ـ التأكيد على سذاجة إبراهيم عدة مرات.

ـ خشوع إبراهيم للكوكب، وقناعته بربوبيته.

ـ إبراهيم (ع) في وهم كبير.

ـ إبراهيم يعبد القمر ويتصوف له.

ـ ضياع إله إبراهيم في الأجواء الأولى للصباح.

ـ ( لا أحب.. هذا أكبر) صرخة طفولية.

يقول عن إبراهيم عليه السلام، في ما قصه الله تعالى، من خطابه عليه السلام للكوكب ثم للقمر والشمس: إن هناك احتمالين في تفسير الآيات التي تعرضت لذلك:

أحدهما: أن يكون ظاهر الآيات هو حقيقة موقفه، فيكون إبراهيم قد صدق بأن الكوكب والقمر والشمس آلهة..

الثاني: أن يكون إبراهيم (ع) قد قام بحالة استعراضية أمام قومه ليقنعهم بالحقيقة.

وقد ذكر لكلا الاحتمالين ما يقربه.. ولكنه شرح الآيات شرحا مسهبا على أساس الاحتمال الأول، ثم بعد أن ذكر ما يؤيد كل واحد من الإحتمالين، وذكر ما يمكن استفادته من الآيات، عاد وختم كلامه وفق الاحتمال الأول..

ومن الواضح: أننا وإن كنا نستظهر من ذلك ميله إلى ذلك الاحتمال الفاسد، ولم يذكره لمجرد كونه احتمالا، إلا أن مجرد توهم أن يكون نبي الله إبراهيم(ع) قد عبد غير الله، أو اعتقد بألوهيته وربوبيته، هو توهم واحتمال باطل في حق الأنبياء، ويلزم التصريح بتسخيفه وبطلانه، فضلا عن تأييده بالشواهد، ثم شرح الآيات بما يناسبه، ثم إنهاء الكلام والخروج من الموضوع من خلاله..

ونحن نذكر فيما يلي كلماته كلها.. فنقول:

يقول السيد محمد حسين فضل الله:

وتطالعنا ـ في هذا المجال ـ شخصيّة إبراهيم ـ النبيّ، التي يقدّمها لنا القرآن في صورة بسيطة صافية وعفوية في أجواء الصفاء الروحي والبساطة الإنسانية والطبيعة العفوية التي تلامس في الإنسان طفولته البريئة في ما تلتقي به من حقيقة الاشياء، ليفكر من خلال براءة النظرة في عينيه وسلامة الحس في أذنيه ويديه في ما يرى أو يسمع أو يلمس في يديه من أدوات الحسّ الواقعي. فنحن لا نرى فيه ـ من خلال الصورة القرآنية ـ شخصية الإنسان الذي يتكلف الكلمات التي يقولها للآخرين، ولا نلمح لديه روحيّة الشخص المشاكس الذي يبحث عن المشاكل في أفعاله وعلاقاته، بل نشاهد فيه الشخصية البسيطة الواقعية التي ترتبط بالأشياء من جانب الإحساس، فتسمي الأشياء بأسمائها بعيداً عن تنميق الألفاظ وزخرفة الأساليب، بقوّةٍ وصدقٍ وواقعيةٍ وإيمان.

ففي الصورة الأولى، نلتقي به في موقفه من أبيه الذي يعبد الأصنام التي يعبدها قومه، فيواجهه بالرفض الجذري للموقف من الأساس، لرفضه الفكرة التي يرتكز عليها، فهذه الأصنام هي أحجار جامدة، كبقية الأحجار الموجودة في العراء، ولا ميزة لها إلا أنَّ يد الإنسان قد أعطتها بعض ملامح الصورة، فحوّلتها إلى تماثيل، فإذا كان الإنسان هو الذي أعطاها تلك الميزة التي تختلف بها عن سائر الأحجار، فهي صنع يده، فكيف تكون آلهةً له؟ ومن الذي أودع فيها سرّ الألوهة؟ وهل الألوهة شيء يُصنع ويُخلق أو هي قوّةً تَصنَع وتَخلُقُ؟ ثم إن الألوهة تعني القدرة والعلم والحياة والغنى المطلق في ما تشتمل عليه في حقيقتها، فأين هي هذه المواصفات في تلك التماثيل؟ إنها الأوهام التي حوّلت الأشياء غير المعقولة إلى عقائد وتصوّرات ورموز قداسةٍ في مستوى الالهة، فكيف تتخذ هذه الأصنام آلهة؟ إن فكره لم يلمح أيّة إشراقةٍ للحقيقة في ما تسير عليه، ولو من بعيد، بل كل ما هناك هو الظلام والتيه والضياع. هنا يتحوّل التساؤل إلى حكمٍ قاطعٍ في مستوى وعيه للحقيقة المنطلقة من خط الهدى، التي تحدّد ملامح الضلال في خطوط الآخرين..

إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل ولا يغلّف الأشياء بغلافٍ سحري؛ بل يدفع الموقف إلى الأمام، بكل وضوحٍ وصراحة، بعيداً عن اللياقة التي تفرضها علاقة الابن بأبيه، لأن قضية العقيدة لا تخضع للجانب العاطفي من العلاقات، فعلاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوى من أيّة علاقة بأيّ إنسان كان.

نشاهد إبراهيم(ع) يتطلع إلى السماء، كما لو كان قد شاهدها أوّل مرة، فهو ـ في ما توحيه الآية ـ يواجهها كتجربةٍ جديدة لم يلتقِ بها من قبل، وذلك في ما تعنيه التجربة من المعاناة في حركة الحسِّ البصري كمادّة للتفكير، للانتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المادّة إلى المعنى. فقد كان يشاهدها سابقاً في رؤيةٍ جامدةٍ لا تعني له شيئاً، إلا بمقدار ما يعنيه انعكاس الصورة في العين، لمجرّد تجميع الصور في الوجدان، في ما يلتقي به الإنسان من مألوفاته العادية في حياته اليوميّة، وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـواتِ وَالأرْضِ} هي الرؤية الواعية الفاحصة المدققة التي تثير في النفس المزيد من التأمّل والحوار والاستنتاج، بدليل قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ما يوحي بأنها الرؤية التي تبعث على القناعة واليقين.

وأخذ يستعرض عقلياً عقائد قومه في عبادتهم للكواكب وللقمر والشمس، وهكذا التقى بالكواكب المتناثرة في السماء، في صورةٍ بديعةٍ في روعة التنسيق والتكوين، فما إن لمح كوكباً يتلألأ ويشعّ في قلب هذا الظلام المترامي، حتى سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى على فكره الخشوع الروحيّ أمام هذا الشعاع الهادي في الأفق البعيد، فخيّل إليه أن هذا هو الإله العظيم الذي يتعبد الناس إليه، لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد، الذي تتطلع إليه الأبصار برهبةٍ وخشوع، ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك كنهه.

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي} في صرخة الإنسان الطيّب الساذج الذي خُيل إليه أنه اكتشف السرّ الكبير الذي يبحث عنه كل الناس، كما لو لم يكتشفه أحدٌ غيره، وكأنّه أقبل إليه في خشوع العابد، وفي لهفة المسحور، وفي اندفاعة الإيمان، وربما ردّد هذه الكلمة {هَـذَا رَبِّي} ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها بعيداً عن كل حالات الشك والريب، وبدأ الليل يقترب من نهايته، وبدأت الكواكب تشحب وتفقد لمعانها، ثم بدأت تبهت وتبهت حتى غابت عن العيون، وحاول أن يلاحقها هنا وهناك، لقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح، وانكشفت له الحقيقة الصارخة، فقد كان يعيش في وهمٍ كبير، لقد أفل الكوكب، ولكن الإله لا يأفل، لأنه القوّة التي تمثل الحضور الدائم في الحياة كلها، فلا يمكن أن تبتعد عن حركتها المتنوعة، لأن ذلك يتنافى مع الرعاية المطلقة للكون ولما فيه من موجودات حيّةٍ وغير حيّة، واهتزت قناعاته من جديد، وبدأ يسخر بالفكرة: {فَلَما أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}.

{فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ} في صفاء الليل، ووداعة السكون، وكان الشعاع الفضي الساحر يلقي على الكون دفقاً من النور الهادىء الذي يتسلل إلى العيون فيوحي إليها بالخدر اللذيذ، ويخترق القلوب فيوحي إليها بالأحلام الساحرة، ويطل على الطبيعة فيغلّفها بغلافه الشفّاف الوادع الذي يثير في آفاقها الكثير من الأحلام، وبدأت المقارنة بين ذلك النور الكوكبيّ الذي يأتي إلينا متعباً واهناً في جهد كبير، وبين هذا النور القمري الذي يتدفق كشلاّل في قلب الأفق، فأين هذا من ذاك، فهذا هو السرّ الإلهي الذي كان يبحث عنه، {قَالَ هَـذَا رَبِّي} وعاش معه في حالةٍ روحيةٍ من التصوّف والعبادة لهذا الربّ النورانيّ الذي يتمثل في السماء قطعةً فضيّة من النور الهادىء الساحر، وفجأة بدأ الشعاع يبهت، ثم يغيب، وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد.. أين ذهب الإله وأين غاب؟ وهل يمكن للإِله أن يغيب ويأفل؟ وضجّت علامات الاستفهام في روحه تتساءل من هو الإله؟ وأين هو؟ وعاش في التصور الضبابيّ المبهم الغارق في الغموض يتوسل بالربّ الذي لا يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل لئلا يضل ويضيع.. {فَلَمّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} وما زال ينتظر وضوح الحقيقة.

وفجأةً أشرقت الشمس بأشعتها الذهبيّة الدافئة فأخذت عليه وجدانه.. {فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ} فأين حجم الشمس، من حجم القمر والكواكب؟! فلا بد من أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه، لأنها تتميّز عنهما بصفات كثيرة، وبدأ يتابعها وهي تتوهّج وتشتعل، وتملأ الكون كله دفئاً وحياةً وإشراقاً وجمالاً، فإذا به يهتزّ ويتحرّك في قوّةٍ وامتدادٍ وحيويّة دافقة، ولكن، ماذا؟ وبدأ يفكر، فها هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل.. ثم تغيب وتأفل.. وتترك الكون في ظلام دامسٍ، فكيف يمكن أن تكون إلهاً تعيش الحياة في قدرته وقوّته ما دامت تغيب مع المجهول تاركةً الكون كله في ظلام وفراغ؟ وأطلق الصرخة فيمن حوله من هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس في ما خيّل له، في وقتٍ من الأوقات، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب: {فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} من هذه المخلوقات التي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشش في كل حركةٍ من حركاتها، أو خطوةٍ من خطواتها، وتمرّد على كل هذه الاتجاهات الإشراكية، لأن الله لا يمكن أن يكون هذه الأشياء المحدودة، بل لا بد من أن يكون شيئاً أعظم من ذلك وأكبر، في القوّة والقدرة: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَـواتِ وَالأرْضَ}.

وهكذا تدفّقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه، فأحسّ بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته.. وأدرك أن الله لا يُحَسّ كما تحس الموجودات الآخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه يُدرك بالعقل والقلب والشعور، من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في الكون الكبير، من السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، فتترك لديه انطباعاً بأن الله هو الذي فطرها وأوجدها، ومن خلال هذه الانطلاقة الإيمانية الرائعة التي أحس معها بالراحة والطمأنينة والانفتاح، وقف بكل كيانه، ليحوّل كل وجهه ـ والوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلعاتها ـ إلى الله، حنيفاً مخلصاً مائلاً عن خط الانحراف، فهو وحده الذي تتوجه إليه العقول والقلوب والوجوه بالخضوع والطاعة المطلقة، بإحساس العبوديّة، وحركة الإيمان، الذي يعلن هذا التوحيد بما يشبه الصرخة الهادرة الرافضة لكل الوجودات المحدودة، التي تتألّه أو التي يحسبها الناس في عداد الآلهة: {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

هل هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيم، أو هي محاكاةٌ استعراضيّة للأجواء المحيطة به، في ما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب والقمر والشمس، في محاولةٍ إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها، ما يعطي لموقفه بعض القوّة في الإيحاء، باعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها، ثم تمرّد عليها؟

إننا نعتقد أن هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم(ع) في ما حدثنا القرآن عن حياته، فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ حالة تأثره بالجوّ المحيط به، بل ربما نرى الأمر ـ بالعكس من ذلك ـ حالة تمرّد على البيئة حتى في ما يتعلق بالجو العائلي المتمثل في أبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم(ع) منه، وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم لأبيه حول الأصنام التي يعبدها أن هذا الموقف سابق لموقفه من هذه العقائد.. هذا بالإضافة إلى أن الرؤية التي حدثنا الله عنها لملكوت السموات والأرض، لا بدَّ من أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها وليست الرؤية البصرية الساذجة، لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على الحياة ليتطلع إلى ما فيها من موجودات يدركها البصر.

