الباب الرابع:
ما يتعلق بصفات الإمام
(1) في صفة الإمام
9482/1 ـ محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن عبد الله بن محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إنّا أهل البيت، شجرة النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم(1).
9483/2 ـ وعنه، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم ابن عمر اليماني، عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجّته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا(2).
9484/3 ـ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤا به، ثم
____________
1- الكافي 1: 221.
2- الكافي 1: 191; إكمال الدين للصدوق، الباب 22: 240; وسائل الشيعة 18: 132.
9485/4 ـ البرسي، عن طارق بن شهاب، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال:
يا طارق الإمام كلمة الله، وحجة الله، ووجه الله، ونور الله، وحجاب الله، وآية الله، يختاره الله، ويجعل فيه منه ما يشاء، ويوجب له بذلك الطاعة والأمر على جميع خلقه، فهو وليّه في سماواته وأرضه، أخذ له بذلك العهد على جميع عباده، فمن تقدّم عليه كفر بالله من فوق عرشه، فهو يفعل ما يشاء، وإذا شاء الله شاء، يكتب على عضده وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلا، فهو الصدق والعدل، ويُنصب له عمود من نور من الأرض إلى السماء يرى فيه أعمال العباد، ويلبس الهيبة وعلم الضمير، ويطّلع على الغيب ويعطي التصرف على الاطلاق، ويرى ما بين الشرق والغرب، فلا يخفى عليه شيء من عالم الملك والملكوت، ويُعطى منطق الطير عند ولايته، فهذا الذي يختاره الله لوحيه، ويرتضيه لغيبه، ويؤيّده بكلمته، ويلقّنه حكمته، ويجعل قلبه مكان مشيّته، ويُنادى له بالسلطنة، ويُذعن له بالإمرة، ويُحكم له بالطاعة; وذلك لأنّ الإمامة ميراث الأنبياء، ومنزلة الأصفياء، وخلافة الله وخلافة رسل الله، فهي عصمة وولاية، وسلطنة وهداية; لأنّها تمام الدين، ورجح الموازين.
الإمام دليل للقاصدين، ومنار للمهتدين، وسبيل للسالكين، وشمس مشرقة في قلوب العارفين، ولايته سبب النجاة، وطاعته معرفة (مفروضة في) الحياة، وعدّة بعد الممات، وعزّ للمؤمنين وشفاعة المذنبين، ونجاة المحبّين وفوز التابعين; لأنّها رأس الإسلام، وكمال الايمان، ومعرفة الحدود والأحكام، تبيين الحلال من الحرام، فهي رتبة لا ينالها إلاّ من اختاره الله وقدّمه، وولاّه وحكّمه.
____________
1- آل عمران: 68.
2- نهج البلاغة قصار الحكم: 96، مجموعة ورام 1:24، البحار 71:189.
الإمام الماء العذب على الظمأ، والدال على الهدى.
الإمام المطهّر من الذنوب، المطّلع على الغيوب.
الإمام هو الشمس الطالعة على العباد بالأنوار، فلا تناله الأيدي والأبصار، وإليه الاشارة بقوله تعالى: {وَللهِِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1) والمؤمنون علي وعترته، فالعزّة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وللعترة (عليهم السلام)، والنبي والعترة لا يفترقان (في العزّة) إلى آخر الدهر، فهو رأس دائرة الايمان، وقطب الوجود، وسماء الجود، وشرف الموجود، وضوء شمس الشرف ونور قمره، وأصل العزّ والمجد ومبدأه ومعناه ومبناه.
فالإمام هو السراج الوهّاج، والسبيل والمنهاج، والماء الثجّاج، والبحر العجاج، والبدر المشرق، والغدير المغدق، والمنهج الواضح المسالك، والدليل إذا عمت المهالك، والسحاب الهاطل، والغيث الهامل، والبدر الكامل، والدليل الفاضل، والسماء الظليلة، والنعمة الجليلة، والبحر الذي لا ينزف، والشرف الذي لا يوصف، والعين الغزيرة، والروضة المطيرة، والزهر الاريج، والبدر البهيج، والنيّر اللائح، والطيب الفائح، والعمل الصالح، والمتجر الرابح، والمنهج الواضح، والطبيب الرفيق، والأب الشفيق، ومفزع العباد في الدواهي، والحاكم والآمر والناهي، أمير الله على الخلائق، وأمينه على الحقائق، حجّة الله على عباده ومحجّته في أرضه وبلاده، مطهَّر من الذنوب، مَبرأٌ من العيوب، مطّلع على العيوب (الغيوب)، ظاهره أمر لا يملك، وباطنه غيب لا يدرك، واحد دهره، وخليفة الله في نهيه وأمره، لا يوجد له مثيل، ولا يقوم له بديل، فمن ذا ينال معرفتنا، أو يعرف درجتنا (أو يشهد كرامتنا) أو يدرك منزلتنا، حارت الألباب والعقول، وتناهت الأفهام فيما أقول.
