الصفحة 249
الله رسولا إلى جميع الاُمم، وسائر الملل، خصه الله بالارتقاء إلى السماء عند المعراج وجمع له يومئذ الأنبياء، فعلم منهم ما أرسلوا به وحملوه من عزائم الله وآياته وبراهينه، وأقروا أجمعين بفضله، وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعده، وفضل شيعة وصيه من المؤمنين والمؤمنات، الذين سلموا لأهل الفضل فضلهم، ولم يستكبروا عن أمرهم، وعرف من أطاعهم وعصاهم من اُممهم، وسائر من مضى ومن غير، أو تقدم أو تأخر.

وأما هفوات الأنبياء (عليهم السلام) وما بينه الله في كتابه، ووقوع الكناية من أسماء من اجترم أعظم مما اجترمته الأنبياء، ممن شهد الكتاب بظلمهم، فان ذلك من أدل الدلائل على حكمة الله عزوجل الباهرة، وقدرته القاهرة، وعزته الظاهرة; لأنه علم أن براهين الأنبياء تكبر في صدور اُممهم، وإن منهم من يتخذ بعضهم إلهاً، كالذي كان من النصارى في ابن مريم، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي تفرد به عزّوجلّ، ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه وفي اُمه: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامِ}(1) يعني أنّ من أكل الطعام كان له ثقل ومن كان له ثقل فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم، ولم يكن عن أسماء الأنبياء تجبراً وتعززاً بل تعريفاً لأهل الاستبصار.

إن الكناية عن أسماء الجرائم العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى، وإنما من فعل المغيرين والمبدلين، الذين جعلوا القرآن عضين واعتاضوا الدنيا من الدين، وقد بيّن الله تعالى قصص المغيرين بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِيْنَ يَكْتِبُوْنَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيْهِمْ ثُمَّ يَقُوْلُوْنَ هَذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيْلا}(2) وبقوله: {وَإِنَّ

____________

1- المائدة: 75.

2- البقرة: 79.


الصفحة 250
مِنْهُمْ لَفَرِيْقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}(1) وبقوله: {إِذْ يُبَيِّتُوْنَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}(2) بعد فقد الرسول مما يقيمون به أوِدَ باطلهم حسب ما فعلته اليهود والنصارى بعد فقد موسى وعيسى من تغيير التوراة والانجيل، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبقوله: {يُرِيْدُوْنَ أَنْ يُطْفِئُواْ نُوْرَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُوْرَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(3) يعني: أنهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقة، فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دل على ما أحدثوا فيه، وحرفوا فيه، وبيّن عن افكهم، وتلبيسهم وكتمان ما عملوه منه ولذلك قال لهم: {لِمَ تَلْبِسُوْنَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}(4) وضرب مثلهم بقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(5) فالزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن، فهل يضمحل، ويبطل ويتلاشى عند التحصيل، والذي ينفع الناس منه: فالتنزيل الحقيقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، والقلوب تقبله، والأرض في هذا الموضع فهي محل العلم وقراره.

وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر، والملل المنحرفة عن قبلتنا، وإبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكان له الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الايتمار لهم، والرضا بهم، ولأن أهل الباطل في القديم والحديث أكثر عدداً من أهل الحق، فلأن الصبر على ولاة الأمر مفروض

____________

1- آل عمران: 78.

2- النساء: 108.

3- التوبة: 32.

4- آل عمران: 71.

5- الرعد: 17.


الصفحة 251
لقول الله عزّوجلّ لنبيه: (صلى الله عليه وآله): {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل}(1) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه، وأهل طاعته، بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2) فحسبك من الجواب عن هذا الموضع ما سمعت، فإن شريعة التقية تحظر التصريح بأكثر منه.

وأما قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}(3) وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُوْنَا فُرَادَى}(4)وقوله: {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ أَوْ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}(5) فذلك كله حق، وليست جيئته جلّ ذكره كجيئة خلقه، فانه رب كل شيء من كتاب الله عزوجل يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويله بكلام البشر، وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء الله تعالى، وهو حكاية الله عزوجل عن ابراهيم (عليه السلام) حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إَلى رَبِّي سَيَهْدِيْن}(6) فذهابه إلى ربه توجهه اليه في عبادته واجتهاده، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج}(7) وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيْدَ فِيْهِ بَأْسٌ شَدِيْدٌ}(8) فانزاله ذلك خلقه إياه. وكذلك قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}(9) أي الجاحدين، والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره، ومعنى قوله: {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ

____________

1- الاحقاف: 35.

