ـ
العباس بن عبد المطلب.
3 ـ
عبد الله بن عباس.
4 ـ
يزيد بن قعنب.
5 ـ
الإمام جعفر الصادق «عليه السلام».
فإذا أخذنا بقول الزرقاني الذي صرح
بأن:
«من القواعد: أن تعدد الطرق يفيد: أن للحديث أصلاً»([15]).
وقول الخفاجي عن حديث رد الشمس:
«إن تعدد طرقه شاهد صدق على صحته»([16]).
وإذا أخذنا بقاعدة:
«والفضل ما شهدت به الأعداء».
حتى إن عائشة لم تكن تطيب نفسها بذكر علي
«عليه
السلام»
بخير أبداً..
وإذا أكدنا ذلك بوجود أثر هذا الشق في جدار الكعبة إلى
يومنا هذا، وقد جهدوا ليخفوه، فلم يمكنهم ذلك..
نعم..
إننا إذا أخذنا بذلك كله، فلماذا لا نأخذ بهذه الرواية
أيضاً؟!
بل إنه حتى لو كان رواة حديث مَّا ينسبون للكذب والوضع،
فإن ذلك لا يعني أن لا تصدر عنهم كلمة صدق أصلاً.
بل قد يكون الصدق هو الغالب عليهم، ولولا ذلك لما
استطاعوا التسويق للأمر الذي كذبوا فيه.
والحاصل:
أن الكاذب قد يقول الصدق، والوضَّاع قد يعترف بالحق، مع
أن الأمر في رواة هذه الحادثة ليس كذلك كما يُعلم بالمراجعة..
وهناك سؤال يقول:
كيف نستطيع أن نفسر اختصاص أمير المؤمنين «عليه
السلام»، بكرامة الولادة في الكعبة، دون رسول الله «صلى الله عليه
وآله»؟!
ونقول في جوابه ما يلي:
إننا قبل كل شيء، نحب التذكير بأن بين النبوة والإمامة،
والنبي والإمام، فرقاً، فيما يرتبط بترتيب الأحكام الظاهرية على من
يؤمن بذلك وينكر، ومن يتيقن ويشك، ومن يحب ويبغض..
فأما بالنسبة للنبوة والنبي «صلى الله عليه وآله»، فإن
أدنى شك أو شبهة بها، وكذلك أدنى ريب في الرسول «صلى الله عليه وآله»
يوجب الكفر والخروج من الدين، كما أن بغض الرسول «صلى الله عليه وآله»
بأي مرتبة كان، يخرج الإنسان من الإسلام واقعاً، وتلحقه وتترتب عليه
أحكام الكفر، في مرحلة الظاهر أيضاً، فيحكم عليه بالنجاسة، وبأنه لا
يرث من المسلم، وبغير ذلك..
وأما الإمامة والإمام «عليه السلام»، فإن الحكمة،
والرحمة الإلهية، وحب الله تعالى للناس، ورفقه بهم، قد اقتضى: أن لا
تترتب الأحكام الظاهرية على من أنكر الإمامة، أو شك فيها، أو في الإمام
«عليه السلام»، أو قصر في حبه.. ولكن بشرطين..
أحدهما:
أن يكون ذلك الإنكار، أو الشك، أو التقصير ناشئاً عن
شبهة، إذ مع اليقين بثبوت النص أو في دلالته، يكون المنكر أو الشاك
مكذباً لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، راداً على الله سبحانه، ومن
كان كذلك فهو كافر جزماً..
الثاني:
أن لا يكون معلناً ببغض الإمام، ناصباً العداء له، لأن
الناصب حكمه حكم الكافر أيضاً..
النبي
لا يقتل أحداً؛ لماذا؟
وبعدما تقدم نقول:
لا ريب في أن قيام الإسلام وحفظه يحتاج إلى جهاد
وتضحيات، وأن في الجهاد قتل ويتم، ومصائب ومصاعب، ولم يكن يمكن لرسول
الله أن يتولى بنفسه كسر شوكة الشرك، وقتل فراعنته وصناديده.. لأن ذلك
يوجب أن ينصب الحقد عليه، وأن تمتلئ نفوس ذوي القتلى ومحبيهم، ومن يرون
أنفسهم في موقع المهزوم بغضاً له، وحنقاً عليه..
وهذا يؤدي إلى حرمان هؤلاء من فرصة الفوز بالتشرف
بالإسلام، وسيؤثر ذلك على تمكّن بنيهم، وسائر ذويهم ومحبيهم من ذلك
أيضاً.. فقضت الرحمة الإلهية أن يتولى مناجزتهم من هو كنفس الرسول «صلى
الله عليه وآله»، الذي يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ألا وهو
أمير المؤمنين «عليه السلام»..
