الصفحة 204
قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، واُعطي محمد (صلى الله عليه وآله) أفضل منه، وتيقظ ابراهيم وهو ابن خمسة عشر سنة، ومحمد ابن سبع سنين، قدم تجار من النصارى فنزلوا بتجارتهم بين الصفا والمروة، فنظر اليهم بعضهم فعرفه بصفته ونعمته وخبر مبعثه وآياته، فقالوا له: ياغلام ما اسمك؟ قال: محمد، قالوا: ما اسم أبيك؟ قال: عبدالله، قالوا: ما اسم هذه وأشاروا بأيديهم إلى الأرض؟ قال: الأرض، قالوا: وما اسم هذه وأشاروا بأيديهم إلى السماء؟ قال: السماء، قالوا: فمن ربهما؟ قال: الله، ثم انتهرهم وقال: أتشككوني في الله عزوجل؟ ويحك يايهودي لقد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله عزوجل مع كفر قومه إذ هو بينهم يستقسمون بالأزلام ويعبدون الأوثان وهو يقول: لا إله إلاّ الله.

قال اليهودي: فإن ابراهيم حجب عن نمرود بحجب ثلاث!

قال علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) حجب عمن أراد قتله بخمس حجب فثلاثة بثلاثة واثنان فضل، قال الله عزوجل وهو يصف أمر محمد (صلى الله عليه وآله): {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ سَدّاً} فهذا الحجاب الأول، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} فهذا الحجاب الثاني، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُوْنَ}(1) فهذا الحجاب الثالث، ثم قال: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ حَجَاباً مَسْتُوْراً}(2) فهذا الحجاب الرابع، ثم قال: {فَهِيَ إِلى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}(3) فهذه حجب خمس.

قال اليهودي: فان ابراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) أتاه مكذِب بالبعث بعد الموت، وهو أُبي بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثم قال: يامحمد {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ

____________

1- يس: 9.

2- الاسراء: 45.

3- يس: 8.


الصفحة 205
وَهِي رَمِيْمٌ}(1)؟ فأنطق الله محمداً بمحكم آياته وبهته ببرهان نبوته، فقال: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيْمٌ}(2) فانصرف مبهوتاً.

قال له اليهودي: فهذا ابراهيم جذ أصنام قومه غضباً لله عزّوجلّ؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) قد نكس عن الكعبة ثلثماءة وستين صنماً ونفاها عن جزيرة العرب، وأذل من عبدها بالسيف.

قال له اليهودي: فان ابراهيم قد أضجع ولده وتلّه للجبين؟

فقال علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ولقد اُعطي ابراهيم بعد الاضطجاع الفداء، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُصيب بأفجع منه فجيعة إنه وقف على عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله وناصر دينه، وقد فرق بين روحه وجسده، فلم يبن عليه حرقة ولم يفض عليه عبرة، ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته ليرضي الله عزوجل بصبره ويستسلم لأمره في جميع الفعال، وقال (صلى الله عليه وآله): لولا أن تحزن صفية لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير، ولولا أن يكون سنة بعدي لفعلت ذلك.

قال له اليهودي: فإن ابراهيم (عليه السلام) قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر، فجعل الله عزوجل عليه النار برداً وسلاماً فهل فعل بمحمد شيئاً من ذلك؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصير الله السم في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر في الجوف، كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره.

قال له اليهودي: فانّ هذا يعقوب (عليه السلام) أعظم في الخير نصيبه إذ جعل الاسباط من سلالة صلبه ومريم بنت عمران من بناته!

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) أعظم في الخير نصيباً إذ جعل

____________

1- يس: 78.

2- يس: 79.


الصفحة 206
فاطمة سيدة نساء العالمين من بناته، والحسن والحسين من حفدته.

قال له اليهودي: فان يعقوب قد صبر على فراق ولده حتى كاد يحرض من الحزن؟

قال له علي (عليه السلام) لقد كان كذلك، وكان حزن يعقوب حزناً بعده تلاق، ومحمد (صلى الله عليه وآله) قبض ولده ابراهيم قرة عينه في حياته منه، فخصه بالاختيار ليعلم له الادخار، فقال (صلى الله عليه وآله): يحزن النفس، ويجزع القلب وإنا عليك ياابراهيم لمحزونون، ولا نقول ما يسخط الرب، في كل ذلك يؤثر الرضا عن الله عزوجل والاستسلام له في جميع الفعال.

