الصفحة 380
ذاك ياأمير المؤمنين؟ قال: لاُمور بدت لي من كثير منكم، فقام اليه الأشتر فقال: ياأمير المؤمنين أنبئنا بذلك فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الأرض وصي نبي سواك، وإنا لنعلم أن الله لم يبعث بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) نبياً سواه، وإن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا.

فجلس علي (عليه السلام) وأقبل على اليهودي فقال: ياأخا اليهود إن الله عزّوجلّ امتحنني في حياة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) في سبعة مواطن فوجدني فيهن ـ من غير تزكية لنفسي ـ بنعمة الله له مطيعاً، قال: وفيم ياأمير المؤمنين؟ قال:

أما: أولهنّ فان الله عزّوجلّ أوحى إلى نبينا (صلى الله عليه وآله) وحمله الرسالة، وأنا أحدث أهل بيتي سناً أخدمه في بيته وأسعى في قضاء بين يديه في أمره، فدعا صغير بني عبدالمطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنه رسول الله فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه وهجروه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه، وسائر الناس مقصين له ومخالفين عليه، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لا تحتمله قلوبهم ولم تدركه عقولهم، فأجبت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحدي إلى ما دعا اليه مسرعاً مطيعاً موقناً، لم يتخالجني في ذلك شك، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بما أتاه الله غيري وغير ابنة خويلد (رحمها الله) وقد فعل، ثم أقبل (عليه السلام) على أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأمّا الثانية ياأخا اليهود: فانّ قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي (صلى الله عليه وآله) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل

الصفحة 381
واحد فيقتلونه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدراً، فهبط جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله) فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار، فأخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن اُقتل دونه، فمضى (صلى الله عليه وآله) لوجهه واضطجعت في مضجعه، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي (صلى الله عليه وآله) فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس، ثم أقبل على أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأما الثالثة ياأخا اليهود: فإن ابني ربيعة وابن عتبة كانوا فرسان قريش، دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش، فانهضني رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع صاحبي (رضي الله عنهما) وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة، فقتل الله عزّوجلّ بيدي وليداً وشيبة، سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم، وسوى من اُسرت، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي، واستشهد ابن عمي في ذلك اليوم (رحمة الله عليه)، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأما الرابعة ياأخا اليهود: فان أهل مكة أقبلوا الينا على بكرة أبيهم قد استحاشوا من يليهم من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر، فهبط جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فأنبأه بذلك، فذهب النبي وعسكر بأصحابه في سد أُحد، وأقبل المشركون الينا فحملوا علينا حملة رجل واحد، واستشهد من المسلمين من استشهد، وكان ممن بقي منهم من الهزيمة (وعفى الله عنهم) وبقيت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول قتل

الصفحة 382
النبي وقتل أصحابه، ثم ضرب الله عزّوجلّ وجوه المشركين، وقد جُرحت بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) نيفاً وسبعين جرحة منها هذه وهذه، ثم ألقى ردائه وأمرّ يده على جراحاته، وكان مني في ذلك ما على الله عزّوجلّ ثوابه إن شاء الله، ثم التفت (عليه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك! قالوا: بلى ياأمير المؤمنين فقال:

وأما الخامسة ياأخا اليهود: فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب، ثم أقبلت بجدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة، واثقة بأنفسها فيما توجهت له، فهبط جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله) فأنبأه بذلك، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف، ترعد وتبرق ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعوها إلى الله عزّوجلّ ويناشدها بالقرابة والرحم، فتأبى ولا يزيدها ذلك إلاّ عتواً، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود، يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع فيه طامع، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه، فأنهضني اليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا ـ وضرب بيده إلى ذي الفقار ـ فخرجت اليه ونساء أهل المدينة بواكي إشفاقاً عليّ من ابن عبد ود، فقتله الله عزّوجلّ بيدي، والعرب لا تعدّ لها فارساً غيره، وضربني هذه الضربة ـ وأومأ بيده إلى هامته ـ فهزم الله قريشاً والعرب بذلك وبما كان مني فيهم من النكاية، ثم التفت (عليه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ فقالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأمّا السادسة ياأخا اليهود: فإنا وردنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) مدينة أصحابك خيبر على رجال اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، في أمنع دار وأكثر عدداً، كل ينادي يدعو ويبادر إلى

