قال نوف: فقلت: صِف لي شيعتك، ياأمير المؤمنين، فبكى لذكرى شيعته، ثم قال: يانوف شيعتي والله الحلماء العلماء بالله ودينه، العاملون بطاعته وأمره، المهتدون بحبه، أنضاء عبادة، أحلاس زهادة، صفر الوجوه من التهجد، عمش العيون من البكاء، ذبل الشفاه من الذكر، خمص البطون من الطوى، تعرف الرهبانية في وجوههم، والرهبان في سمتهم، مصابيح كلّ ظلمة، وريحان كلّ قبيل، لا يثنون من المسلمين سلفاً، ولا يقفون لهم خلفاً، شروروهم مكنونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، أنفسهم منهم في عناء، والناس منهم في راحة، فهم الكاسة الألباء، والخالصة النجباء، فهم الرّواغون فراراً بدينهم، إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، اُولئك شيعتي الأطيبون، واخواني الأكرمون، ألا هاه شوقاً اليهم(1).
9083/13 ـ عن علي (عليه السلام) أن قوماً أتوه في أمر من اُمور الدنيا يسألونه، فتوسلوا اليه فيه بأن قالوا: نحن من شيعتك ياأمير المؤمنين، فنظر اليهم طويلا ثم قال: ما أعرفكم ولا أرى عليكم أثراً مما تقولون، إنما شيعتنا من آمن بالله ورسوله، وعمل بطاعته، واجتنب معاصيه، وأطاعنا فيما اُمرنا به، ودعونا اليه، شيعتنا رعاة الشمس والقمر والنجوم (يعني الوقوف على مواقيت الصلاة) شيعتنا ذُبُل شفاهُهُم، خُمص بطونهم، تعرف الرهبانية في وجوههم، ليس من شيعتنا من أخذ غير حقه، ولا من ظلم الناس، ولا من تناول ما ليس له(2).
9084/14 ـ عن علي (عليه السلام) أنه قال: ليس عبد ممن امتحن الله قلبه للتقوى إلاّ وقد
____________
1- أمالي الطوسي المجلس 23:576 ح1189، البحار 68:177.
2- دعائم الاسلام 1:56، مستدرك الوسائل 1:128 ح172.
9085/15 ـ عبدالله بن جعفر الحميري، عن محمد بن عيسى، عن عبدالله بن ميمون القداح، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام قال: جاء رجل إلى علي (عليه السلام) فقال: جعلني الله فداك، إني لأحبكم أهل البيت، قال: وكان فيه لين، قال: فأثنى عليه عدة، فقال له: كذبت، ما يحبنا، مخنث، ولا ديوث، ولا ولد زنا، ولا من حملت به اُمه في حيضها، قال: فذهب الرجل، فلما كان يوم صفين قتل مع معاوية(2).
9086/16 ـ قال أبو عبيد في حديث علي (عليه السلام): خير هذه الاُمة النمظ الأوسط، يلحق بهم التالي ويرجع اليهم الغالي(3).
9087/17 ـ قال علي (رضي الله عنه): أين الذي دعوا إلى الاسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك، وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء، ولا يعزون عن القتلى مُره العيون من البكاء، خمص
____________
1- دعائم الاسلام 1:63.
2- قرب الاسناد: 25 ح85، البحار 27:148، مستدرك الوسائل 2:19 ح1288.
3- غريب الحديث 3:482.
____________
1- ربيع الأبرار 2:213.
الباب الثالث:
في شأن أعدائهم
9088/1 ـ الشيخ الطوسي، أخبرنا أبو عمرو، قال: حدثنا أحمد، عن جعفر بن محمد بن هشام، قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا غضاض بن الصلت الثوري، عن الربيع بن المنذر، عن أبيه، قال: سمعت محمد بن الحنفية يحدّث عن أبيه، قال: ما خلق الله عزّوجلّ شيئاً أشر من الكلب، والناصب أشر منه(1).
9089/2 ـ ابن شهر آشوب: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): والذي فلق الحبة وبرء النسمة لأقمعن بيدي هاتين من الحوض أعدائنا إذا وردته أحباؤنا(2).
