الصفحة 89


الفصل الخامس:
سياسات علي (عليه السلام) في العراق





الصفحة 90

الصفحة 91

علي (عليه السلام) يفقه العراقيين:

هذا وقد بذل علي (عليه السلام) جهوداً كبيرة في تعليم أهل العراق، وتثقيفهم، حتى ليقول لهم: «وركزت فيكم راية الإيمان، وعرفتكم على حدود الحلال والحرام»(1).

كما أن أبا أيوب الأنصاري يقول لأهل العراق: «إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها، حيث نزل بين اظهركم ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخير المسلمين، وأفضلهم وسيدهم بعده، يفقهكم في الدين الخ..»(2).

كما أنه (عليه السلام) كان يعمل على أن يوضح لهم الضوابط العامة للسياسة الإسلامية، ومنطلقاتها، وأهدافها.

وتلك كلماته، وخطبه زاخرة بهاتيكم التعاليم، ومشحونة بتلكم المعاني.. ولا مجال لاستقصاء النقاط التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يهتم بالتركيز عليها، فإن ذلك يحتاج إلى توفر تام، وجهد مستقل.

____________

(1) نهج البلاغة ـ شرح عبده ج1 ص153.

(2) الإمامة والسياسة ج1 ص152/153.


الصفحة 92
ولكننا نلم ببعض النصوص التي تشير إلى شيء من ذلك، فنقول:

عدل علي (عليه السلام) وموقف زعماء القبائل:

قال أبو أيوب الأنصاري للعراقيين، المتقاعسين عن أمر الجهاد: «.. عباد الله، أليس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد، وشاع في الإسلام؛ فذو حق محروم، ومشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوءٍ بطنه وملقى بالعراء، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحق، ونشر العدل، وعمل بالكتاب، فاشكروا نعمة الله عليكم، ولا تتولوا مجرمين الخ..»(1).

نعم.. لقد عرف الناس كلهم العدل، وذاقوا طعم الحق والإيمان، في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي أفهم الناس جميعاً، ولاسيما رؤساء القبائل، وسواهم من أهل الأطماع، وأصحاب اللبّانات: أنه رجل لا مطمع فيه لأحد.. وأنه لم ولن يعمل بغير الحق.. وأصبح واضحاً للجميع: أنه لم يكن ليقيم وزناً يذكر للزعامات القبلية، ولا يبني علاقاته معها إلا على أساس ما تملكه من التزام، ومن معان إنسانية نبيلة، وما تقدمه من خدمات في سبيل الدين والإنسان، فلم يكن ليميز هذا على حساب ذاك، ولا يعطي أحداً ليحرم غيره، ولم يكن ليطلب النصر بالجور.

وحينما قال له الأشتر: «يا أمير المؤمنين، إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة والكوفة، ورأي الناس واحد، وقد اختلفوا بعد، وتعادوا، وضعفت

____________

(1) الغدير ج9 ص125 و359 ونهج السعادة ص529 والأمالي ص149 وعن الإمامة والسياسة ج1 ص112 وفي طبعة أخرى 128 وعن جمهرة الخطب ج1 ص236.


الصفحة 93
النية وقل العدد. وأنت تأخذهم بالعدل، وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف، فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عمّوا به، واغتموا من العدل إذ صاروا فيه. ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف؛ فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا، وقل من ليس للدنيا بصاحب. وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا. فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال. وتصف نصيحتهم لك، وتستخلص ودهم..»(1).

وفي نص آخر: أن طائفة من أصحابه (عليه السلام) مشوا إليه؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب، وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره.. وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال.

فقال لهم: «أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله لا أفعل ما طلعت شمس الخ..»(2).

وقالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): «نقموا منه والله نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله»(3).

«وروي عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني، عن فضيل بن

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص197.

(2) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص203 والإمامة والسياسة ج1 ص153.

(3) البحار ج43 ص158 و159 و160 و162 عن معاني الأخبار والاحتجاج، وأمالي الشيخ الطوسي، وكشف الغمة، وابن أبي الحديد عن الجواهري، وكشف الغمة ج1 ص492 والاحتجاج ج1 ص147 وشرح النهج المعتزلي ج16 ص233 والعوالم ص236 و238 و240.


