المجتمع العراقي.. والحرب:
بعد ما تقدم نقول:
إننا إذا أردنا أن لا نكون مقصرين في دراستنا للأمور، فإن علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار الأمور التالية:
1 ـ قضية علي (عليه السلام) لا تعنيهم:
إن رؤساء القبائل الذين كانوا يتحكمون بقرار المشاركة في الحروب لمن يأتمرون بأمرهم، قد حاربوا مع أمير المؤمنين عدواً يرون أنه ـ حسب معاييرهم ـ عدو له. قبل أن يصبح عدواً لهم. وقد يجدون قواسم مشتركة كثيرة تسهل عليهم الالتقاء مع ذلك العدو، والوصول معه إلى حلول أو أنصاف حلول.
إنها حروب لم تكن تعنيهم كثيراً، ولا تمثل لهم قضية يرون أنفسهم ملزمين بالدفاع عنها، والحفاظ عليها.
وحتى حين يدركون أن ثمة استهدافاً خطيراً لهم، فإنهم يفهمون القضية على أساس أنها دفاع عن أشخاصهم هم، أو عن شخص علي (عليه السلام)، لا عن قيم ومثل عليا. فما كان يقاتل من أجله علي (عليه السلام) يختلف في مضمونه عما يقاتل من أجله أصحابه.
____________
<=
والأنصار في فتوح السواد تزوجوا في أهل الكتابين حياة الشعر 146 عن الطبري 1/5/2374
ويقول بعضهم: «شهدت القادسية مع سعد فتزوجنا نساء أهل الكتاب ونحن لا نجد كثير مسلمات» حياة الشعر 146 عن الطبري 1/5/2375 وقد أمر عمر حذيفة أن يطلق امرأة من أهل الكتاب كان قد تزوجها وذلك بعد أن ولاه المدائن. حياة الشعر146 عن الطبري /1/5/2374 /2375.
2 ـ لا غنائم ولا سبايا:
إنهم حين يتخذون قرار الحرب هذا، ويشاركون بالفعل فيها، وتقتل رجالهم، وتتفانى صناديدهم، ويعرضون علاقاتهم القبلية والتجارية وغيرها لأخطار حقيقية، ولنكسات وتعقيدات.. فإنهم لا يرون في مقابل كل ذلك أي نفع مادي ملموس، يمكن أن يعوض عليهم بعض تلك الخسائر بنظرهم.
إنها حروب داخلية، لا غنائم فيها، ولا سبايا، بل فيها مصائب وبلايا، وخسائر، على الصعيد المادي والدنيوي، الذي هو العنصر الشاخص في حسابات الربح والخسارة لديهم.
فبملاحظة هذا وذاك لماذا إذن لا يمنّون على علي وعلى أهل بيته (عليهم السلام)، بما يقدمونه من تضحيات، مادام أنهم أصحاب الفضل عليهم بحسب فهمهم للأمور، وطبيعة تعاطيهم معها.
3 ـ هيمنة المشاعر القبلية ومفاهيم الجاهلية:
ومن الأمور التي تشير إلى مدى إسفافهم في التفكير. وهيمنة المشاعر القبلية، والمفاهيم الجاهلية عليهم، ما ذكر من «أن أهل الكوفة في آخر عهد علي (عليه السلام) كانوا قبائل. فكان الرجل يخرج من منزل قبيلته، فيمر بمنازل قبيلة آخرى؛ فينادي باسم قبيلته: يا للنخع، أو يا لكندة؛ فيتألب عليه فتيان القبيلة، التي مرّ بها؛ فينادون: يا لتميم، ويا لربيعة. ويقبلون إلى ذلك الصائح، فيضربونه، فيمضي إلى قبيلته، فيستصرخها، فتسل السيوف وتثور الفتنة»(1).
____________
(1) شرح نهج البلاغة ج3 ص239 وحياة الشعر في الكوفة ص182.
4 ـ حقيقة إخلاص القيادات:
إن القيادات العشائرية العراقية لم تكن مخلصة، ولا بعيدة النظر في ما يرتبط بالأمور السياسية، وغيرها. وقد سأل المختار أحدهم عن الناس في الكوفة، فأجاب: «هم كغنم ضل راعيها. فقال المختار: أنا الذي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها»(1).
