ـ يونس استنفد تجاربه في الدعوة إلى الله.

ـ يونس لم يفكر بالمرحلة الجديدة من عمله.

ـ يونس لم ينتظر نتائج التجربة الأخيرة.

ـ يونس يعيش جو الحيرة.

ـ أراد يونس أن يخرج من جو الغم والحزن والحيرة ليجد ملجأ جديدا.

ـ ظن يونس أن لن يضيق الله عليه فجاءت النتيجة عكس ما كان يتصوره.

ـ يونس خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك.

ـ يونس يقول ظلمت نفسي في تقصيري في أمر الدعوة من غير قصد.

ـ أنا عائد إليك يا رب لتكشف عني أجواء الحيرة.

ـ كان خروجه السريع سرعة انفعالية في اتخاذ القرار.

ـ قد لا يكون خروج يونس تهرباً من المسؤولية.

يقول السيد محمد حسين فضل الله:

"ولكن المراد هنا من كلمة (نقدر) المعنى الذي يلتقي بالتضييق، أو بالتحديد كما في قوله تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} (الفجر: 16) وهكذا يكون معنى الآية، إن هذا العبد الصالح خرج مغاضباً لقومه، وهو يظن أنه قد ملك حريته، بعد أن انتهت مهمته باستنفاد كل تجاربه في الدعوة إلى الله وعدم تجاوب قومه معه، واستحقاقهم العذاب على ذلك، وقرب نزوله عليهم، فلم يفكر بالمرحلة الجديدة من عمله، ولم ينتظر عودتهم إلى الإيمان من خلال التجربة الأخيرة التي قد تحقق نتائج كبيرة على هذا الصعيد، وهي مسألة تهديدهم بالعذاب الذي ثبت ـ بعد ذلك ـ أنه كان الصدمة القوية التي أرجعتهم إلى عقولهم، فانفتحت قلوبهم على الإيمان بالله وبرسالاته من جديد. كما حدثنا الله عن ذلك في آية أخرى.

لقد كانت لحظة انفعال تختزن الغضب لله، ولكنها لم تنطلق للتفكير بالمستقبل في آفاق الدعوة إلى الله، التي تعمل على أن تطل على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب.. وفي هذا الجو كان خروجه السريع، سرعة انفعالية في اتخاذ القرار، وقد لا يكون ذلك تهرباً من المسؤولية، وحباً للراحة، وابتعاداً عن أثقال الرسالة ومشاكلها، فربما كان الجو يتحرك في حالة شديدة من الحيرة والغم والحزن، مما يريد معه أن يخرج من هذا الجو الخانق ليجد لنفسه ملجأً جديداً، أو موقعاً آخر للدعوة، أو لأي مشروع جديد، في هذا الإتجاه، وهو يظن أن الله لن يضيق عليه أمره، في رزقه، وفي حركته، وجاءت النتيجة غير ما كان يتصوره أو ينتظره، فالتقمه الحوت، بعد أن وقعت القرعة عليه، وعاش في ظلمات البحر، وجوف الحوت، وظلمات الهم والغم، وانفتحت أمامه من جديد، آفاق إيمانه الواسع، فعاش روحيته مع الله في ابتهال وخشوع، وبدأ يتذكر لطف الله به ورعايته، وتكريمه إياه من خلال ما اختصه به من رسالته وما سهل له من سبل الحياة، وهداه إليه من وسائلها، وكيف خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك، أو ينتظر ما يحدث لقومه، فانطلقت صرخته المثقلة بالهم الكبير الروحي والرسالي الذاتي، من كل أعماقه، في استغاثة عميقة بالله وحده لا سيما في مثل ظروفه التي لا يملك أحد فيها أن يقدم إليه شيئاً.

{فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت} فلا ملجأ لأي هارب أو ضائع أو حائر إلا إليك، ولا ملاذ إلا أنت، فأنت القادر على كل شيء، والرحيم لكل مخلوق، والعليم بكل الخفايا والمهيمن على الأمر كله و الغافر لكل ذنب، والمستجيب لكل داع، والمغيث لكل ملهوف، والمفرج عن كل مهموم ومكروب.. وليس لي غيرك اسأله كشف ضري والنظر في أمري، فأنت ربي وسيدي ومولاي وملاذي في كل الأمور، {سبحانك} إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كل مواقع العظمة في مجالات التصور، وفي حركة القدرة في الواقع، في مظاهر الخلق والإبداع.. فيتحول ذلك إلى تسبيح منفتح خاشع مبتهل إلى الله، {إني كنت من الظالمين} فقد ظلمت نفسي في تحركي، أو تقصيري في سبيل الدعوة، من غير قصد، ولا عمد، وها أنذا ـ يا رب ـ راجع إليك بكل قلبي وعقلي وحياتي، لتتقبلني بكل لطفك ورضوانك ورحمتك، ولتكشف عني في كل أجواء الحيرة والغم التي تغمرني بالآلام والمشاكل، فهل تستجيب لي؟ إنك أنت الذي تستجيب كل الدعوات لمن دعاك" [ من وحي القرآن ج15ص258-259ط2]

 

ونقول:

1 ـ إن ثمة إصلاحاً طرأ على عبارة السيد فضل الله وهو: أنه كان قد جزم في الطبعة الأولى من كتابه "من وحي القرآن" بأن الله سبحانه قد اعتبر ما فعله يونس تهرباً من المسؤولية، لكنه في الطبعة الثانية وهي الطبعة التي بين أيديكم قال: قد لا يكون ذلك تهرباً من المسؤولية.

ولعله قد ظن أن الناس سوف يعتبرونه قد أصلح وتراجع عن مقولته السابقة، الظاهرة في الإخلال بالعصمة للأنبياء..

ولكن الحقيقة هي أن ما فعله هنا قد اظهر إصراره الشديد على الطعن بعصمتهم (عليهم السلام) حيث قد نبهنا في الأبحاث السابقة لهذا البحث ـ وربما أكثر من مرة ـ إلى أن احتمال صدور المخالفة من النبي لا ينسجم ولا يجتمع مع اليقين بعصمته، مهما كان ذلك الاحتمال ضعيفاً، حتى ولو بنسبة واحد بالمئة.. فإن عبارة: "قد لا يكون ذلك تهرباً" تعني أن احتمال أن يكون تهرباً، لا يزال باقياً أيضاً. ولا يحتمل في حق المعصوم أن يتهرب من المسؤولية في أي من الظروف والأحوال، لأن احتمال ذلك في حقه معناه: أننا لسنا على يقين من عصمته.. وذلك واضح..

2 ـ من أين علم السيد محمد حسين فضل الله: أن يونس لم ينطلق للتفكير بالمستقبل في آفاق الدعوة إلى الله، التي تعمل على أن تطل على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه، لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب ـ على حد تعبيره؟!

فإن هذا الكلام يمثل إخباراً غيبياً عن ضمير يونس، وعن خلجات قلبه، كما أنه يمثل إدانة خطيرة له، فلماذا يسيء الظن ولا يحسنه بهذا النبي الفاني في الله، والباذل نفسه، وكل حياته ووجوده في سبيله؟! أم أن الله أطلعه على قلب نبيه بعد آلاف السنين، فانبرى ليخبرنا بهواجسه واهتماماته، وبنجواه، وخلجات قلبه، وما فيه إدانة بل إهانة له؟!

إننا نعتقد أن جميع الأنبياء لا يفكرون بمصالحهم كأشخاص، وإنما يفكرون في مستقبل الرسالة، ويخططون له، ويتحملون مسؤولياتهم في ذلك.