واقتضت هذه الرحمة أيضاً رفع بعض الأحكام الظاهرية ـ
دون الواقعية ـ المرتبطة بحبه وبغضه، وبأمر إمامته «عليه السلام»،
تسهيلاً من الله على الناس، ورفقاً بهم ـ رفعها ـ عن منكر امامته «عليه
السلام»، وعن المقصر في حبه، ولكن بالشرطين المتقدمين وهما: وجود
الشبهة وعدم نصب العداء له، لأنه مع عدم الشبهة يكون من قبيل تعمد
تكذيب الرسول «صلى الله عليه وآله»، ومع نصب العداء يتحقق التمرد والرد
على الله سبحانه، كما قلنا..
ثم إن معالجة قضايا الحب والبغض، والرضا والغضب،
والإنفعالات النفسية، تحتاج إلى اتصال بالروح، وبالوجدان، وإلى إيقاظ
الضمير، وإثارة العاطفة، بالإضافة إلى زيادة البصيرة في الدين، وترسيخ
اليقين بحقائقه..
وهذا بالذات هو ما يتراءى لنا في مفردات السياسة
الإلهية، في معالجة الأحقاد التي علم الله سبحانه: أنها سوف تنشأ، وقد
نشأت بالفعل، كنتيجة لجهاد الإمام علي «عليه السلام»، في سبيل هذا
الدين..
ونحن نعتقد:
أن قضية ولادة الإمام علي «عليه السلام» في جوف الكعبة، واحدة من
مفردات هذه السياسة الربانية، الحكيمة، والرائعة..
ولادة علي
في
الكعبة صنع الله:
ويمكن توضيح ذلك بأن نقول:
إن ولادته «عليه السلام»، في الكعبة المشرفة، أمر صنعه
الله تعالى له، لأنه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأمة، وسبباً من
أسباب هدايتها.. وهي ليست أمراً صنعه الإمام علي «عليه السلام» لنفسه،
ولا هي مما سعى إليه الآخرون، ليمكن اتهامهم بأنهم يدبرون لأمر قد لا
يكون لهم الحق به، أو التأييد لمفهوم اعتقادي، أو لواقع سياسي، أو
الانتصار لجهة أو لفريق بعينه، في صراع ديني، أو اجتماعي، أو غيره..
ويلاحظ:
أن الله تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته «عليه السلام» حين دخلت، وحين
خرجت، بعد أن وضعته في جوف الكعبة ـ وقد جرى هذا الصنع الإلهي له ـ حيث
كان «عليه السلام» لايزال في طور الخلق والنشوء في هذا العالم الجديد..
ليدل دلالة واضحة على اصطفائه تعالى له، وعنايته به..
وذلك من شأنه أن يجعل أمر الاهتداء إلى نور ولايته
أيسر، ويكون الإنسان في إمامته أبصر..
ويتأكد هذا الأمر بالنسبة لأولئك الذي سوف تترك لمسات
ذباب سيفه «ذي الفقار» آثارها في أعناق المستكبرين والطغاة من إخوانهم،
وآبائهم، وعشائرهم، أو من لهم بهم صلة أو رابطة من أي نوع..
إن هذا الرصيد الوجداني، الذي هيأ الله لهم ليختزنوه في
قلوبهم وعقولهم من خلال النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد فضل علي
«عليه السلام» وإمامته، ثم جاء الواقع العلمي ليعطيها المزيد من الرسوخ
والتجذر في قلوبهم وعقولهم من خلال مشاهداتهم، ووقوفهم على ما جاء الله
به من ألطاف إلهية به، وإحساسهم بعمق وجدانهم بأنه وليد مبارك، وبأنه
من صفوة خلق الله ومن عباده المخلصين، أن ذلك سيجعلهم يدركون: أنه
«عليه السلام»، لا يريد بما بذله من جهد، وجهاد في مسيرة الإسلام، إلا
رضا الله سبحانه، وإلا حفظ مسيرة الحياة الإنسانية، على حالة السلامة،
وفي خط الاعتدال.. لأنها مسيرة سيكون جميع الناس ـ بدون استثناء ـ
عناصر فاعلة ومؤثرة فيها، ومتأثرة بها..
وبذلك يصبح الذين يريدون الكون في موقع المخاصم له
«عليه السلام»، أو المؤلب عليه، أمام صراع مع النفس ومع الوجدان،
والضمير، وسيرون أنهم حين يحاربونه إنما يحاربون الله ورسوله.. ويسعون
في هدم ما شيده للدين من أركان، وما أقامه من أجل سعادتهم، وسلامة
حياتهم، من بنيان..
ولادة علي
في
الكعبة لطف بالأمة:
فولادة الإمام علي «عليه السلام»، في الكعبة المشرفة،
لطف، بالأمة بأسرها، حتى بأولئك الذين وترهم الإسلام، وسبيل هداية لهم
ولها، وسبب انضباط وجداني، ومعدن خير وصلاح، ينتج الإيمان، والعمل
الصالح، ويكف من يستجيب لنداء الوجدان، عن الامعان في الطغيان،
والعدوان، وعن الانسياق وراء الأهواء، والعواطف، من دون تأمل وتدبر..
