{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}‏ سورة الواقعة الآية 10 ـ 11‏

قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الذين لم يكتفوا بالتزام أوامر ‏الله ونواهيه بطريقة عاديَّة، بل تطلَّعوا إلى الحصول على رضاه، وعملوا على السبق إلى طاعته ‏حتى في ما لم يُلزِمهم به، مما عرفوا فيه عمقَ محبته له لقيمته الروحية الكبيرة، التي يريد للحياة ‏أن تلتزمها كخطٍّ للسلوك الإنساني في حركة الإيمان [من وحي القرآن ج 21 ص 328]
أقول: إنَّ السبقَ إلى أصل الإيمان بالله تعالى متقدِّمٌ على السبق إلى طاعته بالعمل بالواجبات ‏والمستحبات، وإن كان من ضمن طاعته تعالى هو الإيمان به سبحانه على بعض الوجوه.‏
وعليه، فالأحرى بالآية الكريمة أن يكون الحديثُ فيها عن السبقِ إلى أصلِ الإيمان والطاعةِ وتلبيةِ ‏النداء الإلهيِّ أولاً، ومِن ثَمَّ تشمل مَن سبق إلى العمل بالواجبات والمستحبات، وانتهى عن ‏المحرمات والمكروهات.‏
وأقول: أولاً، لستُ أدري مَن الذي أوحى إلى هذا المفسِّر المعاصر من أنَّ المولى سبحانه يقصد ‏من السبق المعنى الذي فسَّره به، مع أنَّ الأخبارَ الواردة عن أئمة العترة الطاهرة(عليهم السلام)، ‏قد فسَّرت السبق بغير ما فسَّره به هو.‏
وثانياً: إنَّ ما التزم به السيد محمد حسين من تفسيرٍ يقضي بتضييع منقبةٍ عظيمة لأمير المؤمنين ‏‏(عليه السلام).‏
وثالثاً: على جميع التقادير، فإنَّ الآيةَ تشمل كلَّ سبْقٍ إلى الحقِّ، والسبقُ إلى أصلِ الإيمان سبقٌ ‏إلى الحقِّ، بل هو أولُ وأفضلُ مراتب السبْقِ.‏
ثم إننا قرأنا الآيةَ التي بعدها، فوجدنا أنه سبحانه قضى وحكم بتقريب السابق، وأنه هو المقرَّبُ ‏عنده ولديه تعالى، فقال سبحانه {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}، فحصلَ لدينا اليقينُ بأنه تعالى ما كان ليرضى ‏بتقريب المتأخِّر في السبْقِ على المتقدِّم، فتمتْ لنا الحُجَّةُ على كلِّ مَن قدَّم غيرَ أمير المؤمنين ‏‏(عليه السلام) عليه، فإنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، هو أولُ السابقين بإجماع المسلمين.‏
نعم كونُ السابقين مقرَّبين في جنات النعيم كما أفادت الآية، لا يعني أنهم فقط هناك هم المقرَّبون، ‏فإنَّ المولى سبحانه في مقام بيان منقبةِ الحائز على السبْق عنده، ومن الطبيعي أنَّ مَن يكون ‏المقرَّبُ منه تعالى في الآخرة، لا بُدَّ وأن يكون هو المقرَّب عنده في الدنيا، بل الأمرُ في هذا ‏أوضحُ من أن نتكفَّل بيانَ الدليل على ذلك.‏
فإنَّ القربَ منه تعالى في تلك الدار الآخرة، متوقِفٌ على نيلِ رضاه سبحانه وسلوكِ الحقِّ من ‏خلال الالتزام بالحقِّ في دارِ الدنيا دارِ التكليف، ليكونَ جائزةَ وجزاءَ ذلك الحصولُ على القرب ‏منه سبحانه.‏
على أنه هل يصحُّ في عقلٍ أن يتقدَّم المتأخِّرُ ويتأخَّر المتقدِّم؟!‏
ثم إنَّ السَّبق في الآية كما أشرنا صادقٌ في كثير من مواقع الحقِّ، غايته أنَّ السَّبق في كلِّ مواقع ‏الحقِّ يُحقِّقُ عنوان السَّبق لمَن سَبَق بنحو أتمّ، أي يكون عنوانُ السابق صادقاً على مَن سَبَق بشكلٍ ‏مميَّزٍ، ومن البديهي أن يكون مثلُهُ له الأولويَّة الحتميَّة في جميع ميادين الحقِّ، ومنها منصبُ ‏الاستخلاف في الأرض.‏
ذلك أنَّ السابق إلى الخير في أمر ما يتقدَّمُ بحكم العقل والشرع على المتأخِّر عنه، والسابقُ في ‏أعظمِ الأمور وأهمِّها لا يساويه السابقُ له في صغائر الأمور فيما لو تحقَّقَ ذلك، وأما السابقُ في ‏الإيمان والتصديق بما جاء به رسولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه لا يُمكن أن نحتمل من ‏المولى سبحانه أنه يرضى بتأخُّرِه، فكيف إذا ما كان مضافاً إلى ذلك هو السابقُ أيضاً في العلم ‏والشجاعة، وقد قال سبحانه في محكم كتابه {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ ‏وَالْجِسْمِ}