2- الأحزاب: 21.

3- الفجر: 22.

4- الأنعام: 94.

5- الأنعام: 158.

6- الصّافات: 99.

7- الزُمَر: 6.

8- الحديد: 25.

9- الزُخرُف: 81.


الصفحة 252
تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}(1) فانما خاطب نبينا محمداً (صلى الله عليه وآله) هل ينتظر المنافقون والمشركون إلاّ أن تأتيهم الملائكة فيعاينونهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} يعني بذلك أمر ربك، والآيات هي العذاب في دار الدنيا كما عذب الاُمم السالفة والقرون الخالية، وقال: {أَوَ لَمْ يَرَواْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضُ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِها}(2) يعني بذلك ما يهلك من القرون فسماه إتياناً، وقال:

{قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُوْنَ}(3) أي لعنهم الله أنى يؤفكون، فسمى اللعنة قتالا.

وكذلك قال: {قُتِلَ الإنْسَانُ مَا اَكْفَرَهُ}(4) أي لعن الانسان، وقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوْهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ * وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}(5) فسمى نصل النبي (صلى الله عليه وآله) فعلا له، ألا ترى تأويله على غير تنزيله، ومثل قوله: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}(6)فسمى البعث لقاء، وكذلك قوله: {الَّذِيْنَ يَظُنُّوْنَ أَنَّهُمْ مُلاقُواْ رَبِّهِمْ}(7) أي يوقنون أنهم مبعوثون، ومثله قوله: {أَلاَ يَظُنُّ اُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوْثُوْنَ * لِيَوْم عَظِيْم}(8) أي ليس يوقنون انهم مبعوثون، واللقاء عند المؤمن البعث، وعند الكافر المعاينة والنظر.

وقد يكون بعض ظن الكافر يقيناً، وذلك قوله: {وَرَأَى الْمـُجْرِمُوْنَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوْهَا}(9) أي تيقنوا أنهم مواقعوها، وأما قوله في المنافقين: {وَتَظُنُّوْنَ بِاللهِ

____________

1- الأنعام: 158.

2- الرعد: 41.

3- التوبة: 30.

4- عبس: 17.

5- الأنفال: 17.

6- السجدة: 10.

7- البقرة: 46.

8- المطفّفين: 4، 5.

9- الكهف: 53.


الصفحة 253
الظُّنُوْنَا}(1) فليس ذلك بيقين ولكنه شك، فاللفظ واحد في الظاهر، ومخالف في الباطن، وكذلك قوله: {الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى}(2)، يعني استوى تدبيره وعلا أمره، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}(3)، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمـَا كُنْتُمْ}(4) وقوله: {مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ}(5) فإنما أراد بذلك استيلاء اُمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه، وأن فعله فعلهم.

فافهم عني ما أقول لك، فاني إنما أزيدك في الشرح لأثلج في صدرك وصدر من لعله بعد اليوم يشك في مثال ما شككت فيه، فلا يجد مجيباً عما يسأل عنه، لعموم الطغيان، والافتتان، واضطرار أهل العلم بتأويل الكتاب، إلى الاكتتام والاحتجاب، خيفة أهل الظلم والبغي.

أما أنه سيأتي على الناس زمان يكون الحق فيه مستوراً، والباطل ظاهراً مشهوراً، وذلك إذا كان أولى الناس به أعداهم له، واقترب الوعد الحق، وعظم الالحاد، وظهر الفساد، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً، ونحلهم الكفار أسماء الأشرار، فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس اليه، ثم يتيح الله الفرج لأوليائه، ويظهر صاحب الأمر على أعدائه.

فأما قوله: {وَيَتْلُوْهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}(6) فذلك حجة الله أقامها على خلقه، وعرفهم أنه لا يستحق مجلس النبي إلاّ من يقوم مقامه، ولا يتلوه إلاّ من يكون في الطهارة مثله، لئلا يتسع لمن ماسه رجس الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق

____________

1- الأحزاب: 10.

2- طه: 5.

3- الزخرف: 84.

4- الحديد: 4.

5- المجادلة: 7.

6- هود: 17.