____________
1- المنافقون: 8.
فأين الاختيار من هذا وأين العقول من هذا، ومن ذا عرف من عرف، أو وصف من وصف، ظنّوا أنّ ذلك في غير آل محمّد، كذبوا وزلّت أقدامهم، واتّخذوا العجل ربّاً والشياطين حزباً، كلّ ذلك بغضة لبيت الصفوة ودار العصمة، وحسداً لمعدن الرسالة والحكمة، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فتبّاً لهم وسحقاً، كيف اختاروا إماماً جاهلا عابداً للأصنام جباناً يوم الزحام.
والإمام يجب أن يكون عالماً لا يجهل، وشجاعاً لا ينكل، لا يعلو عليه حسب، ولا يدانيه نسب، فهو في الذروة من قريش، والشرف من هاشم، والبقية من إبراهيم، والنهج من النبع الكريم، والنفس من الرسول، والرضى من الله، والقبول عن الله، فهو شرف الأشراف، والفرع من عبد مناف، عالم بالسياسة، قائم بالرياسة، مفترض الطاعة إلى يوم الساعة، أودع الله قلبه سرّه، وأطلق به لسانه، فهو معصوم موفّق ليس بجبان ولا جاهل، فتركوه يا طارق واتّبعوا أهوائهم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ}(1).
والإمام بشر ملكي وجسد سماويّ، وأمر إلهيّ وروح قدسيّ، ومقام عليّ ونور
____________
1- القصص: 50.
وهذا كلّه لآل محمّد (صلى الله عليه وآله) لا يشاركهم فيهم مشارك; لأنّهم معدن التنزيل، ومعنى التأويل، وخاصّة الرب الجليل، ومهبط (الوحي) الأمين جبرئيل، صفات الله وصفوته، وسرّه وكلمته، شجرة النبوّة، ومعدن الفتوة، عين المقالة ومنتهى الدلالة، ومحكم الرسالة، ونور الجلالة، حبيب (جنب) الله ووديعته، وموضع كلمة الله ومفتاح حكمته، ومصابيح رحمته وينابيع نعمته، والسبيل إلى الله والسلسبيل، والقسطاس المستقيم، والمنهاج القويم، والذكر الحكيم، والوجه الكريم، والنور القويم (القديم)، أهل التشريف والتقويم والتقديم، والتعظيم والتفضيل، خلفاء النبيّ الكريم، وأمناء الرؤوف الرحيم، واُمناء العليّ العظيم {ذُرِّيَّة بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلَيْهِمْ}(1).
السنام الأعظم والطريق الأقوم، من عرفهم وأخذ عنهم فهو منهم، وإليه الاشارة بقوله: {وَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(2) خلقهم الله من نور عظمته، وولاّهم أمر مملكته، فهم سرّ الله المخزون، وأولياؤه المقرّبون وأمره بين الكاف والنون، لا بل هم الكاف والنون، إلى الله يدعون وعنه يقولون، وبأمره يعملون، علم الأنبياء في علمهم، وسرّ الأوصياء في سرّهم، وعزّ الأولياء في عزّهم، كالقطرة في البحر، والذرّة في القفر، والسماوات والأرض عند الإمام منهم كيَدِه من راحته، يعرف ظاهرها من باطنها، ويعلم برّها من فاجرها، ورطبها من يابسها; لأنّ الله علّم نبيّه (صلى الله عليه وآله) علم ما كان وما يكون، وورث ذلك السرّ المصون الأوصياء المنتجبون، ومن أنكر ذلك فهو شقيّ ملعون، يلعنه الله ويلعنه اللاّعنون.
____________
1- آل عمران: 34.
2- إبراهيم: 36.