9090/3 ـ شرف الدين علي الحسيني: قال: محمد بن العباس، حدثنا محمد بن سهل العطار، عن عمر بن عبدالجبار، عن أبيه، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى
____________
1- أمالي الطوسي المجلس العاشر: 273 ح515، البحار 27:221.
2- مناقب ابن شهر آشوب باب الساقي والشفيع 2:162، البحار 8:25، أعلام الوري: 189.
9091/4 ـ عن علي [(عليه السلام)] قال: اللهم العن كل مبغض لنا غال، وكل محب لنا غال(3).
9092/5 ـ ابن عساكر، أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي، أنبأنا أبو القاسم عبدالله بن الحسن بن الخلال، أنبأنا محمد بن عثمان النفري، أنبأنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، أبنأنا أحمد بن محمد سوادة، أنبأنا عمرو بن عبدالغفار، أنبأنا نصير بن عبدالأشعث، حدثني كثير النواء، عن أبي مريم الخولاني، عن عاصم بن ضمرة، قال: سمعت علياً[(عليه السلام)]يقول: إن محمداً (صلى الله عليه وسلم) أخذ بيدي ذات يوم فقال: من مات وهو يبغضك ففي سنة جاهلية، يحاسب بما عمل في الاسلام ومن عاش بعدك وهو يحبك ختم الله له بالأمن والايمان كلما طلعت شمس وغربت حتى يردا عليّ الحوض(4).
____________
1- فاطر: 37.
2- تأويل الآيات الظاهرة: 474، البحار 23:361، تفسير البرهان 3:366.
3- كنز العمال 11:325 ح31639، الرياض النضرة 2:195.
4- تاريخ ابن عساكر ترجمة الامام علي (عليه السلام) 2:233.
مبحث
الإحتجاجات
الباب الأول:
في مسائل التوحيد والربوبية
9093/1 ـ الطبرسي: روي أنه وفد وفد من بلاد الروم إلى المدينة، على عهد أبي بكر وفيهم راهب من رهبان النصارى، فأتى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه بختي موقراً ذهباً وفضة، وكان أبو بكر حاضراً وعنده جماعة من المهاجرين والأنصار، فدخل عليهم وحيّاهم ورحب بهم وتصفح وجوههم، ثم قال: أيكم خليفة رسول الله وأمين دينكم؟ فأومي إلى أبي بكر، فأقبل عليه بوجهه، ثم قال: أيها الشيخ ما اسمك؟ قال: اسمي عتيق، قال: ثم ماذا؟ قال: صدّيق، قال: ثم ماذا؟ قال: لا أعرف لنفسي اسماً غيره، فقال: لست بصاحبي، فقال له: وما حاجتك؟ قال: أنا من بلاد الروم جئت منها ببختي موقر ذهباً وفضة لأسأل أمين هذه الاُمة عن مسألة إن اجابني عنها أسلمت وبما أمرني أطعت وهذا المال بينكم فرقت، وإن عجز عنها رجعت إلى الوراء بما معي ولم أسلم، فقال له أبو بكر: سل عما بدا لك.
فقام سلمان الفارسي (رحمه الله) وأتى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو جالس في صحن داره مع الحسن والحسين عليهما السلام وقصّ عليه القصة، فقام علي (عليه السلام) وخرج معه الحسن والحسين حتى أتى المسجد، فلما رأى القوم علياً (عليه السلام) كبّروا الله وحمدوا الله وقاموا اليه بأجمعهم، فدخل علي وجلس، فقال أبو بكر: أيها الراهب سله فانه صاحبك وبغيتك، فأقبل الراهب بوجهه إلى علي (عليه السلام) فقال: يافتى ما اسمك، قال: اسمي عند اليهود (إليا) وعند النصارى (إيليا) وعند والدي (علي) وعند اُمي (حيدرة) قال: ما محلّك من نبيكم؟ قال: أخي وصهري وابن عمي لحاً، قال الراهب: أنت صاحبي وربّ عيسى.
أخبرني عن شيء ليس لله، ولا من عند الله، ولا يعلمه الله، قال (عليه السلام): على الخبير سقطت!
