أقول: قال الراغب: الاصطفاء: تناولُ صفو الشيء.‏
وقال في مجمع البحرين: والخالص في اللغة: كلُّ ما صفى وتخلَّص ولم يمتزج بغيره، ‏سواء كان ذلك الغيرُ أدونَ منه أم لا.‏
وقال الزبيدي: والصفي: خالصُ كلِّ شيء ومختارُه
البحرين ج1 ص 680، تاج العروس ج 10 ص 211
وعليه فالمصطفيَن همُ الصفوة، وخالصُ الشيء لا يكون خالصَه إلا بعد صفوه وتخلُّصه ‏عما سواه، فلا يكون الشخصُ صفوةَ الله إلا بعد صفوه لله تعالى وتخلصه عن غيره، فيكون ‏خاصتَه وخالصتَه وصفوتَه وخيرتَه.‏
وبهذا الاعتبار، يتضح أنَّ الآيةَ الكريمة نصٌّ في أنَّ آدم ونوحاً وآلَ إبراهيم وآلَ عمران، ‏هم أفضلُ الخلق على الإطلاق، فإنَّ الله اصطفاهم على العالَمين.‏
ومن البديهي أنَّ اختيار الله تعالى لأولئك يفيد ـ مضافاً إلى الأفضلية ـ أنهم المنـزَّهون ‏عن كل شائبة، وأنهم الخالِصون له تعالى في الظاهر والباطن، لذا فيكونون أشخاصاً وخلقاً ‏ربانيين مطهَّرين عن كلِّ رجسٍ ودنس، عن كلِّ شكٍّ وريبة، عن كلِّ باطلٍ وضلال.‏
نعم لا يُستفاد من الآية، أنه لم يقع اصطفاءٌ من الله تعالى لغير هؤلاء، فإنَّ إثبات شيء ‏لشيء لا ينفي ثبوته لشيء آخر، إلا إذا احتفَّ الكلامُ بقرينة تدل على ذلك، والقرينةُ قد تكون عامةً ‏وقد تكون خاصةً.‏
وفي المقام ليس لهيئة الجملة قرينيَّةٌ عامةٌ دالة على الحصر، وظاهرٌ جداً أنه لا وجود ‏لقرينة خاصة.‏
وبما أنَّ القضيةَ الموجبة لا تنفي قضيةً موجبة أخري تفيد ثبوت نفس الحكم لأمر آخر ـ ‏فقولك أكلتُ الرمان لا ينفي أنك أكلتَ شيئاً آخر أيضاً، كما أنَّ قولك ثانية أني أكلتُ التمر لا ‏يتنافى ولا ينافي قولك الأول، بخلاف مثل قولك ما أكلتُ إلا الرمان، فإنه ينفي تحقُّقَ أكلِ غيره، ‏وينافي أيضاً إخبارك عن أكلك لشيء آخر ـ وعليه فالآيةُ أجنبيةٌ عن إفادة الحصر.‏
وأيضاً فإنَّ للحقِّ مراتبَ ومقاماتٍ ومدارجَ لعلها تفوق الحصر أو هي كذلك، وحيث إنَّ ‏القابليات متفاوتةٌ، وأنَّ للإرادة والعزم حالاتٍ وشؤوناً إنه لا محالة سيقع التفاضل بين نفس ‏المصطفِين بما هم مصطفَون، وبإجماع المسلمين على أنَّ سيدنا محمداً (عليهما السلام) أفضلُ ‏الخلق، وبضرورة المذهب وإجماع محققيه على أنَّ أهلَ بيته الأطهار (عليهم السلام) هم كذلك ‏سادةُ الخلق وأفضلُهم.‏
وإذا ما كان المصطفون خالصةَ المولى سبحانه، فهم باعتبار آخر متقلِّبون في جميع ‏شؤونهم في دائرة الحق، والحق متجسِّدٌ فيهم معروفٌ بهم، لا تزيغ بهم الأهواء، ولا يأتيهم الباطلُ ‏ولا يأتونه، بل لا مطمع للباطل فيهم بأي نحو من الأنحاء، إذ المفروض أنهم الخالصون عما ‏سوى الحق تعالى، وليس سواه إلا الضلالَ والباطل.‏
هذا وقد تظافرت الأخبار عن أئمة العترة الطاهرة بل وعن غيرهم من أكابر الصحابة ومن ‏غيرهم، في التمسك والاستدلال بهذه الآية على فضل وشرف ورفيع شأن عترة الرسول الأكرم ‏‏(عليهما السلام)، وذلك إما بتوسط إدعاء نزول الآية بلفظ يدل صريحاً على ذلك أو بإقامة دليل ‏من خارج عليه.‏
وكلا النحوَيْن ورد له مؤيدات من هنا وهناك.‏
وقبل استعراض ذلك لا بُدَّ وأن نشير إلى أنَّ ما ورد في بعض الأخبار بلفظ هكذا نزلت الآية التي ‏نبحث فيها، أو هكذا كان يقرأ الصحابيُّ الفلانيُّ محمولٌ على إرادة التفسير والتأويل دون ‏التنـزيل، فإنَّ القرآنَ الكريم مصونٌ بصون الله تعالى له أزلاً عن أيِّ تحريف من زيادة أو ‏نقيصة، وعلى هذا إجماع الفرقة الناجية وهو ما تعتقد به.‏