الصفحة 383
القتال، فلم يبرز اليهم من أصحابي أحد إلاّ قتلوه، حتى إذا احمرت الحدق، ودُعِيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول: ياأبا الحسن انهض، فأنهضني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلاّ قتلته، ولا يثبت لي فارس إلاّ طحنته، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّداً عليهم، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها وأسبي من أجد من نسائها حتى أفتتحها وحدي، ولم يكن لي فيها معاون إلاّ الله وحده، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأما السابعة ياأخا اليهود: فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما توجه لفتح مكة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عزّوجلّ آخراً كما دعاهم أولا، فكتب اليهم كتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم، ونسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم، ثم عرض على جميع أصحابه المضي به، فكلهم يرى التثاقل فيه، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلا فوجهه به، فأتاه جبرئيل فقال: يامحمد لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك فأنبأني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلاّ ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله، فبلغتهم رسالة النبي وقرأت عليهم كتابه، فكلّهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء، ويظهر لي الشحناء من رجالهم ونسائهم، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام): ياأخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيها ربي عزّوجلّ مع نبيه (صلى الله عليه وآله) فوجدني فيها كلها بمنّه مطيعاً، ليس فيها مثل الذي لي، ولو شئت لوصفت ذلك ولكن الله عزّوجلّ نهى عن التزكية، فقالوا: ياأمير المؤمنين صدقت والله لقد

الصفحة 384
أعطاك الله عزّوجلّ الفضيلة بالقرابة من نبينا (صلى الله عليه وآله) وأسعدك بأن جعلك أخاه، تنزل منه بمنزلة هارون من موسى، وفضلك بالمواقف التي باشرتها، والأهوال التي ركبتها، وذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره، ومما ليس لأحد من المسلمين مثله، يقول ذلك من شهدك منّا مع نبينا ومن شهدك بعده، فأخبرنا ياأمير المؤمنين ما امتحنك الله عزّوجلّ به بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) فاحتملته وصبرت، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علماً منا به وظهوراً منا عليه، إلاّ أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه، فقال (عليه السلام):

ياأخا اليهود إن الله عزّوجلّ امتحنني بعد وفاة نبيه (صلى الله عليه وآله) في سبعة مواطن فوجدني فيهن ـ من غير تزكية لنفسي ـ بمنه ونعمته صبوراً.

أمّا أولهن ياأخا اليهود فانه لم يكن خاصة دون المسلمين عامة أحد آنس به أو اعتمد عليه أو استقيم إليه أو أتقرب به غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو رباني صغيراً وبوأني كبيراً وكفاني العيلة، وجبرني من اليتم، وأغناني عن الطلب، ووقاني الكسب، وعال لي النفس والولد والأهل، هذا في تصاريف أمر الدنيا مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله عزوجل، فنزل بي عن وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عفوة كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به، قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع، وسائر الناس من غير بني عبدالمطلب بين معز يأمر بالصبر، وبين مساعد باك لبكائهم، جازع لجزعهم، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه، وتغسيله وتحنيطه وتكفينه، والصلاة عليه، ووضعه في حفرته، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه، ولا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هايج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جزيل مصيبة حتى

الصفحة 385
أديت في ذلك الحق الواجب لله عزّوجلّ ولرسوله (صلى الله عليه وآله) عليّ وبلغت منه الذي أمرني به، واحتملته صابراً محتسباً، ثم التفت (عليه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين.

