«دخل علينا ابن ملجم الحمام، وأنا وحسن وحسين جلوس في الحمام؛ فلما دخل كأنهما اشمأزا منه، وقالا: ما أجرأك! تدخل علينا؟ فقلت لهما: دعاه عنكما؛ فلعمري، ما يريد منكما أجشم [أجسم] من هذا.
فلما كان يوم أتي به أسيراً، قال ابن الحنفية: ما أنا اليوم بأعرف به مني يوم دخل علينا الحمام.
فقال علي (عليه السلام): إنه أسير؛ فأحسنوا الخ..»(1).
وثمة شواهد أخرى:
ش: بقي أن نشير إلى أن ثمة شواهد كثيرة أخرى على هذا الأمر، لم نذكرها، لأنها ليس فيها ما يشير إلى حدث من نوع ما مع علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).
ويكفي أن نذكر: أن عمر بن الخطاب كان ـ بسبب سياساته تلك يُفضَّل على أبي بكر، منذ عهد عمر بالذات، حتى اضطر إلى إنكار ذلك،
____________
(1) الطبقات الكبرى، لابن سعد ج3 ص23 وترجمة الإمام علي لابن عساكر ج3 ص298 وأنساب الأشراف ج2 [بتحقيق المحمودي] ص501/502 وكنز العمال ج5 ص175 والمناقب للخوارزمي ص283.
كما أن يزيد بن المهلب قد وعد الناس بالعمل بسنة العمرين(2).
وقد احتج الحجاج في مسألة عقاب الوالي غير العادل، فكان من ذلك قوله: «إني لأحبّ إليّ أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولاً، من أن أحشر معكم مطلقاً»(3).
ولسنا هنا في صدد تتبع ذلك واستقصائه، فإنه كثير جداً وأكثر مما يتوقع.
____________
(1) البداية والنهاية ج3 ص180 ومنتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد ج4 ص348 وحياة الصحابة ج1 ص340 عنهما وعن كنز العمال ج7 ص335 عن البغوي.
(2) محاضرات الأدباء ج2 ص188.
(3) بهج الصباغة ج7 ص144 عن العقد الفريد.
الفصل الرابع:
من معاناة أمير المؤمنين (عليه السلام)
الحروب الطويلة:
لقد طال أمد الحروب على العراقيين وكانت تحمل لهم خسائر كبيرة، وويلات كثيرة.. وقد بلغت تلك الخسائر عشرات الألوف في حربي الجمل وصفين.
ويكفي أن نذكر: أنه حينما رجع علي (عليه السلام) من صفين مرّ ببيوت الثوريين، فسمع البكاء على قتلاهم في تلك الحرب، ثم مر بغيرهم؛ فكذلك.. فلما وصل إلى الشباميين سمع مثل ذلك أيضاً، وأخبروه: أنه قد قتل من الشباميين مئة وثمانون، فليس من دار إلا وفيها بكاء(1).
أما آثار تلك الحرب على الصعيد الاجتماعي، والمادي، والسياسي، فهي أيضاً كبيرة وخطيرة، فهناك أيتام وأرامل، وشهداء. وهناك أسر تمزقت، أو تلاشت. بالإضافة إلى مشاكل حياتية ومعيشية، وخلافات عائلية وعاطفية وعلاقات أًصيبت بانتكاسات وكوارث.
نعم.. وهذا ما يفسر لنا قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة: «أيها
____________
(1) تاريخ الطبري ج4 ـ ص45 والمعيار والموازنة ص193 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص83.
وحينما طلب الحرورية منه (عليه السلام) نقض العهد، ورفض التحكيم، والخروج مجددا إلى صفين، قال لهم علي (عليه السلام): «هذا حيث بعثنا الحكمين! وأخذنا منهم العهد، وأعطيناهموه؟!! هلاّ قلتم هذا قبل؟!
قالوا: كنا قد طالت الحرب علينا، واشتد البأس، وكثر الجراح، وحلا الكراع، والسلاح. فقال لهم: أفحين اشتد البأس عليكم عاهدتم؛ فلما وجدتم الجمام قلتم: ننقض العهد؟! إن رسول الله كان يفي للمشركين: أفتأمرونني بنقضه»(1).
وفي مقابل ذلك نجد معاوية في الشام يبذل الأموال، ويشتري دين الرجال، ويمد يده إلى الذين حول أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيعدهم ويمنيهم، ويغريهم بالمناصب، والولايات، والأموال.. ويستجيب له عدد من رؤساء القبائل في العراق، سراً وجهراً، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر بصورة مباشرة على معنويات الذين كانوا يتعاملون معه (عليه السلام) كخليفة له في عنقهم بيعة، وهم الأكثرون، لا كإمام مفترض الطاعة، وهم الأقلون.
