لمحة عن جهاده السياسي
من الصعب أن نفهم قيمة أي نمط من أنماط التحرك السياسي في هذه المرحلة التي نؤرخ لها ـ والتي عاش خلالها العلاّمة السيد القبانچي ـ ما لم ندرك طبيعة تلك المرحلة والآفاق الحاكمة عليها سواء من حيث موقف السلطة الملكية ثم الجمهورية ـ بدءاً من العهد القاسمي ومروراً بالعهد العارفي، وحتّى نصل في الختام إلى العهد البعثي الأسود ـ، أو من حيث الآفاق الفكرية والنفسيّة لدى الناس أو لدى علماء الدين والحوزة العلمية.
المرحلة التي عاش سنواتها السيد القبانچي هي مرحلة الاحباط النفسي الذي ملأ قلوب وأفكار الناس بعد اخفاق ثورة العشرين.
المرحلة هي مرحلة استسلام للقرارات التي فرضها الأجنبي الغازي للعراق الذي ظل يمارس نفوذه عبر صبيان العهد الملكي وما بعده.
المرحلة هي مرحلة الآثار النفسيّة لسقوط معقل الثورة والحركة الجهادية والسياسية وهي النجف الأشرف بعد الحصار الذي فرض عليها من قبل الانكليز
المرحلة هي مرحلة الانتكاسة السياسية التي شهدتها الأوساط الشيعيّة عموماً وفي النجف الأشرف خصوصاً بعد أن قام الانكليز بتبعيد زعماء الدين الشيعة إلى خارج البلاد، ثم فرض عليهم التعهد بعدم ممارسة أي لون من ألوان العمل السياسي.
هذه المرحلة هي التي نريد أن نقرأ فيها المواقف الجهادية والبطولية للسيد القبانچي.
وحقاً أننا سنجده في مجمل تصدياته وتحدياته من النمط الفريد قياساً إلى الوسط الذي عاش فيه.
ومن ناحية ثانية فإنّنا سنجد ثلاث قضايا استأثرت بالاهتمامات السياسية للسيد القبانچي.
الاُولى: الدفاع عن حقوق الشيعة ومواجهة الطائفية.
الثانية: مواجهة التحريف الفكري للجيل الناشئ.
الثالثة: قضية الحرب الدمويّة ضد الأكراد.
الدفاع عن حقوق الشيعة:
في الوقت الذي عاش العراق الطائفية التي زرعها الاستعمار وذلك لبثّ الفرقة بين الشعب والمرجعية; (تجسّد هذا الأمر بالخصوص في العهد الملكي) كان الشيعة يترددون بين مواقف الصبر الصامت أحياناً والمواجهة أحياناً اُخرى.
وهنا كان السيد القبانچي يُمثِّل لسان المرجعية الدينية في النجف الأشرف كما
فنذكر للسيد القبانچي مواقف مهمّة أيام حكومة ياسين الهاشمي على عهد الملك فيصل، حيث عُرف ياسين الهاشمي بمواقفه الطائفية الحاقدة على الشيعة، ومع اعطاء الضوء الأخضر للاُدباء والصحافة بالنيل من الشيعة والطعن بمعتقداتهم ظهرت أقلاماً مأجورة كانت تتندر علناً بالتهجّم على الشيعة فكانت كتابات (الحصّان) الصحفيّة الساخرة والتهاجميّة على الشيعة موضعاً للجدل والاثارة في أوساط الشيعة في بغداد وغيرها، وبلغت به الجرأة أن يشن هجوماً على الزهراء (عليها السلام)مدعياً انّ الحسن والحسين هما أبناء سلمان الفارسي الذي كان كثير التردد على الزهراء (عليها السلام).
لقد اجتمع وجهاء الشيعة من بغداد بمرجع الطائفة يومئذ السيد أبو الحسن الاصفهاني في النجف الأشرف، واجتمع السيد الاصفهاني بالزعيم الديني العراقي الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، وتقرر دعوة الجمهور لاجتماع مهيب في الصحن الحيدري الشريف يشارك فيه كل من الشيخ كاشف الغطاء والسيد أبو الحسن الاصفهاني.