قال له اليهودي: فان هذا يوسف قاس مرارة الفرقة وحبس في السجن توقياً للمعصية، وأُلقي في الجب وحيداً؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) قاس مرارة الغربة وفارق الأهل والأولاد والمال، مهاجراً من حرم الله تعالى وأمنه، فلما رأى الله عزوجل كآبته واستشعاره الحزن أراه الله تبارك وتعالى اسمه رؤياً توازي رؤيا يوسف في تأويلها، وأبان للعالمين صدق تحقيقها، فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُوْلَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلَنَّ الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِيْنَ مُحَلِّقِيْنَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُوْنَ}(1)، ولئن كان يوسف (عليه السلام) حبس في السجن فلقد حبس رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه في الشعب ثلاث سنين وقطع منه أقاربه وذووا الرحم وألجأوه إلى أضيق المضيق، ولقد كادهم الله عزّ ذكره له كيداً مستبيناً، إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه، ولئن كان يوسف اُلقي في الجب فلقد حبس محمد نفسه مخافة عدوه في الغار حتى قال لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، ومدحه اليه بذلك في كتابه.

____________

1- الفتح: 27.


الصفحة 207
فقال له اليهودي: فهذا موسى بن عمران آتاه الله عزوجل التوراة التي فيها حكمه؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل منه، اُعطي محمد (صلى الله عليه وآله) سورة البقرة والمائدة بالانجيل، وطواسين وطه ونصف المفصل والحواميم بالتوراة، واُعطي نصف المفصل والتسابيح بالزبور، واُعطي سورة بني اسرائيل وبراءة بصحف ابراهيم وصحف موسى عليهما السلام وزاد الله عزّوجلّ محمداً السبع الطوال وفاتحة الكتاب ـ وهي السبع المثاني والقرآن العظيم واُعطي الكتاب والحكمة.

قال له اليهودي: فان موسى ناجاه الله على طور سيناء؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ولقد أوحى الله إلى محمد (صلى الله عليه وآله) عند سدرة المنتهى، فمقامه في السماء محمود وعند منتهى العرش مذكور.

قال اليهودي: فلقد ألقى الله على موسى بن عمران محبة منه؟

قال علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ولقد اُعطي محمد (صلى الله عليه وآله) ما هو أفضل من هذا، لقد ألقى الله محبة منه، فمن هذا الذي يشركه في هذا الاسم، إذ تم من الله به الشهادة، فلا تتم الشهادة إلاّ أن يقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله ينادى به على المنابر فلا يرفع صوت بذكر الله إلاّ رفع بذكر محمد (صلى الله عليه وآله) معه.

قال له اليهودي: فلقد أوحى الله إلى اُمّ موسى لفضل منزلة موسى (عليه السلام) عند الله عزّوجلّ؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ولقد لطف الله جلّ ثناؤه لاُم محمد (صلى الله عليه وآله) بأن أوصل اليها اسمه حتى قالت: أشهد والعالمون أن محمداً رسول الله منتظر، وشهد الملائكة على الأنبياء أنهم أثبتوه في الأسفار، وبلطف من الله عزوجل ساقه اليها وأوصل اليها اسمه لفضل منزلته عنده حتى رأت في المنام أنه قيل لها إن ما في بطنك سيد فاذا ولدته فسميه محمداً، فاشتق الله له اسماً من أسمائه، فالله المحمود وهذا

الصفحة 208
محمد.

قال له اليهودي: فإن موسى بن عمران قد أرسله الله إلى فرعون وأراه الآية الكبرى؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد أُرسل إلى فراعنة شتى: مثل أبي جهل ابن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة وأبي البختري والنضر بن الحرث وأُبي بن خلف ومنبه ونبيه ابني الحجاج، وإلى الخمسة المستهزئين: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحرث بن أبي الطلالة، فأراهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.

قال له اليهودي: لقد انتقم الله عزوجل لموسى من فرعون؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ولقد انتقم الله جلّ اسمه لمحمد (صلى الله عليه وآله) من الفراعنة: فأما المستهزؤن فقال الله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِيْنَ}(1) فقتل الله خمستهم كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأما الوليد بن المغيرة فمر بنبل رجل من خزاعة قد راشه ووضع في الطريق فأصابه شظية منه فانقطع اكحله حتى أدماه فمات وهو يقول: قتلني ربّ محمد، وأما العاص بن الوائل السهمي فانه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول: قتلني ربّ محمد، وأما الأسود بن عبد يغوث فانه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظل بشجرة، فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع هذا مني! فقال: ما أرى أحداً يصنع شيئاً إلاّ نفسك، فقتله وهو يقول قتلني رب محمد، وأما الأسود بن المطلب: فان النبي (صلى الله عليه وآله) دعا عليه أن يعمي الله بصره وأن يثكله ولده، فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع أتاه جبرئيل بورقة خضراء

____________

1- الحجر: 95.