وغني عن البيان، أن مقام الإمام علي «عليه السلام»
وفضله، أعظم وأجل من أن تكون ولادته «عليه السلام»، في الكعبة سبباً أو
منشأ لإعطاء المقام والشرف له.. بل الكعبة هي التي تتشرف به وتعتز،
وتزيد قداستها، وتتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات الله وسلامه عليه..
وأما رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فإن معجزته
الظاهرة التي تهدي الناس إلى الله تعالى، وصفاته، وإلى النبوة وتدلهم
على النبي، وتؤكد صدقه، وتلزم بالإيـمان به، وتأخـذ بيدهم إلى التسليم
باليوم الآخر ـ إن هذه المعجزة ـ هي هذا القرآن العظيم، الذي يهدي إلى
الرشد من أراده، والذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب والعقول
أولاً، من باب الاستدلال، والانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق.. من
دون تأثر بالعاطفة، وبعيداً عن احتمالات الإنبهار بأية مؤثرات أخرى
مهما كانت..
إذ إن القضية هي قضية إيمان وكفر، وحق وباطل، لا بد
لإدراكهما من الكون على حالة من الصفاء والنقاء، وتفريغ القلب من أي
داع آخر، قد يكون سبباً في التساهل في رصد الحقيقة، أو في التعامل مع
وسائل الحصول عليها، والوصول إليها..
فالله لا يريد أن تكون مظاهر الكرامة، سبباً في إعاقة
العقل عن دوره الأصيل في إدراك الحق، وفي تحديد حدوده، وتَلَمُّس
دقائقه، وحقائقه والتبيُّن لها إلى حد تصير معه أوضح من الشمس، وأبين
من الأمس..
ولذلك فإن الله تعالى لم يصنع لرسوله، ما يدعوهم إلى
تقديسه كشخص، ولا ربط الناس به قبل بعثته بما هو فرد بعينه، لا بد لهم
من الخضوع والبخوع له، وتمجيد مقامه، لأن هذا قد لا يكون هو الأسلوب
الأمثل، ولا الطريقة الفضلى، في سياسية الهداية الإلهية إلى الأمور
الإعتقادية، التي هي أساس الدين، والتي تحتاج إلى تفريغ النفس، وإعطاء
الدور، كل الدور، للدليل وللبرهان، وللآيات والبينات، وإلى أن يكون
التعاطي مع الآيات والدلائل بسلامة تامة، وبوعي كامل، وتأمل عميق،
وملاحظة دقيقة..
وهذا هو ما نلاحظه في إثارات الآيات القرآنية لقضايا
الإيمان الكبرى، خصوصاً تلك التي نزلت في الفترة المكية للدعوة. فإنها
إثارات جاءت بالغة الدقة، رائعة في دلالاتها وبياناتها، التي تضع العقل
والفطرة أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن القفز عنه، إلا بتعطيل دورهما،
وإسقاط سلطانهما، لمصلحة سلطان الهوى، ونزوات الشهوات، والغرائز..
وهذا الذي قلناه، لا ينسحب ولا يشمل إظهار المعجزات
والآيات الدالة على الرسولية، وعلى النبوة، فإنها آيات يستطيع العقل أن
يتخذ منها وسائل وأدوات ترشده إلى الحق، وتوصله إليه.. وتضع يده عليه..
وليست هي فوق العقل، ولا هي من موجبات تعطيله، أو اضعافه.
وثمة سؤال يوردُهُ البعض، مفادُهُ:
أنهُ لا يصح أن يكون المراد بمن عندَهُ علم
الكتاب في قوله تعالى:
{قُلْ
كَفَى بِاللَهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ}([17])
علياً «عليه السلام»، لأن علياً «عليه السلام» قد آمن بالنبي «صلى الله
عليه وآله» وهو بالتالي
طرفٌ في النزاع بين النبي «صلى الله عليه وآله»
والمشركين.
فلا يعقل أن يحيل النبي «صلى الله عليه وآله» المشركين
إلى علي «عليه السلام» وأن يستشهد
بهِ على صدق نبوة نفسه «صلى الله عليه وآله»،
لأنهم لن يقبلوا شهادتَهُ.
فكيف يأمره الله تعالى بأن يجعَلُهُ «صلى الله عليه
وآله» شهيداً بينه وبين أهل الكتاب؟! والحال أن رفعهم لشهادته أمر
بديهي، وقد كان النبي «صلى الله عليه وآله» يعلم ذلك
أيضاً؟
أليس
ذلك من قبيل الإحالة على محال؟
ومع
صحة هذا الإشكال العقلي، تسقط كل الروايات التي تفسر
منْ عندَهُ علم
الكتاب بعلي «عليه السلام».