وقد كان الاجتماع حاشداً للغاية حيث أعلن فيه الشيخ كاشف الغطاء وباسم المرجعيّة الدينيّة في النجف الأشرف وجوب التصدي للحملات الطائفية التي تجري تحت ظل العرش الملكي، وبتغذية رئيس وزراء الوقت يومئذ ياسين الهاشمي.
ودعا الشيخ كاشف الغطاء العلماء ورجال المنبر إلى السفر للالتقاء بجماهير الشيعة وعشائرهم في البصرة، والعمارة، والناصرية وغيرها.
ومن على منبر الصحن الحيدري الشريف كان الشيخ كاشف الغطاء يوزّع المسؤوليات ومواقع العمل.
ونهض الشيخ اليعقوبي قائلا وهو يخاطب الشيخ كاشف الغطاء:
أمل العراق بك انعقد | وعلى مبادئك اعتمد |
جسد العراق فراته | ولأنت روح للجسد |
واختار السيد القبانچي لمنطقة الناصرية وملحقاتها قائلا:
السيد القبانچي إلى الناصرية والغراف والشطرة والرفاعي وأطرافها.
بلّغ عني السلام خيّون آل عبيد كبير زعماء عشائر الرفاعي.
وإذا وصلت الشطرة فاقرأ عني السلام اسماعيل السوز كبير زعماء الشطرة.
وكان السيد القبانچي حاضراً في هذا الاجتماع الذي ضمّ علماء النجف وخطبائها كافة، وكان يومئذ في بدايات بزوغ نجمه الخطابي والسياسي.
فلما أنصت إلى حديث الشيخ كاشف الغطاء نهض قائلا:
أشكركم يا كاشف الغطاء، يا صاحب القلم السيّال، يا من عرّفتنا كيف نرد على الخصم ونلقمه حجراً.
فاستحسن الشيخ كاشف الغطاء كلامه وقال: "أنت لها وأنا أعرفك بذلك".
واتجه السيد القبانچي إلى المناطق المقرّرة له، وألهب حماس الناس في كل منطقة حلّ فيها، فكانت تظاهرة جماهيرية سياسية عمّت مناطق الشيعة عموماً إسناداً لموقف المرجعيّة الدينية، واحتجاجاً على المسار الطائفي للحكومة.
وفي مدينة "البطحة" وهي ناحية على الفرات قريب الناصريّة كان مدير الناحية متعصباً ضد الشيعة، وله خلاف مع وجوه البلدة، فلمّا نزل السيد القبانچي هذه الناحية وفي سياق الدفاع عن الشيعة، وإبراز مظلوميتهم وفي اجتماعات جماهيرية ضخمة ندّد بمواقف مدير الناحية الذي كان قد حضر الاجتماع مع جمع
مواجهة التحريف الفكري:
لقد كان العلاّمة السيد القبانچي صريحاً وشجاعاً جداً في المواجهة العلنيّة للأجهزة الحاكمة التي كانت تغذّي وتدعم التيارات العلمانيّة والقوميّة ونداءات التحلّل من الدين والقيم الدينيّة.
يحدّثنا معاصروه:
انّ السيد حسن القبانچي كان يحاضر في مدينة الرفاعي في المجلس الحسيني الجماهيري العام الذي يقيمه "اسماعيل السوز"، وبينما هو يتحدّث على المنبر إذ دخل معلمون ثلاثة أحدهما صبي واثنان من اليهود، فما كان من السيد القبانچي إلاّ أن قطع كلامه وبعد لحظات رفع صوته قائلا ومتحدياً:
يا نفس هودي ويعلّم الإسلام صبي ويهودي
ماذا تأملون؟ وماذا ترجون إذا كان أولاد المسلمين بأرض أمير المؤمنين يعلمهم اليهودي والنصراني؟!