سورة البقرة الآية 247 والواو في قوله تعالى «وزاده» ليست للعطف، وإنما هي لبيان الوجه في اصطفائه ‏تعالى.‏
وإذا ما ثبت من خلال الأخبار الموثوق بها، أنَّ مصداقَ السابق هو أمير المؤمنين عليٌّ (عليه ‏السلام)، فإنه لا محالة يتعيَّنُ أن يكون هو المقدَّمُ عقلاً وشرعاً بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه ‏وآله).‏
هذا ولا يظنُّ ظانٌّ بأنَّ الآية لا تنطبق إلا على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنها تنطبق أولاً ‏على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقد قال تعالى {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ ‏الْمُسْلِمِينَ}
سورة الأنعام الآية 163 فإنه (صلى الله عليه وآله) أولُ مَن أقرَّ بالربوبية واعترف بالحق سبحانه، وبإزاء ‏هذه الجهة كان أولَ السابقين كما جاء عنه (صلى الله عليه وآله)، ولكننا حيث نتكلم عن مصاديق ‏الآية من أمته (صلى الله عليه وآله)، فلهذا بدأنا بذكر أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام).‏
وتنطبق الآية أيضاً على كلِّ مَن سَبَق للاعتراف بالحقِّ والتصديق بما جاء به الرسولُ الأكرم ‏‏(صلى الله عليه وآله)، غير أنه حيث كان أميرُ المؤمنين (عليه السلام) أولَ القوم إسلاماً، وأسبقَهم ‏إلى الانقياد بجميع ما جاءت به الشريعةُ الغراءُ، فكان لا محالةَ سيكون أمير المؤمنين (عليه ‏السلام) هو أولُ مصداقٍ للآية وأفضلُ الأفراد.‏
وإذا ما انضم إلى هذا ما ثبت فيما تقدَّم، بأنه المصدِّقُ قولاً وعملاً بجميع ما جاء به الرسولُ ‏الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإنه تعرف الوجهَ في تخصيص أمير المؤمنين بالذكر، وإنه المعنيُّ ‏من الآية التي نبحث فيها.‏
فقد أخرج الضحاك في الآحاد والمثاني، والطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في فضائل ‏الصحابة، وابن أبي حاتم، والثعلبي، وابن المغازلي في مناقبه، وابن مردويه، والحاكم الحسكاني ‏في الشواهد، والخوارزمي في المناقب ـ وجميع هؤلاء من أبناء السُّنة ـ بإسنادهم عن مجاهد ‏عن ابن عباس في قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: سَبَقَ يوشعُ بن نون إلى موسى، وسَبَقَ ‏صاحبُ يس إلى عيسى، وسَبَقَ عليٌّ (عليه السلام) إلى محمد (صلى الله عليه وآله).‏
أقول: وأخرجه الديلمي عن عائشة، وأخرجه الحسكاني أيضاً بإسناده عن عطاء بن أبي ‏رباح عن ابن عباس، وأخرجه محمد بن العباس في تفسيره بإسناده عن عامر عن ابن عباس، ‏وأيضاً بإسناده عن طاووس عن ابن عباس.‏
ومن العجيب أنَّ ابن كثير لم يمنعه ما اشتهر به من نصبه العداء لأمير المؤمنين عن الاعتراف ‏بهذه المنقبة، فإنه بعد أن نقل هذا القولَ ـ أي قول ابن عباس ـ من جملة ما نقله من أقوال في ‏تفسيره قال: وهذه الأقوال كلها صحيحة.‏
فيا ترى ما هو الذي منع المفسِّرُ المعاصر عن التلميح إلى هذه الفضيلة؟!!‏
وأخرج أبو نعيم، والحاكم الحسكاني، وفرات الكوفي، بإسنادهم عن ابن عباس في قوله تعالى جلَّ ‏ذكره {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: سابق هذه الأمة أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه ‏السلام).‏