وقد سهّل ذلك ظهور قيادات جديدة، تكرس انقسامات يبعثها الجهل، أو الهوى، وما إلى ذلك. ويتأكد ذلك حين يكون ثمة واقع يريدون الخروج منه، أو الوصول إليه، كما كان الحال في صفين حين ضرستهم الحرب، وتأكدت لديهم الشبهة التي جاءت موافقة لهوى النفس برفع المصاحف. فنتج عن ذلك وقوعهم في مأزق حين لم يجدوا في أنفسهم ولا في تلك القيادات العشائرية قدرة على استيعاب حركة الواقع، لا من موقع الوعي الصحيح، ولا من موقع الهدف الرسالي. بل وقعوا في متاهات فرضتها استجاباتهم لدوافع غير رسالية، وغذاها جهل، وخواء فكري ومعرفي، وتنكب لصراط الوعي والعلم الصحيح.
5 ـ رقابة علي تهدد مصالحهم:
بل إن هؤلاء الناس يرون أو يرى كثير منهم: أنهم في ظل حكم علي (عليه السلام): أن امتيازاتهم مهددة في ظل الرقابة الصارمة لعلي (عليه السلام)، وملاحقته لأدق الأمور، وكان يأخذهم دون هوادة بمر الحق، ويحملهم على المحجة الواضحة.
____________
(1) حياة الشعر في الكوفة ص133 عن تاريخ الأمم والملوك ج2 ـ ق1 ـ ص531/532.
6 ـ تقلبات وضغوطات مضعفة:
ولقد كان لتلك القبائل دور رئيس في الفتوحات، جعلهم يشعرون بمزيد من الزهو، والاعتداد بالنفس، حتى إنهم كانوا كلما عنّ لهم عزل حاكم، يبادرون إلى ممارسة الضغوط على مركز القرار، ويجبرون الخليفة في المدينة على عزله، ويكون لهم ما يريدون.
7 ـ الإرباك بسبب قتال أهل الإسلام:
لقد أصبح العراقيون لأول مرة يواجهون، ويحاربون جماعات تحمل اسم الإسلام وتدّعي الأخوة في الدين وهذا ما يجعلهم يعيشون حالةً من الإرباك النفسي تجاه هذا الأمر.
ولولا أن شخصية علي (عليه السلام)، والتحاق كبار الصحابة به، ومناصرتهم له قد تركت آثارها على الواقع برمته، فلربما كان للعراقيين موقف آخر وحديث آخر في هذا المجال..
فإن مناصرة صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) له (عليه السلام) قد رسخ ما له من قداسة في نفوس الكثيرين.. ولم يجد المتضررون، وضعفاء الإيمان ذريعة يواجهونه بها، حتى جاءت قضية التحكيم، التي أعطتهم الفرصة للإعلان بما تكنه نفوسهم. فظهرت حيكة النفاق، وجهروا بمعارضتهم له، وأثاروا الشكوك والشبهات.
ومما زادهم جرأة، وتوغلاً في التيه ما رفعه المعترضون على التحكيم من شعارات رنانة مثل شعار: «لا حكم إلا لله». رغم أن علياً لم يخرج على هذا الشعار في مسألة التحكيم، وإنما هو قد رسخه، والتزم وألزم أعداءه به.
8 ـ لا معايير تحمي من الشعارات:
وإن من الأمور التي أعطت الفرصة لتلك الشعارات لتترك أثرها غير المنطقي على الواقع العام، هو أن العراقيين ما كانوا يملكون معايير وضوابط فكرية، وعقيدية تحميهم من تأثيراتها الناشئة عن فهمها الخاطئ لتلك الشعارات، وذلك لأن الخلفاء السابقين على علي (عليه السلام) إنما فتحوا أعين العراقيين على الغنائم والسبايا، مع الاكتفاء منهم بظاهر الدين، الذي يقتصر على ممارسة الطقوس من دون وعي لمضامينها ولا لأهدافها. ومن دون الاهتمام بالتأسيس الفكري والعقيدي لها. وتحصين الناس من آثار الجهل والسطحية، والغباء.