كيف سيكون النشء الجديد؟
وبأمر من يتم تعيين هؤلاء معلمين في المدارس لأولادنا؟(1).
____________
1- هذه الحادثة كانت ـ على ما يرويه المعاصرون للسيد القبانچي ـ على عهد الملك فيصل وحكومة نوري السعيد.
قضية الحرب الدمويّة ضد الأكراد:
في أثناء الحرب ضدّ الأكراد أصدر الإمام الحكيم فتوىً بحرمة القتال ضد الأكراد إلاّ أنه لم يكن سهلا للغاية أن يتحدى أحد علانية وأمام الملأ العام سياسات الحكومة التي تقف وراء هذه الحرب.
ربما كان السيد القبانچي هو الأول أو الوحيد الذي طرح هذا الموضوع من على المنبر وأمام الحشود الجماهيريّة أيام حكومة عبد الرحمن عارف، فقد تناول عبر حديثه عن الوحدة أنه لا فرق بين العربي والكردي معرّضاً بالسياسات العنصريّة التي تنتهجها حكومة عارف ومن قبله، وحين تناول هذا الموضوع في أحد مجالسه العامة في الكوفة اُلقي القبض عليه إثر ذلك، وتمّ تبعيده إلى راوة، حيث مكث فيها مدة شهر اُطلق سراحه بعد ذلك، وقد علّق وزير الشؤون الاجتماعية يومئذ على كلام السيّد القبانچي قائلا: "لو كان هذا الكلام قد صدر أيام الحرب في الشمال لحكم على السيد القبانچي بالاعدام".
أيام حكومة البعث:
لقد كان واضحاً لديه عداء هذا الحزب للدين، وكان واضحاً لديه أنّ هذا النظام نظام دموي لا يتورع عن ارتكاب كل جريمة، وله مقالة توضّح مبدأه، فقد قال لأحد أصدقائه:
"لو كان اِصبعي يريد أن يصير عوناً للظالم البعثي لكنتُ أقطعه قبل ذلك".
|
ولم يتخلّ السيد القبانچي عن مسؤوليته في الدفاع عن الدين، ومواجهة نظام البعث الكافر فقد كان نضاله ضدّ البعثيين مستمراً وعلى عدّة دعامات:
وبرغم الفارق السني في العمر بين السيد القبانچي وبين السيد الشهيد الصدر الذي يصغره في العمر بأكثر من عشرين عاماً فقد استعدّ السيد القبانچي لأن يضع نفسه في خدمة هذه المرجعيّة، وكان يرى أنّ الشهيد الصدر "نابغة"، و "انّ الناس لا يعرفون الخسارة التي حلّت بشهادته إلاّ بعد زمن طويل".
وقد يبدو للوهلة الاُولى أنها قضية بسيطة أن يدافع العلاّمة القبانچي عن حركة ومرجعية السيد الشهيد الصدر، إلاّ اننا حين ندرك أنّ القضية ليست بمستوى اعتقاد نظري، وولاء نفسي، ثم مماشاة هادئة على أرض الواقع، وانما القضية هي بمستوى التضحية والفداء بأعزّ ما يملكه الإنسان.
فسوف نعرف أنها قضية تحتاج إلى المزيد من الاخلاص، والصدق، والفناء في ذات الله، وكبح جماح النفس والأنا بدرجة عالية.
ولقد استشهد عدد من أولاد وذوي العلاّمة السيد القبانچي كان على رأسهم الحجة المجاهد السيد عز الدين القبانچي والسيد عماد الدين الطباطبائي، ثمّ تعرّض بعدهما للاعتقال مرّة ثانية والحكم عليه بالاعدام نجله السيد صدر الدين القبانچي، واعتقل أيضاً السيد أحمد القبانچي والسيد صادق القبانچي، كل ذلك في طريق حركة الشهيد الصدر ومرجعيته ومنهجيته، ورغم كلّ ذلك لم يفرض على العلاّمة القبانچي حالة التراجع عن هذه المرجعيّة الدينيّة والتخلّي عن نصرتها.