الصفحة 94
الجعد، قال: آكد الأسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر المال؛ فإنه لم يكن يفضل شريفاً على مشروف، ولا عربياً على عجمي، ولا يصانع الرؤساء، وأمراء القبائل، كما يصنع الملوك، ولا يستميل أحداً إلى نفسه»(1).

نعم.. إن عدل علي (عليه السلام) قد أحفظ الزعامات القبلية، وأهل اللبانات والأطماع، واستطاع معاوية بأحابيله أن يصطاد طائفة منهم، ويكيد بهم علياً.. وفرّ بعضهم إليه الأمر الذي كانت له تأثيرات سيئة على نفوس الناس، ولاسيما عشائرهم.

وكلنا يعلم: أن مجمتع العراق لم يكن يتعامل مع الأمور من منطلق الفكر، والقناعات الوجدانية، والشعور بالمسؤولية الشرعية، وإنما من منطلق قبلي جاهلي، يعطي زعيم القبيلة كل الخيارات والاختيارات، وينفذ أوامره وإرادته، مهما كانت مخالفة لقناعات الفرد، وحتى لعواطفه وأحاسيسه.

وإذا كان زعماء القبائل قد وافقوا في بعض الظروف على نصرته (عليه السلام)، ومحاربة عدوه وعدوهم؛ فإن ذلك يعود إلى خوفهم من معاوية، إن ظفر بهم.. ومن أجل الوفاء بالبيعة التي كانت له (عليه السلام) في أعناقهم. أو طمعاً في الغنائم، أو في الولايات والرياسات، أو حمية، وعصبية، أو لغير ذلك من عوامل، لربما يجد المتتبع لها بعض الشواهد.

ولكن مما لاشك فيه هو: أن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وإن لم يستطع أن يرضي الزعامات القبلية، إلا أنه كان أحياناً يتعامل مع

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص197 وراجع: الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام) ص77 عن مصادر كثيرة وحياة الشعر في الكوفة ص169.


الصفحة 95
الناس من خلال تلك الزعامات، حيث لا يكون ثمة خيارات أخرى، تماماً كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم يحاول أن يستخدم الزعامات القبلية من أمثال أبي سفيان في تحقيق أهداف الإسلام العليا، وإن كان لم يكن يلزم نفسه بمنحها أية امتيازات على حساب الحق والعدل، ومصلحة الإسلام العليا، وخير المسلمين.

وهكذا.. ومن هذا المنطلق بالذات نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) في أول أمر «الخوارج» قد دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وكان قد وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي، مع عبد الله بن العباس؛ فقال لصعصعة: «بأي القوم وجدتهم أشد إطافة؟.

فقال: بيزيد بن قيس الأرحبي.

فركب علي (عليه السلام) إليهم إلى حروراء، فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس، ثم قال الخ..»(1).

ولا بأس بالتأمل هنا في سرّ كونه (عليه السلام) قد صلى ركعتين في مضرب يزيد بن قيس.

نعم.. إن أمير المؤمنين وإن لم يستطع أن يرضي الزعامات القبلية إلا أن سيرته (عليه السلام) وعدله قد نال مختلف طبقات الأمة، وذاق الناس طعم الإيمان، وحلاوة الإسلام، وحل لهم مشاكلهم، ورفع من مستوى

____________

(1) الكامل للمبرد ج3 ص211 وبهج الصباغة ج7 ص111 عنه. والكامل لابن الأثير ـ 3 ص328 وتاريخ الطبري ج4 ص41 منشورات الأعلمي حوادث سنة 37 ذكر الخبر عن اعتزال الخوارج علياً وشرح النهج للمعتزلي 2/278/279.


