الباب الثاني:
الخوارج: تاريخ.. وأحداث
الفصل الأول
ظهور الخوارج
بداية:
إن ظهور «الخوارج» في مناسبة حرب صفين لم يكن أمراً عفوياً، ووليد ساعته. وإنما قد كان ثمة أجواء ومناخات، وكذلك عوامل وأسباب ساعدت على ظهورهم.
وقد تقدم في الباب الأول ما يفيد في هذا المجال، وسنجد في هذا الكتاب الشي الكثير مما يشير إلى ذلك أيضاً. ونريد أولاً أن نقدم موجزاً عن مرحلة ظهورهم العلني، ليكون القارئ على بصيرة من أمره..
فنقول:
ظهور «الخوارج»:
الخوارج: فرقة ظهرت في النصف الأول، من القرن الأول الهجري، وبالتحديد في مناسبة حرب صفين، التي دارت رحاها بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، الخليفة الشرعي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، من جهة، وبين معاوية بن أبي سفيان، الرجل الباغي الذي كان يحاول الاستئثار بأمر الأمة لنفسه، من جهة أخرى.
وقد أحدثت هذه الخدعة زلزالاً في جيش علي (عليه السلام)، حيث أدت إلى إجابة أكثر ذلك الجيش إلى حكم المصحف ـ على حد تعبيرهم ـ وبقي (عليه السلام) مع أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم في عدة يسيرة، يواجهون تهديدات أولئك الانفصاليين بنفس المستوى أو أشد من التهديد الذي كان يواجههم به جيش أهل الشام.
ولم يكن يحق له (عليه السلام) أن يلقي بهذه الصفوة إلى التهلكة، كما ذكره (عليه السلام) في احتجاجه على «الخوارج» حين قال لهم: «.. وأما قولكم: إني لم أضربكم بسيفي يوم صفين، حتى تفيئوا إلى أمر الله، فإن الله عز وجل يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(1) وكنتم عدداً، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة»(2).
تركيبة الفئة الرافضة للقتال:
وعن تركيبة الفئة الرافضة لقتال أهل الشام نقول: إنه قد يكون في تلك الجماعة عناصر مدسوسة، ترى أن من مصلحتها تحريك الحوادث في هذا الاتجاه، أو ذاك.. وأخرى لم تستطع فهم الموقف الصحيح والرسالي له (عليه السلام). ووقعت بالفعل تحت تأثير خدعة رفع
____________
(1) سورة البقرة ـ الآية 195.
(2) بهج الصباغة ج7 ص146 عن العقد الفريد.
وقد يكون ثمة فئة ثالثة قد قبلت التحكيم من موقع إحساسها بالضعف، والتخاذل والسأم من الحرب.
وقد يكون ثمة من يرغب حقاً في حقن الدماء، بأي ثمن كان.
ولكن مما لاشك فيه هو: أن فئة «الخوارج» كانت في جملة الفريق الرافض للقتال. والنصوص الدالة على ذلك تكاد لا تحصى، ولا مجال لحصر مصادرها، وسيمر على القارئ الكريم بعض منها، انشاء الله. بل هذا هو العنصر الأساس في خروجهم على أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).
التحكيم بنظر علي (عليه السلام):
وحين قبل علي (عليه السلام) بالتحكيم، تحت ضغط شبح الفتنة التي ظهرت ملامحها في جيشه، وكان عليه أن يمنع من وقوعها، فإنه قبل بالتحكيم الذي لو التزم الحكمان بشروطه، وفق ما يفرضه عليهما الواجب الشرعي لكانت نتيجته هي إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وذلك يعني ظهور علي (عليه السلام)، وظهور سلطانه ونصره، وخذلان معاوية وخطه الانحرافي واندحاره، وبوار حجته.
ولذلك نجد علياً (عليه السلام) يقول لأبي موسى بثقة وحزم: «أحكم بالقرآن، ولو في حز عنقي»(1).
وقال في خطبته لما استوى الصفان بالنهروان: «وأخذت على
____________
(1) راجع على سبيل المثال: أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص333.