الصفحة 254
بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وليضيق العذر على من يعينه على اثمه وظلمه، إذ كان الله قد حظر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه، بقوله لابراهيم: {وَلاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِيْنَ}(1) أي المشركين، لأنه سمى الظلم شركاً بقوله: {إِنَّ الْشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيْمٌ}(2) فلما علم ابراهيم (عليه السلام) أنّ عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالامامة لا ينال عبدة الأصنام، قال: {فَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}(3) واعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين، والكفار على الأبرار، فقد افترى إثماً عظيماً، إذا كان قد بين في كتابه الفرق بين الحق والمبطل، والطاهر والنجس، والمؤمن والكافر، وأنه لا يتلو النبي عند فقده إلاّ من حلّ محله صدقاً وعدلا وطهارة وفضلا.

وأما الأمانة التي ذكرتها فهي الأمانة التي لا تجب ولا تجوز أن تكون إلاّ في الأنبياء وأوصيائهم; لأن الله تبارك وتعالى أئتمنهم على خلقه، وجعلهم حججاً في أرضه، والسامري ومن أجمع معه وأعانه من الكفار على عبادة العجل عند غيبة موسى ما تم انتحال محل موسى من الطعام، والاحتمال لتلك الأمانة التي لا ينبغي إلاّ لطاهر من الرجس، فاحتمل وزرها ووزر من سلك سبيله من الظالمين وأعوانهم، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله): من استن سنة حق، كان له أجرها وأجر من عمل بها يوم القيامة ولهذا القول من النبي (صلى الله عليه وآله) شاهد من كتاب الله، وهو قول الله عزوجل في قصة قابيل قاتل أخيه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلى بَنِي اِسْرَائِيْلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيى النَّاسَ جَمِيْعاً}(4) وللاحياء في هذا الموضع تأويل في الباطل ليس كظاهره، وهو من هداها،

____________

1- البقرة: 124.

2- لقمان: 13.

3- إبراهيم: 35.

4- المائدة: 32.


الصفحة 255
لأن الهداية هي حياة الأبد، ومن سمّاه الله حياً لم يمت أبداً، إنما ينقله من دار محنة إلى دار راحة ومنحة.

وأما ما كان من الخطاب بالانفراد مرة وبالجمع مرة، من صفة الباري جلّ ذكره، فان الله تبارك وتعالى اسمه، على ما وصف به نفسه بالانفراد والوحدانية، هو النور الأزلي القديم الذي ليس كمثله شيء، لا يتغير، ويحكم ما يشاء ويختار، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزه ولا نقص منه ما لم يخلقه، وإنما أراد بالخلق، اظهار قدرته وابداء سلطانه وتبيين براهين حكمته، فخلق ما شاء كما شاء، وأجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى ما اُمنائه، وكان فعلهم فعله وأمرهم أمره، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}(1)وجعل السماء والأرض وعاء لمن يشاء من خلقه، ليميز الخبيث من الطيب، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها، وليجعل ذلك مثالا لأوليائه واُمنائه، وعرف الخليقة فضل منزلة أوليائه، وفرض عليهم من طاعتهم مثل الذي فرضه منه لنفسه، وألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطاباً يدل على انفراده وتوحده، بأن له أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله، فهم العباد المكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمرهم يعملون هو الذي أيدهم بروح منه، وعرف الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُوْل}(2) وهم النعيم الذي يسأل العباد عنه، لأن الله تبارك وتعالى أنعم بهم على من اتبعهم من أوليائه.

قال السائل من هؤلاء الحجج؟

____________

1- النساء: 80.

2- الجن: 26، 27.


الصفحة 256
قال: هم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن حل محله من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه، وهم ولاة الأمر الذين قال الله فيهم: {أَطِيْعُواْ اللهَ وَأَطِيْعُواْ الرَّسُوْلَ وَاُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(1)وقال فيهم: {وَلَوْ رَدُّوْهُ إِلى الرَّسُوْلِ وَإِلى اُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُوْنَهُ مِنْهُمْ}(2).