وقد قيل بأنَّ شرذمة من محدِّثي الإماميَّة التزموا بالتحريف من جهة النقيصة، وهو قولٌ شاذٌّ قد ‏صنف كثير من محققينا رسائل وكتباً لتزييف زعمهم وإبطال مقالتهم.‏
ولعلَّ الذي أوهمهم ذلك هو وجودُ الأخبار الكثيرة الصحيحة والمعتبرة سنداً، والتي فيها ‏مثل هكذا نزلت الآية أو هكذا نزل بها جبرائيل، ولم يتفطن أولئك إلى أنَّ المقصود من تلك الألفاظ ‏الواردة ما يشمل النزول مع التفسير والتأويل، كما ورد في آية وكفى الله المؤمنين القتال بعليٍّ ‏‏(عليه السلام) ـ وغيرها كثير ـ إذ المقصود بيان تفسير الآية وبيان مصداق من كفى الله تعالى ‏المؤمنين به.‏
وهذا النحو من الأخبار قد ورد أيضاً من طرق أبناء السُّنة، بل وورد عندهم ما هو أشكل ‏من هذا بكثير وفي أهم كتبهم المعتبرة المعتمدة. ونحن وإن لم نُعِدَّ بحثنا هذا للتحقيق في هذا ‏المطلب المُحقَّق، غير أنه دفعاً أو رفعاً أو ردَّاً على توهين موهِّن أو تشكيك مشكِّك، يتعين علينا ‏الإشارة إلى بعض ما ورد في أهم كتب ومجامع السُّنة الصحيحة عندهم، وبعد تحقُّقك من صحة ‏ما سننقله لك سنترك الحكم فيما افتُريَ علينا نحن الشيعة الإمامية من أمر تحريف القرآن الكريم ‏إليك، فدونك بعضاً من تلك الأخبار.‏
فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري في صحيحه، والدارمي وأبو داود ‏والترمذي في سننهم بإسنادهم عن ابن عباس ـ والكلام للبخاري ـ (في حديث) فجلس عمر على ‏المنبر فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد ‏قُدِّر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمَن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به ‏راحلته، ومَن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليَّ: إنَّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه ‏وآله) بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا ‏رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ‏والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق ‏على مَن زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنا ‏كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إنَّ ‏كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم.‏
وأخرج مسلم في صحيحه بإسناده عن بن أبي الأسود قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى ‏قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة ‏وقراؤهم فاتلوه، ولا يطولنَّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ ‏سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأُنسيتها، غير أني قد حفظتُ منها، «لو كان لابن آدم ‏واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب» وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها ‏باحدي المسبحات فأُنسيتها، غير أني حفظت منها «يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون مالا تفعلون ‏فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة».‏
وأخرج ابن ماجة في سننه بإسناده عن عائشة. قالت: لقد نزلت آية الرجم. ورضاعة ‏الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ‏وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها.‏
