{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}‏ سورة الفاتحة الآية ‏‏6‏

مَن هم أصحابُ الصراط المستقيم

إعلم أنه قد ورد بأنَّ الصراط المستقيم هو سيدنا محمد وآله صلى الله عليه وآله وعليهم ‏‏أجمعين، وورد أنه أمير المؤمنين علي (عليهم السلام) ومعرفته، وأنه معرفة الإمام وما يقرب من ‏‏هذا المعنى أو يرجع إليه.‏
وإذا ما كان الصراطُ المستقيمُ يعني أنه السبيلُ الموصِلُ إلى الهدف إلى الغاية إلى الحق ‏‏المنشود، وأنه لا يُتصوَّر الضلالُ فيه ولا الضياعُ البتة، فإنه تعرف بأنَّ ما يقابله من الطرق لا ‏‏يُتعقَّلُ كونه موصِلاً، وإلا لخرج عن كونه سيبلاً غيرَ مستقيم.‏
ومن نافلة القول أن نعمد إلى البرهنة على كون الخط المستقيم ـ فضلاً عن أنه أقربُ ‏‏السبل والطرق ـ وحده هو الرابط بين الطرفين، غايته يتحقَّقُ الضلالُ من حيث يقعُ الخطأُ ‏‏والاشتباهُ فيما هو المستقيم من الطرق، لذا كانت الحاجةُ إلى معرفته تُمثِّل الأساسَ في تحقق ‏‏الطمأنينة لسالكه، فلا تزيغ بهم الأهواءُ، ولا يضطربوا اضطرابَ الحائر الجاهل.‏
ومن هنا تعرف السرَّ في ثبات أهل الحق السالكين للمستقيم من السبل، فلا يهنوا ولا ‏‏يحزنوا لما أصابهم من حيث إنهم على بينة من الأمر.‏
وإذا ما كان المستقيم وصفاً لصراط واحد وسبيل فارد، فكان لا محالة أن لا يقع بين أهله ‏‏اختلافٌ وتهافتٌ، بل الكلُّ بمنزلة الواحد، فأشبه أن لا يكون فـي البين إلا التعددُّ بحسب الظاهر، ‏‏وأما الروحُ والجوهرُ فواحدٌ متحدٌ.‏
ثم إنَّ أصحابَ الصراط المستقيم الحق، لا يُتصوَّرُ فيهم ومنهم الرجوعُ القهقري، وقد ‏‏انكشف الواقع والحق أمامهم، بل لا نتصور من عاقل طلب ما يهمه، فعدل عن السبيل الذي عرف ‏‏بأنه موصِلٌ متحقِّقٌ به غايته.‏
وصاحب الصراط المستقيم لم يكن له صاحباً إلا بتوسط العلم والعمل، لذا فلا بُدَّ وأن ‏‏يفضل أصحابُ الصراط المستقيم كلَّ أحد فيما له أدنى دخالةٍ في ذلك، فلا يقع مَن غيرهم لهم ‏‏تعليماً، ولا يُحتمل مَن غيرهم تقدمهم عليهم في أيِّ شأن من الشؤون التي يقع عليها وفيها التفاضلُ ‏‏بين العقلاء وفيهم.‏
وأصحابُ الصراط المستقيم يرجِعُ إليهم ويهتدي بهديهم ويقتدي بهم كلُّ مَن سواهم، ويثبت ‏‏لزومُ وتعيُّنُ تبعيَّةِ غيرهم لهم، فإنهم من حيثيَّة كونهم على صراط مستقيم يتحقَّقُ منهم شأنيةُ وقدرةُ ‏‏تعليمِ الحق وكشفِ الحقيقة، وبديهي أن يكون ممَن سواهم تمامُ الانقياد والطاعة ليتأتى للتابع سلوك ‏‏طريق الحق.‏
فانقدح بل ظهر من جميع ما أشرنا إليه، أنَّ الصراط المستقيم يحتاج في مقام سلوكه بل ‏‏ليتأتى سلوكه إلى معرفته ومعرفة ما يتوقف الوصول إليه عليه من مقدمات موصلة وهي المعرفة ‏‏العلمية، والتي لا محالة لا تكفي إن في مقام إقامة الحُجَّةُ، أو في مقام تحقق اللطف الكامل ‏‏المقرِّب.‏
بل الأمر في الحاجة إلى وجود أشخاص قد سلكوه وهم ممَن عايشهم الناس ليتأتى لهم ‏‏التصديق بإمكان النهج والسير والسلوك على مقتضاه علماً وعملاً أوضح من أن يُبيَّن.‏
وإذا ما كان الحال كذلك، فيُعلم أنَّ المتعيِّنَ والواجبَ من الله تعالى وهو اللطيف بخلقه، أن ‏‏يُدلِّلَ على أصحاب الصراط بأعيانهم تارة، وبصفـاتهم تـارة أخري، ليقعَ من الخلق الاهتداءُ ‏‏بهديهم، وهم الذين يصدق عليهـم أنهم الصراط المستقيم باعتبارهم قطب رحاه من جهة، وبلحاظ ‏‏لزوم سلوك مسلكهم من جهة أخري.‏
ولما أن كان الثباتُ على الحق في كل حركة وفعل وسكون، يتوقف على جميع التقادير ‏‏على أمور والتي منها العلم بما هو الحق واليقين به، فكان لا محالة أن يكون أصحابُ الصراط ‏‏المستقيم أعلمَ من غيرهم فيما له الدخالة ولو من بعيد في ذلك، ولا يُتصوَّر وقوعُ الجهلِ منهم في ‏‏شيءٍ لاستلزامه صيرورتهم تابعين، وهو خلاف فرض وجوب متبوعيتهم، ويلزمه أيضاً الوقوع ‏‏في الباطل أو لا أقل احتمال ذلك، وهذا لا ينسجم مع كونهم على صراط مستقيم.‏