الصفحة 96
نضجهم ووعيهم، حتى ليقول الكميت رحمه الله:


ونعم طبيب الداء من أمر أمةتواكلها ذو الطب والتطبــب
ونعم ولي الأمر بعد وليــهومنتجع التقوى، ونعم المؤدب

ويقول رحمه الله تعالى عن أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:


ساسة لا كمن يرى النــاسسواء ورعية الأنعــــام
لا كعبد المليك أو كوليـــدأو سليمان بعد أو كهشــام
رأيه فيهم كرأي ذوي الثلـةفي الثائجات جنح الظـلام
جزّ ذي الصوف وانتقاء لذيالمخة نعقاً ودعدعاً بالبهـام

ويقول رحمه الله تعالى عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام):


والوصي الذي أمال التجوبيبه عرش أمة لانهـــدام

التجوبي: هو ابن ملجم.

ويقول أيضاً:


قتلوا يوم ذاك إذ قتــلوهحكماً لا كغابر الحكــــــام
راعياً كان مسجحاً ففقدناهوفقد المسيم هلك الســـــوام
نالنا فقده ونال سوانــاباجتداع من الأنوف اصطــلام

علي (عليه السلام) يعرف الناس بالإمامة:

وأما فيما يرتبط بتعريف الناس على أمر الإمامة، وبيان الزيف والافك الذي مورس تجاهها فقد حاول أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بكل وسيلة، أن يعرف الناس على الحق فيما يرتبط بالخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم.. وأن يعطي الناس صورة واضحة عن معنى

الصفحة 97
الإمامة وشؤونها، وشروط الإمام وما إلى ذلك.

وقد بلغه: أن الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم له (عليه السلام)، وتفضيله على الناس؛ فقال (عليه السلام): «أنشد الله من بقي، ممن لقي رسول الله صلى الله عليه، وسمع مقاله في يوم غدير خم»، ثم تذكر الرواية شهادة اثني عشر صحابياً له(1).

وفي بعض النصوص: أنهم كانوا بدريين(2).

وفي نص آخر: أنهم كانوا ثلاثين رجلاً(3).

ويبدو أن ذلك قد كان بعد حرب الجمل، أي بعد سنة 36ه. وحديث المناشدة هذا معروف، ومشهور جداً.. ويظهر أن التعرف على أكثر الرواة لحديث الغدير كان مبدؤه هو ذلك اليوم بالذات.

كما أنه (عليه السلام) قد استشهد لحديث الغدير مرة أخرى في صفين نفسها(4) ثم تبع ذلك استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) لحديث الغدير في منى، ثم استشهادات أخرى، ذكرها العلامة الأميني في كتابه القيّم: الغدير ـ ج1 ـ ص166 و186 عن مصادر كثيرة جداً. فليراجعها من أحب.

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص288 / 289 وفي هامشه عن الرياض النضرة ج2 ص169 وراجع: كتاب بحوث مع أهل السنة والسلفية، ففيه مصادر كثيرة، ودلائل الصدق. والبداية والنهاية، وغير ذلك.

(2) الغدير ج1 ص195 عن كتاب: سليم بن قيس. ومسند أحمد ج1 ص88.

(3) مسند أحمد ج4 ص370 ومجمع الزوائد ج9 ص104 والغدير ج1 ص174/175 عن مصادر أخرى.

(4) راجع: الغدير ج1.


الصفحة 98

علم الإمامة عند علي (عليه السلام):

كما أنه (عليه السلام) قد بذل محاولات وجهوداً كبيرة، من أجل تعريف الناس وإفهامهم: أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسلم قد اختصه دون كل أحد بالعلوم والمعارف، وأنه هو الذي يملك علم الإمامة حقاً دون سواه؛ فكان يكثر من قول: «سلوني قبل أن تفقدوني». كما أنه كان يكثر من الاخبارات الغيبية، حتى بلغت حداً جعل بعض الناس يتهمونه بالكذب [والعياذ بالله]. وقد سمع غلام [وهو أعشى همدان] حديثه فاعتبره حديث خرافة(1).

كما أن قوماً كانوا تحت منبره قالوا عنه، بعد أن ذكر لهم الملاحم: «قاتله الله، ما أفصحه كاذباً»(2).

وجرى له مرة أخرى ما يشبه ذلك أيضاً(3).

كما أنه (عليه السلام) قد خطب الناس وأخبرهم: أنه لو كسرت له الوسادة لحكم بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم «وما من آية في كتاب الله، أنزلت في سهل وجبل، إلا وأنا عالم متى أنزلت، وفيمن أنزلت».