وربما كانت كلمة {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} إشارةً إلى ذلك، لتلتقي بكلمة {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] مما يوحي بأن إبراهيم كان يعيش حركة الفكر الذي يريد أن ينمي من خلاله أفكاره وإيمانه، بكل الأشياء التي تركز للفكرة قوّتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام التحديات التي تواجهها، حتى في ما يشبه الأوهام، ليواجه الصراع الذي يعيشه، بانفتاحٍ وقناعةٍ وقوّةٍ لا تعرف الضعف ولا التراجع في كل المجالات.

أمّا الاحتمال الأوّل، فقد يقرّبه القائلون، أن تكون الحادثة قد حصلت في بداية طفولته، عندما بدأ يتطلع إلى الأشياء، ويتأمل في الخلق. ولعل هذا هو الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية. فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب البعيد في السماء ولكنه يشرق في قلب الظلام، فيشعر بالرهبة والروعة، فيصرخ ـ في مثل اللهفة ـ {هَـذَا رَبِّي}، انطلاقاً مما كان يسمعه بأن الإله بعيدٌ بعيدٌ عن الإنسان، فلمّا أفل أحس بالانقباض وقال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، فقد نجد في كلمة {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} بعض كلمات الطفولة البريئة، التي تحبّ أو لا تحبُّ من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء، وتتكرر التجربة مع القمر، وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد، تماماً كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئاً قد أضاعه، أو شيئاً قد طلبه.. وتتكرر خيبة الأمل من جديد.

ولكن الوعي يتنامى هنا، فلا نجد ردّ الفعل طفولياً، بل نلاحظ في ردّة الفعل حالة حيرةٍ وذهول وتوسّل إلى هذا الرب المجهول الذي يتمثله في وعيه هادياً لعباده، أن يهديه إلى الحق لئلا يكون من القوم الضالين.. وتشرق الشمس في هذا الدفق اللاهب من النور الذهبي في إطار هذا الوجه الواسع الذي يتفايض بالشعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصافي الرقراق، فتكبر الصرخة في طفوليةٍ ظاهرة: {هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ} ويكون الاعتبار هذه المرة للحجم، في ما لا توحي به إلا أفكار الطفل أو ما يشبه الطفل، لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة، بما لا توحي به الأشياء الأقل حجماً.. وتتجدد خيبة الأمل بالأفول، ولكن تلك الإشراقة الساطعة للشمس استطاعت أن تبعث في قلبه إشراقة الإيمان الرافض لكل هذه الأوهام والظنون، هذه هي وجهة نظر هؤلاء، ولكننا قدمنا أن الاحتمال الثاني أقرب، لأن حديث القرآن عن إبراهيم(ع) لا يوحي بشيء من هذا القبيل، ما يدل على أنه كان موحداً بالفطرة منذ البداية.

وفي كلا الاحتمالين، يمكن للعاملين في حقل التوجيه، استيحاء الفكرة العملية في أسلوب التربية، من خلال الأسلوب الاستعراضي، في ما يتمثل فيه من مناجاةٍ ذاتية تجعل الإنسان يواجه الأفكار المطروحة في الساحة، مواجهة المؤمن بها، ثم يقوم بمناقشتها بالطريقة التي توحي باكتشاف مواطن الضعف والخلل فيها، بالمستوى الذي يجعلها بعيدةً عن الحقيقة، وعن إمكان اعتبارها عقيدةً ترتبط بها قضيّة المصير.. ولا يختص الأمر بالأفكار المتصلة بالعقيدة الإلهية، بل يمتد إلى جميع المجالات التي تمثل الخط العملي للحياة. ويمكن لنا ممارسة هذا الأسلوب في القصة والمسرح والسينما وغيرها من الأساليب التي تخاطب الجمهور لتوجيه قناعاته. وقد لا نحتاج إلى التأكيد على ضرورة دراسة المستوى العقلي والروحي للناس من أجل تركيز هذا الاتجاه على قاعدةٍ متحركة في الفكرة والأسلوب، كما يمكن استيحاء القصة في مدلولها الرسالي في عدم خضوع الإنسان للبيئة في ما تحمل من أفكار وعاداتٍ ومشاعر، بل يعمل على ممارسة دوره الذاتي المستقلّ، كإنسانٍ يفكّر بحريّةٍ، ويقتنع على أساس الدليل.