فهم الكواكب العلوية، والأنوار العلوية المشرقة من شمس العصمة الفاطمية في سماء العظمة المحمدية، والأغصان النبويّة النابتة في الدوحة الأحمدية، والأسرار الإلهيّة المودعة في الهياكل البشرية، والذريّة الزكية والعترة الهاشمية الهادية المهديّة اُولئك هم خير البريّة.
فهم الأئمة القاهرون، والعترة المعصومون، والذريّة الأكرمون، والخلفاء الراشدون، والكبرياء الصدّيقون، والأوصياء المنتجبون، والأسباط المرضيّون، والهداة المهديّون، والغرّ الميامين من آل طاها وياسين، وحجج الله على الأوّلين والآخرين، واسمهم مكتوب على الأحجار، وعلى أوراق الأشجار، وعلى أجنحة الأطيار، وعلى أبواب الجنّة والنار، وعلى العرش والأفلاك، وعلى أجنحة الأملاك، وعلى حجب الجلال وسرادق العزّ والجمال، وباسمهم تسبّح الأطيار، وتستغفر لشيعتهم الحيتان في لجج البحار، وإنّ الله لم يخلق أحداً إلاّ وأخذ عليهم الاقرار
9486/5 ـ عن إسماعيل، عن جابر، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه:
والإمام المستحق للإمامة له علامات: فمنها أن يعلم أنّه معصوم من الذنوب كلّها صغيرها وكبيرها، لا يزلّ في الفتيا ولا يخطئ في الجواب، ولا يسهو ولا ينسى، ولا يلهو بشيء من أمر الدنيا(2).
9487/6 ـ قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه في بعض خطبه:
وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائفُ الجائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهبَ بالحقوق، ويقف بها دون المقاطعِ، ولا المعطّل للسنة فيهلك الاُمّة(3).
9488/7 ـ عليّ بن الحسين المرتضى، نقلا عن تفسير النعماني، بالإسناد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال:
لمّا ثبت أنّ قوام الاُمّة بالأمر والنهي الوارد عن الله عزّ وجلّ، صحّ لنا أنّه لابدّ للناس من رسول من عند الله عزّ وجلّ، فيه صفات يتميّز بها عن جميع الخلق، منهما العصمة من جميع الذنوب وإظهار المعجزات وبيان الدلالات لنفي الشبهات، طاهر مطهّر، متّصل بملكوت الله سبحانه غير منفصل، لأنّه لا يؤدّي عن الله
____________
1- مشارق الأنوار: 114; تفسير البرهان 3: 368; البحار 25: 169.
2- رسالة المحكم والمتشابه: 59; البحار 25: 164.
3- نهج البلاغة: الخطبة 131; البحار 25: 167.
9489/8 ـ الصدوق، حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن، قالا: حدثنا عبدالله بن جعفر الحميري، عن محمد بن عبدالحميد، عن منصور بن يونس، عن عبدالرحمن بن سليمان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن الحارث بن نوفل، قال: قال علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يارسول الله أمنّا الهداة أم من غيرنا؟ قال: (لا) بل منّا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة، بنا استنقذهم من ضلالة الشرك، وبنا يستنقذهم الله من ضلالة الفتنة، وبنا يصبحون إخواناً بعد ضلالة الفتنة، كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك، وبنا يختم الله كما بنا فتح الله(2).
9490/9 ـ الصدوق، باسناده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله: من (صلى الله عليه وآله) أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض(3).
9491/10 ـ عن علي (عليه السلام) قال: خير أهل الزمان كل نومة، اُولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم، ليسوا بالعجل المذاييع البذر(4).
9492/11 ـ الصدوق، حدثني أبي، قال: حدثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد ابن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن الفضل بن السكن،
____________
1- رسالة المحكم والمتشابه: 43; اثبات الهداة 1: 253.
2- إكمال الدين: 230، البحار 23:42، إثبات الهداة 2:365.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2:46، البحار 2:115، مجموعة ورام 1:3، ربيع الأبرار 3:278، كنز العمال 10:193 ح29018.
4- عوالي اللئالي 1:71، مستدرك الوسائل 11:392 ح13349.