الصفحة 209
فضرب بها وجهه فعمى وبقي حتى أثكله الله عزوجل ولده، وأما الحرث بن أبي الطلالة، فانه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياً، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحرث فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول: قتلني ربّ محمد، كل ذلك في ساعة واحدة، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا له: يامحمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلاّ قتلناك، فدخل النبي (صلى الله عليه وآله) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً لقولهم، فأتاه جبرئيل عن الله من ساعته فقال: يامحمد السلام يقرأ عليك السلام، وهو يقول لك: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ وَأَعْرِضٌ عَنِ الْمُشْرِكِيْنَ}(1) يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادعهم إلى الايمان، قال: ياجبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني؟ قال له: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِيْنَ}(2) قال: ياجبرئيل كانوا الساعة بين يدي، قال: كفيتهم، وأظهر أمره عند ذلك، وأما بقية الفراعنة: قتلوا يوم بدر بالسيف فهزم الله الجميع وولوا الدبر.

قال له اليهودي: فان موسى بن عمران قد اُعطي العصا فكان تحول ثعباناً؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، إن رجلا كان يطالب أبا جهل بن هشام بدين ثمن جزور قد اشتراه فاشتغل عنه وجلس يشرب، فطلبه الرجل فلم يقدر عليه، فقال له بعض المستهزئين من تطلب؟ فقال: عمرو بن هشام ـ يعني أبا جهل ـ لي عليه دين، قال: فأدلك على من يستخرج منه الحقوق؟ قال نعم: فدله على النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان أبو جهل يقول ليت لمحمد إليّ حاجة فأسخر به وأرده، فأتى الرجل النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يامحمد بلغني أن بينك وبين عمرو بن هشام حسن صداقة وأنا استشفع بك اليه، فقام معه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأتى بابه، فقال له: قم ياأبا جهل فأدّ إلى الرجل حقه، وإنما كناه بأبي جهل

____________

1- الحجر: 94.

2- الحجر: 95.


الصفحة 210
ذلك اليوم، فقام مسرعاً حتى أدّى اليه حقه، فلما رجع إلى مجلسه قال له بعض أصحابه: فعلت ذلك فرقاً من محمد؟ قال: ويحكم اعذروني إنه لما أقبل رأيت عن يمينه رجالا معهم حراب تتلألأ وعن يساره ثعبانين تصطلك أسنانهما وتلمع النيران من أبصارهما لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب بطني وتقضمني الثعبانان.

هذا أكبر ما اُعطي موسى ثعبان بثعبان موسى، وزاد الله محمداً ثعباناً وثمانية أملاك معهم الحراب، ولقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يؤذي قريشاً بالدعاء، فقام يوماً فسفه أحلامهم وعاب دينهم وشتم أصنامهم وضلل آبائهم فاغتموا من ذلك غماً شديداً، فقال أبو جهل والله للموت خير لنا من الحياة فليس فيكم معاشر قريش أحد يقتل محمداً فيقتل به، قالوا: لا، قال: فأنا أقتله، فان شاءت بنو عبدالمطلب قتلوني به وإلاّ تركوني، قالوا: إنك إن فعلت ذلك إصطنعت إلى أهل الوادي معروفاً لا تزال تذكر به، قال: إنه كثير السجود حول الكعبة فاذا جاء وسجد أخذت حجراً فشدخته به، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطاف بالبيت اسبوعاً ثم صلّى وأطال السجود، فأخذ أبو جهل حجراً فأتاه من قبل رأسه فلما أن قرب منه، أقبل فحل من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاغراً فاه نحوه، فلما أن رآه أبو جهل فزع منه وارتعدت يده وطرح الحجر فشدخ رجله فرجع مدمّى متغير اللون يفيض عرقاً، فقال له أصحابه ما رأيناك كاليوم؟! قال ويحكم اعذروني فانه أقبل من عنده فحل فاغراً فاه فكاد يبتلعني فرميت بالحجر فشدخت رجلي.