2- نشاطات غير مباشرة: لم يفت في عضده شهادة ولده الأكبر الحجة المجاهد السيد عز الدين القبانچي وابن اُخته الحجة المجاهد السيد عماد الدين الطباطبائي
بل ظلَّ صامداً، محتسباً، مواجهاً كلّ الضغوط المتعدّدة من السلطة أو من الجوّ العام الذي كان لا يطيق هذه الصدمة، وحتّى من الأصدقاء والأقرباء.
وبدلا عن أن يَفد إليه الأصدقاء معزّين ومشجّعين ومصبّرين كانت القطيعة والتحاشي والإعراض هو الموقف الذي اتّخذه الكثيرون حتّى من المحبّين بالطبع.
ومن هنا فقد كان السيد القبانچي يَشعر بالغربة في ذلك المحيط، فكان يقول: "إني أشعر بأني غريب في النجف".
إلاّ أنه مع كل هذه المرارة القاسية جداً لم يتراجع عن الموقف، وكان يذكر دائماً مع نفسه ومع الآخرين مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام)بولده على الأكبر (عليه السلام) ويتسلى بهذا الذكر.
وإنّ هذه الأحداث لم تولّد عند السيد القبانچي ردود فعل سلبيّة، ولم يفرض عليه حالة العزلة، ولا دفعه للانسحاب عن خطّ التصدّي والمواجهة بنفسه أو بأبنائه فنراه عندما عُرض عليه أن يلتقي بمحافظ النجف البعثي يومئذ في محاولة لمدّ جسور المحبة والعلاقة الايجابيّة ولو على سبيل التقيّة، رفض ذلك وقال:
"يطلبون منّي أن أزور هؤلاء الكلاب، والله لو قتلوا أولادي التسعة لما تقرّبت إليهم".
|
وبهذه الروح القوية والايمان العالي استمرّ السيد القبانچي بصموده وهو
____________
1- قبل إعدام الشهيدين كان السيد الإمام الخميني قد أبرق إلى أحمد حسن البكر قائلا:
"لا يكون شاه ايران قدوة لك، وهؤلاء أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأرجو أن تحفظ صلتهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)باطلاق سراحهم ـ وليس بالعفو عنهم ـ لا تفتح عليك باب قتل العلماء كما فعل الشاه".
وكانت هناك برقيات اُخرى رُفعت للنظام من قبل مراجع الدين في النجف الأشرف من السيد الخوئي والسيد عبد الله الشيرازي والشيخ مرتضى آل ياسين، وكانت برقية الإمام أشدّها لحناً وكان الإمام قد طلب اتصالا تلفونياً مباشراً مع أحمد حسن البكر عبر محافظ النجف يومئذ إلاّ أنه امتنع من ذلك.
وكان عندما يتلقّى نبأ استشهاد أحد أولاده يزداد صموداً وثباتاً، فنراه عندما وصل اليه خبر استشهاد ولده الثالث (السيد صادق) قال لزوجته العلوية اُمّ الشهداء:
"انني أصبحت اليوم مسروراً وأرجو أن تكون قد وجبت لنا الجنة وحرمت علينا النار، فقد أصبحتُ أباً، وأصبحتِ اُماً لثلاثة شهداء".
|
نعم، قد لا نعرف قيمة هذا الموقف، ولا نعرف عظمة الشخصية التي انطوت عليها أضلاع هذا الرجل.
انّ استقبال الشهادة بهذا الشكل يمثّل حالة نادرة جداً، وقد لا نعرف لها نظيراً في تاريخ العراق المعاصر إذا عرفنا طبيعة الأجواء التي حدثت فيها.