ونقول في الجواب:
أولاً:
إن الروايات المتواترة، وكثير منها صحيح السند قد دلت على أن المقصود
بـ
{مَنْ
عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}
أمير المؤمنين علي، والأئمة من ذريته عليه وعليهم السلام. وهي تقطع
دابر كل تخرص ورجم بالغيب في هذا المجال؛ فإنهم «عليهم السلام» عدل
القرآن، وأحد الثقلين اللذين أمرنا الله بالتمسك بهما.
ولا يمكن تكذيب هذا العدد الكبير من الروايات الصحيحة،
فكيف إذا كانت متواترة من طرق الشيعة.. كما أنها مروية من طرق أهل
السنة..
ونذكر من هذه الروايات ثلاثاً فقط، هي التالية:
1 ـ
عن أبي عبد الله «عليه السلام»، قال: الذي عنده علم
الكتاب هو أمير المؤمنين «عليه السلام».
وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب، أعلم؟! أم الذي عنده
علم الكتاب؟!
فقال:
ما كان علم الذي كان عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا
بقدر ما تأخذ البعوضة من ماء البحر..([18]).
2 ـ
وعن الإمام الباقر «عليه السلام» في تفسير الآية: إيانا عنى، وعلي
أولنا، وأفضلنا، وخيرنا بعد النبي «صلى الله عليه وآله»([19]).
3 ـ
وعن ابن بكير، عن أبي عبد الله «عليه السلام»، قال: كنت عنده، فذكروا
سليمان وما أعطي من العلم، وما أوتي من الملك.
فقال لي:
وما أعطي سليمان بن داود؟ إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم،
وصاحبكم الذي قال الله تعالى:
{قُلْ
كَفَى بِاللَهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ}([20]).
وكان ـ والله ـ عند علي «عليه السلام»، علم الكتاب.
فقلت:
صدقت والله جعلت فداك([21]).
فإذا جاء الخبر اليقين المتواتر عنهم «عليهم السلام»،
وكان عدد كثير منه صحيح السند، فلا بد من البخوع له والانتهاء إليه،
وليس لأحد ـ بعد ثبوته ـ أم يثير الشكوك بكلامهم. استناداً إلى حدسيات
وآراء الرجال.. بل لا بد أن تزول الشبهة بكلامهم صلوات الله وسلامه
عليهم.. ورحم الله امرءاً عرف حده فوقف عنده.
ثانياً:
إن الآية نفسها تكاد تكون صريحة في أن المقصود لا يمكن أن يكون غير علي
«عليه السلام»، لا عبد الله بن سلام، ولا غيره من أهل الكتاب.
وحيث إن هناك سعياً حثيثاً من قبل البعض لصرف الآية عن
أمير المؤمنين «عليه السلام»، وتخصيصها بعبد الله بن سلام اليهودي، فلا
بد لنا من توجيه الكلام بحيث يحسم مادة النزاع في هذا الأمر، فنقول:
إن الآية التي هي مورد البحث تقول:
{وَيَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَهِ شَهِيداً
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}([22]).
ونحن في سياق بيان ما نرمي إليه نشير إلى عدة نقاط
ترتبط بهذه الآية الشريفة..
فنقول:
1 ـ
إن الشاهد بين النبي «صلى الله عليه وآله»، وبين الذين كفروا، إن كان
من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول، وينكرون نبوته، فإن شهادته لا
تجعلهم يعترفون بالحق، بل هم سوف يغتنمونها فرصة لإسقاط دعوته وتضعيف
أمره..
وليس لنا أن نتوقع منهم أن يبادروا إلى إبطال دينهم،
وإثبات حقانية هذا الدين الجديد الذي يعارضه، ويناقضه، وينفيه..
وإن كان الشاهد هو عبد الله بن سلام بعد إسلامه، فمن
جهة، ليس ثمة ما يطمئن ـ بحسب العادة ـ إلى أن ابن سلام سوف يقول
الصدق، ولا يكتم الشهادة، فقد تدفعه أهواؤه إلى ذلك، فإنه ليس بمعصوم.
بل إن الوقائع التي رافقت حياة هذا الرجل بعد إسلامه قد
أثبتت أنه لم يكن وفياً للحق، بل اتبع هواه، وعاند الإمام الحق، واتبع
سبيل الذين لا يعلمون..
كما أن أهل الكتاب قد كتموا الشهادة بالحق لرسول الله
«صلى الله عليه وآله»، في غير هذا المورد، وقد تحدث الله عنهم في ذلك،
وأنبهم عليه، واتهمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فراجع تفسير قوله
تعالى:
{قُلْ
فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}([23]).
وقوله تعالى:
{مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}([24]).
فمن كان كذلك كيف تجعل شهادته عدلاً لشهادة الله
وشهيديته؟!
وكيف يسجل ذلك في القرآن ليقرأه الناس وليستفيدوا منه
خلفاً عن سلف؟!..