قال اليهودي فإن موسى قد اُعطي اليد البيضاء فهل فعل بمحمد شيء من ذلك؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو من هذا، إن نوراً كان يضيئ عن يمينه حيثما جلس وعن يساره حيثما جلس، وكان يراه الناس كلهم.


الصفحة 211
قال له اليهودي: فإن موسى (عليه السلام) قد ضرب له طريق في البحر، فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟

فقال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، خرجنا معه إلى حنين، فاذا نحن بواد يشخب فقدّرناه فاذا هو أربعة عشر قامة، فقالوا: يارسول الله العدو من ورائنا والوادي أمامنا، كما قال أصحاب موسى {إنا لمدركون} فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: اللهم إنك جعلت لكل مرسل دلالة فأرني قدرتك، وركب (صلى الله عليه وآله) فعبرت الخيل لا تندى حوافرها، والابل لا تندى أخفافها، فرجعنا فكان فتحنا.

قال له اليهودي: فإن موسى (عليه السلام) قد اُعطي الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عيناً؟

قال علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) لما نزل الحديبية وحاصره أهل مكة قد اُعطي ما هو أفضل من ذلك، وذلك أن أصحابه شكوا اليه الظمأ وأصابهم ذلك حتى التقت خواصر الخيل، فذكروا له (صلى الله عليه وآله)، فدعا بركوة يمانية ثم نصب يده المباركة فيها فتفجرت من بين أصابعه عيون الماء، فصدرنا وصدرت الخيل رواء وملأنا كل مزادة وسقاء، ولقد كنا معه بالحديبية فاذا ثم قليب جافة، فأخرج (صلى الله عليه وآله) سهماً من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له: اذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه فيها، ففعل ذلك فتفجر اثنتا عشر عيناً من تحت السهم، ولقد كان يوم الميضاة عبرة وعلامة للمنكرين لنبوته، كحجر موسى حيث دعا بالميضاة فنصب يده فيها ففاض الماء وارتفع حتى توضأ منه ثمانية آلاف رجل فشربوا حاجتهم وسقوا دوابهم وحملوا ما أرادوا.

قال له اليهودي: فإن موسى اُعطي المن والسلوى فهل اُعطي لمحمد نظير هذا؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله

الصفحة 212
أحل له الغنائم ولاُمته، ولم تحل الغنائم لأحد غيره قبله، فهذا أفضل من المنّ والسلوى، ثم زاده أن جعل النية له ولاُمته كمن عمل عملا صالحاً، ولم يجعل لأحد من الاُمم ذلك قبله، فاذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فان عملها كتبت له عشرة.

قال له اليهودي: إن موسى (عليه السلام) قد ظلل عليه الغمام؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، وقد فعل ذلك بموسى في التيه، واُعطي محمد (صلى الله عليه وآله) أفضل من هذا، إن الغمامة كانت تظله من يوم ولد إلى يوم قبض، في حضره وأسفاره، فهذا أفضل مما اُعطي موسى.

قال له اليهودي: فهذا داود (عليه السلام) قد لين الله له الحديد فعمل منه الدروع؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) قد اُعطي ما هو أفضل من هذا إنه لين الله له الصم الصخور الصلاب وجعلها غاراً، ولقد غارت الصخرة تحت يده ببيت المقدس لينه حتى صارت كهيئة العجين، وقد رأينا ذلك والتمسناه تحت رايته.

قال له اليهودي: فإنّ هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، أنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي من شدة البكاء، وقد آمنه الله عزوجل من عقابه فأراد أن يتخشع لربّه ببكائه فيكون إماماً لمن اقتدى به، ولقد قام (صلى الله عليه وآله) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله عزوجل: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(1) بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يارسول الله أليس الله عزوجل قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:

____________

1- طه: 1، 2.


الصفحة 213
بلى أفلا أكون عبداً شكوراً، ولئن سارت الجبال وساحت معه لقد عمل بمحمد (صلى الله عليه وآله) ما هو أفضل من هذا، إذ كنا معه على جبل حِراء إذ تحرك الجبل فقال له: قِر فانه ليس عليك إلاّ نبي أو صديق شهيد، فقر الجبل مطيعاً لأمره ومنتهياً إلى طاعته، ولقد مررنا معه بجبل واذا الدموع تخرج من بعضه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك ياجبل؟ فقال يارسول الله كان المسيح مرّ بي وهو يخوف الناس من نار وقودها الناس والحجارة، وأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة، قال له: لا تخف تلك الحجارة الكبريت، فقر الجبل وسكن وهدأ وأجاب لقوله (صلى الله عليه وآله).