فلم تكن الشهادة يومئذ في مفهوم الناس، وحتّى الوسط الديني إلاّ خسارة ونكبة، كما لم يكن السجن والاعتقال إلاّ من شأن المجرمين والفاسدين ولا يليق بساحة المؤمنين.
في مثل هذا الوسط كانت مفاهيم الجهاد والشهادة والتضحية غريبة، وكان رجالها غرباء، ومن هنا فقد كان ألم الغربة أشد من ألم السجن والفراق والتضحية بالأولاد على قلب العلاّمة المضحّي السيد القبانچي.
ومهما يكن الأمر فانّ كل هذه التضحيات لم تزده إلاّ صبراً واحتساباً وايماناً، ولم تُسمع منه كلمة واحدة يندب فيها حظَّه، ويندم على ما أصابه، ولم تسمع منه كلمة واحدة يندّد فيها بمواقف أولاده البطولية والجهاديّة.
3- المواقف المباشرة: له مواقف مباشرة ضدّ البعثيين، فلقد بادرت سلطات البعث الحاقدة إلى منع السيد القبانچي من السفر إلى خارج العراق بعد استشهاد
لقد كان منبره الصامت ناطقاً بادانة البعث وإجرامية حكومته، فما أن يرقى المنبر حتّى تسيل الدموع لمشهده وهو أب وخال لأول شهيدين من علماء النجف الأشرف.
ولا يتكلم حتّى يذكّر الناس بمنهج الصبر والتضحية من ناحية، ومظلومية التشيّع وعلماء الدين ورجال المنبر الحسيني من ناحية ثانية.
لقد طلبت منه دوائر أمن السلطة أن يمدح النظام والحزب والقيادة البعثية لكنه رفض أن يخضع لكل هذه الضغوط المتعدّدة، فكان يقول: "خدمة الظالم بقلم مكسور حرام".
فلم تصدر منه كلمة واحدة على الاطلاق بمدحهم وحتّى على سبيل التورية.
ولم يطق البعثيون المجرمون أن يشهدوا مثل هذا الصمود والعناد والشموخ حتّى منعوه من ارتقاء المنبر وحظروا عليه أيّ تحرك في وسط الجمهور الحسيني.
وظل رجل الصبر جليس داره، عاكفاً على الكتابة والتأليف لسنوات طوال.
وكان أخطر ما يخاف منه هو أن تُستلب منه كلمة لصالح النظام على منبر أو من على شاشة التلفزيون.
فلقد عمد البعثيون على جرّ عشرات من رجال العلم ليظهروا وراء شاشة التلفزيون في مجالس مكرّسة لدعم النظام وتأييده.
واستخدموا كل أساليب الإكراه والقسوة والعنف حتّى طاردوا العلماء وهم في بيوتهم، وهدّدوهم بأنفسهم وأعراضهم وأولادهم.
فلقد لاحقتهم الدعوات إلى منازلهم، ولاحقهم رجال الأمن وهم في طريقهم
وكان يلحّ على الله بالدعاء أن يخلّصه من هذه الأزمة الحادة.
ولقد شاء الله تعالى أن يحفظ لهذا السيد الصابر كرامته وعزّه وشرفه فلم تدنّس صفحة حياته البيضاء بنقطة سوداء من وراء شاشة التلفزيون أو على المنبر، ولعله كان الوحيد من وجوه الحوزة الذي يمكن أن تسجّل له هذه الفضيلة ممّن مكث في النجف الأشرف حتّى لما بعد انتفاضة شعبان1411هـ ولم يخضع لضغوط البعثيين وقسرهم على مدح السلطة وخدمتها إعلامياً.
إلاّ أنّ هذه المواقف الصلبة كان تضعه باستمرار أمام خطر السجن والاعتقال.
وقد كان يدرك ذلك ويتوقعه دائماً، وكان رجال الأمن يأتون إلى منزله كل اُسبوعين مرّة لارعابه.
وكان يقول: "ما نمت ليلة إلاّ وأنا مُستعد للاعتقال".