وأما الثانية ياأخا اليهود، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرني في حياته على جميع اُمته وأخذ على من حضره منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ذلك، فكنت المؤدي اليهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمره إذا حضرته والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ولا بعد وفاته، ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اُسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه، فلم يدع النبي أحداً من أبناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس من يخاف عليّ نقضه ومنازعته، ولا أحداً من يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلاّ وجهه في ذلك الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده، ثم كان آخر ما تكلم به في شيء من أمر اُمته أن يمضي جيش اُسامة لا يختلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعز فيه أبلغ الايعاز ولكنه فيه أكثر التأكيد، فلم أشعر بعد أن قبض النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ برجال من بعث مع اُسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما أنهضهم له وأمرهم به، وتقدم اليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه حتى ينفذ لوجهه للذي أنفذه اليه، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حلّ عقدة عقدها الله عزّوجلّ لي ولرسوله (صلى الله عليه وآله) في أعناقهم فحلوها، وعهد عاهدوا الله

الصفحة 386
ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منا بني عبدالمطلب أو مشاركة في رأي أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي، فعلوا ذلك وأنا برسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء معدود، فانه كان أهمها وأحق ما أبدأ به منها، وكان هذا ياأخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية، وفاجع المصيبة، وفقد من لا خلف منه إلاّ الله تبارك وتعالى، فصبرت عليها إذا أنت بعد اختها على تقاربها وسرعة اتصالها، ثم التفت (عليه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأما الثالثة ياأخا اليهود: فان القائم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ويلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله، فكنت أقول تنقضي أيامه، ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفواً هنياً عن غير أن أحدث في الاسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة، لعل قائلا يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا، فيؤل ذلك من القول إلى الفعل، وجماعة من خواص أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الاسلام، يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسراً فيدعوني إلى أخذ حقي، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا الي بذلك بيعتي في أعناقهم، فأقول: رويداً وصبراً قليلا لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل، فقال: كل قوم منا أمير، وما طمع القائلون في ذلك إلاّ لتناول غيري الأمر، فلا دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صير الأمر بعده لصاحبه، وكانت هذه اُخت اُختها، ومحلها مني مثل محلها، وأخذا مني ما جعله الله لي، فاجتمع الي من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) ممن مضى وممن بقي ممن أخره الله من اجتمع، فقالوا: لي فيها مثل الذي قالوا في اُختها، فلم يعد قولي الثاني قولي

الصفحة 387
الأول صبراً واحتساباً ويقيناً واشفاقاً من أن تغني عصبة تألفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) باللين مرة وبالشدة اُخرى، وبالبذل مرة وبالسيف اُخرى حتى لقد كان من تألفه أن كان الناس في الكر والفرار والشبع والري، واللباس والوطا والدثار، ونحن أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله) لا سقوف لبيوتنا، ولا أبواب ولا ستور إلاّ الجرائد، وما أشبهها، ولا وطاء لنا ولا دِثار علينا، يتداول الثوب الواحد في الصلاة اكثرنا، ونطوي الليالي والأيام عامتنا، وربما أتانا الشيء مما أفاءه الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ونحن على ما وصفت من حالنا، فيؤثر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجالها; لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على إحدى منزلتين: أما متبع مقاتل، وأما مقتول إن لم يتبع الجميع، وأما خاذل يكفّر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي.

وقد علم الله أني منه بمنزلة هارون من موسى، يحل به في مخالفتي والامساك عن نصرتي ما أحلّ قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته، ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب أزيد لي في حظي وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم وكان أمر الله قدراً مقدوراً، ولواثق هذه الحالة ياأخا اليهود، ثم لو طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن بحضرتك منهم كنت أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالا وأطوع أمراً وأوضح حجة وأكثر في هذا الدين مناقب وآثاراً لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلا على استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها والبيعة المتقدمة في أعناقهم من تناولها، وقد قبض محمد (صلى الله عليه وآله) وإن ولاية الاُمة في يده وفي بيته، لا في يد الاُولى تناولوها ولا في بيوتهم، ولأهل بيته الذين