تبيين:
هذا الخبر من غوامض الأخبار ومعضلات الآثار وهو يحتمل معان: (الأول) ما قال الكليني: قال: معنى قوله (عليه السلام) (اعرفوا الله بالله) يعني إن خلق الأشخاص والأنوار والجواهر، فالأعيان الأبدان، والجواهر الأرواح، فهو جلّ وعزّ لا يشبه جسماً ولا روحاً، وليس لأحد في خلق الروح الحساس الدراك أمر ولا سبب، هو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام، فاذا نفي عنه الشبيهين شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله بالله، وإذا شبهه بالروح أو النور فلم يعرف الله بالله. أقول: وتوضيح كلامه (رحمه الله) أن معني قوله (عليه السلام): (اعرفوا الله بالله) اعرفوه بأنه هو الله مسلوباً عنه جميع ما يعرف به الخلق من الجواهر والأعراض ومشابهة شيء منها، وعلى هذا فمعنى قوله (عليه السلام): (والرسول بالرسالة) إلى آخره، معرفة الرسول بأنه أرسل بهذه الشريعة، وهذه الأحكام وهذا الدين والكتاب، ومعرفة كل من اُولي الأمر بأنه الآمر بالمعروف العالم العامل به، وبالعدل أي لزوم الطريقة الوسطى في كل شيء والاحسان أي الشفقة على خلق الله والتفضل عليهم ودفع الظلم عنهم. (الثاني) ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد بعد ما ذكر هذا الخبر ونحوه، وأسند هذا المعنى إلى الكليني قال: القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال عرفنا الله بالله، لأنا إن عرفنا بعقولنا فهو عزّوجلّ واهبه وإن عرفناه عزّوجلّ بأنبيائه ورسله وحججه فهو عزّوجلّ باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حججاً، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّوجلّ محدثها، فبه عرفناه، وقد قال الصادق (عليه السلام): لولا الله ما عرفناه، ولولا نحن ما عرف الله، ومعناه لولا الحجج ما عرف الله حق معرفته، |
____________
1- التوحيد: 285، البحار 25:141، الكافي 1:85.
ولولا الله ما عرف الحجج انتهى. وحاصل كلامه أن جميع ما يعرف سبحانه به ينتهي اليه سبحانه وتعالى، ويرد عليه أولا أنه يعطي انحصار طريق معرفة الله سبحانه في معرفته به تعالى، وظاهر الخبر يعطي أن لها طريقاً آخر غير هذا، أن هذا هو الأولى والأرجح والأصوب، وثانياً أنه على هذا تكون معرفة الرسول واُولي الأمر أيضاً بالله، فما الفرق بينهما وبين معرفة الله في ذلك، وأيضاً لا يلائمه قوله: (اعرفوا الله بالله) اللهم إلاّ أن يقال إن الفرق باعتبار أصناف المعرفة، فالمعرفة بالرسالة صنف من المعرفة بالله، والمعرفة بالمعروف صنف آخر منهما، ومعرفة الله فيها أصناف لا اختصاص لها بصنف، والمراد بقوله (عليه السلام) اعرفوا الله بالله حصلوا معرفة الله التي تحصل بالله وفيه بعد. (الثالث) أن يكون المعنى اعرفوا الله بالله حصلوا أي بما يناسب اُلوهيته من التنزيه والتقديس، والرسول بما يناسب رسالته من العصمة والفضل والكمال، واُولي الأمر بما يناسب درجتهم العالية التي هي الرياسة العامة للدين والدنيا وبما يحكم العقل به من إنصاف صاحب تلك الدرجة القصوى به من العلم والعصمة والفضل والمزية على من سواه. (الرابع) أن يكون الغرض من هذا الحديث ترك الخوض في معرفته تعالى ومعرفة رسوله وحججه بالعقول الناقصة فينتهي إلى نسبة ما لا يليق به تعالى اليه وإلى الغلو في أمر الرسول والأئمة، وعلى هذا فيحتمل الحديث وجهين: أحدهما أن يكون المراد اعرفوا الله بعقولكم بمحض انه خالق إله، والرسول بأنه رسول أرسله الله إلى الخلق، واُولي الأمر بأنهم المحتاج اليهم لاقامة المعروف والعدل والاحسان، ثم عولوا في صفاته تعالى وصفات حججه (عليهم السلام) على ما بينوا ووصفوا لكم ولا تخوضوا فيها بعقولكم. وثانيهما: أن يكون المعنى، اعرفوا الله بما وصف لكم في كتابه وعلى لسان نبيه، |
