ـ يونس (ع) تهرَّب من مسؤولياته.

ـ الله يعتبر يونس(ع) هاربا كإباق العبد من سيده.

ـ يونس(ع) يخرج دون أن يتلقى تعليمات من الله.

يتحدث السيد محمد حسين فضل الله عن هروب يونس(ع) من مسؤولياته، وإباقه من الله، وأنه عندما لم يستجب له فيها منهم الكثيرون:

وهو يقول:

"نستوحي من هذه القصة الخاطفة: أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين، من عباده ورسله، فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه، أو تهربوا منه من مسؤوليات.

وأن الداعية قد يضعف أمام حالات الفشل الأولى، أو أوضاع الضغط القاسية، أو مشاكل الظروف الصعبة، كنتيجة لفكرة انفعالية سريعة، أو لشعور حاد غاضب.

ثم يلطف الله بهم بعد أن يتراجعوا عن ذلك، ويرجعوا إليه، فينجيهم من بلائه، ويحوطهم بنعمائه، ويسبغ عليهم من ألطافه وآلائه، لئلا يتعقد الخطأ، أو الإنفعال في شخصيتهم، لينطلقوا إلى الحياة من روحية الصفاء الروحي، والنقاء الشعوري، من جديد، ليبدؤا الدعوة من حيث انتهوا، ويتابعوا المسيرة بعزم، وقوة، وإخلاص.

ثم نلتقي في أعماق الموقف بالابتهالات الخاشعة الخاضعة لله في روحية الإحساس بالعبودية، التي يشعر المؤمن معها بأن الله يلتقيه في مواقع الإنابة، مهما كانت الخطايا والذنوب، وأن الخطأ لا يتحول إلى عقدة، بل يتحول إلى فرصة للقاء بالله من جديد، في مواقع التوبة الحقيقية الخالصة، التي يبدأ فيها التائب تاريخا جديدا، وصفحة بيضاء من حياته" [ من وحي القرآن ج15ص260ط2]

ونقول:

إننا قبل أن نتعرض لشرح الآيات الخاصة بنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، نشير إلى أمرين:

أحدهما: إن السيد فضل الله ـ حسبما أسلفنا ـ قد استوحى من قصة يونس(ع) أمورا ترتبط بما يبتلي الله به الدعاة من عباده ورسله، وذلك يعني: أن ما استوحاه من قصة هذا النبي ظهر له من قصته، وأنه مما ابتلي به هذا النبي نفسه، وذلك يعني أنه يمكن أن ينال جميع الأنبياء الآخرين، كما أنه قد قرر إمكانية ابتلاء الدعاة المؤمنين من عباد الله ورسله، بمثل ما ابتلى الله يونس، فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه، أو تهربوا منه من مسؤوليات.. وها نحن هنا نذكر النقاط التي استوحاها، وهي التالية:

أ ـ الدعاة من الرسل قد يقصرون في واجباتهم كدعاة.

ب ـ الدعاة والرسل قد يتهربون من مسؤولياتهم.

ج ـ قد يضعفون أمام حالات الفشل الأولى.

د ـ ضعفهم أمام الفشل قد يجعلهم ينفعلون ويغضبون.

هـ ـ قد يلطف الله بهم لئلا يتعقدوا من الخطأ، أو الإنفعال.

و ـ يجب أن لا يتحول خطؤهم إلى عقدة بل إلى فرصة للقاء الله.

ز ـ توبتهم تكون بفتح صفحة بيضاء جديدة، أو تاريخ جديد.

الثاني: قد ظهر أن السيد فضل الله يرى أن تأديب الله لأنبيائه تابع لأحجامهم!! فثمّة أحجام تستدعي التأديب وتبرره، وقد كان يونس عليه السلام من هذا النوع بالذات!!

ولا ندري إذا كان السبب في اتخاذ يونس لهذا الحجم (!!) وهو كونه نبيا محليا(!!) الأمر الذي يجعله ـ بنظر السيد فضل الله ـ غير جامع للكمالات المطلوبة، وليس في المستوى الذي يؤهله لتقدير مسؤولياته، ويمنعه من الهروب منها!!