قال له اليهودي: فان هذا سليمان اُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟

فقال علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا إنه هبط اليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله، وهو ميكائيل فقال له: يامحمد عش ملكاً منعماً، وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك، وتسير معك جبالها ذهباً وفضة، ولا ينقص لك مما ادخر لك في الآخرة شيء، فأومى إلى جبرئيل وكان خليله من الملائكة، فأشار اليه أن تواضع، فقال: بل أعيش نبياً عبداً آكل يوماً ولا آكل يومين، وألحق باخواني من الأنبياء، فزاده الله تبارك وتعالى الكوثر وأعطاه الشفاعة، وذلك أعظم من ملك الدنيا من أولها إلى آخرها سبعين مرة، ووعده المقام المحمود، فاذا كان يوم القيامة أقعده الله عزوجل على العرش، فهذا أفضل مما اُعطي سليمان.

قال له اليهودي: فإن سليمان قد سخرت له الرياح فسارت به في بلاده غدوها شهر ورواحها شهر؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا: إنه اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقل من ثلث ليلة حتى انتهى إلى ساق العرش، فدنا بالعلم فتدلى فدلي له من الجنة رفرف أخضر، وغشي النور

الصفحة 214
بصره، فرأى عظمة ربّه عزوجل بفؤاده ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينها أو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، فكان فيما أوحى اليه الآية التي في سورة البقرة قوله: {للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وِإِنْ تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوْهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَّشَاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيْرٌ}(1)وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم (عليه السلام) إلى أن بعث الله تبارك وتعالى محمداً، وعرضت على الاُمم، فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، وقبلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعرضها على اُمته فقبلوها، فلما رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنهم لا يطيقونها، فلما أن سار إلى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} فأجاب (صلى الله عليه وآله) مجيباً عنه وعن اُمته {وَالْمُؤْمِنُوْنَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتِبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِن رُّسِلِهِ}(2) فقال جلّ ذكره: لهم الجنة والمغفرة على أن فعلوا ذلك، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أما إذا فعلت ذلك بنا، فغفرانك ربنا واليك المصير ـ يعني المرجع في الآخرة ـ قال: فأجابه الله عزوجل قد فعلت ذلك بك وباُمتك، ثم قال عزوجل: أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها، وقد عرضتها على الاُمم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها اُمتك، فحق علي أن أرفعها عن اُمتك، وقال: لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت ـ من خير ـ وعليها ما اكتسبت ـ من شر ـ.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): كما سمع ذلك ـ أما إذا فعلت ذلك بي وباُمتي فزدني، قال: سل، قال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنُا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}(3) قال الله عزّوجلّ: لست أُؤاخذ اُمتك بالنسيان والخطأ لكرامتك عليّ.

____________

1- البقرة: 284.

2- البقرة: 285.

3- البقرة: 286.


الصفحة 215
وكانت الاُمم السالفة إذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب، وقد رفعت ذلك عن اُمتك.

وكانت الاُمم السالفة إذا أخطأوا اُخِذوا بالخطأ وعوقبوا عليه، وقد رفعت ذلك عن اُمتك لكرامتك عليّ، فقال (صلى الله عليه وآله): اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني، قال الله تبارك وتعالى له: سل، قال: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا}(1) ـ يعني بالاصر الشدائد التي كانت على من كان قبلنا فأجابه الله عزوجل إلى ذلك، فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن اُمتك الآصار التي كانت على الاُمم السالفة، كنت لا أقبل صلاتهم إلاّ في بقاع معلومة من الأرض اخترتها لهم وإن بعدت، وقد جعلت الأرض كلها لاُمتك مسجداً وطهوراً، فهذه من الآصار التي كانت على الاُمم قبلك فرفعتها عن اُمتك.

وكانت الاُمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم، وقد جعلت الماء لاُمتك طهوراً، فهذا من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن اُمتك.

وكانت الاُمم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس فمن قبلت ذلك منه اُرسلت عليه ناراً فأكلته فرجع مسروراً، ومن لم أقبل منه ذلك رجع مثبوراً، وقد جعلت قربان اُمتك في بطون فقرائها ومساكينها، فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافاً مضاعفة، ومن لم أقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا، وقد رفعت ذلك عن اُمتك، وهي من الآصار التي كانت على الاُمم من كان من قبلك.