وبكلمة.. فإن أهل الشام يعتبرون قضية معاوية قضيتهم، وليس كذلك أهل العراق..
____________
(1) بهج الصباغة ج7 ص161/162 عن ابن ديزيل في صفين وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص310.
العراقيون.. يجهلون علياً (عليه السلام):
وبعد.. فإن جهل الناس وخصوصاً العراقيين بعلي (عليه السلام)، وبمزاياه وفضائله، وجهاده، وبأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم فيه قد كان من أهم أسباب عدم الانقياد له، حيث كان يراه الناس رجلاً عادياً كسائر من عرفوه من رجال الحكم والسياسة، فهو عندهم يخطئ ويصيب، ويحب ويبغض، ويعدل ويظلم، ويحسد ويحقد، ويطيع ويعصي، فلم تكن له تلك القدسية في نفوسهم، ولا كانوا يثقون به ثقة مطلقة، تخولهم اتباعه فيما أحبوا وكرهوا.
وقد كانت سياسة الذين سبقوه هي محو ذكره (عليه السلام)، وطمس مزاياه وفضائله، ولم تكن معه إلا ثلة قليلة من العارفين به، والمعتقدين بإمامته سرعان ما التهمتهم الحروب الضارية، وقد كان (عليه السلام) يتلهف عليهم، ويتأسف على فقدهم، فهو يقول:
«أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة، وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد، فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه»(1).
وحول محاولات خصومه (عليه السلام) محو ذكره، وإذهاب صوته وصيته، نجد المعتزلي الحنفي يقول:
«وهذا يدلك على أن علياً (عليه السلام) اجتهدت قريش كلها، من مبدأ الأمر في إخماد ذكره، وستر فضائله، وتغطية خصائصه، حتى محي فضله ومرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلاً منهم»(2).
____________
(1) نهج البلاغة شرح محمد عبده خطبة رقم177 مطبعة الاستقامة.
(2) شرح النهج للمعتزلي ج8 ص18..
«لأن علياً دحضه الأوّلان، وأسقطاه، وكسرا ناموسه بين الناس؛ فصار نسياً منسياً، ومات الأكثر ممن يعرف خصائصه، التي كانت في أيام النبوة وفضله. ونشأ قوم لا يعرفونه، ولا يرونه إلا رجلاً من عرض المسلمين، ولم يبق مما يمتّ به إلا أنه ابن عم الرسول، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، ونسي الناس ما وراء ذلك كله. واتفق له من بغض قريش وانحرافها ما لم يتفق لأحد الخ..»(2).
بل إن بعض النصوص تشير إلى أن الناس كانوا لا يطيقون سماع شيء من فضائله، ويرون الخوض فيها بلا فائدة ولا عائدة، فقد قال جندب بن عبد الله في حديث له: «فانصرفت إلى العراق، فكنت أذكر فضل علي على الناس؛ فلا أعدم رجلاً يقول لي ما أكره، وأحسن ما أسمعه قول من يقول: دع عنك هذا وخذ في ما ينفعك. فأقول: إن هذا مما ينفعني وينفعك، فيقوم عني، ويدعني»(3).
وهو (عليه السلام) نفسه يقدم لنا أوضح صورة للحال التي كان عليها صلوات الله وسلامه عليه، فإنه هو نفسه (عليه السلام) يقول، وهو يجيب على سؤال: لو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم مات وترك ولداً، أكانت العرب تسلم إليه أمرها..
____________
(1) المصدر السابق ج9 ص25..
(2) المصدر السابق ج9 ص28/29.
(3) المصدر السابق ج9 ص58.
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، والتي لا مجال لتتبعها.
وأما السبب في أنهم قد أخفوا فضائله (عليه السلام)، فهو إما العداوة والحسد، أو الخوف، أو ما إلى ذلك. حتى إذا ما أراد هو نفسه أن يذكرّ الناس بتلك الفضائل، أو يذكرها لهم؛ فإنهم يرمونه بأنه أراد بذلك الافتخار والإدلال، والتكبر، أو يكذبونه في ذلك، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
قلة المخلصين في جيش علي (عليه السلام):
من جهة أخرى: فإن أولئك الذين حاربوا علياً (عليه الصلاة والسلام) في الجمل، والذين كانوا يتعاطفون مع عثمان في محنته، قد أصبحوا الآن ولأكثر من سبب في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام)، يحاربون معه عدوه، ويدافعون عن قضيته!!