ولكن ليت شعري أَيُّ نبي سَلِمَ من نسبة الخطأ في تقدير الأمور إليه، من قبل هذا البعض؟ فقد تقدم أن موسى عليه السلام – وهو من أولي العزم – وأخاه هارون (ع) قد أخطأ أو أحدهما في تقدير الأمور.. بل قد جُعِلَ الخطأ قاعدة – لدى السيد فضل الله ـ نالت جميع الأنبياء حتى سيّد المرسلين وأفضل الأنبياء نبيّنا محمد(ص).

تفسير الآيات:

ومهما يكن من أمر، فإننا نشير هنا إلى تفسير الآيات التي تحدثت عن يونس، فنقول:

إن قصة يونس (ع) من خلال الآيات لا تدل على تلك المقولات التي أطلقها السيد محمد حسين فضل الله، فقد تحدث الله سبحانه عن يونس(ع) في أكثر من موضع من كتابه العزيز، ونحن نذكر أولا الآيات التي ذكرت، وهي التالية:

أ ـ قال تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا، فظن أن لن نقدر عليه، فنادى في الظلمات: أن لا إله إلاّ أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له، ونجيناه من الغمّ، وكذلك ننجي المؤمنين}.

ب ـ وقال تعالى مخاطبا نبيّه: {.. فاصبر لحكم ربّك، ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم. لولا أن تداركه نعمة من ربه، لنبذ بالعراء، وهو مذموم. فاجتباه ربه، فجعله من الصالحين}.

ج ـ وقال سبحانه: {وإن يونس لمن المرسلين، إذ أبق إلى الفلك المشحون. فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. فنبذناه بالعراء وهو سقيم. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون. فآمنوا فمتعناهم إلى حين}.

وهنا نذكرّ القارئ الكريم بنقاط تدل على براءة يونس(ع) مما ينسب إليه، وهي التالية:

1 ـ كلمة مغاضباً التي تعني حدوث فعل الإغضاب من طرفين، ـ أحدهما يونس عليه السلام ـ حيث يريد كل منهما أن يغضب الآخر، ولا يصح القول بأن المغاضبة قد كانت بين يونس(ع) وبين الله سبحانه، فإن فرض ذلك لا يليق بمؤمن صالح فضلا عن أن تكون قائمة بين الله سبحانه وبين يونس (ع)، فلم يكن ثمة سعي من يونس (ع) لإغضاب الله تعالى، ولا إرادة من الله سبحانه لإغضاب يونس (ع)، فإذا كان الله سبحانه يقول عن سائر المؤمنين: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}، فكيف بالأنبياء الكرام، ومنهم يونس (ع)؟ إن الحقيقة هي أن المغاضبة كانت بين يونس(ع) وبين فريق آخر، والظاهر أنهم قوم يونس (ع)، الذين يئس من هدايتهم، وتنحى عنهم بعد أن علم أن العذاب سينزل عليهم. فالتجأ إلى الفلك المشحون بالناس، وكان قومه يطلبونه، ليوصلوا إليه الأذى، لأنهم كانوا يرونه قد أساء إليهم، فاعتبروه فارّا وآبقا منهم، وكانوا لا يصدقون بنزول العذاب عليهم.

فلما رأوا علائم العذاب استكانوا إلى الله وخضعوا له، فكشف الله عنهم العذاب، ومتعهم إلى حين. وكان ذلك في غياب يونس (ع)، ولم يكن يونس (ع) يعلم بذلك، وتذكر بعض الروايات: أَنَّ جبرئيل عليه السلام كان قد استثنى في هلاكهم، ولم يسمعه يونس (ع)، فإن كان ذلك الإستثناء قد حصل حين الوحي ليونس فلا بد من توجيه الرواية أو طرحها، حتى لا يكون ثمة تقصير من قبل جبرئيل (ع) في إيصال الوحي، ولا في يونس (ع) في تلقيه له.