وكانت الاُمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار، وهي الشدائد التي كانت عليهم، فرفعتها عن اُمتك وفرضت عليهم صلاتهم في أطراف الليل والنهار وفي أوقات نشاطهم، وكانت الاُمم السالفة قد فرضت عليهم

____________

1- البقرة: 286.


الصفحة 216
خمسين صلاة في خمسين وقتاً، وهي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن اُمتك وجعلتها خمساً في خمسة أوقات، وهي إحدى وخمسون ركعة، وجعلت لهم أجر خمسين صلاة.

وكانت الاُمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن اُمتك وجعلت الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة.

وكانت الاُمم السالفة إذا نوى أحدهم بحسنة فلم يعملها لم تكتب له، وان عملها كتبت له حسنة، وإن اُمتك إذا همّ أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وان عملها كتبت له عشرة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن اُمتك.

وكانت الاُمم السالفة إذا همّ أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت عليه سيئة، وإن امتك إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن اُمتك.

وكانت الاُمم السالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم وجعلت توبتهم من الذنوب أن حرمت عليهم بعد التوبة أحبّ الطعام اليهم، وقد رفعت ذلك عن اُمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم، وجعلت عليهم ستوراً كثيفة، وقبلت توبتهم بلا عقوبة ولا اُعاقبهم بأن اُحرّم عليهم أحبّ الطعام اليهم.

وكانت الاُمم السالفة يتوب أحدهم إلى الله من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثم لا أقبل توبته دون أن اُعاقبه في الدنيا بعقوبة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن اُمتك، وان الرجل من اُمتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة ثم يتوب ويندم طرفة عين فأغفر له ذلك كله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إذا أعطيتني ذلك كله فزدني، قال: سل، قال: {رَبَّنا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك باُمتك، وقد رفعت عنهم عظم بلايا الاُمم، وذلك حكمي في جميع الاُمم أن اُكلف خلقاً فوق طاقتهم، فقال

الصفحة 217
النبي (صلى الله عليه وآله): {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا} قال الله عزّوجلّ: قد فعلت ذلك بتائبي اُمتك، ثم قال (صلى الله عليه وآله): {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(1) قال الله جل اسمه: إن امتك في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون وهم القاهرون يستخدمون ولا يُستخدمون لكرامتك عليّ، وحق عليّ أن أظهر دينك على الأديان حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلاّ دينك، ويؤدون إلى أهل دينك الجزية.

قال اليهودي: فان سليمان سخرت له الشياطين يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ولقد اُعطي محمد (صلى الله عليه وآله) أفضل من هذا، إن الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها، ولقد سخرت لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) الشياطين بالايمان، فأقبل اليه من الجن التسعة من أشرافهم: واحد من جن نصيبين والثمان من بني عمرو بن عامر بن الأحجة: منهم شضاه ومضاه والهملكان والمرزبان والمازمان ونضاه، وهاضب وهضب وعمرو وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُوْنَ الْقُرْآنَ}(2) وهم التسعة، فأقبل اليه الجن والنبي (صلى الله عليه وآله) ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً، ولقد أقبل اليه أحد وسبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونُصحِ المسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا: على الله شططاً، وهذا أفضل مما اُعطي سليمان، فسبحان من سخرها لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) بعد أن كانت تتمرد وتزعم أن لله ولداً، ولقد شمل مبعثه من الجن والانس ما لا يحصى.

قال له اليهودي: هذا يحيى بن زكريا (عليه السلام) ويقال: إنه اُوتي الحكم صبياً والحلم

____________

1- البقرة: 286.

2- الاحقاف: 29.


الصفحة 218
والفهم، وإنه كان يبكي من غير ذنب وكان يواصل الصوم؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من هذا، إن يحيى بن زكريا كان في عصر الأوثان فيه ولا جاهلية، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُوتي الحكم والفهم صبياً بين عبدة الأوثان وحزب الشيطان، فلم يرغب لهم في صنم قط ولم ينشط لأعيادهم ولم ير منه كذب قط، وكان أميناً صدوقاً حليماً، وكان يواصل الصوم الأسبوع والأقل والأكثر فيقال له في ذلك فيقول: اني لست كأحدهم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني، وكان يبكي (صلى الله عليه وآله) حتى يبتل مصلاّه خشية من الله عزوجل من غير جرم.