بل كان شبح الاعتقال أمامه على الدوام حتّى كان يتجهز بملابسه حين تُطرق باب الدار وينهض لفتحها، بل كان يضع إلى جانب فراش نومه كامل ملابسه تحسباً للاعتقال واستعداداً له.
وبالفعل فقد جاء اعتقاله في العاشر من شعبان لعام 1405 للهجرة الشريفة هو وأهله اُم الشهداء العلوية فخر السادات الطباطبائي.
واستمرّ اعتقاله مدّة عام ونصف، وكان ما كان أيام السجن.
وقد عُرض عليه أن يهاجر أكثر من مرّة فكان الرفض هو جوابه، فكان تعلّقه بالعلم والتأليف ومحاولة الاستثمار الكاملة لطاقاته العلميّة هو الذي يمنعه من الهجرة، وقد كان يصرّح بذلك.
وربما نشعر اليوم بأنّ النجاة أولى بالحرص والطلب، وقد تُوفّر للإنسان
الشرف العظيم:
انّ عمراً حافلا بمداد العلماء، وصبر الأولياء، والجهاد في مقارعة الأعداء، حَريٌّ أن يُكتب له الشرفُ العظيم.
وإن قلمي ليعجز عن سَطرِ معاني هذا الشرف، ومناحي هذا المجد.
وماذا أكتب عن رجل تبارى مع العلماء فما سبقوه، وجارى الخطباء فما لحقوه.
فكان في العلماء أغزرهم يراعاً، وكان في الخطباء أطولهم باعاً، وكان في سُوح الجهاد أشدّهم قراعاً.
وماذا أسطر عن رجل كان اُمةً في خصاله، وفريداً في مجاله.
أنني أقف أمام قَلَم لم يجُف عن خدمة العلم مدّة خمسين عاماً.
وأقف أمام لسان ما تخلّف عن نصرة الحق منذ نطق.
وأقف أمام جَبَل من الصبر لم تثنه نوائب الدهر.
انّ مثل هذا الإنسان لحقيق أن يَهنأ بتاريخه المقدّس، وعمره الشريف.
فهنيئاً لك يا أبا الشهداء هذا الشَرَف العظيم إذا كنت نزيل سجون الأعداء وقد أبيتَ أن تفرّ فرار العبيد أو تعطيهم بيدك إعطاء الذليل.
وهنيئاً لك هذا المجد الكريم إذا كنت قد وفدت على ربك الرحيم فشَكَرَ لك صبرك {يَوْمَ يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب}.
وهنيئاً لك إذا استقبلت أولادك الشهداء فرحين بما آتاهم الله من فضله
وطوبى لك إذا استقبلت جدَّك الحسين واُمّك الزهراء وأنت مضرّج بدمائك.
ولك الكرامة انّ إمامك الذي عشقته، واشتعل قلبُك بحبّه، ونذرت عمرك له، وسهرت الليالي في الكتابة عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون قد استقبلك في مثل الليلة التي استشهد فيها ليلة القدر الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك.
وقد اعتُقل السيد العلاّمة القبانچي في العشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1411 هـ بعد انتفاضة شعبان المباركة ولم يزل أمره مجهولا في سجون الطغمة الحاكمة في العراق والله أعلم بأمره.
السيد صدر الدين القبانچي
التقاريظ
كلمة العلاّمة الحجة الشيخ آغا بزرك الطهراني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله آل الله إلى يوم لقاء الله.
وبعد، فقد عرض الخطيب الشهير والفاضل الجليل السيد حسن القبانچي كتابه الجديد (مسند الإمام علي (عليه السلام)) وطلب منّي تقريظه فاعتذرت إليه بعجزي عن ذلك لعدم قدرتي على قراءته أو الإلمام به من جهة ولرعشة يدي وجريها من جهة اُخرى إلاّ أنّه رعاه الله وأبقاه لم يقبل عذري ورضى بالايجاز والاختصار فنزلت عند رغبته وأجبت طلبته.