الصفحة 388
أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً أُولي الأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال، ثم التفت (عليه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأما الرابعة ياأخا اليهود: فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الاُمور فيصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأي، ولا أعلم أحداً ولا يعلم أصحابي يناظره في ذلك غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي، فلما أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه، لم أشك اني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها، والعاقبة التي كنت التمسها، وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت، وأفضل ما أملت، وكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوماً أنا سادسهم، ولم يسوني بواحد منهم، ولا ذكر لي حالا في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري، وصيرها شورى بيننا، وصير ابنه فيها حاكماً علينا، وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صيّر الأمر فيهم، إن لم ينفذوا أمره، وكفى بالصبر على هذا ياأخا اليهود صبراً، فمكث القوم أيامهم كلها كلّ يخطب لنفسه وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم وذكرتهم عهد رسول الله اليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم، دعاهم حب الامارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي والركون إلى الدنيا والاقتداء بالماضين قبلهم. إلى تناول ما لم يجعل الله لهم، فاذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر اليه، التمس مني شرطاً أن أصيرها له بعدي، فلما لم يجدوا عندي إلاّ المحجة البيضاء، والحمل على كتاب الله عزّوجلّ ووصية الرسول واعطاء كل امرء منهم ما جعله الله له، ومنعه ما لم يجعل الله له، أزالها عني إلى ابن عفان طمعاً في الشحيح ما

الصفحة 389
معه فيها، وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلا عمّن دونهم لا يبدر التي هي سنام فخرهم ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ومن اختصه معه من أهل بيته (عليهم السلام)، ثم لم أعلم القوم أحسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم، وأحال بعضهم على بعض كل يلوم ويلوم أصحابه، ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرأوا منه، ومشى إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عامة يستقبلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته، فكاكنت هذه ياأخا اليهود أكبر من اُختها وأفظع وأحرى أن لا يصبر عليها، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته، ولم يكن عندي فيه إلاّ الصبر على ما أمضى وأبلغ منها، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومنهم كل راجع عما كان ركب مني يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي، يؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يردّ الله عزّوجلّ عليّ حقي، فوالله ياأخا اليهود ما منعني منها إلاّ الذي منعني من اختيها قبلها، ورأيت إلاّ بقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها.

وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) إن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي، ولقد كنت عاهدت الله عزّوجلّ ورسوله (صلى الله عليه وآله) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عزّوجلّ ولرسوله (صلى الله عليه وآله)، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عزّوجلّ فأنزل الله فينا {مِنَ المُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَن يَنْتَظِرْ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلا}(1) حمزة وجعفر وعبيدة وأنا والله المنتظر ـ ياأخا

____________

1- الأحزاب: 23.


الصفحة 390
اليهود ـ وما بدّلت تبديلا وما سكتني عن ابن عفان وحثني عن الامساك إلاّ اني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه، فضلا عن الأقارب وأنا في عزلة، فصبرت حتى كان ذلك، لم أنطق فيه بحرف من لا، ولا نعم، ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح في الأرض، وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي وشديد عادة منتزعة، فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ فقالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأما الخامسة ياأخا اليهود: فان المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلك مني وثبوا بالمرأة عليّ وأنا ولي أمرها والوصي عليها، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال، واقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري وتنبح عليها كلاب الحوأب، وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاُولى في حياة النبي، حتى أتت على أهل بلدة قصيرة أيديهم، طويلة لحاهم، قليلة عقولهم، عارية آراؤهم، وهم جيران بدو ووراد بحر، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم، ويرمون بسهامهم بغير فهم، فوقفت من أمرهم على اثنين كلتاهما في محلة المكروه إن كففت لم يرجع ولم يعقل وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت، فقدمت الحجة بالأعذار والانذار، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي، والترك لنقضهم عهد الله عزّوجلّ في، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه، وناظرت بعضهم فرجع وذكرت فذكر، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلاّ جهلا وتمادياً وغياً، فلما أبوا إلاّ هي، ركبتها منهم فكانت عليهم الدبرة، وبهم الهزيمة، ولهم الحسرة، وفيهم الفناء والقتل، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً، ولم يسعني إذ فعلت ذلك وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أولا من الاغضاء والامساك،