قال السائل وما ذاك الأمر؟

قال علي (عليه السلام): والذي به تنزل الملائكة في الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، من خلق، ورزق، وأجل، وعمل، وحياة، وموت، وعلم غيب السماوات والأرض، والمعجزات التي لا تنبغي إلاّ لله وأصفيائه والسفرة بينه وبين خلقه، وهم وجه الله الذي قال: {فَأَيْنَما تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}(3) هم بقية الله ـ يعني المهدي يأتي عند انقضاء هذه النظرة، فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً، ومن آياته الغيبة والاكتتام عند عموم الطغيان، وحلول الانتقام، ولو كان هذا الأمر الذي عرفتك بيانه للنبي دون غيره، لكان الخطاب يدل على فعل ماض غير دائم ولا مستقبل ولقال: "نزلت الملائكة" "وفرق كل أمر حكيم" ولم يقل {تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ}(4){فِيْها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيْم}(5) وقد زاد جل ذكره في التبيان واثبات الحجة بقوله في أصفيائه وأوليائه (عليهم السلام) {أَنْ تَقُوْلَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتِي عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ}(6)تعريفاً للخليقة قربهم، ألا ترى أنك تقول: فلان إلى جنب فلان إذا أردت أن تصف

____________

1- النساء: 59.

2- النساء: 83.

3- البقرة: 115.

4- القدر: 4.

5- الدخان: 4.

6- الزُمر: 56.


الصفحة 257
قربه به.

وإنما جعل الله تبارك وتعالى في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره وغير أنبيائه وحججه في أرضه، لعلمه بما يحدثه في كتابه المبدلون، من أسقاط أسماء حججه منه، وتلبيهم ذلك على الاُمة ليعينوهم على باطلهم، فأثبت به الرموز، وأعمى قلوبهم وأبصارهم، لما عليهم في تركها وترك غيرها من الخطاب الدال على ما أحدثوه فيه، وجعل أهل الكتاب المقيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه من {كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثِابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي اُكُلَهَا كُلَّ حِيْن بِإِذْنِ رَبِّهَا}(1) أي يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، وجعل أعدائها أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم، فأبى الله إلاّ أن يتم نوره، ولو علم المنافقون (لعنهم الله) ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بينت لك تأويلها، لأسقطوها مع ما أسقطوا منه، ولكن الله تبارك اسمه ماض حكمه بايجاب الحجة على خلقه، كما قال الله تعالى: {فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ}(2) أغشى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنّة عن تأمل ذلك، فتركوه بحاله، وحجبوا عن تأكيده الملتبس بابطاله.

فالسعداء ينهبون عليه، والأشقياء يعمون عنه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوْرَاً فَمَا لَهُ مِن نُّوْر}(3) ثم إن الله جلّ ذكره لسعة رحمته، ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه، قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلاّ من صفى ذهنه ولطف حسّه وصح تميزه، ممن شرح الله صدره للاسلام، وقسماً لا يعرفه إلاّ الله وأُمناؤه والراسخون في العلم، وإنما فعل الله ذلك لئلا يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله) من علم

____________

1- ابراهيم: 24 ـ 25.

2- الأنعام: 149.

3- النور: 40.


الصفحة 258
الكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه الله أمرهم، فاستكبروا عن طاعته، تعززاً وافتراء على الله عزوجل، واغتراراً بكثرة من ظاهرهم وعاونهم، وعاند الله عزوجل ورسوله.

وأما ما علمه الجاهل والعالم من فضل رسول الله في كتاب الله، فهو قول الله عزوجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}(1) وقوله: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلى النَّبِي يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُواْ عَلِيْهِ وَسَلِمُواْ تَسْلِيْماً}(2) ولهذه الآية ظاهر وباطن فالظاهر قوله {صَلُّواْ عَلَيِهِ} والباطن قوله {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيْماً}أي سلموا لمن وصاه واستخلفه وفضله عليكم وما عهد به اليه تسليماً، وهذا مما أخبرتك أنه لا يعلم إلاّ من لطف حسّه، وصفى ذهنه، وصحّ تمييزه، وكذلك قوله: {سَلاَمٌ عَلى آلْ يَاسِيْنَ}(3) لأن الله سمى به النبي (صلى الله عليه وآله) حيث قال: {يَس * وَالقُرْآنِ الحَكِيْمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِيْنَ}(4) لعلمه بانهم يسقطون قول الله: "سلام على آل محمد" كما أسقطوا غيره، وما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتألفهم، ويقربهم، ويجلسهم عن يمينه وشماله، حتى أذن الله عزوجل في ابعادهم بقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيْلا}(5) وبقوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِيْنَ * عَنِ اليـَمِيْنِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِيْنَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِء مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نعيم * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُوْنَ}(6) وكذلك قال الله عزوجل: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ اُناس بِإِمَامِهِمْ}(7) ولم يسم بأسمائهم وأسماء آبائهم واُمهاتهم.