وأخرج أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي بن كعب قال: كم تقرأون سورة الأحزاب؟ قال: ‏بضعاً وسبعين آية، قال: لقد قرأتها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل البقرة أو أكثر منها ‏وإن فيها آية الرجم.‏
وبإسناده عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: كائن تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها؟ ‏قال: قلت له: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قط، لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها ‏‏«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عليم حكيم».‏
أقول: وما ورد في هذا المعنى لا يكاد يُحصى في هذه العجالة، فعليك بالمراجعة بنفسك
صحيح البخارى ج 8 ص 26و113، صحيح مسلم ج 3 ص 100 وج 5 ص 116، سنن ابن ماجة ج 1 ص 625 ـ 626، سنن ‏أبي داود ج 2 ص 343، سنن الترمذي ج 2 ص 442، سنن الدارمى ج 2 ص 179، السنن الكبري للبيهقي ج 8 ص 211 ـ 213، ‏مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 36 ـ 47 و55 و143 وج 4 ص 368 وج 5 ص 132 وج 6 ص 269، المستدرك على الصحيحين ‏ج 4 ص 359 ـ 360، فتح البارى ج 11 ص 219 ـ‏‎ ‎‏220، مجمع الزوائد ج 1 ص 97‏

نعم لا يكاد يخفى عليك أنَّ بعض ما نقلناه لك مما رواه أهل السُّنَّة، لا يمكن التفصي عنه ‏بدعوي أنَّ المقصود منه نسخ التلاوة، ففيما قدمناه لك كانت الآيات عندهم محفوظة، بل عن ‏عائشة أنَّ الدويبة أكلتْ تلك الورقة، ولولا الانشغال بما ادعت الانشغال به لما ضاعت آية الرجم ‏وآية رضعات الكبير، على أنَّ نسخ التلاوة من التحريف قطعاً.‏
وعلى أيٍّ، فقد ذكر السيد محمد حسين فضل الله في تفسير الآية المبحوث فيها، فقال:
{إِنَّ ‏اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ} الاصطفاءُ يعني الاختيار الذي ‏يُوحي بالتفضيل، إنطلاقاً من الملكات والصفات الذاتية التي أودعها الله فيهم، فقد اختار آدم لِدَوْرِ ‏الخلافة الأولى في الأرض من أجل أن يبدأ الرحلة الإنسانية التي تبني الأرض وتعمرها على ‏أساس التخطيط الإلهي، واختار نوحاً ليكون أول الأنبياء أولي العزم الذي يعطي المثل في الصبر ‏أمام التحديات، والدأب في مواجهة الكفر والضلال حتى لا يبقى هناك مجال للتجربة لأنه استنفد ‏كل التجارب..... واختار إبراهيم الذي أسلم وجهه لله وعاش التجربة الصعبة بالقلب المطمئن ‏الراضي الذي احتضن في داخله كل التطلعات الإنسانية الروحية نحو الله.... أما آل عمران فقد ‏نلتقي بالنسب الذي ينتمي إليه موسى، وقد نلتقي بالنسب الذي تنتمي إليه مريم وبذلك يلتقي به ‏نسب عيسى..... ألخ [من وحي القرآن ج 5 ص 342-344]
ومما يريب، أنه لم يُشِر إلى آل محمد الأبرار صلوات الله ربي وسلامه عليهم في كل ‏كلامه.‏
أقول: قوله «الذي يوحي بالتفضيل» يُشعر بل يدلُ على عدم جزمه بإفادة الاصطفاء للتفضيل، مع ‏أنه يُطلَق على مَن وقع عليه الاصطفاء، أنهم الصفوة، ولا نعلم بوجود كلمة أبلغ في إفادة التفضيل ‏من كلمة اصطفى.‏
وأما قوله: «انطلاقاً من الملكات والصفات الذاتية التي أودعها الله فيهم» فلا ندري ماذا ‏يقصد من كلمة الذاتية، وأيَّ معنى من معاني الإيداع يريد؟!‏
فإنَّ الذاتي لا يُعلَّل، بمعنى أنه أمرٌ غيرُ واقع تحت الاختيار من جهة، وغيرُ قابل للتفكيك ‏بينه وبين الذات من جهة أخري.‏