والرسول بما أوضح لكم من وصفه في رسالته اليكم، والامام بما بين لكم من المعروف والعدل والاحسان كيف اتصف بتلك الأوصاف والأخلاق الحسنة، ويحتمل الأخيران وجهاً ثالثاً وهو أن يكون المراد لا يعرفوا الرسول بما يخرج اليهم عن الرسالة إلى درجة الاُلوهية وكذا الامام. (الخامس) أن يكون المراد بما يعرف به ما يعرف واستعانته من قوى النفس العاقلة والمدركة وما يكون بمنزلتها ويقوم مقامها، فمعنى اعرفوا الله بالله، اعرفوه بنوره المشرق على القلوب بالتوسل اليه والتقرب به فإن العقول القاصرة والأفهام الخاسرة لا تهتدي اليه إلاّ بأنوار فيضه تعالى، واعرفوا الرسول (صلى الله عليه وآله) بتكميله إياكم برسالته وبمتابعته فيما يؤدي اليكم من طاعة ربكم، فانها توجب الروابط المعنوية بينكم وبينه وعلى قدر ذلك يتيسر لكم من معرفته، وكذا معرفة اُولي الأمر إنما تحصل بمتابعتهم بالمعروف والعدل والاحسان، وباستكمال العقل بها، ويؤيده ما رواه الصدوق في التوحيد عن هشام بن سالم قال: حضرت محمد بن النعمان الأحول وقام اليه رجل فقال له: بم عرفت ربك؟ قال بتوفيقه وأثاره وتعريفه وهدايته، قال: فخرجت من عنده فلقيت هشام بن الحكم فقلت له: ما أقول لمن يسألني فيقول لي بم عرفت ربك؟ قال: قل عرفت الله عزّوجلّ بنفسي الحديث. (السادس) أن يكون المراد من اعرفوا الله بالله أي بما تتأتى معرفته لكم بالتفكر فيما أظهر لكم من آثار صنعه وقدرته وحكمته بتوفيقه وهدايته لا بما أرسل به الرسول من الآيات والمعجزات، فإن معرفتها إنما تحصل بعد معرفته تعالى، واعرفوا الرسول بالرسالة أي بما أرسل به من المعجزات والدلائل، أو بالشريعة المستقيمة التي بعث بها فانها لانطباقها على قانون العدل والحكمة، يحكم أهل العدل بحقية من أرسل بها، واعرفوا اُولي الأمر بعملهم بالمعروف وإقامة العدل والاحسان وإيتائهم بها على وجهها، |
ويؤيده ما رواه الكليني في الكافي عن منصور بن حازم قال: قلت: لأبي عبدالله (عليه السلام): إني ناظرت قوماً فقلت لهم: إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون به، فقال رحمك الله، وما رواه الصدوق في التوحيد أن الجاثليق سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) هل عرفت الله بمحمد أم عرفت محمداً بالله؟ فقال (عليه السلام): ما عرفت الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) بل عرفت محمداً بالله عزّوجلّ حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول وعرض، فعرفت أنه مدبر مصنوع باستدلال وإلهام منه وإرادة كما ألهم الملائكة طاعته وعرفهم نفسه بلا شبه ولا كيف الحديث. (السابع) قال المحدث الكاشاني معنى قوله (عليه السلام): اعرفوا الله بالله انظروا في الأشياء إلى وجوهها التي إلى الله سبحانه بعد ما أثبتم أن لها رباً صانعاً فاطلبوا معرفته بآثاره فيها من حيث تدبيره وقيموميته إياها وتسخيره لها وإحاطته بها وقهره لها، حتى تعرفوا الله بهذه الصفات القائمة به ولا تنظروا إلى وجوهها التي إلى أنفسها، أعني من حيث أنها أشياء لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذواتها; بل مفتقرة إلى موجد يوجدها، فانكم إذا نظرتم اليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم الله بالأشياء فلن تعرفوه إذاً حق المعرفة، فإن معرفة مجرد كون الشيء مفتقر اليه في وجود شيء ليست بمعرفة في الحقيقة، على أن ذلك غير محتاج اليه لما عرفت أنها فطرية بخلاف النظر الأول فانكم تنظرون في الأشياء أولا إلى الله عزّوجلّ وآثاره من حيث هي آثاره، ثم إلى الأشياء وافتقارها في أنفسها، فإنا إذا عزمنا على أمر مثلا وسعينا في إمضائه غاية السعي، فلم يكن علمنا أن في الوجود شيئاً غير مرئى الذات يمنعنا عن ذلك ويحول بيننا وبينه، وعلمنا أنه غالب على أمره وأنه مسخر للأشياء على حسب مشيته، ومدبر لها بحسب إرادته وأنه منزه عن صفات أمثالنا، وهذه صفات يعرف بها صاحبها حق المعرفة، فاذا عرفنا الله عزّوجلّ بهذا النظر فقد عرفنا الله بالله.