وإن كان ذلك على سبيل الحديث العادي، الذي يجري بين اثنين، فأراد جبرئيل أن يخبر يونس من عند نفسه، لا على سبيل إيصال الوحي الإلهي إليه، فلا مانع من أن يكون جبرئيل (ع) قد تعمد أن لا يسمع يونس (ع) هذا الإستثناء إذ لا يضر ذلك في تلقي الوحي، ولا في إلقائه، لأن هذا ليس من الوحي أساساً، ولكننا لانجد مبررا عقلانيا لتصرف كهذا من قبل جبرئيل (ع). وإن كان حديثه مع الأنبياء في أمور ليست من الوحي الإلهي مما لاشك فيه.

وقد روي أن جبرئيل كان بعد وفاة رسول الله (ص) يأتي إلى فاطمة (ع) ويحدثها بما يسليها، وكان علي عليه السلام يكتب ذلك في مصحف فاطمة(ع)

الكافي: ج 1 ص 240 والبحار: ج 26 ص 37 باب 1 حديث 68 وبصائر الدرجات: ص 150و بصائر الدرجات: ص 154 و 156 والبحار: ج 26 ص 45 و 42 و ج 47 ص 271 و الكافي: ج 1 ص 240 وبصائر الدرجات: ص 157، وبحار الأنوار: ج 26 ص 44، و ج 43 ص 80 و ج 22 ص 45 باب 2، حديث 62 وعوالم العلوم: ج 11 القسم الخاص بال

 

2 ـ قوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه} أي: أن نضيق عليه، فالذي يكون آبقا وهاربا من المسؤولية لا يظن أن الله سوف لا يضيق عليه، بل هو يتوقع التضييق، وأن يلاقي جزاء هروبه هذا.. إذن الفقرة تشير إلى أنه (ع) كان واثقا من رضا الله عنه، ولم يكن آبقا منه تعالى، ولا هاربا من مسؤولياته.

وكلمة ظن هنا بمعنى: عَلِمَ [ راجع قواميس اللغة] لكن بما أن العلم هو انكشاف للواقع.. وبما أن المتعلق هنا أمر مستقبلي، فإن المستساغ هو استعمال كلمة ظن بدل علمه مراعاة لهذه الخصوصية، في الظواهر التعبيرية، وحسب.

3 ـ إن مناداة يونس عليه السلام في الظلمات الثلاث، اعني ظلمة الليل، وظلمة أعماق البحار، وظلمة بطن الحوت {لا إله إلاّ أنت سبحانك} تؤكد على حقيقة التوحيد الخالص لدى يونس (ع) ـ خصوصا في هذا الموقع ـ حيث لم يتعلق بغير الله سبحانه كمنقذ له من ذلك البلاء.. فهو العالم به، وهو القادر دون سواه على إنقاذه.

أما قوله: {إني كنت من الظالمين}، فهو تعبير يشير إلى رسوخ قدم هذا النبي في معرفة الله، فإنه يرى نفسه باستمرار مقصرا عن أداء شكر ربه، وعن قيامه بواجبه تجاهه، وعن عبادته حق عبادته، فكلمة (كنت) قد جاءت مجردة عن الزمان، والمراد بها الحديث عن خصوصية ذاته، كما يقتضيه مقام العبودية.

ويشير إلى ذلك ما روي من تفسير الإمام الرضا (ع) له بقوله: إني كنت من الظالمين بتركي مثل هذه العبادة التي أفرغتني لها في بطن الحوت.

وبكلمة موجزة نقول: لا بد من تنزيه الأنبياء عن ارتكاب الظلم الذي ربما يخطر بالبال حين سماع هذا التعبير، قبل التأمل والتعمق في فهم المراد..

4 ـ إنه لو كان سبحانه هو الذي ابتلى يونس (ع) بالتقام الحوت ليؤدبه بذلك على ما فرط منه، وعلى إباقه منه، فان المناسب أن يقول فرفعنا عنه العقوبة، لا أن يعبر بكلمة أنجيناه من الغم فان ذلك يشير إلى أن الله سبحانه قد نجاه من بلاء ناله من غير جهة الله سبحانه.

