{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}‏ سورة ‏التوبة الآية 119‏

قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وعاشوا الإيمان في ‏فكرهم ‏وشعورهم وحياتهم، {اتَّقُوا اللهَ} في أقوالكم وأعمالكم ومواقفكم وكل علاقاتكم، {وَكُونُوا مَعَ ‏‏الصَّادِقِينَ} الذين يعيشون الحياة صدقاً في الفكر والعاطفة والحركة، بعيداً عن كل ازدواجية من ‏‏المواقف، أو انحراف عن الفكر، أو إرباك في الخطوات، فلا مجال للانسجام مع الكاذبين الذين ‏‏يُحوِّلون الحياة إلى ساحة للباطل في الشعارات والمواقف، ويلفُّون ويدورون ويلعبون على الحياة ‏‏من موقع الشيطنة الباحثة أبداً عن الشر، المتحركة أبداً مع الضلال [من وحي القرآن ج11 ص 235-236]
أقول: إن أدنى تأمُّل في الآية يفيد، بأنَّ الأمر من الله تعالى متعلِّقٌ بالاتِّباع المطلق للصادق، وهذا ‏‏يعني أنَّ في البين تابعاً ومتبوعاً، هناك تابعٌ مأمورٌ من المولى سبحانه بلزوم الكونِ والاتِّباعِ في ‏‏جميع الأحوال والتقلبات، لمتبوعٍ أطلق المولى سبحانه عليه اسمَ الصادق.‏
وكلُّ ذي لسان عربي مبين يعلم ويعي جيداً، أنَّ أمرَ الله تعالى ليس بالكون مع الصادقين ‏‏فحسب، بل الأمرُ متعلِّقٌ بتقوي الله بالكون مع الصادقين، فالله تعالى كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا ‏‏اتقوا الله بالكون مع الصادقين، لا أنه هناك أمرٌ بتقوي الله أولاً، وهناك أمرٌ ثانٍ بالكون مع ‏‏الصادقين.‏
ذلك أنَّ الكونَ مع الصادقين هو ما به يحصل تقوي الله، ولا يمكن حصول تقوي الله من ‏‏الإنسان فيما إذا لم يكنْ مع الصادقين.‏
وإذا ما كان الصادقُ اسماً يُطلَق على مَن يوافِق إخبارُه الواقعَ الذي يُخبِر عنه، فإنَّ هذا لا ‏‏يكون بحالٍ ممَن يجب اتِّباعُهُ من جهة، ولا يُوجِب وجود تابع ومتبوع.‏
فإنَّ كثيراً من الكافرين وأصحابِ المذاهب الفاسدة، يحصلُ منهم الصدقُ في كثير من ‏‏أفعالهم وحركاتهم، مع أنَّ الكافرين يجبُ التبرُّؤ منهم في جميع الأحوال.‏
وأيضاً فإنَّ كثيراً ممَن يتصفُّ بكونه صادقاً في هذا الموقف أو في تلك المقولة ـ فيما إذا ‏‏لم يكونوا ممن يجب التبرُّؤ منهم ـ لا يجبُ الكونُ معهم بالبداهة القطعيَّة.‏
فسواء كان المقصودُ من الآية ما ذكرناه ـ من أنَّ معنى الآية هو تقوي الله بالكون مع ‏‏الصادقين ـ، أم كان المستفادُ من الآية وجودَ أمرين ـ أمر بتقوي الله وأمر بالكون مع الصادقين ‏‏ـ فإنه على كلا التقديرين لا يجبُ بقول مطلق الكونُ مع مطلق الصادقين.‏
ومفادُ الآية هو وجوبُ الكون معهم، إما لكون ذلك محقِّقاً لتقوي الله تعالى، وإما لأنه يوجد ‏‏أمرٌ آخر متعلِّقٌ بالكون معهم، وهذا الوجوبُ لم يُقيَّد ولم يُخصَّص بحال من الأحوال، أو في زمن ‏‏معين أو في موقع محدَّد.‏
والمولى سبحانه والذي يأمر بالعدل، وهو العدلُ الذي لا يجور، والحكيمُ العليم، لا يمكن ‏‏أن نتصوَّر فيه أن يأمر بالكون إلا مع الحقِّ، لا نتصور منه إلا وأن يأمر بالاستقامةِ ولزومِ سلوك ‏‏جادة الصواب، إلا وأن يأمر بسلوك السبيل القويم والصراط المستقيم.‏
