ـ الله يؤنب ويوبخ نبيه.

ـ نوح لم يلتفت إلى "إلا من سبق عليه القول".

ـ كلمة "من سبق عليه القول" لم تكن واضحة.

وعن عدم التفات نوح عليه السلام إلى ما قاله الله تعالى حين أوحى إليه بشأن ولده، نجد البعض يقول في سؤال وجواب:

"كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة البنوة، ليقف بين يدي الله ليطلب منه إنقاذ ولده الكافر، من بين كل الكافرين؟!

وكيف يخاطبه الله بكل هذا الأسلوب الذي يقطر بالتوبيخ والتأنيب؟ ويتراجع نوح، ليستغفر، ويطلب الرحمة لئلا يكون من الخاسرين.

ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك: أن المسألة ليست مسألة عاطفة تتمرد، ولكنها عاطفة تتأمل وتتساءل، فربما كان نوح يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل.

وربما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل لأنه من أهله ولم يلتفت إلى كلمة: {إلا من سبق عليه القول} لأنها لم تكن واضحة"  [من وحي القرآن ج12ص72]

ويقول في موضع آخر عن نوح الذي كان السؤال يلح على قلبه:

"والحسرة تأكل قلبه على ولده أن الله وعده أن ينقذ أهله"

إلى أن قال:

"ولم ينتبه إلى كلمة: {إلاّ من سبق عليه القول} فأقبل إلى ربه بالنداء الخ.." [ الحوار في القرآن ص242-243]

ونقول:

إننا نسجل هنا ما يلي:

أولا: إنه ليس ثمة من دليل ملموس يدل على أن نوحا صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بكفر ولده، فلعله كان قد أخفى كفره عن أبيه، فكان من الطبيعي أن يتوقع عليه السلام نجاة ذلك الولد الذي كان مؤمنا في ظاهر الأمر، وذلك لأنه مشمول للوعد الإلهي، فكان أن سأل الله سبحانه أن يهديه للحق، ويعرفه واقع الأمور، فأعلمه الله سبحانه بأن ولده لم يكن من أهله المؤمنين، وأنه من مصاديق {من سبق عليه القول} فتقبل نوح ذلك بروح راضية راجع تفسير الميزان ج10ص232

ثانيا: إنه ليس ثمة ما يدل على أن نوحا عليه الصلاة والسلام قد عاش الحسرة على ولده، من حيث إنه ولده.. فإن الأنبياء يعيشون الحسرة على الكافرين لما يفعلونه بأنفسهم، لا لقرابتهم منهم.

والشاهد على ذلك ما حكاه القرآن عن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث خاطبه الله بقوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}.

ويقول: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}.

ويقول: {لعلك باخع نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين}.

غير أننا إن تأكد لدينا أن نوحا عليه السلام كان واقفا على كفر ولده، فإن من المعقول والمقبول جدا فهم موقف نوح، على أنه عليه السلام قد أراد أن يفهم الناس الذين نجوا وهلك أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم وأحباؤهم،أراد أن يفهمهم من خلال الوحي الإلهي: أن لا خصوصية لمن نجا من أهل نوح، كما لا خصوصية لمن هلك منهم ومن غيرهم، إلا ما يدخل في دائرة الإيمان، فلهم النجاة، أو في دائرة الكفر فلهم الهلاك..

وأراد أن يفهمهم أيضا أن القضية قد نالت فيمن نالت حتى نبي الله نوحا في ولده.. وأن هلاك ذلك الولد لم يكن فيه خلف للوعد الإلهي، لأن المقصود بالأهل الذين صدر الوعد بنجاتهم هم أهله المؤمنون.

ثالثا: إذا راجعنا الآيات نفسها، فلا نجد فيها أنه عليه السلام يطلب من ربه نجاة ولده، بل فيها أنه عليه السلام قد اعتبر رحمة الله ومغفرته هي الربح الأكبر، وبها تكون النجاة من الخسران.

ولأجل ذلك نجده عليه السلام قد قال: {إن ابني من أهلي} توطئة للرد الإلهي الذي سيحدد خصوصية الأهل الموعود بنجاتهم، وهم المؤمنون، دون الكافرين.. حيث قد سبق القول بإهلاك الكافرين سواء أكانوا من أهل نوح أو من غيرهم.

رابعاً: بالإضافة إلى ما تقدم نقول: إن نوحا عليه السلام قد طلب من ولده أن يركب معهم، فقال:

{يا بني اركب معنا، ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم}  سورة هود 32-43      

وهذا ـ أعني قوله تعالى: {ولا تكن مع الكافرين} يشير إلى أنه يراه مؤمنا، وأنه هو الذي رفض الركوب معهم، وعرض نفسه للهلاك مع علم نوح بأن التخلف عن ركوب السفينة معناه التعرض للهلاك المحتم، وكان هذا هو خيار ولده نفسه..

ثم أشار (عليه السلام) إلى ما يفيد أنه لم يكن بصدد طلب نجاة ولده، ولا كان يتهم الله تعالى بخلف وعده، حيث صرح (ع) أن وعد الله هو الحق..

وقبل أن يتقدم بأي طلب من الله كان التعليم الإلهي له: أن لا يسأله ما ليس له به علم.

إذن، فهناك شيء لم يكن نوح مطلعا عليه، حسب دلالة الوحي الإلهي، فجاءت استجابة نوح لتؤكد على أنه عليه السلام لم يسأله، ولن يسأله في المستقبل:

{فلا تسألن ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم}  سورة هود 46-47

ثم جاء قوله عليه السلام: { وإلا تغفر لي، وترحمني أكن من الخاسرين}  سورة هود 47  ليؤكد هذه الحقيقة، حيث إنه قد استعمل كلمة (لا) ولم يستعمل كلمة (لم)،ليفيد أنه لا يتحدث عن الماضي، حيث لم يصدر منه ما يحتاج إلى ذلك، بل هو يتحدث عن المستقبل.

ويتضمن هذا التعبير إشارة إلى أن طلب الأنبياء للمغفرة، إنما يراد منه طلب دفع المعصية عنهم، لا رفعها، كما هو معلوم عند أهله..

خامساً: إنه ليس ثمة ما يدل على أن نوحا عليه السلام، لم يلتفت إلى كلمة {إلا من سبق عليه القول} أو أن هذه الكلمة لم تكن واضحة حين الوحي، علما أن ذلك يخالف العصمة في البلاغ وفي التبليغ، وهي أمر عقلي، مسلّم وقطعي، عند جميع المسلمين، وليس في الآيات أيضا: أن نوحا قد عاش الحسرة على الكافر، حتى لو كان ذلك الكافر هو ولده بالذات.

سادساً: وأخيراً، هناك الكثير من الاحتمالات التي تتحملها الآيات بحيث تكون بعيدة عن وصم الأنبياء (ع) بهذه النقائص، ولا تتنافى مع (بلاغة القرآن)، فلماذا اختيار التفاسير التي تظهر أو تنسب نقيصة للنبي أو الولي، دون غيرها من التفاسير التي تنزههم عن مثل هذه النقائص؟!

العودة