قال له اليهودي: فان هذا عيسى بن مريم يزعمون أنه تكلم في المهد صبياً؟

فقال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) سقط من بطن اُمه واضعاً يده اليسرى على الأرض ورافعاً يده اليمنى إلى السماء يحرك شفتيه بالتوحيد، وبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه قصور بصرى من الشام وما يليها، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من اصطخر وما يليها، ولقد أضاءت الدنيا ليلة ولد النبي (صلى الله عليه وآله) حتى فزعت الجن والانس والشياطين وقالوا: حدث في الأرض حدث، ولقد رأى الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل وتسبّح وتقدس، وتضطرب النجوم وتتساقط علامة لميلاده، ولقد همّ ابليس بالظعن في السماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة، وكان له مقعد في السماء الثالثة والشياطين يسترقون السمع، فلما رأوا العجائب أرادوا أن يسترقوا السمع فاذا هم قد حجبوا من السماوات كلها، ورموا بالشهب دلالة لنبوته (صلى الله عليه وآله).

قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه قد أبرأ الأكمه والأبرص باذن الله؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) اُعطي ما هو أفضل من ذلك أبرأ ذا العاهة من عاهته، بينما هو جالس (صلى الله عليه وآله) إذ سأل عن رجل من أصحابه، فقالوا:


الصفحة 219
يارسول الله إنه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ الذي لا ريش عليه، فأتاه (صلى الله عليه وآله) فاذا هو كهيئة الفرخ من شدة البلاء، فقال له: قد كنت تدعو في صحتك دعاء؟ قال نعم: كنت أقول: يارب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فاجعلها لي في الدنيا، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ألا قلت: {الّلهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وِفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(1) فقالها الرجل فكأنما نشط من عقال وقام صحيحاً وخرج معنا، ولقد أتاه رجل من جهينة أجذم ينقطع من الجذام، فشكا اليه (صلى الله عليه وآله) فأخذ قدحاً من ماء فتفل عليه ثم قال: امسح به جسدك، ففعل فبرئ حتى لم يوجد عليه شيء، ولقد اُتي النبي (صلى الله عليه وآله) باعرابي أبرص فتفل (صلى الله عليه وآله) من فيه عليه فما قام من عنده إلاّ صحيحاً، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ ذوي العاهات من عاهاتهم، فان محمداً (صلى الله عليه وآله) بينما هو في بعض أصحابه إذ هو بامرأة فقالت يارسول الله إن ابني قد أشرف على حياض الموت كلما أتيته بطعام وقع عليه التثأوب، فقام النبي (صلى الله عليه وآله) وقمنا معه فلما أتيناه قال له: جانب ياعدو الله ولي الله فأنا رسول الله، فجانبه الشيطان، فقام صحيحاً وهو معنا في عسكرنا، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ العميان، فان محمداً قد فعل ما هو أكبر من ذلك: إن قتادة بن ربيع كان رجلا صحيحاً فلما أن كان يوم اُحد أصابته طعنة في عينه فبدرت حدقته فأخذها بيده وأتى بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال يارسول الله إنّ امرأتي الآن تبغضني، فأخذها رسول الله من يده ثم وضعها مكانها فلم تكن تعرف إلاّ بفضل حسنها وفضل ضوئها على العين الاُخرى، ولقد جرح عبدالله بن عبيد وبانت يده يوم حنين، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليلا فمسح على يده فلم تكن تعرف من اليد الاُخرى، ولقد أصاب محمد بن مسلمة يوم كعب بن أشرف مثل ذلك في عينه ويده، فمسحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم تستبينا، ولقد أصاب عبدالله بن أنيس مثل ذلك في عينه فمسحها فما عرفت من الاُخرى، فهذه كلها دلالة لنبوته (صلى الله عليه وآله).

____________

1- البقرة: 201.


الصفحة 220
قال له اليهودي: فان عيسى يزعمون أنه أحيى الموتى بإذن الله؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد سبحت في يده تسع حصيات تسمع نغماتها في جمودها، ولا روح فيها لتمام حجة نبوته، ولقد كلّمه الموتى من بعد موتهم واستغاثوه مما خافوا تبعته، ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال: ما هاهنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان اليهودي ـ وكان شهيداً ـ ولئن زعمت أن عيسى كلّم الموتى فلقد كان لمحمد ما هو أعجب من هذا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل بالطائف وحاصر أهلها بعثوا اليه بشاة مسلوخة مطلية بسم، فنطق الذراع منها فقال يارسول الله لا تأكلني فاني مسموم، فلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله على المنكرين لنبوته، فكيف وقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشئ؟! ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعو بالشجرة فتجيبه، وتكلمه البهيمة وتكلمه السباع وتشهد له بالنبوة وتحذرهم عصيانه، فهذا أكثر مما اُعطي عيسى (عليه السلام).