فقال رجل من القعود تحت منبره: «يا لله، وللدعوى الكاذبة»(4).

وكان ميثم التمار سمع من أمير المؤمنين (عليه السلام) بعضاً من علم وأسرار خفية من أسرار الوصية «فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك قوم من

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص289.

(2) المصدر السابق ج6 ص136.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.


الصفحة 99
أهل الكوفة، وينسبون علياً (عليه السلام) في ذلك إلى المخرقة والإيهام والتدليس الخ..»(1).

كما انه هو نفسه (عليه الصلاة والسلام) قد ذكر أنهم يقولون فيه ذلك، فهو يقول: «والله، لو أمرتكم، فجمعتم من خياركم مئة، ثم لو شئت لحدثتكم إلى أن تغيب الشمس، لا أخبركم إلا حقاً، ثم لتخرجن، فتزعمن: أني أكذب الناس وأفجرهم»(2).

ولم يخل نهج البلاغة من إشارة لهذا الأمر أيضاً، ففي خطبة له يخاطب بها أهل العراق: «ولقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب. قاتلكم الله..»(3).

وقال المعتزلي في شرح قوله (عليه الصلاة والسلام): «أتراني أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والله، لأنا أول من صدقه؛ فلا أكون أوّل من كذب عليه»: «هذا كلام قاله (عليه السلام) لما تفرس في قوم من عسكره: أنهم يتهمونه فيما يخبرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) من اخبار الملاحم والغائبات، وقد كان شك منهم جماعة في أقواله، ومنهم من واجهه بالشك والتهمة»(4).

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص291.

(2) المصدر السابق ج6 ص128 عن الغارات للثقفي.

(3) نهج البلاغة، الخطبة رقم 70 حسب ترقيم المعتزلي، والاختصاص ص155 عن كتاب ابن دأب، والإرشاد للمفيد ص162 والاحتجاج ج1 ص255.

(4) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص286.


الصفحة 100
كما أن مالك بن ضمرة كان يخبر عن علي (عليه السلام) بأمر قاله بالنسبة إليه، وإلى اثنين آخرين «فكان من الناس من يهزأ به ويقول: هذا من أكاذيب أبي تراب»(1).

وعند المجلسي: أنه أخبره بما يجري على هانئ بن عروة فكان بعض الناس يهزأ الخ..(2).

وقال المعتزلي: «وكان كثيراً ما يخبر عن الملاحم والكائنات، ويومئ إلى أمور أخبره بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيقول المنافقون من أصحابه: يكذب، كما كان المنافقون الأولون في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولون عنه: يكذب!!»(3).

وعنه (عليه السلام) أنه قال: بعد أن ذكر (عليه السلام): أنه هو فقأ عين الفتنة ولم يكن يجرء عليها غيره: «.. فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء، فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مئة، وتضل مئة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ومن يموت منهم موتاً»(4).

قال المعتزلي: «ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقاً ».

وبعد أن ذكر طائفة كبيرة من إخباراته تلك قال: «لو أردنا

____________

(1) المصدر السابق ج2 ص295.

(2) البحار ج8 ص677 ـ ط حجرية.

(3) المصدر السابق ج6 ص128.

(4) نهج البلاغة ج1 ص183.


الصفحة 101
استقصاءه لكسرنا له كراريس كثيرة»(1).

هذا، وقد اعتمد (عليه السلام) في تعامله مع «الخوارج» على الاخبارات الغيبية بصورة ظاهرة ولافتة، كما سنرى في ما يأتي من فصول.

لقد ملأتم قلبي قيحاً:

والذي تجدر الإشارة إليه هنا هو: أن أمير المؤمنيين (عليه السلام) حين أراد أن يخبر الناس بالغيب، لم يقتصر على جعلهم يتصورونه، بل تجاوز ذلك، إلى مرحلة الحس، فجعلهم يلمسونه بأنفسهم ويميزون فيه الصدق من الكذب، والحق من الباطل.