الصفحة 391
ورأيتني إن أمسكت كنت معيناً لهم عليّ بإمساكي على ما صاروا اليه وطمعوا فيه من تناول الأطراف، وسفك الدماء وقتل الرعية وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال، كعادة بني الأصغر ومن مضى من ملوك سبأ والاُمم الخالية، فأصير إلى ما كرهت أولا وآخراً، وقد أهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس، ولم أهجم على الأمر إلاّ بعد ما قدمت وأخرّت، وتأنيت وراجعت، وأرسلت وسافرت، وأعذرت وأنذرت وأعطيت القوم كل شيء يلتمسوه مني بعد أن عرضت عليهم كل شيء لم يلتمسوه، فلما أبوا إلاّ تلك، أقدمت عليها، فبلغ الله بي وبهم ما أراد، وكان لي عليهم بما كان مني اليهم شهيداً، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام):

وأما السادسة ياأخا اليهود: فتحكيمهم الحكمين ومحاربة ابن آكلة الأكباد، وهو طليق معاند لله عزّوجلّ ولرسوله منذ بعث الله محمداً إلى أن فتح الله عليه مكة عنوة، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك وفي ثلاثة مواطن بعده، وأبوه بالأمس أول من سلم عليّ بإمرة المؤمنين، وجعل يحثني على النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي، يجدد لي بيعته كلما أتاني، وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد ردّ إلي حقي وأقره في معدنه، وانقطع طمعه، أن يصير في دين الله رابعاً وفي أمانة حملناها حاكماً، كرّ على العاصي بن العاص فاستماله فمال اليه، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر، وحرام عليه أن يأخذ من الفيئ دون قسمه درهماً، وحرام على الراعي إيصال درهم اليه فوق حقه، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأها بالغشم، فمن بايعه أرضاه، ومن خالفه ناواه، ثم توجّه إليّ ناكثاً علينا مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالا، والأنباء تأتيني والأخبار ترد علي بذلك، فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن أوليه البلاد التي هو بها لاداريه بما اُوليه منها، وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند الله عزّوجلّ في توليته لي مخرجاً، وأصبت

الصفحة 392
لنفسي في ذلك عذراً، فما عملت الرأي في ذلك، وشاورت من أثق بنصيحته لله عزّوجلّ ولرسوله (صلى الله عليه وآله) ولي وللمؤمنين، فكان رأيه في ابن آكلة الأكباد كرأي، ينهاني عن توليته ويحذرني أن أدخل في أمر المسلمين يده، ولم يكن الله ليراني متخذ المضلين عضداً.

فوجهت اليه أخا بجيلة مرة وأخا الأشعريين مرة أخرى كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه، فلما لم أره أن يزداد فيما انتهك من محارم الله إلاّ تمادياً شاورت من معي من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) البدريين والذين ارتضى الله عزّوجلّ أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم، وغيرهم من صلحا المسلمين والتابعين، فكل يوافق رأيه رأيي في غزوة ومحاربته وصنعه مما نالت يده، واني نهضت اليه بأصحابي أنفذ إليه من كلّ موضع كتبي وأوجه إليه رسلي أدعوه: الى الرجوع عمّا هو فيه، والدخول فيما فيه الناس معي، فكتب يتحكم عليّ ويتمنى عليّ الأماني ويشترط عليّ شروطاً لا يرضاها الله عزّوجلّ ورسوله ولا المسلمون، ويشترط عليّ في بعضها أن أدفع اليه أقواماً من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أبراراً فيهم عمار بن ياسر، وأين مثل عمار والله لقد رأيتنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) وما يعدّ منا خمسة إلاّ كان سادسهم، ولا أربعة إلاّ كان خامسهم، واشترط دفعهم اليه ليقتلهم ويصلبهم، وانقل دم عثمان، ولعمرو الله ما ألب على عثمان ولا جمع الناس على قتله إلاّ هو وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن، فلما لم أجب إلى ما اشترط من ذلك كرّ مستعلياً في نفسه بطغيانه وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر، فموه لهم أمراً فاتبعوه، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به اليه، فاجزناهم وحاكمناهم إلى الله عزّوجلّ بعد الاعذار والانذار، فلما لم يزده ذلك إلاّ تمادياً وبغياً، لقيناه بعادة الله التي عودنا من النصر على أعدائه وعدونا، وراية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأيدينا، لم يزل الله تبارك وتعالى يغل حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل اُقاتلها مع