وتبقى لنا ـ في هذا المجال ـ هذه البراءة الفكرية من إبراهيم، حيث نتمثله إنساناً يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية، والعفوية الروحية، التي تلتقي بالقضايا من وحي الفطرة لا من وحي التكلف والتعقيد، ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة على الله ـ سبحانه ـ عند اكتشافه للحقيقة والإقبال عليه بكل وجهه، وبكل فكره وروحه وانطلاقه العملي في الحياة، لأن توجيه الوجه لله، لا يعني ـ في مدلوله العميق ـ هذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرةٍ حائرةٍ، بل يعني انطلاقة حياة الإنسان وكيانه مع الله في ما يحمل من عقيدة، وفي ما يرتبط به من فكر، ويتحرك معه من خط، وفي ما يستهدفه من أهداف، وفي ما يعيشه من علاقات وأوضاعٍ وتطلّعات، إنه الاندماج بالحقيقة الإلهية، بأن تكون الحياة كلها لله، وفي خدمته.

ولعلّ قيمة هذه الفكرة، أننا لا نستوحي آفاقها وخطواتها العملية تجريداً ونظرياً لنعيش معها في متاهات التجريدية، بل هي حركة الإنسان ـ النبيّ الذي يعيش حركة الإيمان والفكر في حياته من موقع إنسانيته البسيطة، ليوحي بأن دور الإنسان الذي يريد أن يحقق إنسانيته، هو أن ينعزل عن كلّ الحدود المادية الضيقة التي تشده إلى الأرض في استسلامٍ ذليل، ويرتبط بالحقيقة المطلقة التي يحلِّق من خلالها مع الله. [من وحي القرآن ج9ص177-185ط2]

ونقول: إن احتمال عبادة إبراهيم (ع) للكوكب وغيره، مناف للعصمة،ولا يصح إبداؤه في حق المعصومين عموما، ولا يمكن أن يقرّبه شيء، لا في الطفولة ولا فيما بعدها، على ما هي عليه عقيدة علماء المذهب القطعية، المأخوذة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، ونحن نشير هنا إلى بعض ما يوضح ذلك، وعدم صحة تفسير الآيات بما فسرها به ذلك السيد فضل الله.

 تفسير الآيات:

إننا نستفيد من الآيات الكريمة، ما يدل على عدم صحة ما ذكره السيد فضل الله ، فلاحظ ما يلي:

1 ـ إننا لا نجد أي دليل على أن هذه القضية قد حصلت لإبراهيم في زمان طفولته، بل في الآيات ما يشير إلى خلاف ذلك، وأن ذلك كان في مقام الاحتجاج على قومه.

2 ـ إن ما يلفت نظرنا أنه حين طلع الصباح على إبراهيم (ع)، ورأى أفول الكوكب وانحسار نوره، لم يتوجه إلى الشمس التي ظهرت له، بل انتظر إلى الليل، ليتوجه إلى القمر، ليخاطبه بذلك الخطاب: {هذا ربي}!! فلما أفل، وطلع الفجر مرة أخرى، وأشرقت الشمس، توجه إليها ليعتقد أنها هي ربه الحقيقي. حسبما شرحه لنا السيد فضل الله (!!).

فلماذا تركها في اليوم الأول حين أفول النجم، وانتظر إلى الليل ليعتقد بألوهية القمر دونها؟!. أم أنه قد نام النهار كله من شروق الشمس إلى غروبها، فلم ير الشمس، حتى ولو في ساعة من نهار؟!. أو أنه قد دخل كهفاً مظلماً، ولم يتذكر وجود الشمس، ولا التفت إليه؟!

3 ـ إن نفس السيد فضل الله يقر بأن إبراهيم (ع) كان يرى الشمس قبل ذلك في سنوات طفولته، وكان يرى القمر والكواكب أيضا ـ فلماذا لم يعتقد بربوبيتها منذئذٍ؟!. أو لماذا لم يتساءل عن هذا الأمر؟!. ولماذا لم يدرك أن الشمس أكبر من القمر والكواكب فور رؤيته لها طالما أنه قد رآها؟. أم أنه يريد تأكيد طفولة وبراءة إبراهيم من خلال عبارة (هذا اكبر) أو ( لا أحب)؟.