أما قولك: ما ليس لله فإن الله تعالى أحد ليس له صاحبة ولا ولدا، وأما قولك: ولا من عند الله، فليس من الله ظلم لأحد، وأما قولك لا يعلمه الله، فان الله لا يعلم له شريكاً في الملك، فقام الراهب وقطع زناره وأخذ رأسه وقبل ما بين عينيه وقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وأشهد أنك أنت الخليفة وأمين هذه
9094/2 ـ الصدوق، حدثنا الحسين بن محمد الأشناني الرازي العدل ببلخ، قال: حدثنا علي بن مهرويه القزويني، قال: حدثنا داود بن سليمان الفراء، قال: حدثنا علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: إن يهودياً سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: أخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله؟ فقال علي (عليه السلام): أما ما لا يعلمه الله، فذاك قولكم يامعشر اليهود: إن عزير ابن الله، والله لا يعلم له ولداً، وأما قولك ما ليس عند الله، فليس عند الله ظلم للعباد، وأما قولك ما ليس لله، فليس لله شريك، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله(2).
9095/3 ـ روي عن ابن عباس: أنه حضر في مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الأحبار، إذ قال عمر: ياكعب أحافظ أنت للتوراة؟ قال كعب: اني لأحفظ منها كثيراً، فقال رجل من جنبه في المجلس: ياأمير المؤمنين سله أين كان الله جل جلاله قبل أن يخلق عرشه ومم خلق الماء الذي جعل عرشه عليه، فقال عمر: ياكعب هل عندك من هذا علم؟ فقال كعب: نعم ياأمير المؤمنين نجد في
____________
1- احتجاج الطبرسي 1:484 ح118، البحار 10:52، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1:141، الفضائل (لابن شاذان): 132، أمالي الطوسي المجلس العاشر: 275 ح527.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1:141، التوحيد: 377، البحار 10:11، صحيفة الامام الرضا (عليه السلام): 259 ح193، أمالي الطوسي المجلس 10:275 ح527.
قال ابن عباس: وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) حاضراً.
فعظم علي ربه وقام على قدميه ونفض ثيابه، فأقسم عليه عمر لما عاد إلى مجلسه ففعله، قال عمر: غص علينا ياغواص، ما تقول ياأبو الحسن؟ فما علمتك إلاّ مفرجاً للغم، فالتفت علي (عليه السلام) إلى كعب فقال: غلط أصحابك وحرّفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه، ياكعب ويحك إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لا يجوز أقطاره، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما قدمته، وعزّ الله وجلّ أن يقال: له مكان يؤمى اليه، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان، وقولي كان، محدث كونه وهو مما علّم من البيان، يقول الله عزّوجلّ: {خَلَقَ الاِْنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1) فقولي له: كان، مما علّمني البيان لأنطق بحجية وعظمته المنّان، ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء، ثم كوّن ما أراد بلا فكرة حادثة أصاب، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد، وأنه عزّوجلّ خلق نوراً ابتدعه من غير شيء، ثم خلق منه ظلمة وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شيء كما خلق النور من غير شيء، ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس
____________
1- الرحمن: 3، 4.
ياكعب، ويحك إن من كانت البحار تفلته على قولك كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنّه حلّ فيه، فضلك عمر بن الخطاب وقال: هذا هو الأمر، وهكذا يكون العلم لا كعلمك ياكعب، لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن(2).
9096/4 ـ الصدوق، حدثنا محمد بن علي ماجيلويه، عن عمه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبدالله، عن أبي أيوب المدني، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يُصغّر الدنيا أو يكبّر البيضة؟ قال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون(3).
9097/5 ـ الصدوق، حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عامر، عن عمه عبدالله بن عامر، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغّر الأرض ويكبّر البيضة؟ فقال (عليه السلام): ويلك أن الله لا يوصف بالعجز، ومن أقدر ممن يُلَطّف الأرض ويُعظّم البيضة(4).
9098/6 ـ وقد سئل مرة علي بن أبي طالب: هل ترى ربك؟...
قال: كيف أعبد يا هذا من لا أرى.
قيل له: وكيف تراه؟
____________
1- هود: 7.
2- مجموعة ورام 2:5، البحار 40:194.
3- التوحيد باب القدرة: 130، البحار 4:143.
4- التوحيد باب القدرة: 130، البحار 4:143، مصابيح الأنوار 1:71.