خيانة الحَكَمين وظهور المحكِّمة:
ولكن الذي تبلور على أرض الواقع هو أن الحكمين: أبا موسى وعمرو بن العاص، لم يريدا أن يحكما بما يوجبه القرآن ـ كما دلت النصوص المتضافرة، فإن أبا موسى كان لا يحب علياً (عليه السلام)، وكان يرغب في سوق الأمور نحو تولية ابن عمر.. أما ابن العاص فكان همه سوق الأمور نحو معاوية، وإحكام الحيلة في هذا الاتجاه مهما كان الثمن، فكانت النتيجة هي فشل قضية التحكيم، وانتهى الأمر إلى تمكين معاوية من مواصلة بغيه، وعدوانه على الحق وعلى إمام الحق وعلى الدين.
ولكن ما يلفت النظر هنا، ويتسم بنوع من الطرافة هو أن أولئك الذين أجبروا علياً (عليه السلام) على قبول التحكيم، وهددوه بأن يسلموه إلى معاوية أو أن يفعلوا به كما فعلوا بعثمان ـ هم أنفسهم حين انقلبوا عليه ووقفوا لمعارضة التحكيم قد اعتبروا قبوله كفراً وكفروا علياً (عليه السلام) لقبوله به، وطلبوا منه (عليه السلام) أن يعترف بهذا الكفر، ثم أن يحدث توبة منه. وهذا ما صرحت به النصوص التاريخية والحديثية الكثيرة، واعترف به «الخوارج» أنفسهم كما هو معلوم ومشهور(2).
____________
(1) الموفقيات ص326 وأشار في الهامش إلى المصادر التالية: تاريخ الطبري 5/84 وشرح نهج البلاغة ج1 ص458 والإمامة والسياسة ج1 ص109 ومستدرك نهج البلاغة ص68.
(2) راجع على سبيل المثال لا الحصر: أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص370
=>
وقد ذكروا: أن من شعر أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وكان يردده، وذلك انهم ساموه أن يقر بالكفر ويتوب، حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال:
«أبعد صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والتفقه في الدين، أرجع كافراً؟! ثم قال:
يا شاهد الله علي فاشهد | إني على دين النبي أحمد |
وحين رجع (عليه السلام) إلى الكوفة، لم يدخل «الخوارج» معه، وساروا حتى نزلوا حروراء، وكانوا اثني عشر ألفاً، وقيل: ستة عشر ألفاً(3).
____________
<=
وتاريخ الأمم والملوك، ط الاستقامة ج4 ص34 و36 و62 و63 و48 والكامل في التاريخ ج3 ص344 و317 والخطط للمقريزي ج2 ص354 والعقد الفريد ج2 ص388 والملل والنحل ج1 ص115 والبداية والنهاية ج7 ص289 و274 وتذكرة الخواص ص59 و96 و100 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص217 و228 و274 ومناقب الإمام علي لابن المغازلي ص411 وبهج الصباغة ج7 ص99 و110 و111 و170 و129 و131 و167 عن الخلفاء، وكامل المبرد، وغيرهما والإمامة والسياسة ج1 ص149 والخوارج والشيعة ص25 و32 والفخري في الآداب السلطانية ص93/94 وأدب المعتزلة ص24 ونور الأبصار ص96 و97 و99 والثقات ج2 ص296 والفصول المهمة لابن الصباغ ص78 و79 و90 و92 والموفقيات ص326..
(1) الأخبار الطوال ص191.
(2) االبدء والتاريخ ج5 ص136 وراجع تاريخ بغداد ج1 ص160. ولعل هذا الشعر قد قاله أولا أبو طالب، ثم أخذه علي (عليه السلام) يتمثل به..
(3) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص278 وراجع: أنساب الأشراف ج2 ص369 والكامل في التاريخ ج3 ص189.
وسيأتي المزيد من الحديث حول هذه الأرقام.
ثم كانوا يسمعون أمير المؤمنيين (عليه السلام) الشتم، والتعريضات القاسية(2).
ثم تمادى بهم حقدهم وبغضهم لأمير المؤمنيين (عليه السلام)، ولم يقف عند حدّ الحكم عليه بالكفر والضلال ـ والعياذ بالله ـ وإنما تجاوز ذلك إلى حد: أنه كان يُخشى من أن ينبش «الخوارج» قبره، فعمّي عن الناس؛ فلم يعرف(3).
ولكن الحجاج لعنه الله قد حاول أن ينوب عنهم في هذه المهمة، فنبش ثلاثة آلاف قبر في الكوفة من أجل العثور على جثة أمير المؤمنيين (عليه السلام)؛ فلم يوفق لذلك(4).