9 ـ الخليط غير المتجانس:
ثم إن المجتمع العراقي كان عبارة عن مجموعات مختلفة في انتماءاتها العشائرية، والعرقية، وفي ثقافاتها، وتفكيرها، وتاريخها. فهنالك العربي، والفارسي، والنبطي، والحجازي، واليماني، كما أن فيهم البدوي والحضري، والمسلم وغير المسلم، وغير ذلك من فئات جاءت من مناطق شتى، ولها ميزات، وخصائص متفاوتة.
وفي نص آخر: أنهم لم يتربوا على يد زعيم واحد، يغذيهم بفكره، ويطبعهم بمنهجه، ويؤثر في نفوسهم وطبائعهم، وعقولهم. ولم يكن لهم آمال مشتركة ولا هموم متجانسة، ولا ثقافات منسجمة.
ولم يكن زعماؤهم ـ العشائريون، وغيرهم يملكون مستوى ثقافياً
10 ـ الخسائر في الحروب:
إن هذه الحروب قد كانت لها آثار كبيرة على مختلف شرائح المجتمع العراقي.. لا سيما مع طول أمدها، ومع ما حملته من ويلات وخسائر كبيرة في الأرواح قد تصل إلى عشرات الألوف، ففي صفين بلغت الخسائر خمسة وعشرين ألفاً من جيش علي (عليه السلام)، وخمسة وأربعين ألفاً من جيش معاوية(1) بالإضافة إلى عشرات ألوف أخرى من القتلى ـ في حرب الجمل.
11 ـ العرب والموالي:
وقد بلغت المشاعر القبلية، والروح العشائرية حداً جعل البعض يقول: غلب على الكوفة طابع الحياة الجاهلية(2).
وحتى الشعبي الذي يفترض أن يكون على درجة من الوعي، وأن ينأى بنفسه عن حالات التعصب غير المقبول إسلامياً وإنسانياً، وأخلاقياً. إن الشعبي هذا الذي كان قاضي الكوفة في عهد عمر بن عبد العزيز، يصرح بما تكنه نفسه، من أن الموالي بغضوا إليه المسجد، حتى
____________
(1) راجع صفين للمنقري ص558.
(2) حياة الشعر في الكوفة ص181 عن شوقي ضيف في كتابه: التطور والتجديد في الشعر الأموي ص80 و81.
ويريد الشعبي بالمسجد هنا المسجد الكبير في الكوفة، بحكم كونه قاضيا في ذلك البلد، ويفترض فيه أن تكون صلاته في ذلك المسجد. وإذا به يوجه إهانة وقحة جدا لذلك المكان المقدس!! نعوذ بالله من الزلل في القول والعمل..
ولم يقتصر الأمر على هذا المسجد، بل إن مسجداً آخر في الكوفة كان قد بلغ من ظهور شخصية الموالي فيه أن أصبح حوالي منتصف القرن الثاني يقال له: مسجد الموالي(2).
وكان الجيش الذي أرسله المختار ليمكر بابن الزبير مؤلفاً من ثلاثة آلاف رجل أكثرهم من الموالي، ليس فيهم من العرب إلا سبع مئة(3).
كما أن عدد الموالي الذين حاربوا في صفوف ساداتهم مع ابن الأشعث قد بلغ مئة ألف(4).
وكتب سعيد بن العاص لعثمان بن عفان بعد سنة ثلاثين للهجرة:
«.. إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغُلب أهل الشرف منهم والبيوتات، والسابقة، والقدمة.
والغالب على تلك البلاد روادف ردفت، وأعراب لحقت، حتى ما ينظر إلى ذي شرف، ولا بلاء من نازلتها، ولا نابتتها»(5).
ويذكر البعض: أن الموالي في الكوفة كانوا أكثر من نصف
____________
(1) طبقات ابن سعد ج6 ص175 وحياة الشعر في الكوفة ص170.
(2) حياة الشعر في الكوفة ص170 عن تاريخ الأمم والملوك ج3 ـ ق1 ص295.
