الصفحة 135

في حرب الجمل:

أما بالنسبة لما جرى في حرب الجمل، واعتراضهم على أمير المؤمنين (عليه السلام) في أمر الغنائم، فإنه صريح في حقيقة ما كان يعتلج في نفوسهم، وقد صرحوا به بعد التحكيم بعد خروجهم عليه صلوات الله وسلامه عليه..

فهؤلاء، قوم قد طغت عليهم أطماعهم، وكانوا يعانون من الجهل والغباء، ولاسيما بالنسبة للأحكام الإسلامية، ثم قلة الدين، لم يستطيعوا أن يفهموا سرّ حرمان علي (عليه السلام) إياهم من السبي مادام قد أعطاهم من الغنائم في حرب الجمل، أو أنهم لم يمكنهم تقبل هذا الحرمان:

يقول النص التاريخي: «.. فأتاهم علي في جيشه، وبرزوا إليه بجمعهم، فقال لهم قبل القتال: ماذا نقمتم مني؟!

فقالوا: أول ما نقمنا منك: أنا قاتلنا بين يديك يوم الجمل، فلما انهزم أصحاب الجمل أبحت لنا ما وجدنا في عسكرهم، ومنعتنا من سبي نسائهم وذراريهم؛ فكيف استحللت مالهم، دون نسائهم والذرية؟!

فقال: إنما أبحت لكم أموالهم بدلاً عما كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة، قبل قدومي عليهم، والنساء والذرية لم يقاتلونا. وكان لهم حكم الإسلام بحكم دار الإسلام، ولم يكن منهم ردّة عن الإسلام؛ ولا يجوز استرقاق من لم يكفر، وبعد.. لو أبحت لكم النساء، أيكم يأخذ عائشة في سهمه؟!

فخجل القوم من هذا الخ..»(1).

____________

(1) الفرق بين الفرق ص78 وراجع: الفتوح لابن اعثم ج4 ص122/123 وقرب الإسناد ـ ط حجرية ص62، والبداية والنهاية ج7 ص282 وراجع ص245 وفيها: أنهم سألوه

=>


الصفحة 136
وتذكر بعض المصادر أن اعتراضهم إنما كان على ابن عباس، فأجابهم بما ذكرناه آنفاً(1).

وفي نص آخر: أنه (عليه السلام) قال: «وإنما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم، فإن عدا علينا أحد منهم اخذناه بذنبه، وإن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره، يا أخا بكر،

____________

<=

أن يقسم فيهم أموال طلحة والزبير، فأبى فطعنوا عليه الخ، وذخائر العقبى ص232 وأنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص360 و262 والجمل ص216 و217 والمناقب لابن شهر آشوب ج1 ص268 وجواهر الأخبار والآثار المطبوع بهامش البحر الزخار ج6 ص417 عن المعتزلي الحنفي وغيره وص420/421 وأحاديث أم المؤمنين عائشة للعسكري ص181/182 وتاريخ الطبري ج3 ص545 و543 والكامل للمبرد ج3 ص238 والعقد الفريد ج4 ـ ص331 وتلبيس إبليس ص92 وكنز العمال ج11 ص309 و325 و326 و327 و330 والبحار طبع قديم ج8 ص564 و565 و570 و573 عن كشف الغمة وغيره، والمسترشد في إمامة علي بن أبي طالب ص70 وجامع بيان العلم ج2 ص127 و128 وترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق، [بتحقيق المحمودي] ج3 ص151 و156 والمصنف ج1 ص158 و159 ومستدرك الحاكم ج2 ص151 وتلخصيه للذهبي بهامش نفس الصفحة والخصائص للنسائي ص146 و148 والمناقب للخوارزمي ص184 والكامل لابن الأثير ج3 ص259 و255 والفصول المهمة لابن الصباغ ص66 و67 و93 و96، والإمامة والسياسة ج1 ص77 و149 وتذكرة الخواص ص99 وراجع ص105 وكشف الغمة ج1 ص265 والبدء والتاريخ ج5 ص223 و224 والفائق ج4 ص129 ومناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي ص408 و410 وبهج الصباغة ج7 ص171 و172 عن المسترشد. وراجع ص176 عن المبرد، والوسائل ج11 ص58 و59 ـ باب25 الجهاد حديث 5 و7. وجواهر الكلام ج21 ص336 و337.