فأن أراد أنَّ الله تعالى خلقهم كذلك ولا شأن لإرادتهم ولا دخالة، فهو التزام بأنَّ منشأَ ‏العصمة الإلهية في الأنبياء أمرٌ غيرُ اختياري، وهو ما صرَّح به في كثير من كلماته فراجع على ‏سبيل المثال كتاب الندوة المُعَد لتدوين بعض محاضراته وكلماته وقوله «التي أودعها الله فيهم»، يدل على أنه يلتزم بأنَّ منشأ العصمة يرجع إلى أمر غير ‏اختياري، وإذا كان الاصطفاء والاختيار يعني التفضيل أو يدل عليه، فهذا يعني أنَّ تفضيل إبراهيم ‏مثلاً على أيِّ شخص عادي، يكمن في وجود ملكات في إبراهيم قد أودعها الله فيه، وهل بمثل هذا ‏يقع التفاضلُ عند أولي الألباب؟!!‏
ونحن أبناء الفرقة الناجية نقول: بأنَّ الأولياء بما أرادوه واختاروه وأحبوه وطلبوه، صار ‏عندهم أو كان عندهم من الملكات التي منَّ الله بها عليهم لأهليَّتهم وقابليَّتهم، وبذلك كانوا أولياءً، ‏وأنَّ تفضيل الله سبحانه لهم واختيارهم دون غيرهم يرجع إلى إرادتهم واختيارهم.‏
نعم لا مجال فيهم، للتفكيك بين ذواتهم المقدسة وبين تلك الملكات التي كانوا أهلاً ومحلاً ‏لها في مقام العمل والانقياد والطاعة، وإن كانت في مرتبة الإمكان من حيث القدرة والاختيار.‏
بمعنى أنَّ المعصوم يقدر كإمكان ذاتي على أن يظلم مثلاً والعياذ بالله، ولكنه في مرتبة ‏وعالم الوقوع يستحيل أن يقع منه ذلك، إلا إذا تأتى لنا أن نسلخ عن ذواتهم المقدسة نفوسَهم ‏المطهَّرة، وقد طهُرت بإرادتهم وبما علموه من عين اليقين وحقه، والانسلاخُ والتفكيك غيرُ ممكن، ‏فإنهم كذلك، ولكن بتوسط اختيارهم، واعتبر بالقادر القاهر سبحانه، أتراه عاجزاً عن الظلم وهو ‏القادر المطلق؟
نعم الظلم ممكن ذاتاً، ولكنه ممتنع وقوعاً، ولا مجال لدينا لمزيد تفصيل وبيان.‏
وظاهر جداً أنَّ السيد محمد حسين، لا يريد ما أشرنا إليه من معنى، وإلا فلا معنى للتعبير ‏بالعبارة المجمَلَة المبهَمَة.‏
وأما قوله «حتى لا يبقى هناك مجال للتجربة»..... فقول فاسد، لأنه يلزم عنه وجود إرادة للأنبياء ‏مغايرة لإرادته سبحانه، مع أنهم عباد مكرمون لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإنهم ‏يسيرون ضمن مخطَّط إلهي يوحى إليهم.‏
وبعبارة أخري: إنَّ الأنبياء ليسوا إلا سفراء وخلفاء للمولى تعالى شأنه، وما يتحركون إليه ‏ويأتون به ليس إلا عن إرادة وحي السماء، فهل أنه سبحانه خلق الأرض وأنزل الكتب وبعث في ‏الناس الرسل، ليخوض تجربةً هنا واختباراً هناك؟!!‏
والشخصُ الذي يخوض التجربة، إنما يخوضها جهلاً منه بصحة نتائجها تارة أو بما ينتج ‏عنها أخري، فتراه يعمد إلى التجربة ليري مدي نجاحها وليطَّلِع على آثارها، ليجني من ذلك ‏وليستفيد علماً بصحة هذا الأمر أو ذاك، فيترجح لديه اعتماده، وهذا المعنى لا يجهل بفساده كلُّ ‏مَن يعتقد بعصمة الأنبياء.‏
وإذا كان السيد فضل الله يريد غير هذا المعنى المتبادر من إطلاق لفظ التجربة، فكان ‏عليه أن يُحسِن التعبير، مع أنَّ مثل هذا التعبير قد صدر عنه في ما لا يحصى من كلماته وفي ‏كثير من كتبه.‏
وأما أنَّ إبراهيم عاش التجربة الصعبة، فلا أدري هل أنَّ السيد محمد حسين فضل الله ‏أطَّلَع الغيب؟ أو أنه يجهل بأنَّ للأنبياء مقاماً شامخاً لا سيما مثل شيخ الأنبياء (عليهم السلام)؟!!‏
ثم أية تجربة تلك التي يزعم بأنَّ إبراهيم (عليه السلام) قد عاشها؟‏
ومن أية جهة اكتسبت وصف الصعوبة؟