«الخوارج» ليسوا أنصار الإمام (عليه السلام):
وإننا إذا لاحظنا ما تقدم: وما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ وهي نصوص كثيرة جداً لا يمكن حصرها، ولا استيفاء مصادرها ندرك أن ما يدعيه بعض «الخوارج» أنفسهم(5)، من أن «الخوارج» كانوا هم أنصار الإمام
____________
(1) راجع على سبيل المثال: البداية والنهاية ج7 ص270 و282.
(2) راجع أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص355 والبداية والنهاية ج7 ص282.
(3) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص497.
(4) مشهد الإمام علي في النجف ص121 ومنتخب التواريخ ص291.
(5) راجع كتاب: الخوارج هم أنصار الإمام علي؛ فإن مؤلفه قد حاول تزوير الحقيقة التاريخية.
إن هذه الدعوى تخالف البداهة التاريخية، وما هي إلا مجازفة في القول، وتجنٍّ على الحقيقة، وتزييف للواقع التاريخي.. لا تستند إلى دليل، ولا تعتمد على برهان.
غير أن «الخوارج» أنفسهم وكذلك بعض من يتعاطف معهم قد بذلوا محاولات يائسة لتبرئة ساحتهم، وإظهار مظلوميتهم، والإنحاء باللائمة، وتسجيل اتهام مباشر إن أمكنهم ذلك ضد أمير المؤمنيين (عليه السلام) بالذات.
وقد حاول بعضهم أن يستند إلى نصوص شاذة، ومريبة ذكرها مؤلف مجهول، أو يستشهد برواية تنسب إلى ابن عباس أو غيره، أو بنصوص ذكرها ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة(2).
علماً بأن ما ذكره ذلك المؤلف المجهول ورواية ابن عباس لا ينهض دليلاً على ما يدعون، إذ أن الظاهر هو أنهما يتحدثان عن مراحل لاحقة.. لا عما جرى بمجرد رفع المصاحف.
وأما ما ذكره ابن قتيبة، فإنه هو نفسه قد ذكر ما ينافيه ويدفعه في نفس ذلك الكتاب(3)، رغم الكلام الذي يدور حول نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة، أو حصول بعض التصرف فيه.
وربما يستدلون أيضاً بما رواه أحمد عن أبي وائل، من أن «الخوارج» قد طلبوا الهجوم على الذين اعتصموا بالتل، وذلك بعد القبول بالتحكيم
____________
(1) قضايا في التاريخ الإسلامي ص62 وراجع ص51 و52 و53 و71 و72.
(2) راجع: المصدر السابق.
(3) الإمامة والسياسة ج1 ص148.
ولكنه استدلال باطل.. إذ أن الرواية لم تذكر لنا شيئاً عن حقيقة ما جرى حينما رفعت المصاحف، فهل بادر علي (عليه السلام) للقبول من دون ضغوط من أحد، أو أنه قبل ذلك بعد أن اعتزله أكثر جيشه، ولم يبق معه سوى أهل بيته (عليهم السلام)، ونفر يسير، وهدده أولئك المعتزلون له بأن يسلموه إلى معاوية، وفرضوا عليه قبول التحكيم. فلابد من الرجوع إلى نصوص أخرى لتعرفنا بما جرى لنجد أن الذين فعلوا ذلك هم أنفسهم الذين عادوا واعترضوا عليه لقبوله منهم ما فرضوه عليه.
تبرئة «الخوارج»، وإدانة علي (عليه السلام):
ويدعي البعض: أن الأشعث بن قيس المتواطئ مع معاوية، هو الذي أرغم علياً (عليه السلام) على قبول التحكيم، ثم حرَّضه على قتل «الخوارج»، والوقيعة بهم في النهروان، وبذلك يكون قد حرمه من خيرة جنده، وأكثرهم إخلاصاً لقضيته(2).
ونقول:
إن هذا البعض يريد أن يظهر علياً (عليه السلام) على أنه لعبة بيد الأشعث، ثم هو يريد تبرئة «الخوارج» من جريمة الإصرار على علي (عليه السلام) بقبول التحكيم، ثم تكفيره لأجل هذا القبول بالذات.