قيل له: صف لنا الله؟ فتلى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم قال: يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النيات في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات. ثم سئل ما الاسلام؟ فقال:
هو دين الله الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه، وأصفاه خير خلقه، فأقام دعائمه على محبته، وأذل الأديان بعزته، ووضع المحال (أو الحلل) لرفعته، وهدم أركان أعدائه بكرامته، وخذل محاربه بنصره، وهدم أركان الضلال بركنه، وسقى من عطش من حياضه، ثم جعل لا انفصام لعروته، ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته.
وسئل ما القرآن؟ فقال:
جعله الله نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يقل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهدم (أو لا تهزم) أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأدوية الحق وغيصانه، وعيون لا ينضبها المانحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، جعله الله رباً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء(1).
بيـان:
وفي الفقرات السابقة كلها ترى علياً وهو إمام من أئمة البلاغة، يوحي لك من طريق التشبيه ما يقرب لك ما في الاسلام من در ثمين، وفوق كل ما تقدم فقد ساق القرآن الكريم بالنطق الحلو ما يقنع كل عاقل بأن الله واحد لا شريك له |
____________
1- الاسلام دين ودينا: 17.
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا}(1) {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2) وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا}(3). فأما الآية الاُولى فيسلم بها الذوق السليم، وذلك لأنه لو كان هناك ملكان كل ينازع الآخر الحكم ويريد أن يستبد بالأمر. وأما الثانية فهي برهانية أيضاً لا يمكن أن يكون هناك إلهان فعلهما واحد; لأن العالم منسوب إلى خالق واحد هو ذو العرش، ولو كان معه خالق آخر لجلس معه على العرش، وكيف يكون هناك قوتان في مكان واحد لا يسع إلاّ قوة واحدة، ولذلك قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا}(4). والفرق بين العلماء والجمهور في هذا المقام: أن العلماء يعرفون أن تركيب العلم من جزئيات أنها لابد راجعة إلى قوة المادة، ولذلك سارع جلت قدرته فزاد علمه عن هذا، فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالاَْرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}(5).
|
____________
1- الأنبياء: 22.
2- المؤمنون: 91.
3- الإسراء: 42.
4- البقرة: 255.
5- الإسراء: 44 ـ 43.
الباب الثاني:
في فضائل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعاجزه
9099/1 ـ الطبرسي: روي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: إنّ يهودياً من يهود الشام وأحبارهم، كان قد قرأ التوراة والانجيل والزبور وصحف الأنبياء (عليهم السلام) وعرف دلائلهم، جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود وأبو سعيد الجهني.
فقال: ياأُمة محمد ما تركتم لنبي درجة ولا لمرسل فضيلة إلاّ نحلتموها نبيكم، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه؟ فكاع القوم عنه فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام):
نعم ما أعطى الله نبياً درجة، ولا مرسلا فضيلة إلاّ وقد جمعها لمحمد (صلى الله عليه وآله) وزاد محمداً على الأنبياء أضعافاً مضاعفة.
فقال له اليهودي: فهل أنت مجيبي؟ قال له: سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يقرّ الله به أعين المؤمنين ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله (صلى الله عليه وآله)
قال له اليهودي: اني أسألك فأعدّ له جواباً فقال له علي (عليه السلام): هات، قال اليهودي: هذا آدم (عليه السلام) أسجد الله له ملائكته، فهل فعل لمحمد شيئاً من هذا؟ فقال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك ولئن أسجد الله لآدم ملائكته، فان سجودهم له لم يكن سجود طاعة، أنهم عبدوا آدم من دون الله عزوجل ولكن اعترافاً بالفضيلة ورحمة من الله له، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله عزوجل صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتبعت المؤمنين بالصلاة عليه فهذه زيادة له يايهودي.
قال له اليهودي: فان آدم (عليه السلام) تاب الله عليه بعد خطيئته؟ قال له علي (عليه السلام) لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) نزل فيه ما هو أكبر من هذا من غير ذنب أتى قال الله عزوجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}(1) إن محمداً غير مواف يوم القيامة بوزر ولا مطلوب فيها بذنب.