فهل هذا يعني أنه يأمر بالكون مع الصادقِ، مهما كان الصادقُ وكائناً مَن كان، وأنَّى كان، ‏‏وكيفما كان ويكون؟!!‏
نعم، هو يأمر باتِّباع الصادق مهما كان فيما يكون كلُّه صدقاً، ظاهراً وباطناً.‏
هو يأمر بالكون مع الصادق أنَّى يكون الصادق، فيما لا تتخلَّف حالتُه وفيما لا تتبدَّل ‏‏أوضاعُه.‏
إذن، فمَن هو ذاك الصادقُ، والذي يأمر المولى سبحانه باتِّباعه في جميع الأمور؟‏
فهل يا تُري هو ممَن يكون فيه نحوٌ من أنحاء الباطل والجور؟!!‏
ومَن هو يا أيها العاقلُ ذاك الصادقُ، الذي يكون متصِفاً بالصدق في القول والعمل، في ‏‏السر والعلن، في الظاهر والباطن؟!!‏
أَتري هل أنه سبحانه يأمر بالكون مع مَن كان صادقاً ظاهراً، ويكون ممَن عَشْعَشَ الباطلُ ‏‏في سره؟!‏
هل تراه سبحانه أمر بالكون مع غير الصادق في نيته، المخلِص في عمله، الصافي ‏‏جوهرُه ومعدنُه؟!‏
فكيف لنا بأن نتحقَّقَ أمره وشأنه وحاله في سره وباطنه، وكيف لنا أن نعرف أنَّ فلاناً من ‏‏الناس ممَن هو صادقٌ ظاهراً وباطناً؟!!‏
جلَّ الربُ الحكيم في أمره بالكون مع الصادق في كلِّ شيء، جلَّ اللطيفُ في حكمه ‏‏بوجوب اتِّباع الصادقين.‏
وإذا ما كان أمرُ الله سبحانه قد تعلَّق بالكون مع الصادقين، لغرض وبداعي تحصيل كمال ‏‏أنفسنا، ولكيما ندرك السعادة الحقيقية، فأيُّ كمال في الكون مع غير المعصوم؟!‏
وغير المعصوم قد يتصِف بالصدق ظاهراً، وهو في الباطن عدو لدود للصدق ومحامده.‏
أم كيف يأمر المولى سبحانه بالكون مع مَن يعيشون الحياةَ صدقاً في الفكر والعاطفة ‏‏والحركة، ونحن نعلم بأن كثيراً ممَن يعيش الصدق في الفكر والعاطفة والحركة، هم أعداءٌ لله ‏‏تعالى شأنه؟!‏
أم كيف يأمر بالكون مع الصادقين، ونحن غيرُ مطلِعين على السرائر، ونحن ممَن يجهل ‏‏بها؟!!‏
وكيف يدَّعي السيد محمد حسين فضل الله بأنَّ الله تعالى أمرنا بالكون مع مَن ذكر صفاتهم ‏‏عند تفسيره للآية، وهو يعلم قطعاً بأنَّ الله سبحانه أمرنا بالتبرؤ من الكافرين؟!‏
أَوَ ليس يوجد من بين الكافرين مَن لا يعيش أيَّةَ ازدواجية من المواقف؟!‏
والسيد محمد حسين حين يقول: «أو انحراف عن الفكر»، هل يقصد أو انحراف عن ‏‏الحق؟
إذا كان يقصد ذلك، فنسأل: مَن غير المعصوم يُمثِّل الحق، ومَن غير المعصوم لا يعيش ‏‏أيَّ انحراف عن الحق؟!‏
وأنَّى للبشر أن يتعرَّفوا على مواقع الانحراف في الفكر، إلا من خلال انسجامِ ومطابقةِ ‏‏الفكر مع تعاليم الشريعة الغراء ومع مَن يُمثِّلُها؟
أَوَ ليس كلُّ المفكرين مهما اختلفت أفكارُهم، يدَّعون ويزعمون أنهم يعيشون الاستقامةَ في ‏‏الفكر فيما يرونه فكراً؟
أَوَ ليس كلُّ مذهبٍ من المذاهب الفكريَّة ـ أو خصوص الفكرية الدينية ـ يرى أَتباعُهُ أنَّ ‏‏القيِّمَ على الفكر في مذهبهم، وأنَّ صاحبَ المذهب والإمام عندهم لا يعيش الانحراف عن الفكر ‏‏الذي جاء به أو طرحه؟‏