وواضح أنهم، أو كثيراً منهم، كانوا لا يمتلكون حداً معقولاً من الروادع الدينية والوجدانية.
____________
(1) المصدر السابق ج20 ص298/299.
ولأجل ذلك وسواه من أسباب، فلا يجب أن نتوقع من هؤلاء: أن يكونوا متحمسين كثيراً لمقارعة أعدائه (عليه السلام)، ومنازلة خصومه تحت رايته، وبزعامته، ولا كان لديهم ذلك الحماس للدفاع عن الحق والدين، والمثل العليا.
والنصوص التي تشير إلى قلة المخلصين في جيش أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كثيرة. وقد صرح البعض بأنه قد كان في جيش علي المخلص والمدخول(1).
وقال (عليه الصلاة والسلام)، وهو يدافع عن الأشتر: «وأما ما ذكرتم من خلافه علي، وتركه أمري، فليس من أولئك، ولست أخافه على ذلك. وليت فيكم مثله اثنان، وليت فيكم مثله واحد، يرى في عدوكم مثل رأيه، إذن لخفَّت علي مؤونتكم»(2).
وبعد، فإننا لا نبعد كثيراً إذا قلنا: إن الحجاج بن الصمة كان يقصد أمثال هؤلاء، بل العراقيين بصورة عامة، حينما قال لمعاوية محرضاً له على طلب الخلافة، بعد عثمان: «.. وإني أخبرك، أنك تقوى بدون ما يقوى، لأن معك قوماً لا يقولون إذا سكت، ويسكتون إذا نطقت، ولا يسألون إذا أمرت، ومع علي قوم يقولون إذا قال ويسألون إذا سكت»(3).
وآية ذلك هو الحوادث الكثيرة التي نجدها في التاريخ، ومنها قضية
____________
(1) الفتنة الكبرى ج2 ص81.
(2) المعيار والموازنة ص183/184.
(3) الأخبار الطوال ص155.
وقد لاحظ ذلك يوليوس فلهوزن فهو يقول: «إن «الخوارج» في العراق يحاربونه حرباً شديدة. وكان أهل البصرة متراخين متثاقلين عن نصرته إذا استثنينا أشخاصاً قلائل مثل أبي الأسود الدؤلي.. وكان أهل الكوفة معه بأهوائهم، ولكنهم لم يكونوا معه بكل قواهم. وكان بينهم بعض المحاربين وبعض المائلين إلى عثمان. ولحق بعضهم بمعاوية»(2).
«ومن مظاهر الفساد في معسكر علي (عليه السلام) كثرة تدخل الجنود في شؤون قائدهم؛ فكانوا يلاحقون كل رسول يروح ويجيء ويظنون بأميرهم الظنون. بينما كانت رسل معاوية تروح وتجيء فلا يسأل أصحابه عن سبب ذهابهم، وأخبار عودتهم»(3).
حالة البصرة بالخصوص:
وعن خصوص البصرة نقول:
إنها كانت قادرة على أن تجند عشرات الألوف قد تزيد على ستين ألف مقاتل، ولكن رغم ذلك لا ينفر منهم إلى علي (عليه السلام) سوى ألف وخمسمائة، وبعد التهديد والوعيد ينضم إليهم مثلهم(4).
____________
(1) راجع الأخبار الطوال ص197/198.
(2) تاريخ الدولة العربية ص94.
(3) الخوارج في العصرالأموي ص69 والطبري ج6 ـ ص 3351 ط ليدن.
(4) تاريخ ابن خلدون ـ ج2 ـ قسم2 ص179 وتاريخ الطبري ج4 ص58 والكامل لابن الأثير ج3 ص340 والإمامة والسياسة ج1 ص144/145.
ولعل بعضهم كان من بني تميم أيضاً، بتأثير من جارية بن قدامة والأحنف بن قيس.
ومما يدخل في هذا السياق أننا نلاحظ: أن خوارج الكوفة كانوا أقل عدداً بالنسبة لخوارج البصرة(1) ولعل حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهم وسيرته فيهم، قد أثرت في الكوفيين، فمنعتهم من الانسياق الشديد نحو التأثر بالإعلام المعادي، فإنهم كانوا يلمسون الكذب والافتراء، والتزوير، أكثر من غيرهم.