فصفحت الكتاب فوجدت مؤلفه البارع قد أتعب نفسه في تخريج الأحاديث لمسنده إلى باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصرفه جهداً لا يستهان به في تتبعها المصادر المتفرّقة واستقرائها في المظان المختلفة والمراجع المتباعدة فألّف بينها وجمعها بعد الشنان فاستحقّ بذلك جميل الذكر وجزيل الأجر وابتهل إلى الله تعالى أن يتقبّل عمله ويجعله خالصاً لوجهه وأن ينفعه يوم العرض عليه وأرجو للمؤلف دام علاه دوام التوفيق لمثل هذه الخدمات.
والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا.
كتبه بأنامله المرتعشة في مكتبة العامة في النجف الأشرف عشية الأحد الرابع والعشرين من شهر صفر الخير سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية وأنا الفاني الشهير بآقا بزرك الطهراني عفي عنه.
كلمة آية الله السيد مرتضى آل ياسين
الحمدُ لله والحمدُ حقّه كما يستحقّه والصلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وآله الناسجين على منواله.
وبعدُ فقد مُني الحديث النبويّ الشريف بالكذّابة عليه فكذبوا على النبيّ في عهده وكذبوا عليه من بعده، وحين بلغه (صلى الله عليه وآله) نبأ هؤلاء الكذّابة قام خطيباً فأنذرهم بقوله: "من كذّب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار" غير انّهم لم يبالوا هذا الإنذار المخوف رغم صدوره عمّن لا ينطق عن الهوى بل تمادوا في افترائهم دائبين غير هيّابين ولا وجلين إنطلاقاً منهم مع الظروف المواتية التي سوّلت لهم أن يضعوا من الأحاديث ما تدعوا إليه الأغراض السياسيّة للسلطات الحاكمة يومذاك إضافةً إلى ما كانت تزيّنه لهم أغراضهم الشخصيّة، ومن جراء هذه الجناية العظمى المقترفة ضدّ السنة النبويّة حدثت البلبلة عند علماء الاُمّة تجاه الأحاديث المرويّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث التبس عليهم الحقّ منها بالباطل مع العلم بأنّ الأحاديث النبويّة هي المنهاج الوحيد بعد الكتاب المجيد لحياتهم الدينيّة التي يجب أن تنطبع بطابع الرسالة الحقّة التي صدع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتكون دستوراً عمليّاً لكلّ من آمن به وانصاع لأحكام شريعته.
وكما مُني الحديث النبويّ بالكذّابة عليه كذلك مُني الحديث الإماميّ بمثل ما مُني به الحديث النبويّ فدسّ الكذّابة فيه ما دسّوا ووضعوا فيه ما وضعوا حتّى أنّ
ومن ثَمّ اضطرّب الحاجة علماء الاُمّة إلى غربلة تلك الأحاديث وتمحيصها تمحيصاً دقيقاً فوضعوا لأجل ذلك علم الرجال المتكفّل لإجراء عمليّة الجرح والتعديل وعلى ضوء هذا العلم الدائرة بحوثه حول أحوال الرجال الوارد ذكرهم في عنعنة الأسانيد استطاعوا أن يحصلوا على طائفة كبيرة من الأحاديث المعتبرة التي يصحّ التعويل عليها والإستناد إليها على تفاوت فيما بينها في درجة الاعتبار وعلى أساس هذا التفاوت أنقسم الحديث لديهم إلى أربعة أقسام.
فكان منه الصحيح، ثمّ الموثق، ثمّ الحسن، ثمّ الضعيف.