5 ـ إن قوله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين} كأنه تعليل لإنجائه تعالى ليونس (ع)، مشيرا بذلك إلى أن إيمان يونس (ع) هو السبب في هذا التدخل الإلهي، وهذا ما لا يتناسب مع ما يقوله هذا البعض من إباق يونس عليه السلام كإباق العبد من سيده، وهروبه من مسؤولياته..

إذ لو كان الهروب من المسؤولية، لكان الأنسب سوق الحديث باتجاه تأكيد التوبة والإستغفار، لأنه هروب يحتاج إلى ندم وتضرع وتوبة، ثم قبول إلهي لها، فيقول مثلا، وكذلك نرحم التائبين، ونحسن إليهم ونتوب عليهم، بدل أن يقول وكذلك ننجي المؤمنين، الظاهر في أن انجاءه له، إنما كان جائزةً ومكافأةً له على إيمانه..

6 ـ أما آيات سورة القلم، التي تقدمت في أوائل هذه الوقفة، فإنما يراد بها أن يتذرع الرسول الأكرم (ص) بالصبر، لينال بذلك مقاما عظيما يفوق مقام يونس عليه السلام.

فان دعاء يونس (ع) وهو مكظوم أي مختنق بغيظه، لم يحط من مقام يونس، ولولا أن تداركته نعمة من الله لنبذ من قبل غير الله سبحانه ـ تماما كما هي سنّة الله في هذه المواقع ـ بالعراء على أقبح صورة ممكنة ولناله أعظم السوء، ولكنه لو تحمّل المزيد لحصل على مقام أسمى مما هو فيه..

فالله يريد لنبيّه أن يتسامى في مدارج القرب ليصل إلى أبعد منازل الكرامة الإلهية، ولا يريد له أن يقف عند هذا الحد، ويرضى بما ناله، وبما وصل إليه، كما كان الحال بالنسبة إلى يونس (ع)، فالتشبيه إنما هو في هذه الناحية.

فالآيات إذن ما هي إلاّ إرشاد من الله للرسول إلى هذه الخصوصية، التي لا يستلزم تركها تنزلا عن المقام الذي هو فيه، غير أن فعلها له آثاره الكبيرة في نيل أسمى درجات القرب والكرامة.

7 ـ فيونس (ع) إذن واقع في مأزق، فلحقته نعمة الله فنجا، ولو كان المراد قبول توبته، لكان الأنسب التعبير بالرحمة بدل النعمة.

وقوله: {وهو مذموم} لا يراد به الذمّ من قبل الله سبحانه كما ألمحنا إليه.

8 ـ قد ظهر أن الإباق إلى الفلك المشحون، لم يكن إباقا من الله سبحانه، ولا هروبا من المسؤولية، بل هو إباق إليه، من موقع المسؤولية في مواجهة تبعاتها.

9 ـ وقوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين} يشير إلى عدم إباق يونس(ع) من الله تعالى، لأن من كان كل حياته من المسبحين، حتى استحق بذلك معونة الله له، فإنّه لا يهرب من ربّه، ولا يتمرد عليه.

10 ـ إن معنى أبق العبد: ذهب بلا خوف، ولا كد عمل، أو استخفى، ثم هرب  محيط المحيط ص2 هذا هو المعنى اللغوي لكلمة أبق، فليس فيه أن هروبه لا بد أن يكون من مولاه، على صفة التمرد، والخروج عن زي العبودية.

نعم قد فسّر في الشرع بذلك، فان الآبق شرعا (مملوك فرّ من مولاه، تمردا أو عنادا لسوء خلقه) محيط المحيط ص2

11 ـ قوله: {وهو مليم} أي يلوم غيره، لا أنه يلوم نفسه، فان هذه الكلمة هي اسم فاعل من (ألام) بمعنى (لام)، أو بمعنى (أتى ما لا يستحق اللوم عليه)، وتلك إشارة أخرى تؤكد عدم استحقاق يونس(ع) لأدنى لوم، ولو كان آبقا من ربّه لاستحقّ أشدّ اللوم بل العقاب بلا ريب.

العودة