ألا يعد هذا من الإغراء للناس بما لا يصح الإغراء به؟
بل إن إصرار أهل الكتاب على البقاء على دينهم في هذه
الحال لهو من أعظم مظاهر كتمان الشهادة بالحق، كما هو ظاهر لا يخفى..
مع أن سياق الآية والتعبير بكفى، وجعل شهيدية العالم
بالكتاب مقرونة بشهيدية الله تعالى يفيد: أن هناك ضمانة حقيقية،
وطمأنينة شديدة إلى أمانة الشاهد وصدقه، وأنه لن يكتم الشهادة فضلاً عن
أنه لن يشهد إلا بالحق والصدق، لا على سبيل الإعجاز في الإخبار عن
الغيب، ولا على سبيل الإعجاز بإجبار ابن سلام على ذلك تكويناً.
بل الأمر يجري وفق السنن، من حيث أنه يستند إلى أن
الشاهد هو ذلك الإنسان العالم بمواطن الحق والباطل، المعصوم عن أن
ينقاد لهواه، وعن أن ينساق مع تيار الإنحراف، في أي من الظروف
والأحوال..
2 ـ
إن الحديث إنما هو مع المشركين والكفار، وهم كما لا يعترفون برسول الله
«صلى الله عليه وآله» فإنهم لا يعترفون أيضاً باليهود، وإلا لكانوا
تابعوهم، ودخلوا معهم في دينهم، فما معنى إلزامهم بشهادة ابن سلام الذي
كان يهودياً فأسلم. وهم يخطئونه في ذلك ويضللونه؟!
وما معنى أن تقرن شهادة اليهود بشهادة الله سبحانه، في
مقام التحدي؟!
3 ـ
إنه بعد أن دخل ابن سلام في الإسلام لم يعد هناك أي فرق بنظر الكفار
بينه وبين علي «عليه السلام»، فهذا خصم لهم مدع عليهم، وذاك أيضاً كذلك
بنظرهم..
4 ـ
إن الآية قد تحدثت عن الشهيد، لا عن الشاهد.. والتعبير الطبيعي عن الذي
يؤدي الشهادة في موارد الترافع والاختلاف هو كلمة «شاهد»، فيقال فلان
شاهد، لا شهيد، التي هي من صيغ المبالغة..
5 ـ
أضف إلى ما تقدم: أنه لا يقال ـ في العادة ـ: فلان شاهد بيني وبينكم،
بل يقال فلان شاهد على فلان، أو شاهد على الأمر.
وقد ذكر بعضهم:
أنه يمكن أن يكون التعبير بكلمة
{بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ}
للإشارة إلى توسط الشاهد بين الطرفين، وتساويهما عنده بحيث لا يميل إلى
أحدهما على حساب الآخر. وهذا يعطيه الوثاقة والأمانة والعدالة في
الشهادة، إلى حد أن تصبح شهادته هي الفيصل في الأمر، فيكون شاهداً
حاكماً، قاطعاً للنزاع.
والتعبير بكلمة شهيداً للإلماح إلى شدة اطلاعه وحضوره،
الأمر الذي يحتم إطاعته والقبول منه.
ونقول:
إننا نتفق مع هذا الأخ الكريم، على أن المراد بالشهيدية
هو الحضور المباشر والقوي من حيث شدة انتباهه لما يجري على صفحة
الواقع، وتدقيقه فيه.. ولكننا لا نوافقه على أن المراد بالآية الشهادة
بين متخاصمين على حد الشهادات الأخرى. بل هو شهيدية، وحضور حاكم، وفاصل
للأمر، من دون أن يكون هناك شهادة.
لأن معرفة الصدق، خصوصاً في أمر يتعذر فيه الإطلاع إلى
درجة الحضور، كمجيء جبرئيل «عليه السلام» للرسول «صلى الله عليه وآله»،
أمر غير ميسور للبشر العاديين وذلك معناه أن هذا الشهيد يملك وسائل
عالية جداً، تمكنه من الحضور المباشر حتى في مثل هذه الأمور الخفية
جداً، وذلك لا يتناسب إلا مع ما هو أرقى من هذا الذي نعيشه ونألفه..
وهو شهيدية الإمام، والإمامة التي ستظهر آثارها في يوم القيامة..
وهذا يؤيد ويؤكد المعنى الذي نسوق الكلام إليه.. وهو
أنها شهيدية بمعنى الحضور، لا بمعنى أداء الشهادة.
6 ـ
إن من الواضح: أن الإكتفاء بشهيدية الله، ومن عنده علم الكتاب ليس
معناه أن الذي عنده علم الكتاب سيكون قادراً ـ بما أوتي من علم ـ على
إلزامهم بالحجة، بعد أن عجز الرسول نفسه «صلى الله عليه وآله» عن
إلزامهم بها. بل المراد أن ذلك العالم بالكتاب سيكون هو حجة الرسول
«صلى الله عليه وآله»، عليهم.