على أنَّ فرض الجهل في شيء مما له الدخالة في الكينونة على صراط مستقيم، يعني أنهم ‏‏في تلك الواقعة ليسوا على الصراط المستقيم، وقد فرضناهم عليه وأنهم من أصحابه، لذا لا يقع ‏‏من صاحب الصراط رجوعٌ إلى أحد، ويقع من كلِّ مَن عداه الرجوعُ إليه، فصاحب الصراط ‏‏المستقيم إذن هو في الحقيقة قبلة لمن سواه.‏
ثم نأتي إلى مَن يُدَّعى بأنه يهدي إلى الصراط المستقيم، فلا نتعقلُ حصولَ الهداية منه ‏‏لغيره إلى ذلك، مع عدم كونه هو نفسه من أصحابه، فإن فاقد الشيء لا يعطيه.‏
وإذا ما كان أصحابُ الصراط يقع بينهم التفاضلُ بالضرورة العقلية والنقلية، وكفى بقوله ‏‏سبحانه تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}
سورة البقرة الآية 253  دليلاً، فكان لا محالة أن يحصل من ‏‏الأدنى التوسُّلُ بالأعلى، وأن يحصل من القريب التوسُّلُ بالأقرب، ليتحقَّقَ بذلك التصديقُ العملي ‏‏والفعلي بقاهرية صاحب المقام الأتم، وباستيلاء صاحب المقام الجامع على تمام وجميع المقامات ‏‏والمراتب في المرتبة الأدنى.‏
ثم نرجع مرة أخري إلى مَن يُدَّعى له أنه من أصحاب الصراط المستقيم، لنقول إما بعدم ‏‏صحة الدعوي تلك، أو أنها بعيدة في حق مَن جري في برهة من الزمن على العكوف على أصنام ‏‏الشرك عبادةً لها وخضوعاً إليها، ولأن سلمنا، غير أنه لا يجوز بحال أن يُدَّعى له الوصول إلى ‏‏مقام مَن لم يعرف الباطل بأيِّ نحو من الأنحاء، وإلى مقام مَن لم يكن الشيطان له قريناً في أيِّ ‏‏تقلب من تقلباته.‏
وعليه فيقبحُ من العقلاء تقديمُ الظالم لنفسه على أقل التقادير ولو فيما مضى من عمره، ‏‏على مَن لا تعرف نفسُه منه إلا الإحسانَ والعدلَ وعبادةَ الواحد الأحد.‏
هذا وقد جري الشارع على ما هو أدقُّ من هذا المعنى وأعظم، فاعتَبَرَ أنَّ جريانَ اسم ‏‏الظالم ـ على شخص ولو فيما مضى من عمره، بل ولو لفترة يسيرة جداً، مهما كان الوجه ‏‏والسبب في صحة إسناد وصف الظالم إليه ـ مانعٌ عن أهليَّته لنيل العهد الإلهي، على ما شئتَ أن ‏‏تفسِّر العهد به في آية {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.‏
نعم لا شبهة بأنَّ العهدَ أمرٌ ذو شأن وذو خطر عظيم على ما تفيده آية {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ‏‏قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
سورة البقرة الآية 124 ومَن له شأنيَّةُ وأهليَّةُ استحقاق ذلك المقام ‏‏الشامخ، يقبحُ عقلاً وشرعاً أن يرأَسَه مَن لا شأنيةَ له لذلك بالبداهة القطعية.‏
ثم مع الالتفات إلى أنَّ قوله سبحانه {صِرَاطَ الَّذِينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من قوله {الصِّرَاطَ ‏‏الْمُسْتَقيمَ}، فيكون محصَّلُ الآية هو السؤال من المولى سبحانه الهداية إلى صراط الذين أنعم تعالى ‏‏عليهم من النعم التي بإزائها يقع الفضلُ والتقدُّمُ، وما لأصحابها يكون فيها وبها التفاضُلُ فيما يَثْبت ‏‏عقلاً وشرعاً أنه فضْلٌ.‏
وقد علمنا من العقل والشرع، أنَّ ظلمَ النفس من أقبح الأمور فكيف بظلم الآخرين، لذا لا ‏‏نتعقَّل أن يحثَّ المولى الحكيم عبيده على طلب وسؤال الهداية إلى سبيل غير الكامل علماً وعملاً، ‏‏بل لا نظن به سبحانه أن يحثَّ على سؤال الهداية إلى صراط غير الأكمل والأفضل.‏ ‏