4 ـ لماذا التزم إبراهيم بربوبية هذا الكوكب بعينه، دون سائر الكواكب الطالعة وما أكثرها؟‍!.

5 ـ إن السيد فضل الله يصرح بأن الظاهر أن قصة إبراهيم (ع) مع أبيه آزر، كانت أسبق من هذه القضية، فكيف كان مؤمنا هناك، ويدعوه للإيمان بالله وترك الأصنام؟ وكافرا ومشركا هنا يعبد الكواكب والنجوم تارة ولا يعرف إلهه تارة أخرى؟!، فهل كان يدعوه إلى إله لا يعرفه؟! أم أن إبراهيم (ع) كفر بعد إيمانه؟!. وهل يصح منه بعد هذا أن يحتمل في حقه عليه الصلاة والسلام أن يكون قد عبد الكوكب حقيقة؟!. علما أن عبادة الكواكب خروج عن الفطرة، ومعصية ما بعدها معصية، والأنبياء معصومون عنها قبل البعثة وبعدها.

6 ـ ثم إن إبراهيم (ع) استدل على بطلان ألوهية الكوكب بالأفول، لان الله لا يأفل. فالذي يدرك مثل هذا الأمر الدقيق في ما يتعلق بصفات الإله، كيف لا يدرك صفة أوضح منها وهي استحالة الجسمية على الله؟ مع أنه كان يعرف هذا الأفول قبل ذلك لأنه كان قد رأى الكواكب سابقا، وعرف أنها تطلع وتغيب باعتراف القائل نفسه.

7 ـ إن إبراهيم (ع) بعد أن استدل بالأفول على بطلان ألوهية الكوكب، كيف عاد واعتقد بألوهية القمر؟ مع علمه بأنه يأفل ويغيب، ثم كيف عاد ليعتقد بألوهية الشمس مع علمه بأنها تغيب أيضا؟!.

8 ـ أما التعليل بـ (هذا اكبر)، فلا ينفع مع الاستدلال بـ (لا أحب الآفلين)، لان الآفل لا يصلح للألوهية سواء كان كبيرا أو صغيرا.

أضف إلى ذلك كله أن القمر قد كان اكبر من الكوكب أيضا فلماذا لم يلتفت إبراهيم إلى ذلك في حينه؟.

9 ـ إن السيد فضل الله لم يذكر لقارئه ما روي عن الإمام الرضا (ع)، من أنه قد رفض أن يكون إبراهيم عليه السلام قد أشرك بالله، وقرر أن إبراهيم (ع) إنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه لتسخيف معتقدهم. والرواية هي التالية:

إبن بابويه قال حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه، قال حدثنا أبي عن حمدان بن سليمان النيسابوري، عن علي بن محمد بن الجهم، قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟

قال: بلى.

قال: فسأله عن آيات من القرآن في الأنبياء، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله عز وجل في إبراهيم {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي}.

فقال الرضا (ع): إن إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف، صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفى فيه، فلما جن عليه الليل رأى الزهرة قال هذا ربي على الإنكار والإستخبار، فلما أفل الكوكب قال لا أحب الآفلين، لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم.

{فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي} على الإنكار والإستخبار، {فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين}.

فلما أصبح {رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر} من الزهرة والقمر على الإنكار والإستخبار، لا على الإقرار والإخبار..

{فلما أفلت} قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس {يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}.

وإنما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما تحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض. وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله عز وجل وآتاه، كما قال عز وجل {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}، فقال المأمون: لله درّك يا ابن رسول الله تفسير البرهان ج1ص48

10 ـ إن قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين}، قد فرع عليه قوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي}، فهذا التفريع على إراءته ملكوت السماوات والأرض، وعلى كون إبراهيم (ع) من الموقنين، يشير إلى أنه لم يقل هذا ربي عن اعتقاد، بل قاله عن إنكار واستهزاء.

11 ـ هذا غيض من فيض مما ورد في النص المنقول عن (من وحي القرآن)، ونترك الكثير الكثير من المداليل والملاحظات الموجودة لقارئنا الكريم، ليستخلصها بنفسه بعد أن عرف الضابطة في الفرق بين أوصاف الأنبياء وأحوالهم، وأوصاف الأشقياء وخصالهم.

العودة