7 ـ
ليس في الآية أية إشارة إلى أن المقصود بالكتاب فيها، هو كتاب التوراة
أو الإنجيل، فتطبيق الآية عليهما ما هو إلا تخرص، ورجم بالغيب، ومن دون
مبرر.
بل قد وجدنا في الروايات الواردة عن المعصومين «عليهم
السلام» ما يشير إلى أن المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي يكون للعالم
به القدرة على التأثير في عالم التكوين، والهيمنة على الموجودات، ففي
بعضها ما يدل على أن هذا الكتاب هو نفس الكتاب الذي كان آصف بن برخيا
يعلم بعضه، فتمكن به من الإتيان بعرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس:
{قَالَ
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ
أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً
عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي}([25]).
والمراد بالكتاب:
القرآن.. الذي هو تبيان كل شيء، وقال تعالى:
{مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([26])
فمن كان عنده حقيقته، فإنه سيكون متمكناً ومهيمناً على الأشياء بأعظم
هيمنة. ويمكّن من ذلك أيضاً آصف بن برخيا والأنبياء السابقين لأنهم
إنما يملكون بعضاً من علوم القرآن، وعلي «عليه السلام»، يعرف كل ما في
هذا القرآن.
فالمراد بعلم الكتاب إذن هو ذلك العلم القاهر لهم، الذي
يعطي العالم به السلطة والقدرة على التصرف، وإراءة الخوارق التي تسقط
استكبارهم، وتعرفهم بمدى ضعفهم، وبأنهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا
نفعاً.
8 ـ
وإذا تحقق ذلك، فإن ملاحظة أنه تعالى قد عبر بكلمة
«شهيد» ثم نسبها لله سبحانه، وللعالم بالكتاب في سياق واحد تعطينا: أن
صيغة المبالغة «شهيداً» قد جاءت للتعبير عن الشهادة التي تكون هي الأشد
حضوراً، والأكثر إحاطة وهيمنة وإشرافاً، والأبعد أثراً في التمكين من
الإطلاع على دقائق الأحوال وخفاياها، وعلى كل خصوصياتها وحقائقها
ومزاياها. بحيث تكون ـ بملاحظة تعدد المنكشفات ـ، بمثابة معاينات
ومشاهدات متعددة، ومباشرة حسية لذلك كله..
فتعددها يوجب تعدد المشاهدات والشهادات، فيصح المبالغة
ـ والتكثير ـ بلحاظ ذلك.
ولذلك قال:
«شهيداً».
كما أن نيل حقائقها ووقائعها قد أوصلها إلى درجة
المحسوس المشاهد، حتى لو كانت من الأمور التي لا تنالها الحواس
الظاهرية.
فهل لأحد من أهل الكتاب هذه الإحاطة، وهذا الإشراف ليصح
أن يقال عنه: إنه شهيد، وأن تقرن شهيديته بشهيدية الله تعالى؟!
9 ـ
إن الشهيدية في مورد الآية قد تعلقت بأمر لا تناله الحواس الظاهرة، بل
يعرف بالأدلة العقلية، وبالبصيرة الهادية، وبقضاء الفطرة، والوجدان
المستند إلى الدليل والبرهان ـ حتى لو كان هذا الدليل هو المعجزة ـ في
مقام التحدي.
ونيل العلم بالنبوة لا ينحصر بأهل الكتاب، ولا بعبد
الله بن سلام، بل البشر جميعاً يشاركونهم في ذلك..
ولكن الأمر الذي تحدثت عنه الآية هنا هو شهيدية
بالنبوة، وإشراف على حقائقها ودقائقها، مستند إلى العلم المأخوذ من
الكتاب.. لا إلى العلم من خلال ظهور المعجزات.. مما يعني: أن دلائل هذه
النبوة التي يعاينها ذلك العالم بالكتاب كثيرة جداً.. ومتعددة،
فالشهادة بالنبوة بمثابة شهادات بتلك الدلائل التي نالها ذلك العالم
بعلمه..
10 ـ
كما أن شهيديته لا تكون بمجرد الإعلان بِنَعَم، أو بِلا.. كما هو الحال
في أية شهادة على أمر مختلف فيه.. بل هي شهادة فيها إظهار لخفيات مكّن
العلم بالكتاب من إظهارها. وذلك بطريقة إعجازية..
خصوصاً:
وأن الذين كفروا قد حسموا الأمر، وأعلنوا رفضهم لنبوته «صلى الله عليه
وآله»، بصورة جازمة وقالوا:
{لَسْتَ
مُرْسَلاً}
فلم يكن هناك مجال للحوار، ولا للأخذ والرد معهم..
فجاء هذا الموقف ليواجه عنادهم هذا، وليتحدى غطرستهم
واستكبارهم، وليكون بمثابة وعيد لهم بالانتقام، وبعدم النجاة، ما دام
أن الأمور تعود إلى الله سبحانه، وسيكون من عنده علم الكتاب هو الآخذ
بكظمهم، والمتولي لأمرهم.