وفي نص آخر: أنه قد أظهر «الخوارج» على أنهم الفئة المظلومة المعتدى عليها وأنهم قد ارتكبت جرائم خطيرة بحقهم.
____________
(1) مسند أحمد ج3 ص485 و486..
(2) راجع قضايا في التاريخ الإسلامي ص56 ونقله أيضاً عن البرادي ص66 وراجع أيضا: ص60 و79 و81.
ويزيد من قبح هذه الجريمة كونهم كما قرره هذا القائل هم خيرة جند علي (عليه السلام).
ومما يجعلها أكثر قباحة وبشاعة: أن هؤلاء هم أكثر جند علي اخلاصاً لقضيته (عليه السلام).
ونقول:
إنه لم يشر إلى سبب اعتزال هؤلاء الذين زعم أنهم من المخلصين لعلي في النهروان.
ولا اهتم بالنصوص المتواترة الدالة على أنهم هم الذين رفضوا الاستمرار في قتال معاوية، وفرضوا التحكيم على علي (عليه السلام)، ثم اعتبروا ذلك كفراً.
ومن أين عرف أن أهل النهروان هم خيرة جند علي (عليه السلام)؟! وكيف يستطيع التوفيق بين دعواه هذه، وبين قول الأشتر: إنهم أراذل أهل العراق، وذلك حينما قال لهم: قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم.
ولم يدلنا على مستنده العلمي القادر على ردّ كل تلك الحقائق التاريخية الدامغة، التي تناقضه وتنافيه.
كما أننا لا ندري ما السبب في اهتمام هذا الكاتب بتبرئة «الخوارج»، وتلميع صورتهم، ثم تجريم علي (عليه السلام)، واتهامه بارتكاب جريمة إبادةٍ للخيرة من جنده، ولأكثر الناس إخلاصاً لقضيته.
وكيف أصبح الذين كفرّوا علياً واعتزلوه، ونصبوا له الحرب أكثر الناس إخلاصاً للقضية.
تورية علي (عليه السلام)، وشائعات «الخوارج»:
ويدعي المعتزلي: أن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قد قال للخوارج كلاماً محتملاً لأكثر من وجه، ولكن الأشعث اضطره إلى التصريح، فكان ذلك سبب النهروان حيث ذكر أنه (عليه السلام) قصدهم إلى أماكن تجمعهم، وسأل أولاً عن الرجل الذي هم به اشد إطافة، فطلبوا منه أن يتوب، فقال لهم: «أنا استغفر الله من كل ذنب».
فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن علياً (عليه السلام) رجع عن التحكيم، ورآه ضلالاً. وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن تسمن الكراع، وتجبى الأموال، ثم ينهض بهم إلى الشام.
فلما طالبه الأشعث بذلك أعلن بتكذيبه، فخرجت حينئذٍ «الخوارج» من المسجد فحكّمت(1).
وقد اختصر ابن الأثير هذا الحديث بصورة أخلت بمضمونه، فراجع(2).
إذن، فقد تضمنت هذه الرواية أموراً هي:
1 ـ أن علياً (عليه السلام) قد مارس أسلوب التورية، لدرء الفتنة، دون أن يكون قد أظهر خلاف قناعاته، ودون أن يتنازل عن مبادئه.
2 ـ أن الأشعث قد مارس أسلوباً خبيثاً ألجأ أمير المؤمنيين (عليه السلام) إلى
____________
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص279 والحديث المذكور أوردناه مع مصادره في فقرة أخرى من هذا الكتاب، فراجع.
(2) الكامل في التاريخ ج3 ص328.
3 ـ إن «الخوارج» قد أشاعوا أمراً لم يتفوه به علي (عليه السلام) ولم يشر إليه، ولا يعبر عن حقيقة موقف علي (عليه السلام).
4 ـ إن علياً (عليه السلام) يبادر إلى مواجهة رأس «الخوارج» الذين هم به أشد إطافة؛ وذلك من أجل أن يحسم مادة النزاع، بقطع رأس الافعى، حيث إن سقوط هذا الرأس لا يبقي لهم أي عذر أو مبرر للتشكيك والخلاف، حيث لا يبقى أمامهم أشخاص آخرون يرون أنهم أدرى من زعيمهم الأكبر بالمصلحة، واعرف بواقع الأمور.