فينتج أنَّ سؤال الهداية لا يكون متعلِّقاً إلا بسبيل وصراط المعصوم قولاً وعملاً، وإذا ما ‏‏كان سؤالُ الهداية إلى الصراط المستقيم واقعاً من كلِّ مصلٍّ طالباً للهداية في جميع الأزمنة، فيلزم ‏‏أن يكون صاحبُ الصراط المستقيم موجوداً في كل زمان، وأن يتأتَّى لطالبه التعرُّفُ عليه ولو ‏‏إجمالاً.‏
ولأن منعت صحة هذه النتيجة، غير أنني لا أراك تجهل بأنَّ تعطيلَ الصراط أمرٌ قبيحٌ بل ‏‏مستحيل.‏
فإنَّ الصراط المستقيم لا بُدَّ وأن يكون موجوداً متشخِّصاً متحقِّقاً بوجود صاحبه فعلاً، وإلا ‏‏لبطل في ظرف عدم وجوده، وللزم كون الصراط منكَراً، مع أنَّ الآية وقع فيها الصراط معرَّفاً ‏‏بالألف واللام، ولا يتحقق كونه معرَّفاً إلا بوجود صاحبه المعرِّف له والمعرَّف الصراط به.‏
ولأن قلت: إنَّ القرآن هو الصراط، فإما أن تريد من القرآن ما بين الدفتين من كلام ‏‏المولى تعالى شأنه، أو تريد مَن يجسِّد القرآن.‏
والمعنى الثاني هو ما ندعيه، وأما المعنى الأول فمضافاً إلى عدم استقامة إرادته لما أشرنا ‏‏إليه من أنَّ قوله تعالى{صِرَاطَ الَّذِينَ أنعَمْتَ} بدلٌ مما سبقه، فإننا ننقل الكلام إلى القرآن.‏
فنقول إنَّ القرآنَ الكريم لمكان اشتماله على المحكَم والمتشابَه، فاحتجنا إلى مَن نتَّبع قوله ‏‏في مقام الكشف عن معاني القرآن ومقاصده.‏
فأن كان ممَن ثبتتْ عصمتُه وأنه تعلَّم ووعى ذلك من طريق الوحي ولو بتوسُّط تعليم ‏‏الرسول الأكرم (عليهما السلام) فهو ما ادعيناه، وإن كان غير ذلك فيلزم وقوع الاختلاف، وقد ‏‏وقع جداً بين أبناء مَن ادُعِيَ أنهم من أهل الخبرة في القرآن، مع أنَّ أصحاب الصراط المستقيم ‏‏الواحد يستحيل وقوع الاختلاف فيما بينهم، وإلا فكيف يكونون على صراط واحد وفي سبيل ‏‏فارد؟!‏
هذا وقد رجعنا إلى السنة النبوية المباركة، فوجدنا عدمَ وجود صحابي قد تحقَّقَ فيه وأُوتيَ ‏‏من نعم الله تعالى، ما أُوتي مولى المتقين أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه ‏‏عليه.‏
فهو أعلمُ الأمة بعد الرسول الأكرم (عليهما السلام)، هو باب مدينة العلم ومدينة الحكمة ‏‏وأقضى الصحابة، وأول القوم إسلاماً، وقد كان مرجوعاً إليه ممَن يُدَّعى لهم أنهم من كبراء ‏‏الصحابة في معضلات المسائل، بل قد خصه سبحانه من بينهم بأمور لم يقع لواحد منهم مشاركته ‏‏إياه في شيء منها.‏ ولا أري في هذا المقام أولى من نقل كلامٍ للمعتزلي ابن أبي الحديد حيث ‏‏قال في شرح النهج: فأما فضائله (عليه السلام)، فإنها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار ‏‏والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء ‏‏لعبيد الله بن يحيى وزير المتوكل والمعتمد: رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ‏‏ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنتُ أني حيث انتهى بي القول ‏‏منسوبٌ إلى العجز، مقصِّرٌ عن الغاية، فانصرفتُ عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلتُ الإخبارَ ‏‏عنك إلى علم الناس بك.‏
وما أقول في رجل أقرَّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يُمكنهم جحدَ مناقبه، ولا كتمانَ ‏‏فضائله، فقد علمتَ أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا ‏‏بكل حيلة في إطفاءِ نوره والتحريضِ عليه، ووضْعِ المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع ‏‏المنابر، وتوعَّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو ‏‏يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يُسمَّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعةً وسمواً، وكان كالمِسْك ‏‏كلما سُتِر انتشر عرفُه، وكلما كُتِم تضوَّع نشرُه، وكالشمس لا تُستَر بالراح، وكضوء النهار إن ‏‏حُجِبت عنه عينٌ واحدة أدركته عيون كثيرة.‏