(1) راجع: مجمع الزوائد ج6 ص240 وخصائص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للنسائي ص147 و148 والمناقب للخوارزمي ص184 و185 وترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق [بتحقيق المحمودي] ج3 ص151 وعن: البداية والنهاية ج7 ص276 و281 وعن تاريخ اليعقوبي ج2 ص167 وعن المناقب لابن شهر أشوب ج1 ص267.


الصفحة 137
لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل مكة، قسَّم ما حوى العسكر، ولم يعرض لما سوى ذلك، وإنما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل..» إلى أن قال: «فإن أنتم لم تصدقوني وأكثرتم علي، ـ وذلك أنه تكلم في هذا الأمر غير واحد ـ فأيكم يأخذ عائشة بسهمه»؟

إلى أن قالت الرواية: «وتنادى الناس من كل جانب: أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب الله بك الرشاد والسداد»(1).

وفي نص آخر: أن الخوارج «لعنوا علياً في تركه اغتنام أموالهم، وسبي ذريتهم، ونسائهم»(2).

من سيرة علي (عليه السلام) في حرب الجمل:

ولتوضيح ما صنعه علي (عليه السلام) في غنائم حرب الجمل، وهو ما أثار حفيظة «الخوارج» نقول: إنهم يقولون: إنه (عليه السلام): «لما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس فيه كادت أن تباع؛ فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، هذه الفرس لي كانت، وإنما أعرتها لفلان، ولم أعلم أنه يخرج عليها؛ فسأله البينة على ذلك؛ فأقام البينة: أنها عارية، فردها، وقسم ما سوى ذلك»(3).

ويقولون أيضاً: «.. فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم،

____________

(1) أحاديث أم المؤمنين عائشة ص181/182 عن كنز العمال ج8 ص215 و217 ومنتخبه ج6 ص315 و331 وراجع جواهر الأخبار والآثار المطبوع بهامش البحر الزخار ج6 ص420/421 والبحار ـ ط قديم ج8 ص564/565.

(2) الملل والنحل ج1 ص116 وأحاديث أم المؤمنين عائشة ج1 ص188 عنه وعن الفرق ص58 وعن التبصير ص27.

(3) الجمل ص216 و217.


الصفحة 138
والمتاع لا يعرض له أحد، إلا ما كان من السلاح الذي قاتلوا به، والدواب التي حاربوا عليها. الخ..»(1).

«وجمع ما كان في العسكر من شيء ثم بعث به إلى مسجد البصرة، أن من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان، فإنه مما بقي ما لم يعرف، خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال الله عز وجل، لا يحل لمسلم من مال المسلم المتوفى شيء، وإنما كان ذلك السلاح في أيديهم من غير تنفل من السلطان»(2).

وقال المسعودي: «.. وقبض ما كان في معسكرهم من سلاح، ودابة، ومتاع، وآلة، وغير ذلك، فباعه وقسمه بين أصحابه، وأخذ لنفسه، كما أخذ كل واحد ممن معه من أصحابه، وأهله، وولده خمس مئة درهم؛ فأتاه رجل من أصحابه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إني لم آخذ شيئاً، وخلفني عن الحضور كذا، وأدلى بعذره، فأعطاه الخمس مئة التي كانت له»(3).

نعم.. إن سيرة أمير المؤمنيين (عليه السلام) في مثل هذه المواقع هي سيرة الإسلام المحمدي الأصيل، وهي منة من الله سبحانه على عباده لابد لهم أن يعرفوها ويعترفوا بها ليخلصوا له العبادة، وليتحسسوا عظمة الإسلام، ولأجل ذلك نجده (عليه السلام) يسعى إلى تنبيه الناس إلى ذلك، فهو يقول:

____________

(1) الأخبار الطوال ص151.

(2) تاريخ الطبري ج3 ص543 وراجع ص545 وراجع البداية والنهاية ج7 ص245 والكامل لابن الأثير ج3 ص255 و259 والفصول المهمة لابن الصباغ ص67.

(3) مروج الذهب ج2 ص371.


الصفحة 139
«أرأيتم، لو أني غبت عن الناس من كان يسير فيهم بهذه السيرة؟!»(1).

وعن أبي البحتري قال: لما انهزم أهل الجمل قال علي: «لا يطلبن عبد خارجاً من العسكر. وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم. وليس لكم أم ولد. والمواريث على فرائض الله. وأي امرأة قتل زوجها فلتعتد أربعة أشهر وعشراً.