____________

1- النساء: 80.

2- الأحزاب: 56.

3- الصّافات: 130.

4- يس: 1 ـ 3.

5- المزمّل: 10.

6- المعارج: 36 ـ 39.

7- الاسراء: 71.


الصفحة 259
وأما قوله: {كُلِّ شَيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهُهُ}(1) فانما أنزلت كل شيء هالك إلاّ دينه! لأنه من الحال أن يهلك منه كل شيء ويبقى الوجه، هو أجل وأكرم وأعظم من ذلك، إنما يهلك من ليس منه، ألا ترى أنه قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ..}(2) ففصل بين خلقه ووجهه.

وأما ظهورك على تناكر قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}(3) وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء وأيتام، فهو فما قدمت ذكره من أسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن، وهذا وما أشبهه فما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل، ووجد المعطلون وأهل الملل المخالفة للاسلام مساغاً إلى القدح في القرآن، ولو شرحت لك كلما اسقط وحرف وبدل مما يجري هذا المجرى لطال، وظهر ما تحظر التقية إظهاره من مناقب الأولياء، ومثالب الأعداء.

وأما قوله: {وَمَا ظَلَمُوْنَا وَلَكِنْ كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُوْنَ}(4) فهو تبارك اسمه أجل وأعظم من أن يظلم، ولكن قرن امناءه على خلقه بنفسه، وعرف الخلقة جلالة قدرهم عنده، وأن ظلمهم ظلمه، بقوله: {وَمَا ظَلَمُوْنَا}ببغضهم أوليائنا ومعونة أعدائهم {وَلَكِنْ كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُوْنَ} إذ حرموها الجنة، وأوجبوا عليها خلود النار.

وأما قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة}(5) فان الله جلّ ذكره، أنزل عزائم الشرائع

____________

1- القصص: 88.

2- الرحمن: 26 ـ 27.

3- النساء: 3.

4- البقرة: 57.

5- سباء: 46.


الصفحة 260
وآيات الفرائض، في أوقات مختلفة، كما فلق السماوات والأرض في ستة أيام، وشاء لخلقها في أقل من لمح البصر، ولكنه جعل الأناة والمداراة أمثالا لاُمنائه وإيجاباً للحجة على خلقه، فكان أول ما قيدهم به الاقرار بالوحدانية والربوبية، والشهادة بأن لا إله إلاّ الله، فلما أقروا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه (صلى الله عليه وآله) بالنبوة، والشهادة له بالرسالة، فلما انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة، ثم الصوم، ثم الحج، ثم الجهاد، ثم الزكاة، ثم الصدقات. وما يجري مجراها من مال الفيء، فقال المنافقون هل بقي لربك علينا بعد الذي فرضه، شيء آخر يفترضه فتذكره لتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره، فأنزل الله في ذلك {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة}(1) يعني الولاية، وأنزل: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُوْلِهِ وَالَّذِيْنَ آمَنُواْ الَّذِيْنَ يُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُوْنَ}(2) وليس بين الاُمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ أحد وهو راكع غير رجل واحد، ولو ذكر اسمه في الكتاب لاسقط مع ما اسقط من ذكره، وهذا وما أشبهه من الرموز التي ذكرت لك ثبوتها في الكتاب، ليجهل معناها المحرفون، فيبلغ اليك وإلى أمثالك، وعند ذلك قال: "الله" {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الاِسْلاَمَ دِيْناً}(3).

وأما قوله للنبي: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(4) وإنك ترى أهل الملل المخالفة للايمان ومن يجري مجراهم من الكفار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية، وانه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعاً ونجوا من عذاب السعير، فان الله تبارك وتعالى إنما عنى بذلك أنه جعله سبباً لإنظار أهل هذه الدار; لأن الأنبياء قبله بعثوا بالتصريح لا بالتعريض، فكان النبي منهم، إذا صدق بأمر الله وأجابه قومه سلموا

____________

1- سباء: 46.

2- المائدة: 55.

3- المائدة: 3.

4- الأنبياء: 107.


الصفحة 261
وسلم أهل دارهم من سائر الخليقة، وان خالفوه هلكوا وهلك أهل دارهم بالآفة التي كان نبيهم يتوعدهم بها، ويخوفهم حلولها ونزولها بساحتهم، من خسف أو قذف أو رجف أو ريح أو زلزلة أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت به الاُمم الخالية.