(3) حياة الشعر في الكوفة ص168 عن تاريخ الأمم والملوك ج2 ـ ق2 ص289.
(4) حياة الشعر في الكوفة ص168 عن تاريخ الأمم والملوك ج2 ص1072.
(5) حياة الشعر في الكوفة ص161 عن تاريخ الأمم والملوك ج1 ـ ق5 ص2852.
ويذكر ابن مطيع أنه كان مع المختار خمسة مئة من مواليهم، وأنهم قد أمروا عليهم أميراً منهم(2).
وكان أبو عمرو بن العلاء، يقول لأهل الكوفة: «لكم حذلقة النبط، وصلفهم»(3).
خلاصة.. وبيان:
وبعد ما تقدم نقول: إن الواقع الذي كان يعيشه الشعب العراقي لم يكن في صالح أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكن قد كان على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يستفيد من هذه القوى المتوفرة لديه قدر الامكان فلم يكن لديه خيار آخر، إذ لا مجال لأن يأتي بالملائكة مثلاً ليحاربوا الطغاة والمتجبرين من أجل إقامة هذا الدين.
وهذا بالذات هو ما واجهه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث كان لابد له من أن يستفيد من القوى المتوفرة، من موقع الهيمنة والرقابة، على أن يمارس أمر الإصلاح تدريجاً بالصورة المناسبة والمجدية.
كما أن الأمر قد استمر على هذه الحال، إلى ما بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فابتلي الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه بنفس هذه التركيبة العراقية، التي يصورها لنا النص التالي:
____________
(1) حياة الشعر في الكوفة ص168.
(2) حياة الشعر في الكوفة ص168 عن تاريخ الأمم والملوك ج2 ـ ق2 ص627..
(3) حياة الشعر في الكوفة ص154 عن البيان والتبيين ج2 ـ ص106.
وبعضهم محكمة [أي خوارج]، يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة.
وبعضهم أصحاب فتن.
وطمع في الغنائم.
وبعضهم شكاك.
وأصحاب عصبية، اتبعوا رؤساء قبائلهم، لا يرجعون إلى دين»(1).
____________
(1) راجع: أعيان الشيعة ج1 ـ ص568 وكشف الغمة للإربلي ج2 ـ ص165 والإرشاد للمفيد ص193..
الفصل الثالث:
تأثيرات سياسات عمر
في العراقيين
التمييز العرقي:
وإذا كان العراق على اتصال مباشر بغير العرب، قبل الإسلام وبعده؛ فإنه ولاشك قد أصبح يتميز بحساسية خاصة، تجاه أي شيء من شأنه أن يضرب على وتر التمييز العرقي، وإعطاء الامتيازات لفريق دون فريق على أساس الاختلاف في الانتماءات العرقية.
كما أنهم بعد أن قتلوا من غير العرب، وقتل غير العرب منهم، فسيصبحون أكثر حساسية تجاه من سفكوا دماء أحبائهم بالأمس. وتتأكد وتبرز هذه الحساسية حين يعيش الجميع في بلدٍ واحد، ويواجه بعضهم بعضاً يومياً، ولسوف يجعل تلك الحساسية تتنامى وتتعاظم باستمرار. كلما حصل أي احتكاك ولأي سبب كان..
ولعل تولي أبي موسى الأشعري عليهم في عهد عمر بن الخطاب، وفي السنين الأخيرة من عهد عثمان، وهو الرجل الذي كان عمرياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى وهذه هي سياسة عمر ونظرته إلى الموالي ـ لعل توليه عليهم ـ قد ساعد على تركيز هذه الأحاسيس، وهذه السياسات فيهم إلى حد كبير.
وما ذلك.. إلا لأن من يتبنّى أمراً كهذا لسوف يجد آذاناً صاغية، ونفوساً مهيأة، ومستعدة لمتابعة هذا الخط وحمايته، حيث إنه ينسجم
قلة من كان مع علي (عليه السلام):
ولأجل ذلك نجد: أن الناس كانوا يحافظون على خط الخلفاء الذين سبقوا أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويلتزمون بمنهجهم، حتى ليقول (عليه السلام)، وهو يتحدث عن أمور يرغب في إزالتها:
«.. لو حملت الناس على تركها، وحولتها إلى مواضعها، وإلى ما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي، وقليل من شيعتي، الذي عرفوا فضلي، وفرض إمامتي..»(1).