وعلى كل حال.. فإننا نجد عمرو بن العاص يقول: «أهل البصرة مخالفون لعلي، قد وترهم وقللهم، وقد تفانت صناديدهم، وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل»(2).
ويقول الأصمعي: «البصرة عثمانية من يوم الجمل»(3).
فترى ابن العاص يشير إلى أن سرّ انحراف البصرة عن علي (عليه السلام) هو تأثرهم بما جرى يوم الجمل.
وقد جاء قول ابن عبد ربه أكثر صراحة هنا حيث قال: «إذ قاموا مع
____________
(1) العراق في العصر الأموي ص242.
(2) تاريخ الطبري ج3 ص562 والكامل لابن الأثير ج3 ص279.
(3) روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص67 والعقد الفريد ج6 ص248.
ولبني عدي بن عبد مناف مسجد بالبصرة ينتاب وينزل به، ويقال: إن جمل عائشة عقر في موضعه، فابتني على ذلك(2).
الكوفة في عهد أمير المؤمنيين (عليه السلام):
أما الكوفة فإن: «أهلها أخلاط من الناس على حد تعبير اليعقوبي»(3).
كما أن حي الناعطيين كان جلُّهم من العثمانية(4).
وكانت باهلة تعادي علياً(5)، وكرهت الخروج معه إلى صفين(6).
ولما ذهب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) إلى قتال أهل النهروان كانت قبيلتا غني وباهلة تدعوان الله أن يظفر به عدوه(7).
ويقول الثقفي:
«كان بعض العثمانية ـ وهم جند علي (عليه السلام) ـ يتجسسون الأخبار لمعاوية. وكان أبو بردة ابن عوف الأزدي يكاتب معاوية من الكوفة؛ فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة، وكان كريماً عليه»(8).
____________
(1) العقد الفريد ج6 ص248.
(2) ربيع الأبرار ج1 ص307.
(3) كتاب البلدان ص309.
(4) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص45 والكامل في التاريخ 0 ج3 ص325.
(5) الغارات ج1 ص20 و21 والبحار [طبعة حجرية] ج8 ـ ص556 ونقل عن ج9 ص458.
(6) صفين للمنقري ص116 والأمالي للطوسي ج1 ص116 والأمالي للشيخ المفيد ص200/201 وبصائر الدرجات 759.
(7) الغارات ج1 ص18 والبحار ج8 ص556.
(8) الشيعة في التاريخ ص43 عن شرح النهج للمعتزلي ج1 ص185 و257.
وقد تقدم: أن جلَّ أهل الكوفة وقرّاءها كانوا مخالفين لعلي (عليه السلام)، وأن من كان يعتقد بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) من العراقيين كانوا لا يبلغون خمسين رجلاً.
بل لقد روي عن المفضل بن قيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كم شيعتنا بالكوفة؟
قال: قلت: خمسين ألفاً.
قال: فمازال يقول: حتى قال: أترجو أن يكونوا عشرين؟!
ثم قال (عليه السلام): «والله، لوددت أن يكون بالكوفة خمس وعشرون رجلاً يعرفون أمرنا الذي نحن عليه، ولا يقولون علينا إلا بالحق»(2).
وهذا الكلام إنما صدر بعد أن شاع وذاع: أن الكوفة علوية الاتجاه. فأّنيَّ لك بالحقبة التي سبقت ذلك؟!
ومهما يكن من أمر فإن من المؤكد: أن جماعة العثمانية كان لا يزال لهم وجودهم المؤثر إلى زمان خلافة الإمام الحسن (عليه السلام)،
____________
(1) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص346.
(2) صفات الشيعة ص14/15.
كما أن قراء الكوفة كانوا في أصل نشأتهم تابعين لابن مسعود(2) الذي كان إلى عمر وسياساته أميل منه إلى علي (عليه السلام). بل لقد محى صحيفة جاءت من اليمن كان فيها أحاديث حول أهل البيت (عليهم السلام)(3).
والكل يعلم ما كان لهؤلاء المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام) من دور في إفشال خطط الإمام الحسن (عليه السلام)، وتقوية أمر معاوية، حتى انتهى الأمر إلى المعاهدة وتسليم الأمر إلى معاوية.
آثار حرب صفين، والتحكيم:
أما حرب صفين: فقد رأى العراقيون أن نتائجها لم تكن لصالحهم؛ فقد لقي عبد الله بن وديعة الأنصاري علياً (عليه السلام) على مشارف الكوفة؛ فسايره، «فقال علي (عليه السلام): ما سمعت الناس يقولون؟
قال: يقولون: إن علياً كان له جمع عظيم؛ ففرقه، وكان له حصن حصين؛ فهدمه الخ..»(4).