|
وإلى مثل هذه المعرفة اُشير في غير موضع من القرآن المجيد حيث قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَات لاُِولِي الاَْلْبَابِ} في سورة البقرة آية 190 وأمثال ذلك من نظائره، وعلى هذا القياس معرفة الرسول بالرسالة، فانا بعد ما أثبتنا وجوب رسول من الله سبحانه إلى عباده وحاولنا أن نعرفه ونعينه من بين سائر الناس فسبيله أن ننظر إلى من يدعي ذلك، هل يبلغ الرسالة كما ينبغي أن تبلغ وينهج الدلالة كما ينبغي أن تنهج، فاذا نظرنا اليه من هذه الجهة فقد عرفناه بالرسالة، وكذا القول في الامام فان الكل على وتيرة واحدة، ومما يؤيد ما قلناه ما رواه الصدوق في توحيده في هذا الباب باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن جده (عليه السلام) أنه قال: إن رجلا قام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ياأمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ فقال: بفسخ العزائم ونقض الهمم، لما هممت فحيل بيني وبين همي، وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي، علمت أن المدبر غيري، وباسناده عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قال قوم للصادق (عليه السلام): ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم تدعون ما لا تعرفونه(1).
|
9493/12 ـ الشيخ الطوسي، أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا أبو عبدالله جعفر بن محمد بن جعفر العلوي الحسيني، قال: حدثنا علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، قال: حدثنا حسين بن يزيد بن علي، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن علي، عن علي (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم، فان عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، ومن جار كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر حتى يأتيهم الأمر(2).
____________
1- مصابيح الأنوار 1:24.
2- أمالي الطوسي المجلس 31:634 ح1307، البحار 75:354.
9495/14 ـ وعنه، أخبرنا جماعة، منهم الحسين بن عبيدالله، وأحمد بن محمد بن عبدون، والحسن بن إسماعيل بن أشناس، وأبو طالب بن غرور، وأبو الحسن الصقال، قالوا: حدثنا أبو المفضل محمد بن عبدالله الشيباني، قال: حدثنا أحمد بن عبدالله بن سابور أبو العباس الدقاق، قال: حدثنا أيوب بن محمد الرقي الوزان، قال: حدثنا سلام بن رزين الحراني، قال: حدثني إسرائيل بن يونس الكوفي، عن جده أبي إسحاق، عن الحارث الهمداني، عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: الأنبياء قادة، والفقهاء سادة، ومجالستهم زيادة، وأنتم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتيكم بغتة، فمن يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة(2).
9496/15 ـ عن علي [(عليه السلام)]: إذا أراد الله بقوم سوء جعل أمرهم إلى مترفيهم(3).
9497/16 ـ عن علي (رضي الله عنه): أيما وال ولي أمر اُمتي بعدي، اُقيم على الصراط، ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا نجاه الله بعدله، وإن كان جائراً انتقض به
____________
1- أمالي الطوسي المجلس الثامن: 225 ح392، البحار 1:201.
2- أمالي الطوسي المجلس 17:473 ح1032، البحار 1:201.
3- كنز العمال 6:89 ح14973.
9498/17 ـ عن علي (رضي الله عنه): العدل حسن، ولكن في الاُمراء أحسن والسخاء حسن، ولكن في الأغنياء أحسن، والورع حسن، ولكن في العلماء أحسن، والصبر حسن، ولكن في الفقراء أحسن، والتوبة حسن، ولكن في الشباب أحسن، والحياء حسن، ولكن في النساء أحسن(2).
(2) سيرة الإمام في نفسه ومطعمه وملبسه إذا ولي الأمر
9499/1 ـ محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن حمّاد، عن حميد، وجابر العبدي، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
إنّ الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يُطغي الغني غناه(3).
9500/2 ـ وعنه، عن عليّ بن محمّد، عن صالح بن أبي حمّاد، وعدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، وغيرهما، بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على عاصم بن زياد حين لبس العباء وترك الملاء، وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قد غَمّ أهله وأحزن ولده بذلك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): عليَّ بعاصم بن زياد، فجيء به، فلمّا رآه عبّس في وجهه فقال له: أما استحييت من أهلك أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أخذك منها، أنت أهون على الله من ذلك، أوليس الله يقول: {وَالاَْرْضَ وَضَعَهَا لِلاَْنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ
____________
1- الجامع الصغير للسيوطي 1:364 ح3000.