وهذا النص يفيدنا: أنه (عليه الصلاة والسلام) كان في قلة قليلة، ممن كانوا يعرفون فرض إمامته وفضله وسيأتي المزيد مما يدل على ذلك أيضاً. كما أنه يدلل بصورة واضحة على شدة تمسك الناس بسنة الذين سبقوه، مهما كانت مخالفة لما كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم، وللأحكام الإسلامية الثابتة بصورة قطعية.
عظمة عمر بن الخطاب في العرب:
ومهما يكن من أمر.. فإن الخليفة الثاني كان ـ ولاشك ـ يتمتع بعظمة خاصة في نفوس الناس عامة، والعراقيين بالخصوص.
ولعل من أسباب ذلك سياساته القاضية بتمييز العرب على غيرهم، وسياساته في العطاء، بالإضافة إلى أنه قد كان ثمة نشاطات واسعة يقوم بها أشياعه ومحبوه، الذين هم بصورة طبيعية خصوم لعلي وأهل بيته
____________
(1) الكافي ج8 ص 59 و63.
خطة معاوية في مواجهة علي (عليه السلام):
وقد كان من خطة معاوية إشاعة وترويج الفضائل للشيخين وتعظيمهما، ويقول: «فإن ذلك أحب إلي، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله»(1).
ولعل السبب هو أن علياً (عليه السلام) سوف لا يوافق على انسياق الناس وراء سياسات انتهجها الخلفاء، مهما اشتدت مطالبتهم له بذلك، ولسوف يوجب ذلك له الكثير من المشاكل والعقبات.
هذا عدا عن أنه كان يسعى إلى أن يظهر علياً (عليه السلام) على أنه هو السبب في مقتل عثمان، ويتهمه بأنه كان معجباً بنفسه، مدلاً بقرابته من الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنه كان لا يرى حتى لأبي بكر، شيخ مشيخة الصحابة بزعمه، وصاحب الغار حقاً في الخلافة، ولذا كان علي (عليه السلام) بزعمه ـ يحقد على أبي بكر ومن لف لفه من الصحابة، ويبغي لهم الغوائل، حتى أثرت مشاغباته!! وأدت إلى مقتل عثمان المظلوم؛ فهو (عليه السلام) كان من أول الأمر من المفسدين ـ والعياذ بالله ـ حتى لقد قال معاوية له (عليه السلام): «أفنسيت أنك كنت تقاد للبيعة كما يقاد الجمل المخشوش؟»(2).
____________
(1) النصائح الكافية ص72 و73 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج11 ص44.
(2) تقدم النص عن نهج البلاغة، راجع المصدر السابق.
معاناة علي (عليه السلام):
ولمزيد من التوضيح نقول:
ألف: إنه يكفي أن نذكر: أنه قد بلغ من عظمة عمر بن الخطاب في العرب: أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لم يستطع أن يمنع جنده من صلاة التراويح، قال (عليه السلام):
«.. وتنادى بعض أهل عسكري، ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام، غيرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري»(1).
وفي نص آخر: أنهم سألوه أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان، فزجرهم، وعرفهم: أن ذلك خلاف السنة، فتركوه، واجتمعوا لأنفسهم، وقدموا بعضهم؛ فبعث إليهم ولده الحسن ليفرقهم؛ فلما رأوه تبادروا إلى أبواب المسجد، وصاحوا: وا عمراه(2).
ولعل أول من صاح بذلك هو قاضيه شريح(3).
ب: وحينما أراد أن يعزل شريحاً عن القضاء، قال له أهل الكوفة:
____________
(1) الكافي ج8 ص59 و63.