وما أقول في رجل تُعزي إليه كلُّ فضيلة، وتنتهي إليه كلُّ فرقة، وتتجاذبه كلُّ طائفة، فهو ‏‏رئيسُ الفضائل وينبوعُها وأبو عذرها، وسابقُ مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده ‏‏فمنه أخذ، وله اقتفى وعلى مثاله احتذي....ألخ.‏
وقال أيضا: فإنَّ فقهاء الصحابة كانوا: عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس، وكلاهما أخذ ‏‏عن عليٍّ (عليه السلام)، أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كلُّ أحدٍ رجوعَه إليه في كثير ‏‏من المسائل التي أشكلتْ عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا عليٌّ لهلك عمر، ‏‏وقوله: لا بقِيتُ لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وقوله: لا يفتينَّ أحد في المسجد وعليٌّ حاضر، فقد ‏‏عُرِف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه.‏
وقد روت العامة والخاصة قوله (عليهما السلام) «أقضاكم عليٌّ» والقضاء هو الفقه، فهو ‏‏إذاً أفقههم....ألخ.‏
ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أُخِذ ومنه فُرِّع، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ‏‏ذلك، لأنَّ أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ‏وانقطاعه ‏إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة ‏من المطر إلى ‏البحر المحيط....ألخ.‏
وأما قراءته القرآن واشتغاله به: فهو المنظور إليه في هذا الباب، اتفق الكلُّ على أنه كان يحفظ ‏القرآن ‏على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يكن غيره يحفظه، وإذا رجعت إلى كتب ‏القراءات ‏وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه....ألخ.‏
فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمامُ المتَّبعُ فعلُه، والرئيس المقتفى أثرُه.‏
وما أقول في رجل تحبه أهلُ الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظِّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل ‏‏الملة....ألخ ‏
شرح نهج البلاغة ج1 ص 16إلى 29 وج7 ص 219 – 220
وعن الحاكم النيسابوري ـ من أبناء السُّنة ـ في مستدركه بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس ‏قال: ‏قال رسول الله (عليهما السلام): أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب، قال ‏الحاكم: ‏هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.‏
وراجع مسند أبي يعلى والجامع الصغير للطبراني وشواهد التنـزيل وتاريخي بغداد ‏ودمشق ‏وتهذيب الكامل وسير أعلام النبلاء وفتح الباري وكنز العمال وسبل الهدي والرشاد ـ ‏وجميعهم من ‏أبناء السُّنة ـ وغير ذلك كثير جداً.‏
وقد ورد أنه (عليه السلام) أقضى الصحابة، ولا يكاد يخفى أنَّ لازمه كونه أفقهم ‏‏وأعلمهم، فلاحظ
المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 126 - 127، مسند أبي يعلى ج 2 ص 58، الجامع ‏الصغير ج 1ص 414، شواهد التنزيل ‏ج 1ص 99، تاريخ بغداد ج 7 ص 181، تاريخ مدينة ‏دمشق ج 7 ص 233 وج 15 ص 299وج 42 ص 378، تهذيب الكمال ج ‏‏18 ص 78، سير ‏أعلام النبلاء ج11 ص 446، فتح البارى ج10 ص486، فيض القدير ج 1ص 285 وج 3 ص ‏‏60 - 61، ذخائر ‏العقبى ص 77، كنز العمال ج 2ص 592 وج 11 ص 600 وج 11ص ‏‏600، سبل الهدي والرشاد الصالحي الشامي ج 1 ص 457، ‏ذخائر العقبى ص 83، المصنف ‏لإبن أبي شيبة ج 7 ص 183، البداية والنهاية ج 7 ص 396 - 397، كشف الخفاء ج 1ص ‏‏162، ‏جواهر المطالب ج 1ص 75، المعجم الأوسط ج 7 ص 357، فتح البارى ج7 ص 60 ‏وج 9 ص 44‏