ولكن المفاجأة الكبرى نجدها، حين نرى أن ذلك لم يكن يترك أثره المطلوب حتى إنه (عليه السلام) بعد أن أظهر لهم وأراهم بأم أعينهم الآيات والشواهد الحسية على صدق إخباراته الغيبية في أمر «الخوارج» بالذات ثم خطب الناس بالنخيلة، فقد: «قام إليه رجل منهم، فقال: ما أحوج أمير المؤمنين اليوم إلى أصحاب النهروان، ثم تكلم الناس من كل ناحية، ولغطوا»(2).

وما أشبه هذه القضية بما جرى لموسى مع بني إسرائيل، حيث إنهم حين فلق الله البحر لموسى، فصار كل فرق كالطود العظيم. ونجاهم الله من فرعون. وخرجوا من البحر وجدوا قوماً يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.

ويحق لعلي (عليه السلام) بعد هذا أن يقول لأهل العراق الذين لم

____________

(1) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج7 ص48 و49 و50.

(2) الشيعة في التاريخ ص42 عن شرح النهج للمعتزلي ج1 ص146.


الصفحة 102
يعرفوا إسلام علي (عليه السلام): لقد ملأتم قلبي قيحاً. وأن يتمنى أن يصارفه معاوية فيهم مصارفة الدينار بالدرهم، فيأخذ منهم عشرة، ويعطيه واحداً.. إلى آخر ما قدمناه من نصوص.

متى بدأ التشيع في الكوفة:

ومن الواضح: أن الكوفة بل والعراقيين عموماً ما كانوا قبل أن يأتيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه يعرفون علياً، فضلاً عن غيره من أهل البيت (عليهم السلام)، فضلاً عن أن يكون له (عليه السلام) نفوذ أو امتداد سياسي في ذلك المحيط الذي قدمنا بعض ما يشير إلى حالاته العامة.

بل يذكر المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة أنهم ما كانوا يعرفون عن علي (عليه السلام) إلا أنه ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله)، وزوج ابنته(عليه السلام).

وكانت سياسة الحكام الذين فتحوا العراق قبل علي (عليه السلام) هي إخماد ذكر علي (عليه السلام)، ومحوه من ذاكرة الأمة.

وظهر على الساحة ـ لأسباب مختلفة ـ آخرون، استأثروا باهتمام الناس. حسبما وصفه لنا أمير المؤمنيين (عليه السلام) نفسه، حيث يقول: «.. فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره، وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب»(1).

____________

(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 20 ص 299.


الصفحة 103
وقد تحدثنا عن سياستهم التي مارسها أعداؤه (عليه السلام) والقاضية بتجهيل الناس بمقام علي (عليه السلام) في كتابنا الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام) ـ ص86/90 ـ طبع دار السيرة.

ولكن مما لاشك فيه هو أن خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وكونه عاش في العراق هذه المدة الطويلة قد أسهم إلى حدّ كبير في إيجاد مناعة نسبية فيما يرتبط بالتأثر بالإعلام الهدام، الذي كانت قريش والأمويون، ومن لف لفهم، ومن جاء بعدهم يمارسونه ضد أمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام) وشيعتهم الأبرار.

وبدأ العراق بعد أن عرف شيئاً من الحقيقة، ورأى بنفسه سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في نفسه وفي أمته، ورأى سيرة خصومه، والمتحاملين عليه، وعرف مكانة علي (عليه السلام)، ومناقبه وفضائله التي جاءت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم، ونطق بها القرآن ـ نعم.. بعد ذلك بدأ العراق، ولاسيما الكوفة يتجه نحو التمسك بأهل البيت (عليهم السلام)، والاعتراف بحقهم، ثم الاعتقاد بإمامتهم الإلهية، وعلى رأسهم أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.

وقد بدأ التشيع يتنامى ويقوى في الكوفة بصورة تدريجية خصوصاً في أواخر خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد وفاته. حيث ذاق العراقيون طعم العدل وعرفوا معنى الزهد والالتزام بأحكام الدين. وعرفوا بتعليم أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه الأخيار لهم، الكثير الكثير من حقائق الإسلام، وتعاليمه ومعارفه وسياساته، وما إلى ذلك.