(2) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج2 ص283 وج1 ص269 والصراط المستقيم ج3 ص26 وتلخيص الشافعي ج4 ص58 والبحار ـ ط قديم ج8 ص284 وراجع: الجواهر ج21 ص337 والوسائل باب 10 من أبواب نافلة شهر رمضان، كتاب الصلاة.
(3) رجال المامقاني ج2 ص83.
وواضح: أنه لم يكن ثمة شرط من هذا القبيل، وإنما هم يعبرون عما استقر في أنفسهم، وعقدوا عليه عزمهم.
ج: وقال الأشعث بن قيس لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالنسبة لإرسال أبي موسى الأشعري إلى التحكيم: «.. وهذا أبو موسى الأشعري، وافد أهل اليمن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصاحب مغانم أبي بكر، وعامل عمر بن الخطاب»(2).
وذكر ابن أعثم أن عمرو بن العاص خطب يوم التحكيم، فكان مما قال: «أيها الناس، هذا عبد الله بن قيس، أبو موسى الأشعري، وافد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعامل عمر بن الخطاب، وحكم أهل العراق، وقد خلع صاحبه الخ..»(3).
د: ويذكرون أيضاً: أن ابن عباس، قد أشار على أمير المؤمنين (عليه السلام) بإبقاء معاوية على الشام، واحتج لذلك بقوله: «فإن عمر بن الخطاب ولاه الشام في خلافته»(4).
وحينما عاتب أمير المؤمنين (عليه السلام) الخليفة الثالث عثمان بن عفان في أمر تولية معاوية للشام، قال له عثمان: «أنكرت علي استعمال
____________
(1) رجال المامقاني ج2 ص83.
(2) الإمامة والسياسة ج1 ص230 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص231 وصفين ص502. وفيه: أن ابن الكوارء هو الذي قال ذلك. وفي الفتوح لابن أعثم ج4 ـ ص2: أن الأشعث والذين صاروا خوارج فيما بعد قد قالوا ذلك.
(3) الفتوح لابن أعثم ج4 ص31 والأخبار الطوال ص210 وعن تاريخ الأمم والملوك.
(4) الفصول المهمة لابن الصباغ ص49..
قال علي (عليه السلام): نشدتك الله، ألا تعلم: أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه؟ إن عمر كان إذا استعمل عاملاً وطأ على صماخه الخ..»(1).
وفي نص آخر: أن عثمان قال له: «ألم يولّ عمر المغيرة بن شعبة، وليس هناك؟
قال: نعم.
قال: أولم يولّ معاوية؟
قال علي: إن معاوية كان أشد خوفاً وطاعة لعمر من يرفأ. وهو الآن يبتز الأمور دونك الخ..»(2).
هذا.. وقد احتج معاوية نفسه على صعصعة وأصحابه بنصب عمر له؛ فليراجع(3).
وقد شجع بسر بن أبي أرطأة معاوية على الصبر والثبات، فكان مما قال: «فإنك كاتب النبي (صلى الله عليه وآله) وعامل عمر بن الخطاب، وولي الخليفة المظلوم عثمان»(4).
____________
(1) شرح النهج للمعتزلي الحنفي ج9 ص24..
(2) أنساب الأشراف ج5 ـ ص60 والكامل لابن الأثير ج3 ـ ص152 وتاريخ الطبري ج3 ص377 وتاريخ ابن خلدون ج2 ـ قسم2 ص143 والغدير ج9 ـ ص160 عنهم وعن تاريخ أبي الفداء ج1 ص 168 والنصائح الكافية ص174.
(3) تاريخ الطبري ج3 ص316 والكامل لابن الأثير ج3 ص143 والغدير ج9 ص35 شرح النهج المعتزلي ج1 ص158 و160 تاريخ ابن خلدون ج1 ص387 و389 وعن تاريخ أبي الفداء ص168.
(4) الفتوح لابن أعثم ج3 ص209.
وفي حرب الجمل أيضاً:
هـ: بل إن طلحة والزبير، اللذين قاتلا أمير المؤمنين (عليه السلام) بأهل البصرة العراقيين، حينما قال لهما (عليه السلام): «.. ما الذي كرهتما من أمري، ونقمتما من تأميري، ورأيتما من خلافي؟! قالا: خلافك عمر بن الخطاب، وأئمتنا وحقنا في الفيء الخ..»(1).