وإذ قد وقفت ووعيت ما تقدمت الإشارة إليه، فإنا وإن وجدنا ما يُدَّعى أنه من السنة ‏‏النبوية المباركة، قد نُسِب فيه ـ إلى مَن تجمعت فيه أو فيهم من الصفات المنافية للمقامات العالية، ‏‏ولمَن فيه أو فيهم ما لا يتطابق وما يتنافى مع المعقول والمنقول ـ أنه أو أنهم على صراط ‏‏مستقيم، غير أنه ومع ما حرص عليه الغاصبون الأوائل ومَن تابعهم من إخفاء فضائل العترة ‏‏الطاهرة وما ورد في خصوص مولى الكونين وسيد الدارين أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنَّ مع ‏‏ذلك كله قد وصَلَنا وبعد مئات السنيين ما لا يحصى، مما يدحض زعم أصحاب الأهواء الفاسدة ‏‏والمذاهب الباطلة.‏
فقد ورد في تفسير الآية المبحوث أنَّ المراد من الصراط المستقيم سيدنا محمد وآله ‏‏الأبرار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.‏
ومع كثرة ما ورد في هذا المعنى وما يقرب منه مما يفيد نفس الفائدة ويؤدي نفس المؤدى ــ ‏وما ‏ورد في أحاديث كثيرة من عدم التعرض لذكر الرسول الأكرم (عليهما السلام) مرجعه، إما ‏إلى ‏المفروغية عن كونه الصراط المستقيم، أو إلى أنَّ ما دل على أنه أمير المؤمنين يثبت به ‏أيضاً بأنه ‏‏(عليهما السلام) كذلك بطريق أولى، على أنَّ أمير المؤمنين هو نفس الرسول الأكرم ‏‏(عليهما السلام) ‏بنص آية المباهلة بملاحظة مورد نزولها، مضافاً إلى عدم حاجة تدعو للتنصيص ‏عليه (عليهما ‏السلام) إذ لا يُحتمل أن يكون موضعَ نزاع أو نقاش ــ رأينا أنَّ السيد محمد حسين ‏فضل الله لم يُشِر ‏إلى هذا المعنى ولو من بعيد، مع أنَّ جميع الاعتبارات تدعو وتبعث على الذكر ‏والتنويه والإشارة إلى ‏ارتباط هذه الآية بأئمة الهدي (عليهم السلام).‏
قال السيد فضل الله في تفسيره ما لفظه:
وهكذا نجد أنَّ الصراط المستقيم الذي ندعو الله ‏‏أن يهدينا لنسير نحوه، هو دينُ الله الذي أنزله على رسوله في كتابه، وفي ما أوحى به إليه من ‏‏شريعته ومن منهجه الحق، الذي أراد الله لنبيه الاستقامة عليه في خط الدعوة إليه من دون تغيير ‏‏ولا تبديل، كما جعل الجنة للناس الذين يعلنون التوحيد ثم يستقيمون في خطه على أساس توحيد ‏‏الله في العبادة.‏
وقد جاء عن علي (عليه السلام) في تفسير هذه الآية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يعني أدم ‏‏لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.‏
وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى ‏‏محبتك والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك
[تفسير من وحي القرآن ج 1 ص 85]
أقول: ليس يخفى على أحد بأنَّ إدامة التوفيق المؤدي إلى الطاعة، وأنَّ الطريق الموصل ‏إلى ‏محبته سبحانه، هو عبارة أخري عن سؤال الهداية إلى الطريق والصراط المستقيم، فإنَّ شأن ‏الصراط ‏وحده كذلك، لذا لا بُدَّ من معرفة الصراط وكيف يتحقَّقُ السلوك عليه، وما لم نتعرَّف ‏على الصراط ‏وما هو ومَن هم أهله، فإنَّ السائلَ لن يحصل على جواب ولن يهتدي سبيلاً.‏
فكأنَّ أمير المؤمنين وولده صادق آل محمد (عليهم السلام) في مقام إلقاء الحُجَّة على ‏الناظر ‏والسامع لكلامهم، إذ إنهما ـ أي الناظر والسامع ـ سيسألان عما هو التوفيق الذي يُطاع ‏به الرب جلَّ ‏وعلا، وسيسألان عن الطريق المؤدي إلى محبته سبحانه، مما يعني تعيُّنُ ولزومُ ‏وقوع البحث من كلٍّ ‏من الناظر والسامع، فيتحقَّق منهما الظفرُ بالمقصود إذا ما كانا طالبين للهداية ‏الحقيقية.‏
ثم إننا في هذا المقام لسنا نُنكِر على السيد محمد حسين فضل الله ما التزمه وادعاه من ‏‏معنى الآية، ولكننا نُنكِر عليه عدم إشارته إلى ما ورد في هذا المقام من المأثور عن النبي (عليهما ‏‏السلام) والعترة الطاهرة(عليهم السلام).‏