____________
(1) الشيعة في التاريخ ص44 ـ عن الأغاني ج11 ص116.
(2) راجع: حياة الشعر في الكوفة، ص246 عن الإتقان، ج1 ص73 وعن طبقات ابن سعد، ج6.
(3) تقييد العلم ص54 والسنة قبل التدوين ص312 وراجع غريب الحديث لابن سلام ج4 ص48 وليس فيه أن الأحاديث في أهل البيت (عليهم السلام).
(4) الفصول المهمة لابن الصباغ ص82 وراجع: تاريخ الطبري ج4 ص44 والكامل لابن الأثير ج3 ـ ص323 وصفين للمنقري ص529.
وربما نجد المبررات الموضوعية للقول: إن محاربة العراقيين لمعاوية كانت عن خوف ووجل.. فقد قال عمرو بن العاص لمعاوية في صفين، حين مرت ليلة الهرير: «أرى أن رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله؛ فهو يقاتلك على أمر، وأنت تقاتله على أمر آخر. إن أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون من علي إن ظفر بهم..»(2).
والفقرة الأخيرة تشير إلى أن عدل علي (عليه السلام) قد كان معروفاً ومعترفاً به، ومشهوداً حتى من أعدائه أهل الشام.
وبعد.. «فقد خرج الناس إلى صفين وهم أحباء متوادون، ورجعوا وهم أعداء متباغضون، يضطربون بأسياط الخ..»(3).
وتقدم قول علي (عليه السلام) لابن الحر «إني آخذ بأنفاس هؤلاء، فإن تركتهم وغبت عنهم كانت الفتنة في هذا المصر أعظم من الحرب بينهم وبين أهل الشام، ولكني أسرح أبا موسى الخ..»(4).
وقال صالح بن كيسان: «إن علياً لما كتب كتاب القضية نفروا من ذلك؛ فحكم من حكم منهم، ثم افترقوا ثلاث فرق، فرجعت فرقة منهم
____________
(1) راجع: تاريخ الطبري ج4 ص43 و44 والكامل لابن الأثير ج3 ص323 وصفين للمنقري ص529.
(2) حياة الحسن بن علي (عليه السلام) للقرشي ج1 ص241 وصفين للمنقري ص476 و477.
(3) أنساب الأشراف، [بتحقيق المحمودي] ج2 ص342.
(4) المصدر السابق ص346.
فحتى الأحنف إذن، كان قد مال إلى رأي «الخوارج»، وانجرف في تيارهم، فما ظنك بسواه.
حروب الإخوة:
ثم تأتي حروب النهروان، حيث فرض فيها على العراقيين، الذين يفضلون رابطة الدم، على كل ما سواها، أن يحاربوا إخوانهم بالعصبية؛ حيث كان في صفوف هؤلاء «الخوارج»: من هم إخوانهم، وابناؤهم، وآباؤهم، وابناء العشيرة، حتى إن عدي بن حاتم، وهو من القواد المعروفين في جيش أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان ولده في جملة من قتل من «الخوارج»، وقد دفنه أبوه بعد انتهاء المعركة، ودفن رجال من الناس قتلاهم بإذن أمير المؤمنيين (عليه السلام)(2).
وطبيعي أن يتزايد لدى العراقيين شعور بالحزن والأسى إزاء حالة كهذه، وأن يكون لديهم شعور عميق بالضيق وسأم وتململ ثم صدود عن الاستمرار في طريق عسير وشاق كهذا، مع شعور بضرورة الخروج من هذه الحالة إلى ما يرون أنه الافضل والأسلم، لاسيما وأنه (عليه السلام) كان قد حارب أهل العراق أيضاً بأهل العراق في وقعة الجمل، ثم أهل العراق بأهل الشام في حرب صفين.
____________
(1) أنساب الأشراف، [بتحقيق المحمودي] ج2 ص342.
(2) راجع: تاريخ الطبري ج4 ص66 والكامل لابن الأثير ج3 ص348، وتاريخ ابن خلدون ج2 ـ قسم2 ص181 وتذكرة الخواص ص105.
قتل أماثلكم:
وبعد هذا.. فلقد كان هناك جهل شبه تام بالإسلام وبأحكامه، ولاسيما في الجانب السياسي منه.
قال ابن الإسكافي، وهو أبو القاسم، جعفر بن محمد الإسكافي(1).