3 ـ أضف إلى ذلك: أن السيد فضل الله قد جزم بأن يونس (عليه السلام) قد خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك، أو ينتظر ما يحدث لقومه، ولا ندري من أين، وكيف جاز له الجزم بهذا الخبر التاريخي وهو الذي لا يقبل بخبر الواحد، بل يشترط التواتر أو كل ما يفيد الجزم واليقين بالأخبار التاريخية سواء من حيث السند أو من حيث الدلالة..

كما أننا قد قلنا فيما ذكرناه سابقاً من قصة يونس (ع): إن قومه هم الذين كانوا يرونه آبقاً منهم وإننا لننـزه ساحته وهو النبي المعصوم عن أن يعمل عملاً من تلقاء نفسه، ومن دون أن يتحقق من رضا الله سبحانه وتعالى فيه، فإن ذلك مما ينافي انقياده لله سبحانه، ويخلّ بأهليته لمقام النبوة والرسالة..

4 ـ إننا نعتقد: أن الأنبياء لا يقومون بتجارب في حقل الدعوة إلى الله سبحانه، لأن هذا التعبير (تجربة ـ تجارب) له إيحاءات سيئة ـ وهو يؤمن بالإيحاءات، وكتابه موضوع على أساسها ـ لا مجال للإلتزام بها، من حيث إنه يختزن أن من يمارس التجربة لا يملك المعرفة التامة بجدوى ودقة ما يقوم به.. كما أنه يختزن معنى الخطأ في إصابة الواقع..

إن الأنبياء لا يقومون بتجارب، و إنما يعملون بوظيفتهم الشرعية التي لا يشكون في أنها المعالجة الصحيحة والدقيقة.. غير أن حالة استكبار قومه ـ كما هو الحال في استكبار إبليس ـ وجحودهم، هو الذي يمنع من أن يؤثر هذا البلسم الشافي أثره.

5 ـ وقول السيد فضل الله:

"إن يونس (عليه السلام) لم يفكر في المرحلة الجديدة من عمله"

وإنه:

"لم ينتظر نتائج التجربة الأخيرة"

ما هو إلا رجم بالغيب، لا يملك دليلاً قطعياً يثبته ـ حسب ما يشترطه السيد فضل الله ـ وهل يمكن أن يجد دليلاً يثبت على أنبياء الله القصور والتقصير في مسؤولياتهم؟!

أضف إلى ذلك أنه هو نفسه يقول:

"إن النفي يحتاج إلى دليل، كما الإثبات يحتاج إلى دليل".

6 ـ إن الله لم يضيق على يونس، بل كان الله الذي وثق به يونس هو الذي هون عليه المشكلات التي واجهها، وذلل المصاعب والمصائب التي حلت به وحفظه، ورعاه.. فكان الله معه في كل صغيرة وكبيرة، وكان ظن يونس علماً صحيحاً وقطعياً، قد تحقق كما أراد يونس صلوات الله وسلامه عليه.

7 ـ إن يونس لا يمكن أن يقصر في أمر الدعوة وهو النبي والمسؤول الأول فيها وعنها، وذلك معلوم وواضح.

8 ـ إن كلام السيد فضل الله عن حيرة يونس لا يمكن قبوله، فإنه كان يعرف تكليفه الإلهي والشرعي بدقة، وينفذ ما يريده الله منه دون زيادة أو نقيصة.

ولا يمكن أن نتصور نبياً حائراً، ولا يدري ما هو تكليفه الشرعي، ولا يعرف كيف يقوم بواجبه، وكيف ينجز مسؤولياته.

9 ـ إن كلامه عن الخروج من جو الحزن والغم والحيرة ليجد لنفسه ملجأً آخر يعطي: أن يونس إنما كان مهتما بنفسه كشخص.. أو على الأقل هو يحتمل ذلك في حقه ـ كما ويحتمل أن يكون بصدد البحث عن موقع آخر للدعوة. فلماذا لا يكون واضحاً وصريحاً فيما يريد أن ينسبه إلى يونس ليعرّف القارئ مراده بدقة، ويحفظه من غائلة الريب والشك في أنبياء الله سبحانه وتعالى.

العودة