أللهم إلا أن يُقال: بأنه في تفسيره في مقام بيان ما يستوحيه من القرآن، ولا يعنيه بيانُ أنَّ ‏‏هذه الآيةَ أو تلك لها صلةٌ وارتباطٌ بأهل البيت (عليهم السلام)، فإنه ليس في مقام البيان إلا من ‏‏تلك الجهة.‏
ومهما يكن فقد أخرج الحاكم الحسكاني ـ من أبناء السُّنة ـ في شواهد التنـزيل بإسناده عن أبي ‏‏بريدة في قول الله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: صراط محمد وآله (عليهم السلام).‏
وبإسناده عن ابن عباس في قول الله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: قولوا معاشر العباد ‏إهدنا ‏إلى حب النبي وأهل بيته (عليه السلام).‏
بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله (عليهما السلام) لعليِّ بن أبي طالب: أنت الطريقُ ‏‏الواضح وأنت الصراطُ المستقيم وأنت يعقوب المؤمنين.‏
وبإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: آل محمد (عليهما السلام) الصراط الذي ‏دل الله عليه.‏
وبإسناده عن اليمان مولى مصعب بن الزبير قال: قال عمر بن الخطاب: مَن ترون أنهم يُولُّون ‏‏الأمر غداً؟ قالوا: عثمان بن عفان، قال: فأين هم عن عليِّ بن أبي طالب يحملهم على الطريق ‏‏المستقيم.‏
وأخرج أحمد بن حنبل ـ وعن ابن حجر أنه سند جيد ـ بإسناده عن علي (عليه السلام) ‏قال: ‏قيل يا رسول الله (عليهما السلام) مَن نُؤمِّر بعدك؟ قال: .... وإن تُؤمِّروا علياً ولا أراكم ‏فاعلين، ‏تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم.‏
وقال الهيثمي ـ من أبناء السُّنة ـ في مجمع الزوائد: وعن عليٍّ (عليه السلام) قال: يا ‏‏رسول الله مَن نُؤمِّر بعدك؟ قال: وإن تُؤمِّروا علياً ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً يأخذ بكم الطريق ‏‏المستقيم، رواه أحمد والبزار والطبراني ـ من أبناء السُّنة ـ في الأوسط، ورجال البزار ثقات.‏
وأخرج الحاكم النيسابوري ـ من أبناء السُّنة ـ في المستدرك بإسناده عن زيد بن يثيع ‏عن ‏علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليهما السلام):..... وإن تولوا علياً تجدوه هادياً ‏مهدياً يسلك ‏بكم الطريق، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.‏
وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في كتاب الامالي: ‏‏كان عبد الله بن عباس عند عمر، فتنفس عمر نفساً عالياً، قال ابن عباس: حتى طننتُ أنَّ أضلاعه ‏‏قد انفرجت، فقلت له: ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا همٌّ شديد، قال: إي والله يابن ‏‏عباس، إني فكرت فلم أدر فيمَن أجعل هذا الامر بعدي، ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها أهلاً؟ ‏قلت: ‏وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه ‏دعابة..... قال ‏ابن عباس: ثم أقبل عليَّ فقال: إنَّ أحراهم أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم ‏لصاحبُك، والله ‏لئن وليها ليحملنَّهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم
شواهد التنزيل ج1 ص 74 إلى104، مسند أحمد بن حنبل ج1 ص 108، مجمع الزوائد ج5 ‏ص 176، تاريخ بغداد ج11ص ‏‏468رقم 5728 ترجمة عبد السلام بن صالح بن سليمان، ‏الإصابة لابن حجر ج4 ص 468، اسد الغابة ج4 ص30، تاريخ مدينة دمشق ‏ج 42 ص 419، ‏المعجم الأوسط ج2 ص340، كنز العمال ج5 ص 799 وج 11 ص 612، مناقب امير ‏المؤمنين لمحمد بن سليمان ‏ج1 ص 448، ينابيع المودة ج1 ص 397 وج2 ص 251 وج3 ص ‏‏205، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 69 ـ70، شرح نهج ‏البلاغة ج 6 ص 51 وج6 ‏ص 326 ـ 327 ج 11 ص 1 وج2 ص 588‏