قال اليهودي: إن عيسى يزعمون أنه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) كان له أكثر من هذا: إن عيسى أنبأ قومه بما كان من وراء الحائط، ومحمد (صلى الله عليه وآله) أنبأ عن مؤنتة وهو عنها غائب، ووصف حربهم ومن استشهد منهم وبينه مسيرة شهر، وكان يأتيه الرجل يريد أن يسأله عن شيء فيقول (صلى الله عليه وآله) تقول أو أقول؟ فيقول بل قل يارسول الله، فيقول: جئتني في كذا وكذا حتى يفرغ من حاجته، ولقد كان (صلى الله عليه وآله) يخبر أهل مكة بأسرارهم بمكة حتى لا يترك من أسرارهم شيئاً: منها ما كان بين صفوان بن اُمية وبين عمير بن وهب، إذ أتاه عمير فقال: جئت في فكاك ابني، فقال له: كذبت بل قلت لصفوان وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم والله للموت أهون علينا من البقاء مع ما

الصفحة 221
صنع محمد بنا، وهل حياة بعد أهل القليب، فقلت أنت لولا عيالي ودين عليّ لأرحتك من محمد، فقال صفوان: عليّ أن أقضي دينك وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما يصيبهن من خير أو شر، فقلت أنت فاكتمها عليّ وجهزني حتى أذهب فأقلته، فجئت لقتلي، فقال: صدقت يارسول الله وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله، وأشباه هذا مما لا يحصى.

قال له اليهودي: فان عيسى يزعمون أنه خلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طيراً بإذن الله؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) قد فعل ما هو شبيه لهذا، إذ أخَذ يوم حنين حجراً فسمعنا للحجر تسبيحاً وتقديساً، ثم قال للحجر: انفلق فانفلق ثلاث فلق يسمع لكل فلقة منها تسبيحاً لا يسمع للاُخرى، ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته ولكل غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس، ثم قال لها: انشقي فانشقت نصفين، ثم قال لها: ارجعي التزقي فالتزقت،، ثم قال لها: اشهد لي بالنبوة فشهدت ثم قال لها: ارجعي إلى مكانك بالتسبيح والتهليل والتقديس ففعلت، وكان موضعها حيث الجزارين بمكة.

قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان سيّاحاً؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) كانت سياحته في الجهاد واستنفر في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر وباد، وأفنى فئاماً من العرب، من مبعوث (منعوت)بالسيف لا يدارى بالكلام ولا ينام إلاّ عن دم ولا يسافر إلاّ وهو متجهز لقتال عدوه.

قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان زاهداً؟

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) أزهد الأنبياء (عليهم السلام) كان له ثلاثة عشر زوجة سوى من يطيف به من الاماء، ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام

الصفحة 222
ولا أكل خبز بُر قط ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط، توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم، ما ترك صفراء ولا بيضاء مع ما وطئ له من البلاد ومكن له من غنائم العباد، ولقد كان يقسم في اليوم الواحد الثلاثمائة ألف واربعماءة ألف، ويأتيه السائل بالعشي فيقول: والذي بعث محمداً بالحق ما أمسى في آل محمد صاع من شعير ولا صاع من بر ولا درهم ولا دينار.

قال له اليهودي: فاني أشهد أن لا إله إلاّ الله وإن محمداً رسول الله، وأشهد أنه ما أعطى الله نبياً درجة ولا مرسلا فضيلة إلاّ وقد جمعها لمحمد (صلى الله عليه وآله)، وزاد محمداً على الأنبياء أضعاف درجات.

قال ابن عباس لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أشهد ياأبا الحسن إنك من الراسخين في العلم، فقال: ويحك وما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله عزّوجلّ في عظمته جلّت، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيْم}(1)(2).

____________

1- القلم: 4.

2- احتجاج الطبرسي 1:497 ح127، البحار 10:28، روضة الواعظين: 62، تفسير البرهان 2:356.