وأثمرت جهود علي وأهل البيت (عليهم السلام)، وبدأت بذرة التشيع تتنامى في الكوفة منذئذٍ، حتى اصبحت الكوفة علوية الاتجاه، كما

الصفحة 104
يقولون.

بل لقد قال الأصمعي: إن الكوفة صارت علوية من يوم استوطنها علي (عليه السلام)(1).

وعلى حد تعبير ابن عبد ربه: «الكوفة علوية؛ لأنها وطن علي رضي الله عنه وداره»(2).

ولكن من المعلوم أن هذه الثمرة قد جاءت ـ كما قلنا ـ في وقت متأخر بالنسبة لخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) أما في عهده، فقد قاتل عدوه، ولم يكن معه خمسون رجلاً يعرفونه حق معرفته، وحق معرفة إمامته..

وعليه فقول معمر: «عجبت من أهل الكوفة، كأن الكوفة إنما بنيت على حب علي، ما كلمت أحداً منهم إلا وجدت المقتصد منهم الذي يفضل علياً على أبي بكر وعمر، منهم سفيان الثوري»(3).

هذا القول إنما يعبر عن حقبة متأخرة جداً عن زمن حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما يشير إليه استشهاده بما يذهب إليه الثوري، الذي كان يعيش في القرن الثاني الهجري.

ويشير إلى ذلك أيضاً: أن عبد الله بن مطيع، الوالي من قبل ابن الزبير أراد أن يسير فيهم بسيرة عثمان وعمر، فرفضوا ذلك وقالوا: إنهم يرضون بأن يسير فيهم بسيرة علي (عليه السلام)(4).

____________

(1) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار ص67.

(2) العقد الفريد ج6 ص248.

(3) البداية والنهاية ج8 ص11.

(4) أنساب الأشراف ج 5 ص220 ـ 221 والكامل في التاريخ ج 4 ص 213 وتاريخ

=>


الصفحة 105

وعي العراقيين يضايق الحكام:

وقد كان الحكام المنحرفون يتضايقون جداً من وعي العراقيين المتنامي هذا، ولم يكن يروق ذلك لهم على الإطلاق، حتى لقد صرح معاوية حينما واجهته تلك المرأة المجاهدة، عكرشة بنت الأطرش بكلماتها القوية.. صرح بقوله: «هيهات، يا أهل العراق، نبهكم علي بن أبي طالب، فلن تطاقوا»(1).

ولكن تعاطف الكوفة مع أهل البيت (عليهم السلام) وتمنياتهم وآمالهم بوصول بعض أهل البيت (عليهم السلام) إلى الحكم قد كانت تصطدم بالواقع الصعب وبالعقبات الكبيرة والخطيرة، وذلك حينما يلامس الواقع حياتهم فيحاولون الهروب وتقع الكارثة.

وعلى كل حال.. فإننا نكتفي هنا بهذا القدر، إذ أننا لسنا هنا في صدد تتبع المسيرة التاريخية لظهور، ثم رسوخ التشيع في العراق، وفي الأمة بصورة عامة، فإن ذلك يحتاج إلى توفر تام، ووقت طويل.

العراقيون وزهد علي (عليه السلام):

قد عرفنا فيما سبق أن من الأمور التي لا مجال لإنكارها هو أن علياً قد ترك أثراً ظاهراً على العراقيين في عقلياتهم، وفي مفاهيمهم، ونفسياتهم، وغير ذلك من الجهات والحالات. وذكرنا آنفا قول معاوية لعكرشة بنت الأطرش.

____________

<=

الأمم والملوك ج 3 ص 490.

(1) العقد الفريد ج2 ص112 وبلاغات النساء ص104 ـ ط سنة 1972م وصبح الأعشي ج1 ص300.


الصفحة 106
«هيهات يا أهل العراق، نبهكم علي بن أبي طالب. فلن تطاقوا».

ولم يقتصر الأمر في هذا التأثير على الجانب السياسي. بل هو تأثير شامل وفاعل في مختلف الجهات والحالات وليست حالة الزهد والعزوف عن الدنيا بالتي تستثنى من ذلك، ويكفي أن نذكر هنا. ما قاله الدكتور يوسف خليف:

«كان أكبر صحابي نزل الكوفة، واتخذ منها وطناً له، وحاضرة لخلافته، وهو علي بن أبي طالب، مثلاً عالياً من أمثلة الزهد، والتقشف، بل النموذج الكامل من بين الخلفاء الأولين، والصحابة لحياة الزهد.