أقول: ولا نرى من مُلزِم لأن نعمد إلى بيان ما في هذه الأخبار، فإنها في ما تدل عليه واضحة ‏‏الدلالة جداً وافية فيما نحن بصدد إثباته.‏
هذا ولا معنى لأن يهدي شخص إلى الصراط المستقيم، ولا يكون هو نفسه متلبِّساً بذلك ‏‏فعلاً واقعاً وحقيقةً.‏
ثم إننا لم نظفر بخبر عن معصوم من طريق العامة في حقِّ أحد من الصحابة يفيد ما ‏تفيده هذه ‏الأخبار المتقدمة ـ من أنَّ علياً (عليه السلام) يهدي إلى الصراط المستقيم ـ والواردة ‏من طرقهم، مع ‏توافر الدواعي عندهم لنقله وإثباته.‏
وبما أنَّ الظروف كانت ومن اليوم الأول ـ وما تزال ـ موافقةً لهم بل لم تأتِ ولو في حقبة ‏‏زمنية يسيرة إلا على وفق رغباتهم وتمنياتهم، فإنه يحصل من عدم روايتهم لخبر بهذا المفاد، ‏‏يحصل العلم والقطع بعدم وجوده وعدم وروده أصلاً، وسيأتي إنشاء الله تعالى تتمةٌ لهذا فانتظر.‏
وأما ورد في كتب الإمامية، فكثير جداً.‏
فقد أخرج ابن البطريق بإسناده عن الثعلبي ـ من أبناء السُّنة ـ في تفسير قوله تعالى ‏‏‏{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال مسلم بن حيان: سمعت أبا يزيد يقول: صراط محمد وآله (عليهم ‏‏السلام).‏
وأخرج الصدوق بإسناده عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهم ‏السلام) ‏قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا عليُّ، أنت حُجَّةُ الله، ‏وأنت بابُ الله، ‏وأنت الطريقُ إلى الله، وأنت النبأُ العظيم، وأنت الصراطُ المستقيم.‏
وأيضاً مثله بإسناده عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ’، وبإسناده عن عبد الله بن عباس، ‏وبإسناده عن ‏المفضل بن عمر وبإسناده عن حماد بن عيسى.‏
وأخرج القمي في تفسيره بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله {الصِّرَاطَ ‏‏الْمُسْتَقِيمَ} قال: هو أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعرفته.‏
وفي تفسير العياشي عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ ‏‏الْمُسْتَقِيمَ} يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)
العمدة لابن البطريق ص 43، عيون اخبار الرضا ج1 ص 9، كمال الدين باب 21 ص ‏‏205، معاني الأخبار باب معنى الصراط ‏ص32، تفسير القمي ج1 ص 28، تفسير العياشي ج1 ‏ص 24 و285، تفسير التبيان ج1 ص 42، تفسير مجمع البيان ج1 ص 66، ‏الفضائل لشاذان ‏القمي ص 2، تفسير الصافي ج1 ص85، تفسير نور الثقلين ج1ص21، تفسير كنز الدقائق ج1 ‏ص 60، تفسير الميزان ‏ج1 ص41‏


هذا وأما تفسير الصراط بأنه الإسلام أو القرآن، فلا يكاد يستقيم معه للآية معنى محصَّل.‏
فإننا وإن كنا نلتزم بأنَّ السلوكَ والانقياد التام والالتزامَ على وفق ما جاء به الإسلامُ ودلَّ ‏‏عليه القرآنُ يتحقق به الصيرورة على الصراط المستقيم، غير أنه مضافاً إلى عدم تأتي التعرف ‏‏على الإسلام وما في القرآن من دون تعليم الرسول الأكرم (عليهما السلام) وإرشاده وتبيينه، وقد ‏‏وقع الاختلافُ الكثير في ما لا يحصى من المفردات والمفاهيم والحقائق الدينية والقرآنية، فاحتجنا ‏‏إلى معرفة مَن يجب اتباعه، ممَن جعل سبحانه الحُجَّية لقوله، ليكون ذلك سبيلاً حقاً وحُجَّة علينا، ‏‏وليقع الاقتداء به والاهتداء بهديه.‏
والنبي الأكرم (عليهما السلام) في زمن وجوده وحال حياته الشريفة هو المجسِّدُ للصراط ‏‏المستقيم، ويكون الصراطُ المستقيمُ متحقِّقاً به فعلاً، بل هو الاستقامةُ والصراطُ الحق والسبيلُ ‏‏القويم.‏