قال اليهودي: فإن هذا إدريس رفعه الله عزوجل مكاناً علياً وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته؟ قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جلّ ثناؤه قال فيه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك}(2) فكفى بهذا من الله رفعة، ولكن أطعم إدريس من تحف الجنة بعد وفاته، فإن محمداً اُطعم في الدنيا في حياته، بينما يتضورون جوعاً فأتاه جبرئيل (عليه السلام) بجام من الجنة فيه تحفة، فهلل الجام وهللت التحفة في يده وسبحا وكبرا وحمدا، فناولها أهل بيته ففعلت الجام مثل ذلك، فهمّ أن يناولها بعض أصحابه فتناولها جبرئيل (عليه السلام) وقال له: كلها فانها تحفة
____________
1- الفتح: 2.
2- الشرح: 4.
قال له اليهودي: فهذا نوح (عليه السلام) صبر في ذات الله تعالى وأعذر قومه إذ كُذِّب؟ قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) صبر في ذات الله عزوجل فأعذر قومه إذ كُذِّب وشرد، وحُصِب بالحصا، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال أن شق الجبال وانته إلى أمر محمد! فأتاه فقال له: اني اُمرت لك بالطاعة فان أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها، قال (صلى الله عليه وآله) إنما بعثت رحمة، ربّ أهد أمتي فانهم لا يعلمون، ويحك يايهودي إن نوحاً لما شاهد غرق قومه رقّ عليهم رقة القرابة وأظهر عليهم شفقة فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِن أَهْلِي}(1) فقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح}(2) أراد جل ذكره أن يسليه بذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) لما غلبت عليه من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النقمة ولم تدركه فيهم رقة القرابة ولم ينظر اليهم بعين رحمة.
قال اليهودي: فإن نوحاً دعا ربه فهطلت السماء بماء منهمر؟ قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، وكانت دعوته دعوة غضب، ومحمد (صلى الله عليه وآله) هطلت له السماء بماء منهم رحمة; وذلك أنه (صلى الله عليه وآله) لما هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة فقالوا: له يارسول الله احتبس القطر واصفر العود وتهافت الورق، فرفع يده المباركة حتى رُئي بياض ابطيه، وما نرى في السماء سحابة، فما برح حتى سقاهم الله، حتى أن الشاب المعجب بشبابه همته نفسه في الرجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدة السيل، فدام اسبوعاً، فأتوه في الجمعة الثانية فقالوا: يارسول الله تهدمت الجدر واحتبس الركب والسفر، فضحك (صلى الله عليه وآله) وقال: هذه سرعة ملالة ابن آدم، ثم قال: اللهم حوالينا
____________
1- هود: 45.
2- هود: 46.
قال له اليهودي: فان هذا هود قد انتصر الله له من أعدائه بالريح، فهل فَعِلَ الحمد (صلى الله عليه وآله) شيئاً من هذا؟ فقال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله عزوجل قد انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق، إذ أرسل عليهم ريحاً تذرو الحصى، وجنوداً لم يروها، فزاد الله تعالى محمداً (صلى الله عليه وآله) على هود بثمانية آلاف ملك، وفضله على هود بأن ريح عاد ريح سخط، وريح محمد ريح رحمة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُوْدٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيْحاً وَجُنُوْداً لَمْ تَرَوْهَا}(1).
قال له اليهودي: فهذا صالح أخرج الله له ناقة جعلها لقومه عبرة؟
قال علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من ذلك إن ناقة صالح لم تكلم صالحاً ولا تناطقه ولم تشهد له بالنبوة، ومحمد (صلى الله عليه وآله) بينما نحن معه في بعض غزواته إذ هو ببعير قد دنا ثم رغا فأنطقه الله عزوجل فقال: يارسول الله إن فلاناً استعملني حتى كبرت ويريد نحري، فأنا أستعيذ بك منه، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى صاحبه فاستوهبه منه فوهبه له وخلاّه، ولقد كنّا معه فاذا نحن بأعرابي معه ناقة له يسوقها، وقد استسلم للقطع لما زور عليه من الشهود، فنطقت الناقة فقالت يارسول الله إن فلاناً مني برئ، وإن الشهود يشهدون عليه بالزور وإن سارقي فلان اليهودي.
قال اليهودي: فان هذا ابراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى وأحاط دلالته بعلم الايمان؟
____________
1- الأحزاب: 9.