أَمِن ناحية خطورة التجربة وعظم شأنها، أم من ناحية ضعف مَن جرت عليه، وهو شيخ ‏الأنبياء؟!!‏
ولنكتفي بهذا المقدار، ولنشرع في المقصود مما يعنينا من الآية.‏
فقد قال الشيخ الصدوق في كمال الدين: وقال علماء الإمامية: قال الله عزَّ وجل {إِنَّ اللهَ ‏اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} فوجب بعموم ‏هذه الآية، أن لا يزال في آل إبراهيم مصطفى، وذلك أنَّ الله عزَّ وجل جنَّس الناس في هذا الكتاب ‏جنسين، فاصطفى جنساً منهم وهم الأنبياء والرسل والخلفاء (عليهم السلام)، وجنساً أُمروا ‏باتِّباعهم، فما دام في الأرض مَن به حاجة إلى مدبِّرٍ وسائسٍ ومعلِّمٍ ومقوِّمٍ، يجب أن يكون بإزائهم ‏مصطفى من آل إبراهيم، ويجب أن يكون المصطفى من آل إبراهيم ذرية بعضها من بعض لقوله ‏عزَّ وجل {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، وقد صح أنَّ رسول الله (عليهما السلام) وأمير المؤمنين ‏والحسن والحسين (عليهم السلام) المصطفون من آل إبراهيم، فوجب أن يكون المصطفى بعد ‏الحسين (عليه السلام) منه لقوله عزَّ وجل {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعضٍ}، ومتى لم تكنْ الذريَّةُ منه لا ‏تكون الذريَّةُ بعضها من بعض، إلا أن تكون في بطنٍ دون جميعهم، وكانت الإمامة قد انتقلت عن ‏الحسن إلى أخيه الحسين ’، وجب أن يكون منه ومن صلبه مَن يقوم مقامه، وذلك معنى قوله ‏تعالى {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فدلت الآية على ما دلت السُّنَّة عليه.‏
وأخرج الصدوق في عيون الأخبار ـ باب ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون ‏والمجلس مشهور جداً ومعروف محفوظ وثابت قطعاً ـ.... فقال المأمون: هل فضَّل الله العترةَ ‏على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إنَّ الله عزَّ وجل أبانَ فَضْلَ العترة على سائر ‏الناس في محكم كتابه، فقال له المأمون: وأين ذلك من كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في ‏قول الله عز وجل {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً ‏بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.‏
وأخرج الشيخ الطوسي في الأمالي والحاكم الحسكاني في الشواهد بإسنادهما عن محمد بن ‏إبراهيم قال: سمعت جعفر بن محمد ’ يقول: كان يقرأ {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ‏وَآلَ عِمْرَانَ وَآلَ مُحَمَّد على الْعَالَمِينَ} قال: هكذا أنزلت.‏
أقول: قوله (عليه السلام) «هكذا أنزلت»، محمول على إرادة التأويل والتفسير، أي أنَّ الآية هكذا ‏نزلت مع تأويلها وتفسيرها، وليس مقصود الإمام (عليه السلام) أنَّ لفظ «وآل محمد» هو من ‏جملة الآية، فإنَّ الشيعة وتبعاً لأئمتهم يُؤمنون بعدم تحريف القرآن الكريم، وأنه قد تكفَّل سبحانه ‏بحفظه وصونه عن كلِّ تحريف وتغيير.‏
وأخرج ابن البطريق من تفسير الثعلبي بإسناده عن الأعمش عن أبي وائل قال: قرأت في مصحف ‏عبد الله ابن مسعود {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ مُحَمَّد على الْعَالَمِينَ}.‏
وأخرج أيضاً من كتاب الجمع بين الصحاح الستة لرزين بن معاوية قال: وقال ابن عباس {َآلَ ‏إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران، وآل يس وآل محمد (عليهم السلام).‏