الصفحة 393
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل المواطن، فلم يجد من الموت منجي إلاّ الهرب فركب فرسه وقلب رايته، لا يدري كيف يحتال، فاستعان برأي ابن العاص فأشار عليه باظهار المصاحف ورفعها على الأعلام والدعاء إلى ما فيها، وقال: إن ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة ويقيناً، وقد دعوك إلى كتاب الله أولا وهم مجيبوك اليه آخراً، فأطاعه فيما أشار به عليه، إذ رأى أنه لا منجا له من القتل أو الهرب غيره، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم وظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا اليه، فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في اجابته، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه، وإنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري، فأبوا إلاّ إجابته كرهت أم هويت، شئت أو أبيت، حتى أخذ بعضهم يقول لبعض إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان أو ادفعوه إلى ابن هند برمته، فجهدت علم الله جهدي ولم أدع علة في نفسي إلاّ بلغتها في أن يخلوني ورأيي فلم يعفلوا، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس، فلم يجيبوا ما خلا هذا الشيخ ـ وأومأ بيده إلى الأشتر ـ وعصبة من أهل بيتي، فوالله ما منعني أن أمضي علي بصيرتي إلاّ مخافة أن يقتل هاذان ـ وأومأ بيده إلى الحسن والحسين ـ عليهما السلام فينقطع نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذريته من اُمته، ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومئ بيده إلى عبدالله بن جعفر ومحمد بن الحنفية (رضي الله عنهما) فاني أعلم لولا مكاني لم يقفا ذلك الموقف، فلذلك صبرت على ما أراد القوم، مع ما سبق فيه من علم الله عزوجل، فلم رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الاُمور وتخيروا الأحكام والآراء وتركوا المصاحف وما دعوا اليه من حكم القرآن، وما كنت أحكم في دين الله أحداً، إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا اقراء، فلما أبو إلاّ ذلك أردت أن أحكم رجلا من أهل بيتي أو رجلا

الصفحة 394
من أرضى رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودته ودينه، وأقبلت لا اُسمي أحداً إلاّ امتنع منه ابن هند، ولا أدعوه إلى شيء من الحق إلاّ اُدبر عنه، وأقبل ابن هند يسومنا عسفاً، وما ذاك إلاّ باتباع أصحابي له على ذلك.

فلما أبوا إلاّ غلبتي على التحكيم تبرأت إلى الله عزّوجلّ منهم وفوضت ذلك اليهم فقلدوه امرءاً فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها، وأظهر المخدوع عليها ندماً، ثم أقبل (عليه السلام) على أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا بلى ياأمير المؤمنين فقال (عليه السلام):

وأما السابعة ياأخا اليهود: فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان عهد إليّ أن اُقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب، يمرقون بخلافهم عليّ وعاريتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية، فيهم ذو الثدية، يختم لي بقتلهم بالسعادة، فلما انصرفت إلى موضعي هذا ـ يعني بعده الحكمين ـ أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا اليه من تحكيم الحكمين، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلاّ أن قالوا كان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ وأن يمضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه، فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤسهم ينادون بأعلى أصواتهم لا حكم إلاّ لله، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة واُخرى بحرورا واُخرى راكبها رأسها، تخبط الأرض شرقاً حتى عبرت دجلة، فلم تمر بمسلم إلاّ امتحنته فمن تابعها استحيته ومن خالفها قتله، فخرجت إلى الأوليين واحدة بعد اُخرى أدعوهم إلى طاعة الله عزّوجلّ والرجوع اليه فأبيا إلاّ السيف لا يقنعهما غير ذلك، فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عزّوجلّ فقتل الله هذه وهذه، وكانوا ياأخا اليهود لولا ما فعلوا لكانوا ركناً قوياً وسدّاً منيعاً فأبى الله إلاّ ما صاروا اليه، ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى وكانوا من