وكان أهل الكوفة ينظرون إليه على أنه مثلهم الأعلى في كل شيء. وعلى أنه زعيمهم السياسي، وإمامهم الروحي، فكان من الطبيعي أن يتأثروا به في حياتهم، وأن يتخذوا منه مثلاً يحذون حذوه، ويتأسون به في زهده وتقشفه»(1).

فوارق بين زهد علي (عليه السلام) وزهد غيره:

وغني عن القول: أن الزهد العراقي الذي وفد عليه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وتعامل معه، يختلف عن الزهد الذي نشأ برعاية علي (عليه السلام)، ومن خلال التأسي به، صلوات الله وسلامه عليه.

فقد كان زهد علي (عليه السلام) ينطلق من موقع التمازج الواعي بين المعارف الإيمانية والفكر الصحيح، وبين المزايا الروحية، والنفسية، ليصوغ المشاعر والأحاسيس بصورة سليمة وقويمة ولتتكون الشخصية النموذج للمسلم الواعي والملتزم، والعارف بالله سبحانه، وبما يريده منه

____________

(1) حياة الشعر في الكوفة ص197 و198.


الصفحة 107
في هذه الحياة، بكل امتداداتها الصحيحة، والمتخذة على أساس عقيدي واضح وراسخ.

أما الزهد الذي واجهه علي (عليه السلام)، وتجلى في «الخوارج»، فقد كان منشؤه الجهل، الذي انقلب إلى أشكال وحركات انتجت حالة من الغرور والصلف والعجرفة، والصدود عن الحق، وعدم التفاعل مع كلمة الحق، والخير والصلاح.

إن الزهد الذي بثه ورعاه علي (عليه السلام)، لم يكن هروباً من المسؤولية، ولا كان غروراً واندفاعاً غير مسؤول. في مواقع الجهل ومزالق الهوى.. بل كان هو الزهد الهادف والمسؤول الذي يعي بعمق حقيقة هذه الحياة، ودوره فيها. لينطلق لبنائها على أساس الهيمنة عليها، والتحكم بها، وليس زهده هو الخنوع والخضوع، والانسحاب من الساحة، بل هو المواجهة والتحدي والتضحية ورفض الانحراف، ومواجهة الظلم بكل مظاهره وأشكاله. قال جولد تسيهر: «أن الميل إلى الزهد كان مرتبطاً بالثورة على السلطان القائم»(1).

نعم.. ولكنها ليست ثورة الفوضى بل ثورة العمل بالتكليف الشرعي، والامتثال للحكم الإلهي.

التأثير المسيحي في الزهد العراقي:

ويحاول البعض أن يعزو زهد العراقيين إلى تأثرهم بالمحيط المسيحي الذي كان يكتنف مجتمع الكوفة(2).

____________

(1) حياة الشعر في الكوفة ص120 عن العقيدة والشريعة في الإسلام ص130.

(2) حياة الشعر في الكوفة ص198 و199.


الصفحة 108
ولكن «الواقع ينكر ذلك، فلم يعرف الزهاد المسلمون نظام الرهبانية المسيحي. ولم يعرفوا حياة الأديرة والصوامع. ولم يحرموا على أنفسهم الزواج. ولم يبتعدوا عن المشاركة في الحياة العامة»(1). وإن كان هنالك بعض من التأثير، والتأثر في ذلك(2).

ولربما يكون هذا النحو من الفهم لحقيقة الزهد لدى أهل العراق قد تأثر بالرغبة في إبعاد هذا الأمر عن أن يكون بتأثير من أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) فيهم.

ونجد لهذا النحو من السعي لتغيير الحقائق بتأثير من حب إقصاء علي وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم وشيعته الأبرار عن دائرة التأثير تجليات في شتى الاتجاهات حيث يجد الباحث أكثر من شاهد ودليل.

____________

(1) حياة الشعر في الكوفة ص199.

(2) حياة الشعر في الكوفة ص198 و201.