وان الله علم من نبينا (صلى الله عليه وآله) ومن الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق من تقدمهم من الأنبياء الصبر على مثله، فبعثه الله بالتعريض لا بالتصريح، وأثبت حجة تعريضاً لا تصريحاً بقوله في وصيته من كنت مولاه فهذا علي مولاه وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي وليس من خليفة النبي ولا من شيمة النبوة أن يقول قولا لا معنى له، فلزم للاُمة أن تعلم أنه لما كانت النبوة والاُخوة موجودتين في خلقة هارون، ومعدومتين فيمن جعله النبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلته، أنه قد استخلفه على اُمته كما استخلف موسى هارون، حيث قال: {وَاخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}(1) ولو قال لهم: لا تقلدوا الإمامة إلاّ فلاناً بعينه وإلاّ نزل بكم العذاب، لأتاهم العذاب، وزال باب الإنظار والإمهال.

وبما أمر بسدّ باب الجميع وترك بابه، ثم قال: ما سددت ولا تركت، ولكني اُمرت فأطعت، فقالوا: سددت بابنا وتركت لأحدثنا سناً، وأما ما ذكروه من حداثة سنّه، فان لم يصغر يوشع بن نون حيث أمر موسى أن يعهد بالوصية اليه، وهو في سن ابن سبع سنين، ولا استصغر يحيى وعيسى لما استودعهما عزائمه وبراهين حكمته، وإنما جعل فعل ذلك جل ذكره لعلمه بعاقبة الاُمور، وان الوصي لا يرجع بعده ضالا ولا كافراً.

وبأن عهد النبي (صلى الله عليه وآله) إليّ سورة البراءة، فدفعها إلى من علم أن الاُمة تؤثره على وصيه، وأمره بقراءتها على أهل مكة، فلما ولى من بين يديه أتبعه بوصيّه وأمره

____________

1- الأعراف: 142.


الصفحة 262
بارتجاعها منه، والنفوذ إلى مكة ليقرءها على أهلها، وقال: إن الله جل جلاله أوحى إلي أن لا يؤدي عني إلاّ رجل مني، دلالة منه على خيانة من علم أن الاُمة اختارته على وصيه، ثم شفع ذلك بضم الرجل الذي ارتجع سورة براءة منه، ومن يوازره في تقدم المحل عند الاُمة إلى علم النفاق، (عمرو بن العاص) في غزات ذات السلاسل، وولاهما عمرو حرس عسكره وختم أمرهما بان ضمهما عند وفاته إلى مولاه اُسامة بن زيد، وأمرهما بطاعته، والتعريب بين أمره ونهيه، وكان آخر ما عهد به في أمر اُمته قوله: أنفذوا جيش اُسامة يكرر ذلك على أسماعهم، إيجاباً للحجة عليهم في ايثار المنافقين على الصادقين.

ولو عددت كلما كان من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في اظهار معائب المستولين على تراثه لطال، وإن السابق منهم إلى تقلد ما ليس له بأهل، قام هاتفاً على المنبر بعجزه عن القيام بأمر الاُمة، ومستقيلا مما قلدوه لقصور معرفته على تأويل ما كان يسأل عنه، وجهله بما يأتي ويذر، ثم أقام على ظلمه ولم يرض باحتقاب عظيم الوزر في ذلك حتى عقد الأمر من بعده لغيره، فأتى التالي له بتسفيه رأيه، والقدح والطعن على أحكامه، ورفع السيف عمن كان صاحبه وضعه عليه، ورد النساء اللاتي كان سباهن، إلى أزواجهن وبعضهن حوامل، وقوله: قد نهيته عن قتال أهل القبلة، فقال لي إنك مُحْدِبٌ على أهل الكفر وكان هو في ظلمه لهم أولى باسم الكفر.

ولم يزل يخطئه، ويظهر الأزراء عليه، ويقول على المنبر كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله شرها، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه، وكان يقول: قبل ذلك قولا ظاهراً ليته حسنة من حسناته، ويودّ أنه كان شعرة في صدره، وغير ذلك من القول المتناقض المؤكد لحجج الدافعين لدين الاسلام، وأتى أمر الشورى وتأكيده بها عقد الظلم والالحاد، والغي والفساد، حتى تقرر على إرادته ما لم يخف على ذي لب موضع ضرره، ولم تطق الاُمة الصبر على أظهره الثالث من سوء الفعل، ومعاجلته