الصفحة 395
أجلّة أصحابي وأهل التعبد منهم والزهد في الدنيا، فأبت إلاّ اتباع اختيها والاحتذاء على مثالهما، وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين، وتتابعت إلي الأخيار بعضهم، فخرجت حتى قطعت اليهم دجلة، أوجه السفراء والنصحاء وأطلب العتبى لجهدي بهذا مرة وبهذا مرة ـ وأومى بيده إلى الأشتر والأحنف بن قيس وسعيد بن قيس الأرحبي والأشعث بن قيس الكندي ـ فلما أبوا إلاّ تلك ركبتها منهم فقتلهم الله ياأخا اليهود عن آخرهم، وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت منهم مخبر، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى، له ثدي كثدي المرأة، ثم التفت (عليه السلام) إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى ياأمير المؤمنين، فقال (عليه السلام): قد وفيت سبعاً وسبعاً ياأخا اليهود، وبقيت الاُخرى وأوشك بها فكان قد.

فبكى أصحاب علي وبكى رأس اليهود وقالوا: ياأمير المؤمنين أخبرنا بالأخرى؟ فقال: الاُخرى أن تخضب هذه ـ وأومأ بيده إلى لحيته ـ من هذه ـ وأومأ بيده إلى هامته ـ قال: وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء حتى لم يبق بالكوفة دار إلاّ خرج أهلها فزعاً، وأسلم رأس اليهود على يدي علي (عليه السلام) من ساعته ولم يزل مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخذ ابن ملجم (لعنه الله) فأقبل رأس اليهود حتى وقف على الحسن (عليه السلام) والناس حوله وابن ملجم (لعنه الله) بين يديه فقال له: ياأبا محمد أقتله قتله الله، فاني رأيت في الكتب التي اُنزلت على موسى (عليه السلام) أنّ هذا أعظم عند الله عزّوجلّ جرماً من ابن آدم قاتل أخيه، ومن قدار عاقر ناقة صالح(1).

____________

1- الخصال باب السبعة: 364، البحار 38:167، الاختصاص: 164، تفسير البرهان 3:301.


الصفحة 396

سأل رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) سبع كلمات

10255/1 ـ قيل: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: جئتك من سبعمائة فرسخ لأسألك عن سبع كلمات، فقال (عليه السلام): سل عما شئت، فقال الرجل: أي شيء أعظم من السماء؟ وأي شيء أوسع من الأرض؟ وأي شيء أضعف من اليتيم؟ وأي شيء أحرّ من النار؟ وأي شيء أبرد من الزمهرير؟ وأي شيء أغنى من البحر؟ وأي شيء أقسى من الحجر؟ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): البهتان على البري أعظمن من السماء، والحق أوسع من الأرض، ونمائم الوشاة أضعف من اليتيم، والحرص أحرّ من النار، وحاجتك إلى البخيل أبرد من الزمهرير، والبدن القانع أغنى من البحر، وقلب الكافر أقسى من الحجر(1).

أنزل القرآن على سبعة أحرف

10256/1 ـ قال المجلسي (أعلى الله مقامه): وجدت رسالة قديمة مفتتحها هكذا: حدثنا جعفر بن محمد بن قولويه القمي (رحمه الله)، قال: حدثني سعد الأشعري القمي أبو القاسم (رحمه الله) وهو مصنفه، روى مشايخنا، عن أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اُنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل وقصص، ومثل(2).

____________

1- جامع الأخبار: 383 ح1071، البحار 78:31.

2- البحار 93:97.