وأخرج العياشي في تفسيره بإسناده عن عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: {إِنَّ اللهَ ‏اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} قال: نحن ‏منهم، ونحن بقيَّةُ تلك العترة.‏
وأخرجه أيضاً عن أيوب عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وكذا عن أبي عمرو ‏الزبيري.‏
وأخرج فرات في تفسيره عن أبي مسلم الخولاني قال: دخل النبي (عليهما السلام) على ‏فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعائشة وهما يفتخران وقد احمرَّت وجوههما، فسألهما عن خبرهما ‏فأخبرتاه، فقال النبي(عليهما السلام): يا عائشة أَوَ ما علمتِ أنَّ الله اصطفى آدم ونوحا وآل ‏إبراهيم وآل عمران وعلياً والحسن والحسين وحمزة وجعفر وفاطمة وخديجة على العالمين.‏
وقال اليعقوبي في تاريخه: وبلغ عثمان أنَّ أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله (عليهما ‏السلام) ويجتمع إليه الناس، فيحدِّث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال: أيها الناس ‏مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا: أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي {إِنَّ اللهَ ‏اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ ‏عَلِيمٌ} محمد الصفوة من نوح، فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من ‏محمد (صلى الله عليه وآله).‏
وغير هذا ومثله وفي مصادر كثيرة وبأسانيد مختلفة، فراجع
الكافي ج8 ص117، كمال الدين وتمام النعمة ص 64 ‏‎–‎‏ 65، عيون أخبار الرضا ج 2 ص 207 ‏‎–‎‏ 209، بشارة المصطفى 305 ‏و350، الأمالي للشيخ الطوسي ص300، العمدة ص 55، خصائص الوحي المبين ص111- 113، تفسير العياشي ج 1 ص 168، ‏تفسير القمي ج 1ص100، تفسير فرات ج1 ص 78، بحار الأنوار ج 32 ص 222 و225 وج 73 ص 63 وج 72 ص 320 وج ‏‏82 ص 275 وج 44 ص 317، شرح الأخبار ج 2 ص 499، تفسير مجمع البيان ج 2 ص 278، تفسير التبيان ج 2ص 441، سعد ‏السعود ص 79، تفسير نور الثقلين ج 1 ص 328، تفسيرالصافي ج 1 ص 328 وكنز الدقائق ج 2ص60-62 و483، تفسير الميزان ‏ج 3 ص 168، تأويل الآيات ج 1 ص 105، الاختصاص ص 256، الغيبة للنعماني ص 281، روضة الواعظين ص185، مناقب آل ‏ابي طالب ج 3 ص 215‏

وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ‏وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ} إلى قوله {يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال ابن عباس: وآل عمران ‏المؤمنون من آل ابراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد (عليهما السلام).‏
وأخرج ابن جرير الطبري في تفسيره بإسناده عن ابن عباس قوله {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ ‏وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ} قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران ‏وآل ياسين وآل محمد (عليهما السلام).‏
وقال السيوطي في الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن ‏عباس في قوله {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} قال هم المؤمنون من آل ابراهيم وآل عمران وآل ‏ياسين وآل محمد (عليهما السلام).‏
وأخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن الأعمش عن شقيق قال: قرأت في مصحف عبد الله ‏ابن مسعود {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ وَآلَ مُحَمَّد على الْعَالَمِينَ}.‏