وإذا كان الأمرُ من المولى سبحانه هو في أن يكون الإنسان مع غير المنحرِف في الفكر ‏‏عن الشريعة الغراء، فلماذا يأمر بالكون معه، مع وجود الميزانِ، ومع وجود الفارق بين الحق ‏‏والباطل؟‍!‏
أَوَ هل يوجد عاقلٌ في الدنيا يدَّعي، بأنه يجب على المؤمنين أن يكونوا وأن يتَّبعوا كلَّ ‏‏صادق فيما يصدُق فيه، وإن لم يكن صادقاً من باقي الجهات؟!‏
هل هناك في الدنيا مَن يرى بأنه يجب اتِّباع مَن يتَّصِفُ بالصدق؟!‏
نعم، كلُّ العقلاء يرون أنه يحسُن تصديقُ الصادق فيما يصدُقُ فيه، وتصديق الصادق شيءٌ، ‏‏ووجوب اتِّباعه شيءٌ آخر.‏
أيها المتأمِّلُ بالقرآنِ كتابِ الهداية إلى الحق، إن لم تنصِف نفسَك، فمَن ذا الذي ينصفك ‏‏حقَّك!‏
أيها العاقل، تأمل في الآية الكريمة شيئاً قليلاً، ألا تراها تدلُّ ـ ومن دون أن يعتريك أدنى ‏‏ريب أو شك ـ على وجوب الكون مع الصادقين أبداً ودائماً؟‏
ألا تراها تدل على أنَّ تقوي الله تعالى لا يُدرَك إلا بذلك؟‏
فيا تُري، مَن هم هؤلاء الصادقون، وقد أمر سبحانه عبادَه بوجوب الكون معهم، ولزوم مودتهم ‏‏وولايتهم؟ فإنَّ معنى وجوب الكون مع شخص، أنه يجب اتِّباعُهُ ومودتُهُ وولايتُهُ، والإذعانُ له، ‏‏والانقيادُ إليه.‏
يا تُري مَن هم هؤلاء الصادقون الذين لا يحصل رضى الله سبحانه إلا بالكون معهم، ومَن ‏‏هم حتى أمرنا المولى باتِّباعِ نهجهم، وسلوكِ مسلكهم، وعدمِ مفارقتهم؟
هل هم جمعٌ من الناس ممَن يُحسِنون تركيب الجمل؟! هل هم أناسٌ يدَّعون الصدقَ مع الله ‏‏تعالى في الموقف، ويُشهِدون الله على ما في قلوبهم وهم ألدُّ الخصام؟!‏
بلى، إنَّ الله تعالى لم يأمر إلا بالكون مع العدل والحق.‏
أيها الموالي لآل محمد (عليهم السلام)، إنَّ الصادقين الذين أمر اللهُ تعالى بالكون معهم، ‏‏هم آل محمد الأطياب (عليهم السلام)، هم عترة المصطفى(صلى الله عليه وآله)، هم خيرة الله ‏‏وصفوته، فعلامَ هذا التمويهُ وهذه التعميةُ، ولماذا لم يذكرهم السيد محمد حسين يا تُري؟!!!‏
فقد أخرج الصفار في البصائر بإسناده عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ‏‏قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: إيانا عنى.‏
وأخرج الصفار في البصائر والكليني في الكافي بسند صحيح عن ابن أبي نصر البزنطي قال ‏‏سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ ‏‏الصَّادِقِينَ}، قال: الصادقون الأئمة الصدِّيقون بطاعتهم.‏
وأخرج الصدوق في كمال الدين بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي قال:... قال علي (عليه ‏‏السلام): أُنشِدكم اللهَ أتعلمون أنَّ الله عزَّ وجل لما أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ‏‏وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فقال سلمان: يا رسول الله عامة هذه أم خاصة؟ فقال (صلى الله عليه ‏وآله): ‏أما المأمورون فعامة المؤمنين أُمرِوا بذلك، وأما الصادقون فخاصة لأخي عليٍّ وأوصيائي ‏من ‏بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: اللهم نعم.‏