«فلم يؤت علي رضي الله عنه في أموره لسوء تدبير كان منه، أو لغلط في رأي، غير أنه كان يؤثر الصواب عند الله في مخالفة الرأي، ولا يؤثر الرأي في مخالفة رضا ربه.
وقد كانت له خاصة من أهل البصائر واليقين، من المهاجرين، والأنصار، مثل: ابن عباس، وعمار، والمقداد، وأبي أيوب الأنصاري، وخزيمة بن ثابت، وأبي الهيثم بن التيهان، وقيس بن سعد، ومن أشبه هؤلاء من أهل البصيرة، واخترمهم الموت.
وحمل معه من العامة قوم لم يتمكن العلم من قلوبهم، تبعوه مع ضعف البصيرة واليقين، ليس لهم صبر المهاجرين، ولا يقين الأنصار؛ فطالت بهم تلك الحروب، واتصلت بعضها ببعض، وفني أهل البصيرة واليقين، وبقي من أهل الضعف في النية، وقصر المعرفة، من قد سئموا الحرب، وضجروا من القتل؛ فدخلهم الفشل، وطلبوا الراحة، وتعلقوا بالأعاليل الخ..»(2).
ولنا تحفظ على بعض من ذكر أنهم قد ماتوا وكانوا من أهل البصائر الذين كانوا مع علي (عليه السلام) فإن ابن عباس وأبا أيوب،
____________
(1) راجع كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج2 ص84 و85.
(2) المعيار والموازنة ص98.
(3) صفين للمنقري ص491 والمعيار والموازنة ص164 وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص219.
(4) نهج البلاغة، بشرح عبده ج2 ص130/131 ومصادر نهج البلاغة ج2 ص450/451 وفيه عن الزمخشري في ربيع الأبرار، باب التفاضل والتفاوت وهذا التفاوت موجود في عبارة الفتوح ج4 ص102.
هذا.. وقد جاء أن الأشتر، قال للمحكِّمة في صفين: «فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم متى كنتم محقين؟ الخ..»(1).
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له: «.. ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم، وهم بصفين، أن لا يكونوا اليوم أحياءاً، يسيغون الغصص، ويشربون الرنق؟ فقد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم.
أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم، من إخوانهم الذين تعاقدوا على النية، وأبردوا برؤوسهم إلى الفجرة.
(قالوا: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة؛ فأطال البكاء، ثم قال (عليه السلام):
أوّه على إخواني الذين قرؤوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة، وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد، فأجابوا، وثقوا بالقائد؛ فاتبعوه»(2).
وجاء في رسالة لعبد الله بن وهب الراسبي أرسلها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «فلما حميت الحرب، وذهب الصالحون: عمار بن ياسر، وأبو الهيثم ابن التيهان، وأشباههم، اشتمل عليك من لا فقه له في
____________
(1) صفين للمنقري ص491 والمعيار والموازنة ص164 وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص219.
(2) نهج البلاغة، بشرح عبده ج2 ص130/131 ومصادر نهج البلاغة ج2 ص450/451 وفيه عن الزمخشري في ربيع الأبرار، باب التفاضل والتفاوت وهذا التفاوت موجود في عبارة الفتوح ج4 ص102.
ثم يذكر قصة التحكيم، ويعترف بما كان منهم فيها فيقول: «وكانت منا في ذلك هفوة»(1).
فالواعون من أصحابه (عليه السلام)، المتقون، الذين عرفوا الحق، ووثقوا بالقائد وأحكموا القرآن، وأقاموا الفرض، وأحيوا السنة، وضحوا بأنفسهم في سبيل دينهم وعقيدتهم، وكانوا الحريصين على مستقبل الإسلام والإيمان. والذين كان لهم دور كبير في ربط الناس بالإمام، وتعريفهم على صواب موقفه، وتحريضهم على طاعته ونصرته، وكانوا أول من لبى نداءه.
وبقي الأراذل، ضعفاء البصيرة واليقين من أمثال الأشعث وغيره ممن لم يتمكن العلم من قلوبهم، والذين ظهر فيهم مصداق قوله (عليه السلام): «ما تتعلقون من الإسلام إلا باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه»(2).
وقوله (عليه السلام): «لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل»(3).
____________
(1) أنساب الأشراف، [بتحقيق المحمودي] ج2 ص370.
(2) نهج البلاغة ـ الخطبة رقم 192 بترقيم المعجم المفهرس.
(3) نهج البلاغة ـ الخطبة رقم 69.