وكذلك لا يبقى ثمة من يقدر على اجتذاب الناس إليه، بإثارة الشبهات، وإعطاء أمل كبير بنصرٍ يطمحون إليه، أو حلم عذب يراودهم، يأملون تحقيقه في يوم من الأيام.
استطراد يفيد في جلاء الصورة:
وإن تزوير «الخوارج» للحقائق، لا يحتاج إلى مزيد بيان ولم يكن هذا التزوير المشار إليه في هذه الرواية هو الوحيد في سلسلة أكاذيبهم ويكفي أن نذكر أنهم أنفسهم يعترفون: بأنهم كانوا إذا كان لهم هوى في أمر صيروه حديثاً..
وقد استمرت عملية التزوير والتجني عبر الأحقاب والأجيال، حيث عمد مؤرخو «الخوارج» في الكتب التي وضعوها: «إلى التحامل على علي، وصوروه كقائد هزيل، متردد، ضعيف الشخصية، مسلوب الإرادة»(1).
____________
(1) قضايا في التاريخ الإسلامي للدكتور محمود اسماعيل ص66.
العجب هو الداء الدوي:
ولعل ما كان يتظاهر به «الخوارج» من عبادة، وصلاة كان يبعث في نفوسهم المزيد من العجب والغرور، حتى ليخيل إليهم أن ما يأتونه هو الصلاح والخير وأن ما يعتقدونه هو الصواب والحق الذي لا محيص عنه.. ويجب على كل أحد أن يلتزم به، وأن يتبعهم فيه.
أو على الأقل كانت العبادات القاسية لعدد منهم، بمثابة جرعةٍ للآخرين من شبابهم، تجعلهم يعيشون خيالات حالمة ولذيذة تزيدهم تصلباً في موقفهم، ورضا بنهجهم، واستسلاماً لما يدعونهم إليه أولئك الذين كانوا يتظاهرون بالعبادة والتقوى.
تبريرات «الخوارج»:
لقد ارتبك المحكِّمة «الخوارج» في تبرير موقفهم من أمير المؤمنين، وقد عرف عنهم أنهم قد برروا ذلك بأن علياً قد حكّم الناس في دين الله، وأن ذلك قد أوجب كفره وخروجه من الدين.. بل زادوا على ذلك: أنهم هم أيضاً قد كفروا معه حين أجبروه على قبوله. فلابد له ولهم من التوبة.. وهم قد تابوا وبقي عليه هو أن يفعل ذلك..
وقد أوضح لهم أمير المؤمنيين (عليه السلام)، وكذلك ابن عباس، أنهم مخطئون في تصورهم هذا، وأنه (عليه السلام) لم يحكم الرجال في دين الله، وإنما حكم القرآن.. وعلى فرض أنه قد حكم الرجال، فإن ذلك ليس بالأمر الموجب للكفر، إذ قد حكّم الله سبحانه الرجال في أكثر من مورد أشار القرآن إليه.
ومع أن «الخوارج» لم يجدوا ما ينفع في رد هذه الحجة، فإنهم
____________
(1) هذا التعبير يشير إلى أن كلمة «زعم» الموجودة في النص الثاني غير صحيحة، وأن الصحيح هو أنهم قالوا: إنه كان وصياً الخ..
(2) سورة آل عمران الآية 97.
(3) راجع: مناقب الإمام علي لابن المغازلي ص409 و413 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص192 والمسترشد في إمامة علي بن أبي طالب ص70 و71 والاحتجاج ج1 ص276 و278 والبحار طبعة حجرية ج8 ص561 وبهج الصباغة ج7 ص136 و171 و172 وعبارة الاحتجاج هكذا: «.. وأما قولكم: إني كنت وصياً، فضيعت الوصية، فأنتم كفرتم، وقدمتم علي، وأزلتم الأمر عني، وليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم، إنما يبعث الله الأنبياء، فيدعون إلى أنفسهم، وأما الوصي، فمدلول عليه الخ..»
علي (عليه السلام) يضيع الوصية:
وعلى كل حال.. فإن مما برر به «الخوارج» حربهم لعلي (عليه السلام) هو: أنه كان وصياً فضيع الوصية.. الأمر الذي يدل على مدى رسوخ أمر الوصية لعلي (عليه السلام) بالإمامة في قلوب الناس وعقولهم.. فقد ورد أن من جملة ما احتجوا به لحربهم إياه أن قالوا: «إنه كان وصياً، فضيّع الوصية».