وأخرج الحسكاني بإسناده عن السدي في قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: نزلت في عليٍّ ‏‏(عليه السلام).‏
وأخرج الثعلبي في تفسير الآية بإسناده عن عباد بن عبد الله قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: ‏أنا عبد الله وأخو رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأنا الصِّدِّيقُ الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذَّابٌ ‏مفتري.‏
أقول: ولا يقصد أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله «لا يقولها بعدي» أي لا يقولها ‏مَن يأتي بعده (عليه السلام)، وإنما يقصد أنه لا يقولها غيري، وإلا فإنه (عليه السلام) ليس قبله ‏من صدِّيق قطعاً.‏
وأخرج ابن مردويه، والحاكم الحسكاني، وابن عساكر ـ وهم من أبناء السُّنة ـ ومحمد بن ‏سليمان الكوفي، بإسنادهم عن عبد الرحمان بن عوف في قوله {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ} قال: عليٌّ ‏‏(عليه السلام) أوَّلهم.‏
ومثله أيضاً أخرج الحاكم بإسناده عن الإمام الحسن المجتبى، وبإسناده عن الضحاك عن ابن ‏عباس، وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس.‏
وأخرج الصَّدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ‏قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} فيَّ نزلت.‏
وأخرج الحاكم الحسكاني في الشواهد، والشيخ الطوسي في الأمالي، ومحمد بن علي الطبري في ‏بشارة المصطفى، بإسنادهم عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: سألتُ رسول الله (صلى ‏الله عليه وآله) عن قول الله عزَّ وجل {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} فقال: قال لي جبرئيل: ذاك عليٌّ ‏‏(عليه السلام) وشيعته.‏
أقول: وهذا الحديثُ قرينةٌ على ما ذكرناه من أنَّ أميرَ المؤمنين هو المصداقُ الكاملُ التامُّ 
بصائر الدرجات ص 466 ؛ الكافي ج 1 ص 271 ؛ عيون أخبار الرضا ج 1 ص 70 ـ 71 ؛ الأمالي للشيخ الصَّدوق ص ‏‏729 ؛ كمال الدين وتمام النعمة ص 276؛ مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي ج1 ص 127 و165 و406 ؛ المسترشد ‏ص 643 ؛ الأمالي الشيخ للطوسي ص 72 و549 و563 ؛ الاحتجاج ج 1 ص 213 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 289 و ج 3 ‏ص 403 العمدة ص 42 و62 ـ 65و221 و410 ؛ الطرائف ص 17ـ20 و69؛ حلية الأبرار ج 2 ص 49 ؛ بحار الأنوار ج 16 ‏ص 120 وص 315 وج 22 ص 302 و42 ص 4 وج 35 ص 24 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 346 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 463 ‏إلى465 ؛ تفسير مجمع البيان ج 9 ص 230 و358 ؛ خصائص الوحي المبين ص 147إلى152 ؛ بشارة المصطفى ص 25و145 ؛ ‏كشف اليقين ص 36 - 39 و166ـ 168 و394 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 606 و641 إلى643 ؛ الغدير ج2 ص306 ‏
من مصادر أبناء السنة: الآحاد والمثاني ج 1 ص 150 ؛ المعجم الكبير ج 3 ص 57 وج 11 ص 77 وج 12 ص 81 ؛ الجامع ‏الصغير للسيوطي ج 2 ص 66 ؛ ذخائر العقبى ص 58 ؛ مناقب الخوارزمي ص 55 ؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 333 إلى337 وج 2 ‏ص 48 وص 291 إلى297 ؛ تفسير القرطبي ج 8 ص 236 ؛ تفسير ابن كثير ج 4 ص 304 ؛ الدر المنثور ج 5 ص 199 وج 6 ‏ص 154 ؛ فتح القدير ج 4 ص 280 وج 5 ص 151 ؛ تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 43 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 59 و192 ‏و343 و346 وج 3 ص 366‏

العودة