وأخرج أبو نعيم والحاكم الحسكاني ـ وهما من أبناء السُّنة ـ بإسنادهما عن ابن عباس في قوله ‏‏تعالى {اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: هو عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وفي كتاب ‏‏الحاكم: نزلت في عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة.‏
أقول: وأخرجاه أيضاً بإسنادهما عن الإمام الصادق (عليه السلام).‏
وأخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن عبد الله بن عمر {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: يعني محمداً ‏‏‏(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).‏
وأخرج الحاكم الحسكاني وابن عساكر في تاريخ دمشق، بإسنادهما عن الإمام الباقر (عليه السلام) ‏‏‏{اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} قال: مع علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وفي لفظ الحاكم: مع ‏‏آل محمد (صلى الله عليه وآله).‏
وأخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‏‏اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} قال: مع عليٍّ (عليه السلام) وأصحاب عليٍّ.‏
وورد في هذا المعنى الشيء الكثير جداً، وقاله أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله ‏‏الأنصاري وابن عمر والسدي ومقاتل بن سليمان، ويكفي أن تلحظ ما أشرنا إليه من مصادر مع ‏‏ما ذكره محققوها في هوامشها
بصائر الدرجات ص51، الكافي ج 1 ص 208، الغيبة للنعماني ص56، كمال الدين وتمام ‏النعمة ص 274، أمالي الطوسي ‏ص255، روضة الواعظين ص104، الاحتجاج ج1 ‏ص215وج2 ص143 إلى 147، الفضائل ص138، سعد السعود ص 122، ‏شرح الأخبارج ‏‏2ص343 و506،بحار الأنوار ج24 ص31و33 وج27 ص58 وج30 ص66 وج31 ص414 ‏وج33 ص149و284 ‏وج35 ص46 و408 إلى 414 و417، مناقب أهل البيت للشيرواني ‏ص98، المسترشد ص647،مناقب آل ابي طالب ج 2ص 288 ‏وج 3 ص 314، الفضائل ص ‏‏138، تفسير العياشي ج2 ص117، تفسير القمي ج1 ص 307، تفسير فرات ص 172ـ 174، ‏تفسير ‏التبيان ج 5ص 317،تفسير مجمع البيان ج 5ص139،خصائص الوحي المبين ص232- ‏‏234،تأويل الآيات ج1ص211،التفسير ‏الصافي ج2ص387،تفسير نور الثقلين ج ‏‏2ص280،تفسير الميزان ج 9 ص408.‏
من مصادر أبناء السُّنة: شواهد التنزيل ج1ص341 إلى345، الدر المنثور للسيوطي ج 3 ‏ص290، فتح القدير ج 2ص 414، تاريخ ‏مدينة دمشق ج 42 ص361، تهذيب الكمال ج 5ص ‏‏84، المناقب للخوارزمي ص280، نظم درر السمطين ص91، ينابيع المودة ‏ج1ص 358.
أقول: فهل أنَّ السيد محمد حسين فضل الله لم يطرق سمعه أحد هذه الأخبار، أو أنه لا ‏‏يتفاعل مع أحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام) الواردة في بيان فضائلهم؟!!!‏

العودة