فلا غرو إذا قلنا بعد ذلك كله:
إن المقصود بالشهيدية هو مقام الشهادة على الخلق، التي
تختزن معنى الإحاطة والهيمنة، والإشراف التام على كل الحالات
والخصوصيات. والتي قرنت بشاهدية وشهيدية الله سبحانه.. الذي هو مصدر
الفيض والعطاء والتمكين لهذه الشهيدية للعالم بالكتاب المرتبطة به،
والمنتهية إليه أيضاً، لأن علمه به إنما هو بتعليم منه تعالى..
فشهيدية هذا العالم بالكتاب مساوقة لشهيدية الرسول «صلى
الله عليه وآله»:
{وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}([27])
{وَجِئْنَا
بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً}([28])
{لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ}([29]).
ويكون هذا الشهيد معصوماً، لا مجال لاحتمال أي إخلال في
حقه، وقوياً في ذات الله، لا يدعوه إلى كتم الشهادة رغب ولا رهب.
عليم بالحقائق، مطلع على أسرار الكائنات، يمتلك ـ
بتمليك الله سبحانه لـه ـ القدرة على حسم الأمور في الاتجاه الصحيح..
وتكون الآية تتجه إلى ردّ التحدي، والتصدي للإستكبار
وأهله حيث تواجهه وتواجههم بالوعيد الحازم، حيث يتولى الله، ومن عنده
علم الكتاب ـ ومن موقع العلم، والقوة، والقدرة على التصرف ـ مواجهتهم
بما يناسب عنادهم، وجحودهم، واستكبارهم، حيث سيكون علي «عليه السلام»
هو الذي له مقام الشهيدية، وهو المتولي لأمر الصراط، فلا يمر عليه إلا
من عنده جواز من علي «عليه السلام»([30]).
والذي يعطيه علي «عليه السلام» هذا الجواز هو من التزم
الحق، والصدق وتجنب الجحود عن علم، وسمع كلمة الحق. ولم يتول مستكبراً
عنها كأن لم يسمعها..
وستكون معاملة علي «عليه السلام» معهم معاملة العارف
بهم عن مشاهدة ومعاينة، لمكان شهيديته، وإشرافه على الكتاب، وعلمه
ومعرفته الدقيقة بحقائقه ودقائقه، سواء في مجال التشريع أو في التكوين،
والهيمنة على السنن الإلهية.. في سياق العمل على تطبيق السياسة
الربانية في الكون كله، وفي الحياة كلها..
([1])
الآيات 6 ـ 8 من سورة الضحى.
([2])
الآية 12 من سورة الكهف.
([3])
الآية 31 من سورة محمد.
([4])
إن الذي يرجع لنفسه يرجع لغيره أيضا بنحو وبآخر.. فإنه «صلى
الله عليه وآله» أسوة وقدوة، ومثل أعلى، ثم هو ملجأ ووسيلة إلى
الله.. احتاج الأنبياء إليه، وتوسلوا به منذ آدم عليه وعلى
نبينا وآله الصلاة والسلام.. فلا بد أن تتجلى كمالاته ومزاياه
منذئذ..
([5])
الآيات 2 ـ 4 من سورة النجم.
([6])
البحار ج18 ص277 إلى ص281 وقد تقدمت مصادر ذلك.
([7])
راجع: الإحتجاج ج2 ص248 والفضائل لابن شاذان ص34 والبحار ج15
ص353 وج50 ص82 والغدير ج7 ص38 وج9 ص287 ومسند أحمد ج4 ص66 وج5
ص59 و 379 وسنن الترمذي ج5 ص245 ومستدرك الحاكم ج2 ص609 ومجمع
الزوائد ج8 ص223 وتحفة الأحوذي ج7 ص111 وج10 ص56 والمصنف لابن
أبي شيبة ج8 ص438 والآحاد والمثاني ج5 ص347 وكتاب السنة لابن
أبي عاصم ص179 والمعجم الأوسط ج4 ص272 والمعجم الكبير ج12 ص73
وج20 ص353 والجامع الصغير ج2 ص296 وكنز العمال ج11 ص409 و 450
وتذكرة الموضوعات للفتني ص86 وكشف الخفاء ج2 ص129 وخلاصة عبقات
الأنوار ج9 ص264 عن ابن سعد، ومستدرك سفينة البحار ج2 ص392 و
522 عن كتاب النكاح، وعن فيض القدير ج5 ص69 وعن الدر المنثور
ج5 ص184 وفتح القدير ج4 ص267 والطبقات الكبرى ج1 ص148 وج7 ص59
والتاريخ الكبير للبخاري ج7 ص274 وضعفاء العقيلي ج4 ص300
والكامل لابن عدي ج4 ص169 وج7 ص37 وعن أسد الغابة ج3 ص132 وج4
ص426 وج5 ص377 وتهذيب الكمال ج14 ص360 وسير أعلام النبلاء ج7
ص384 وج11 ص110 وج13 ص451 ومن له رواية في مسند أحمد ص428
وتهذيب التهذيب ج5 ص148 وعن الإصابة ج6 ص181= = والمنتخب من
ذيل المذيل ص66 وتاريخ جرجان ص392 وذكر أخبار إصبهان ج2 ص226
وعن البداية والنهاية ج2 ص275 و 276 و 392 وعن الشفا بتعريف
حقوق المصطفى ج1 ص166 وعن عيون الأثر ج1 ص110 والسيرة النبوية
لابن كثير ج1 ص288 و 289 و 317 و 318 ودفع الشبه عن الرسول
ص120 وسبل الهدى والرشاد ج1 ص79 و 81 و 83 وج2 ص239 وعن ينابيع
المودة ج1 ص45 وج2 ص99 و 261.