وهذا الأخير لا يؤخذ به الاّ في المستحبّات عملا بأدلّة التسامح في أدلّة السنن وانّك لتجد هذه الأقسام كلّها مبثوثة على صفحات الكتب الأربعة للمحمّدين الثلاثة رضوان الله عليهم المعروفة عند الشيعة باسم كتب الحديث، معرّاةً عن وصف الصحة إيذاناً منهم بأنّ ما دوّن فيها ليس كلّه مضمون الصحّة عندهم بخلاف الكتب السنّة المعمول بها عند أهل السنّة حيث أنّهم يعتقدون بأنّ جميع ما دُوّن فيها هو من القسم الصحيح لا غير، ولذلك وُسمت عندهم بالصحاح الستّة.
وأمّا ما سُمّي بالمسانيد من كتب الحديث فهو عبارة عن طوائف من الأحاديث التي اهتدى العلماء إلى أسانيدها فدوّنوها في كتبهم معنعنة بتلك الأسانيد دون أن ينصّوا على صحّتها أو على درجة اعتبارها فهي لأجل ذلك خاضعة لعمليّة الجرح والتعديل فلا يجوز الاحتجاج بشيء منها إلاّ بعد وضعه على طاولة النقد لكي يؤخذ الصحيح منه وينبذ الزائف.
ونظراً لكثرة الأحاديث المرويّة عن مولانا الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)
24 / 2 / 1389 هـ. ق.
مرتضى آل ياسين
كلمة آية الله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر
والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطاهرين.
وبعد فانّ الاهتمام الكبير بما يؤثر عن الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام من نصوص يستمد مبرره من دوره العظيم في الإسلام الذي يفرض على الاُمّة الاستمداد من معينه والتعرّف على الإسلام من خلال عطائه ذلك لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينصب عليّاً مرجعاً أعلى للمسلمين من بعده على الصعيد الاجتماعي فقط بل نصبه مرجعاً أعلى على الصعيد الاجتماعي والصعيد الفكري معاً فهناك مرجعيتان أسندتا إلهياً ونبويّاً إلى الإمام عليّ: إحداهما المرجعية الاجتماعية للاُمّة التي تجعل للإمام القيادة الفعلية للمسلمين في مجالات حياتهم الاجتماعية.
والاُخرى المرجعية الفكرية والتشريعية للاُمّة التي تجعل من الإمام المصدر الأعلى بعد كتاب الله وسنّة رسوله لكلّ ما يشتمل عليه الإسلام من أحكام وتشريعات وقيم ومفاهيم.
وقد كان أروع تعبير نبوي عن المرجعية الاُولى حديث الغدير وعن المرجعة الثانية حديث الثقلين.
ورغم المحاولات التي بذلت بعد وفاة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بوضع بديل عن الإمام علي وأهل البيت في المرجعية الفكرية والتشريعية ورغم الجهود التي أنفقت من أجل تعيين هذا البديل في الصحابة ككل دون تمييز بين علي وسواه ظلت الحقيقة واضحة والحاجة إلى مرجعية علي قائمة بوصفه المصدر الذي أحد نبوياً
وعلى هذا الأساس تبرز قيمة المحاولة الموقعة التي قام بها الخطيب الشهير العلاّمة السيد حسن القبانچي حفظه الله تعالى ورعاه لاستيعاب ما يؤثر عن الإمام علي (عليه السلام) من نصوص وروايات في هذا الكتاب الجليل الذي يعتبر بوصفه سجلا لكلام الإمام من أهم مصادر المعرفة الإسلامية.
ولا تعنى هذه المحاولة الموفقة انّ كلّ ما ذكر في هذا الكتاب قد صدر من الإمام (عليه السلام) حقاً بل ليس على هذا الكتاب إلاّ أن يجمع ما روي عنه ويبقى بعد ذلك، على من يريد الاستناد إلى شيء من تلك الروايات أن يرجع إلى مقاييس النقد والتمحيص المتّفق عليها بين الفقهاء.
سدّد الله المؤلف الجليل وأخذ بيده ونفع المؤمنين بجهوده والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته.
17 شعبان 1392 هـ
محمّد باقر الصدر