و: ونادى أصحاب الجمل أيضاً بأمير المؤمنين: «أعطنا سنة العمرين»(2).
عظمة عمر لدى «الخوارج»:
ز: وقال «الخوارج» لقيس بن سعد: «لسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر. فقال: والله ما نعلم على الأرض مثل عمر، إلا أن يكون صاحبنا ».
وحسب نص الطبري: «ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟!»(3).
ح: وحينما أراد «الخوارج» إقناع بعض زعمائهم وهو زيد بن حصين بقبول الولاية عليهم، اجتمعوا إليه، وقالوا له: «أنت سيدنا وشيخنا، وعامل عمر بن الخطاب على الكوفة، تولّ الخ..»(4).
ط: ولما خرجت «الخوارج» من الكوفة، أتى علياً أصحابه، وشيعته،
____________
(1) المعيار والموازنة ص113.
(2) الكامل للمبرد ج1 ص114.
(3) الأخبار الطوال ص207 وتاريخ الطبري ج4 ص62 والكامل لابن الأثير ج3 ص343 وأنساب الأشراف، [بتحقيق المحمودي] ج2 ص370 و371 ونهج البلاغة ج7 ص143..
(4) الثقات ج2 ص295 والخوارج والشيعة ص71.
فقال ربيعة: على سنة أبي بكر وعمر.
فقال له علي (عليه السلام): ويلك، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله، لم يكونا على شيء من الحق.
فبايعه ربيعة.
ونظر إليه علي (عليه السلام)، فقال: أما والله، لكأني بك، وقد نفرت مع هذه «الخوارج»، فقتلت، وكأني بك، وقد وطأتك الخيل بحوافرها.
فقتل يوم النهروان..
قال قبيصة: فرأيته يوم النهروان قتيلاً، قد وطأت الخيل وجهه وشدخت رأسه، ومثلت به، فذكرت قول علي، وقلت: لله در أبي الحسن ما حرك شفتيه قط بشيء إلا كان كذلك(1).
ي: وقد استعمل قطري رجلاً من الدهاقين، فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطرياً فقالوا: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقارّ عماله على مثل هذا، فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات، فأوغر ذلك صدورهم وبلغ المهلب ذلك الخ..(2).
____________
(1) الإمامة والسياسة ج1 ص146 وراجع: تاريخ الطبري ج4 ص56، وبهج الصباغة ج7 ص179 وراجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام). ص103 والكامل لابن الأثير ج3 ص337.
(2) شرح النهج للمعتزلي ج4 ص203.
وقد اختاره نجدة للإجابة على مسائله، فكتب إليه [أي إلى ابن عمر]، يسأله عن أشياء في الفقه، ولكنها كانت أسئلة عويصة، فترك الإجابة عنها إلى ابن عباس(1).
عمر يحترم قاتل علي (عليه السلام):
ر: وقبل أن نواصل الحديث نحب أن نسجل هنا: أن عمر بن الخطاب كان يكنّ الكثير من الاحترام والتقدير لعبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، الذي صار فيما بعد من «الخوارج»، وقتل أمير المؤمنين علياً (عليه السلام).
ولعل هذا هو أحد أسباب احترام «الخوارج» للخليفة الثاني، وتعظيمهم له، يقول النص التاريخي: «وقيل: إن عمر كتب إلى عمرو، أن قرّب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد؛ ليعلم الناس القرآن والفقه؛ فوسع له؛ فكانت داره إلى جنب دار عديس»(2).
وثمة نص آخر يشير إلى أن عمرو بن العاص كان أيضاً يحترم ابن ملجم، وينسجم معه حيث يقال: «إن عمرو بن العاص، أمره بالنزول بالقرب منه، لأنه كان من قراء القرآن»(3).
كما ونلاحظ هنا: أن عداوة عبد الرحمن لأهل البيت (عليهم السلام) قد كانت
____________
(1) الخوارج والشيعة ص71.
(2) لسان الميزان ج3 ص440.
(3) لسان الميزان ج3 ص440.