2- الجامع الصغير للسيوطي 2:189 ح5685.
3- الكافي 1: 410.
9501/3 ـ الشيخ المفيد، حدّثنا عبيد الله (قدس سره)، عن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان، عن محمّد بن عليّ بن الفضل بن عامر الكوفي، عن الحسين بن محمّد بن الفرزدق، عن محمّد بن علي بن مردويه، عن الحسن بن موسى، عن عليّ بن أسباط، عن غير واحد، عن أصحاب بن دآب، عنه، قال: استعدى زياد بن شدّاد الحارثي صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أخيه عبد الله بن شدّاد، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب أخي في العبادة وامتنع أن يساكنني في داري، ولبس أدنى ما يكون من اللباس، قال: يا أمير المؤمنين تزيّنت بزينتك، ولبست لباسك، قال (عليه السلام): ليس لك ذلك إنّ إمام المسلمين إذا وُلّيَ اُمورهم لبس لباس أدنى فقيرهم، لئلاّ يتبيّغ بالفقير فقره فيقتله، فلأعلمنّ ما لبست إلاّ من أحسن زيّ قومك، {وَأمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(5) فالعمل بالنعمة أحبّ إليّ من الحديث بها(6).
____________
1- الرحمن: 10، 11.
2- الرحمن 19-22.
3- الضحى: 17.
4- الكافي 1: 410.
5- الضحى: 11.
6- الاختصاص: 152; مستدرك الوسائل 3: 237 ح3471; الكافي 1: 339.
9503/5 ـ البيهقي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو العباس محمّد ابن يعقوب، ثنا العباس بن محمّد، ثنا محمّد بن عبيد، ثنا المختار وهو ابن نافع، عن ابن مطر، قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي إرفع أزارك فإنّه أتقى لثوبك وأتقى لك، وخُذ من رأسك إن كنت مسلماً، فمشيت خلفه فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: هذا علي أمير المؤمنين، قال: ثمّ أتى دار فرات وهو سوق الكرابيس، فقال: يا شيخ أحسن بيعتي في قميص بثلاثة دراهم، فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، ثمّ أتى آخر فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم، ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين، قال: فجاء أبو الغلام صاحب الثوب، فقيل: يا فلان قد باع إبنك اليوم من أمير المؤمنين قميصاً بثلاثة دراهم، قال: أفلا أخذت درهمين، فأخذ أبوه درهماً وجاء به إلى أمير المؤمنين فقال: أمسك هذا الدرهم يا أمير المؤمنين، قال: ما شأن هذا الدرهم؟ قال: كان
____________
1- مستدرك الوسائل 3: 267 ح3549; دعائم الإسلام 2: 156.
9504/6 ـ قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له (عليه السلام) بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده ـ وهو من أصحابه ـ فلمّا رأى سعة داره، قال (عليه السلام): ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبَلَى أن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل بها الرحم، وتُطلعُ منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة، فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا، قال: عليَّ به فلمّا جاء قال: يا عُدي نفسِهِ، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى أنّ الله أحلّ لك الطيّبات، وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك، قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال: ويحك، إنّي لست كأنت، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل (الحق) أن يقدّروا أنفسهم بضَعفةِ الناس، كيلا يتبيّغَ بالفقير فقرُه(2).
9505/7 ـ الصدوق، عن أبيه، قال: حدثني أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن موسى بن عمر، عن ابن سنان، عن أبي الجارود، عن سعد الاسكاف، عن الأصبغ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: أيما وال احتجب من حوائج الناس، احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولا، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك(3).
9506/8 ـ عن علي [(عليه السلام)]: عفو الملوك أبقى للملك(4).
9507/9 ـ عن علي [(عليه السلام)]: الأئمة من قريش أبرارها اُمراء أبرارها، وفجارّها
____________
1- سنن البيهقي 10: 107.
2- نهج البلاغة: كلمة 209; مستدرك الوسائل 3: 315 ح3664; البحار 70: 118.
3- عقاب الأعمال: 261، وسائل الشيعة 12:63، البحار 75:345.
4- كنز العمال 6:47 ح14787.