([8])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص157 واليقين للسيد ابن طاووس ص196
وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص68 والبحار ج14 ص475 وراجع: مصادر نهج
البلاغة ج3 ص57 و 58 وشرح النهج للمعتزلي ج13 ص197 والغدير ج3
ص240 وسنن النبي «صلى الله عليه وآله» للطباطبائي ص403.
([9])
الأمالي للطوسي ص715 و 716 و (ط دار الثقافة للطباعة) ص707
والبحار ج35 ص35 و 36 و 17 و 18 عن المناقب لابن شهرآشوب،
وحلية الأبرار ج2 ص20 ومدينة المعاجز ج1 ص45.
([10])
نفس المصادر السابقة.
([11])
نفس المصادر السابقة.
([12])
البحار ج35 ص17 و 18 وج41 ص274 والمناقب لابن شهرآشوب ج2 ص120.
([13])
الأمالي للصدوق (ط مؤسسة الأعلمي سنة 1410هـ) ص99 و (ط مؤسسة
البعثة) ص176 ومعاني الأخبار ص62 وغاية المرام ج1 ص170.
([14])
الأمالي للصدوق (مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة) ص194
وكتاب التوحيد للصدوق ص62 وعلل الشرايع (ط سنة 1408 هـ) ج1
ص164 و (منشورات المكتبة الحيدرية) ص135 والجواهر السنية للحر
العاملي ص229 ومعاني الأخبار ص62 وروضة الواعظين ص76 و 77
والبحار ج35 ص8 و 9 عنهم، وعن كشف اليقين ص31 و 32 وعن كشف
الحق، وبشارة المصطفى ص26 وراجع: الخرايج والجرايح ج1 ص171.
([15])
شرح المواهب اللدنية ج6 ص490 وراجع: فيض القدير ج5 ص467
والغدير ج3 ص138.
([16])
نسيم الرياض ج3 ص11 وراجع: شرح معاني الآثار ج1 ص46 والغدير ج3
ص136 ورسائل في حديث رد الشمس للمحمودي ص19 و 34 و 64.
([17])
الآية 43 من سورة الرعد.
([18])
تفسير القمي ج1 ص367 والتفسير الصافي ج3 ص77 وتفسير نور
الثقلين ج2 ص523 وج4 ص88 والبحار ج26 ص160 وينابيع المعاجز
ص14.
([19])
بصائر الدرجات ص235 و 236 والكافي ج1 ص229 والمناقب لابن
شهرآشوب ج3 ص504 والبحار ج23 ص191 وج35 ص433 وج39 ص91 وبشارة
المصطفى للطبري ص299 وتفسير نور الثقلين ج2 ص522 والتفسير
الصافي ج3 ص77 والتفسير الأصفى ج1 ص609 وتفسير مجمع البيان ج6
ص54 وتفسير جوامع الجامع ج2 ص269 وتفسير العياشي ج2 ص220 وجامع
أحاديث الشيعة ج1 ص160 ودعائم الإسلام ج1 ص22 والوسائل (ط
مؤسسة آل البيت) ج27 ص181 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص134 وشرح
أصول الكافي ج5 ص315 ومستدرك الوسائل ج17 ص334.
([20])
الآية 43 من سورة الرعد.
([21])
بصائر الدرجات ص233 وينابيع المعاجز ص15 والبحار ج26 ص170
وتفسير نور الثقلين ج2 ص524.
([22])
الآية 43 من سورة الرعد.
([23])
الآية 93 من آل عمران.
([24])
الآية 46 من سورة النساء، وراجع الآيتان 13 و 14 من سورة
المائدة.
([25])
الآية 40 من سورة النمل.
([26])
الآية 38 من سورة الأنعام.
([27])
الآية 143 من سورة البقرة.
([28])
الآية 41 من سورة البقرة.
([29])
الآية 78 من سورة الحج.
([30])
راجع: الإعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص70 والبحار ج8
ص70 وج39 ص211 وعيون أخبار الرضا «عليه السلام» ج2 ص272 ومسند
الإمام الرضا «عليه السلام» للعطاردي ج1 ص123.
|