وما دامت الحُجَّةُ الباعثة والداعيةُ للحكيم اللطيف الخبير إلى بعث الرسل لا ينتهي أمدها ‏‏بموت الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولا يتحقق غرضها الأقصى إلا بديمومة وبقاء ‏‏الحجَّةِ الإلهية، راعيةً لشؤون الخلق حافظةً للشريعة، لذا احتاج الخلق المفتقِر إلى الراعي ‏‏والمدبِّر، والمفتقِر إلى الحافِظِ في تمام الأزمنة، والمحتاج إلى المقوِّمِ للاعوجاج، احتاج وافتقر إلى ‏‏مَن يتمثَّل به وفيه الصراطُ الحق، فيكون إتباعُه حقاً، وسيرتُه هدياً، وفعلُه وتقريرُه سلوكاً به ‏‏يُقتدي.‏
والإسلام الذي يقال عنه بأنه هو الصراط المستقيم، لا يعرفه أبناءُ الإسلام في أول الأمر ‏‏بالبداهة والضرورة، لا سيما وأنَّ في كل تقلُّب يقع من الخلق أمورٌ تخفى على غير المسدَّد ‏‏والمؤيَّد من الله تعالى حقيقتُها، وإعمالُ النظر والحدس والاجتهادُ لتحصيل الحق فيها يلزم عنه ما ‏‏لا يكاد يخفى من مفاسد، وتركُ الخلق حياري تتلاعب بهم المذاهبُ وتتجاذبهم الأهواء ينقض ‏‏الغرض الداعي والباعث على خلق الثقلين، فكان المسلمون لا محالة محتاجين وسيبقون إلى حُجَّة ‏‏إلهية يردُّ أباطيل المبطلين، ويدحض مزاعم المفسدين، ويأخذ بالناس إلى شاطىء الأمان، ويسوقهم ‏‏في طريق الهدي، ويسوسهم لما فيه خيرهم وسعادتهم في الدارين.‏
نعم قد يحصل من الناس أن يُفوِّتوا على أنفسهم بركات وخيرات وآثار وجود الحُجَّة ‏‏الإلهيَّة، وهذا لا يعني انتقاض الغرض بغيابه، فإنَّ ما يتصل ويرجع إلى الحكيم اللطيف تامُّ ‏‏الاقتضاء، ولكن الناس بسوء اختيارهم أوجدوا الموانع المانعة عن تحقق ما من شأنه التحقق ‏‏والثبوت، وليس يجب منه سبحانه إلا رفعُ أو دفعُ ما لا يملك الناس فيه اختياراً، ولتحقيق المطلب ‏‏وإعطائه حقه وما يستحقه مقام آخر.‏
ومهما يكن، فلو قلنا بأنَّ المقصود من الصراط هو القرآن أو الإسلام، فيكون محصَّلُ ‏‏الآية: اهدنا قرآن الذين أنعمت عليهم أو إسلام الذين أنعمت عليهم.‏
فهل يعني ذلك أنَّ قرآن وإسلام غيرهم يختلف عن قرآن وإسلام أولئك؟
نعم في الصورة الظاهرية، لا يكاد يختلف إسلام مَن أنعم الله عليهم عن إسلام غيرهم، ‏‏ولكن في الصورة الواقعية قد لا يكون بين الإسلامين إلا الاتحادُ في الرسم والكلمة.‏
وكذا فإنَّ القرآنَ واحدٌ نزل من عند الواحد، غايته أنَّ بما يدركه مَن أنعم الله عليهم من ‏‏الحقائق والأسرار، يفضي في نهاية المطاف إلى مغايرة القرآنيين بحسب اختلاف ما يستفيده ويعيه ‏‏أصحاب الهداية التامة والنعمة الخفية، وبحسب ما يقرع مسامع قلوبهم، وما يطيف بهم من أنوار ‏الحق ‏تعالى.‏
ثم لا بُدَّ وأن يقع السؤالُ عمَن هم أولئك المشار إليهم، وعمَن هم المسؤول عن طلب ‏‏الهداية إلى صراطهم وإسلامهم ودينهم.‏
فإنَّ مع عدم تشخُّصِ أعيانهم ومعرفةِ أشخاصهم كيف يتحقق متعلَّقُ السؤال؟!‏
أعني ما لم نعرف مَن هم أولئك، وما هي تلك النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، وما ‏‏هي صفاتهم وخصائصهم، فإنَّ طلبَ الهداية سيكون بالبداهة متعلِّقاً بأمر مجهول مُبهَم.‏
أَوَ ليست الغايةُ المنشودة والهدفُ الأسمى والغرضُ الأقصى، هو تحقُّقُ متابعة أصحاب ‏‏الصراط المستقيم؟
ومع عدم معرفتهم، فإنَّ طلب وسؤال الهداية إلى صراطهم، يكون من طلب الأمر ‏‏المجهول، وهل يطلب العاقلُ أمراً مع جهله بالمأمور به وبحدود مطلوب الآمر؟!‏
فاحتاج الأمرُ على تمام التقادير وجميع المحتملات إلى معرفةِ صاحبِ الصراط المستقيم ‏‏والمهيمِنِ عليه، وهذا يستلزم تعيُّنَ تبيينِ المولى لذلك، وكشفِ النقاب وإزاحةِ الشبهة عنه.‏
وأخيراً، فما لم يُبيِّن المولى، فإنه سيبقى السبيلُ الذي أمرنا باتباعه والصراطُ الذي حثَّ ‏‏على الاجتهاد في طلب الهداية إليه، مجهولةً معالمُه، خافيةً حدودُه، مبهَمةً حقيقتُه، وعليه فكيف ‏‏يتأتى للإنسان طلبُ ما لا يعرفه، وكيف يُعقل منه السعيُ نحو أمر يجهله؟!‏

العودة