وبإسناده عن نمير بن عريب: أنَّ ابن مسعود كان يقرأ: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} ‏الآية، يقول ابن عباس: وآل عمران وآل أحمد على العالمين.‏
قال الحسكاني: قلتُ: إن لم تثبت هذه القراءة، فلا شك في دخولهم في الآية لانهم آلُ ‏إبراهيم فراجع من مصادر أبناء السُّنة
: صحيح البخارى ج 4 ص 138، شواهد التنـزيل ج1 ص152 - 154، تفسيرجامع البيان ج 3 ص ‏‏317، الدر المنثور ج 2 ص 17، تفسير القرطبي ج4 ص 62، فتح القدير ج1 ص 334، تاريخ اليعقوبي ج2 ص 171، ينابيع المودة ‏ج1 ص134 ‏

أقول: وحسبك ما نقلناه لك عن بعض كتب العامة المعتمَدَة عندهم، ولو لم يكنْ إلا ما في صحيح ‏البخاري لكفى، وهذا المقدار الذي نقلناه لك مع تفطُّنِك إلى تعدُّد الطرق واختلافها واختلاف ‏المنقول عنهم وفي وقائع مختلفة، مما يُورِث إن لم يكن القطع بالصحة ـ وهو كذلك ـ فلا أقل ‏من الاطمئنان، فإنَّ ما نقلناه لك مع ما في المصادر المشار إليها مما لم ننقله يصل إلى حد التواتر ‏بلا شبهة، وعليه فالمضمون يثبت على تمام وجميع المسالك في العمل بالخبر.‏
وأخيراً: فليتني أدري ما الذي دعى السيد محمد حسين للإعراض عن الإشارة والتنويه ‏بفضيلة لأهل بيت الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وعليهم السلام أجمعين؟!!!‏
نعم وجدنا مَن لا تستسيغ له نفسُه ولا تطاوعه على الإذعان بالحق فيما يخصُّ آل محمد ‏‏(عليهما السلام)، وجدناه مفترياً على المذهب الحق، مكذِّباً نفسَه، ومتفوِّهاً بما كذَّبه وسيبقى يكذِّبه ‏به كلُّ مطلع على بهتانه وافترائه.‏
نعم حيث تفطن إلى أنَّ الإقرار بشمول الاصطفاء لآل محمد (عليهم السلام)، سيضطره ‏إلى الاعتراف بكون أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الوصي والخليفة الحق بعد الرسول الأكرم ‏‏(عليهما السلام)، وأوحى إليه شيطان الهوى والضلال أنه لا مجال للتفصي عن ما يلزم عن ‏الإقرار، فبادر إلى الهذيان والهجوم، وقد قيل بأنَّ أفضلَ وسيلة للدفاع هو الهجوم، ولكنه ما اكتفى ‏بذلك، بل زاد وافتري إثماً وبهتاناً عظيماً.‏
فقد قال ابن كثير ـ وهو ابن كثيرين بحق ـ وزعمت الروافض: أنَّ اسم أبي طالب ‏عمران، وأنه المراد من قوله تعالى {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ وَآلَ ‏مُحَمَّد على الْعَالَمِينَ}، وقد أخطأوا في ذلك خطأ كثيراً، ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا ‏البهتان من القول في تفسيرهم له، على غير مراد الله تعالى
 البداية والنهاية ج 7 ص 369.‏
أقول: نعم نحن الذين رفضنا كلَّ بيعة ضلال، ورفضنا كلَّ باطل ومن اليوم الأول تبعاً لأئمة ‏الهدي، نقول للمفتري المخادِع ولأمثاله النواصب:‏
إمَّا أنك لم تنظر في كتبنا وهذا إحتمال بعيد وموهوم جداً، وإمَّا أنك مفتريٍ مخادعٌ ‏متعصِّبٌ وهو الاحتمال المتعيِّن.‏
ونقول: هذه هي كتب أبناء الفرقة الناجية، وقد ملأت بفضل الله تعالى الخافقيَن، فهلَّا أتانا ‏أحد بشاهد ولو ضعيف على افتراءِ هذا الناصبيِّ وبهتانِهِ؟‏
يا أيها المنصف، دونك كتب الشيعة الإمامية، وفي جميع الفنون والعلوم منتشرة مباحة، ‏فهل تجد لما زعمه وليُّ الإفك والزور من وجه، سوي أنه أعماه الهوي، وأضله الله عن علم؟!!‏

العودة