أو قالوا ـ حسب نص آخر ـ: «زعم أنه وصي فضيّع الوصية».
فأجابهم (عليه السلام) بقوله: «أما قولكم: إني كنت وصياً، فضّيعت الوصية(1)، فإن الله عز وجل يقول: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)(2).
أفرأيتم هذا البيت لو لم يحج إليه أحد، كان البيت يكفر؟! إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلا كفر، وأنتم كفرتم بترككم إياي، لا أنا كفرت بتركي لكم»(3).
____________
(1) هذا التعبير يشير إلى أن كلمة «زعم» الموجودة في النص الثاني غير صحيحة، وأن الصحيح هو أنهم قالوا: إنه كان وصياً الخ..
(2) سورة آل عمران الآية 97.
(3) راجع: مناقب الإمام علي لابن المغازلي ص409 و413 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص192 والمسترشد في إمامة علي بن أبي طالب ص70 و71 والاحتجاج ج1 ص276 و278
=>
إحداهما: أن الوصاية التي يتحدثون عنها إنما هي وصاية إمامة وخلافة، لأن التحكيم إنما يضيع هذا النوع من الوصية، لأنه يهدف إلى إثبات الأحقية بالإمامة لأحد الفريقين، فهم يدعون على علي (عليه السلام) أنه بقبوله للتحكيم قد ضيع الوصية الثابتة له بنص من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وليس المراد تضييع الوصاية بأمور شخصية، لأن ذلك لا ربط له بالتحكيم..
وهذا المعنى هو الذي يقصد من الوصية حين تذكر في مقام الاحتجاج، ويترنم بها الشعراء.. كما سنرى..
الثانية: إنه يدل على أن أمر الوصاية لعلي (عليه السلام) قد كان من المسلمات في صدر الإسلام حيث كان الموالون لعلي (عليه السلام) يحتجون ويباهون بهذا الأمر، ولم نجد أحداً حاول إنكار ذلك، أو الاعتراض، ولو بمثل القول، بأن ذلك غير ثابت، أو أنه يحتاج إلى شاهد أو دليل.
الشعر.. والوصية:
وقد ذكر ابن أبي الحديد قائمة طويلة من الأشعار التي ذكرت أمر
____________
<=
والبحار طبعة حجرية ج8 ص561 وبهج الصباغة ج7 ص136 و171 و172 وعبارة الاحتجاج هكذا: «.. وأما قولكم: إني كنت وصياً، فضيعت الوصية، فأنتم كفرتم، وقدمتم علي، وأزلتم الأمر عني، وليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم، إنما يبعث الله الأنبياء، فيدعون إلى أنفسهم، وأما الوصي، فمدلول عليه الخ..»
ونحن نكتفي بما ذكره، ونقتصر على الأبيات التي هي محل الشاهد، فنقول:
قال عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
ومنا علي ذاك صاحب خيبـــر | وصاحب بدر يوم سالت كتائبه |
وصي النبي المصطفى وابن عمه | فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربـه |
وقال عبد الرحمن بن جعيل:
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظـــة | على الدين معروف العفاف موفقا |
علياً وصي المصطفى وابن عمه | وأول من صلى أخا الدين والتقى |
وقال أبو الهيثم بن التيهان، وكان بدرياً:
إن الوصي إمامنا وولينا | برح الخفاء، وباحت الأسـرار |
وقال عمر بن حارثة الأنصاري، وكان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل، وقد لامه أبوه (عليه السلام) لما أمره بالحملة، فتقاعس:
أبا حسن أنت فصل الأمور | يبين بك الحل والمحـــرم |
إلى أن قال:
فأعجلته والفتى مجمـــع | بما يكره الرجل المحجـــم |
سمي النبي وشبه الوصي(1) | ورايته لونها العنـــــدم |
وقال رجل من الأزد يوم الجمل:
هذا علي وهو الوصـــي | آخاه يوم النجوة النبــــي |
وقال: هذا بعدي الولـــي | وعاه واع ونسي الشقـــي |
وخرج يوم الجمل غلام من بني ضبة، شاب معلم، من عسكر عائشة
____________
(1) أي أن محمد بن الحنفية يشبه أباه الذي هو الوصي.