قالوا: يا أمير المؤمنين، تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا نساؤهم؟!

فقال: كذلك السيرة في أهل القبلة.

فخاصموه، قال: فهاتوا سهامكم، وأقرعوا على عائشة؛ فهي رأس الأمر، وقائدهم.

قال: ففرقوا، وقالوا: نستغفر الله!

فخصمهم علي»(2).

علي (عليه السلام) لم يخمس أهل الجمل:

ورووا أيضاً: «أن علياً لم يخمس أهل الجمل..»(3).

ولكن في نص آخر: أنه (عليه السلام) قال لهم حينما اعترضوا عليه: «وإن لكم في خمسه لغنى، فيومئذٍ تكلمت الخوارج»(4).

فالظاهر أن من قال إنه (عليه السلام) لم يخمس، يريد أنه لم يخمس

____________

(1) المصنف ج10 ص124.

(2) كنز العمال ج11 ص326 و327 عن ابن أبي شيبة.

(3) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص261.

(4) تاريخ الطبري ج3 ص545.


الصفحة 140
أموالهم التي لم يقاتلوا بها، ولم تكن في الغنائم.. وكذا لم يخمس السلاح الذي للسلطان لأنه أرجعه إلى بيت المال.

ومن قال إنه خمسهم مراده: أنه خمس الكراع والسلاح الذي قاتلوه به.

آخر الدعاوى:

وأخيراً نقول: إن البعض يحاول أن يدعي: أن من أهم عوامل نشوء «الخوارج» هو عبد الله بن سبأ، ومبادؤه، التي منها جرأته على الخلفاء والأئمة، والحكم بتكفيرهم(1).

ولعله أخذ ذلك من بعض المستشرقين الذي أثار هذه النقطة بالذات, ثم حاول مناقشة هذا الزعم، فكان مما ذكره:

أن «الخوارج» أنفسهم كانوا ينعتون خصومهم الشيعة في الكوفة بنعت السبئية تحقيراً وذماً لهم (2).

ونقول:

لا ندري من أين تأكد لهؤلاء: أن ابن سبأ قد ترك هذا الأثر العظيم في «الخوارج» وفي غيرهم، وبهذه السرعة الفائقة؟! حتى أصبحت نحلة السبأية ديناً شائعاً، ووصفاً مشيناً ينعت به هذا الفريق من الناس؛ وذاك؟!

وابن سبأ إنما غالى في أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلاقى جزاءه على يد أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه؟!

____________

(1) راجع: أدب المعتزلة ص27 و28 وهامش ص24.

(2) راجع: الخوارج والشيعة ص38. وارجع في الهامش إلى تاريخ الطبري ج2 ص43.


الصفحة 141
وحديث الجرأة على الخلفاء، والأئمة قد بدا من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما قيل له (صلى الله عليه وآله) وهو في مرض موته: إن النبي ليهجر. وقبل ذلك حين كانوا يعترضون عليه في الحديبية، ويقولون لا نعطي الدنية في ديننا، وغير ذلك.

وأية مبادئ جاء بها ابن سبأ، وبثها بين الناس يمكنهم أن يثبتوها بالدليل وبالحجة؟!

ولماذا تعلموا من ابن سبأ الجرأة على الخلفاء، ولم يتعلموا غلوه في أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى حد التأليه؟!

وإذا كان «الخوارج» ينعتون خصومهم بالسبئية، فكيف يأخذون من ابن سبأ وعنه مبادئه. ويتأثرون بحالاته؟!


الصفحة 142

الصفحة 143


الفصل الثاني:
قبل المواجهة





الصفحة 144

الصفحة 145

سياسات علي (عليه السلام) مع «الخوارج»:

لم يكن علي (عليه السلام) ذلك الرجل الذي يريد أن تكون له السلطة والهيمنة القاهرة التي يحبس معها الناس أنفاسهم خوفاً ورعباً. بل هو يريد أن يحفظ الأمن، وأن يربي الناس، ويعلمهم، ويهديهم سبيل الرشاد، والسداد، وأن يحكم فيهم بحكم الله سبحانه، ويفقههم في الدين.

إنه لا يريد أن يخاف الناس منه، بل يريدهم أن يخافوا الله سبحانه. ولا يريد منهم مراعاة خواطره، والتأقلم مع مزاجه، بل يريدهم أن يراعوا التوجيه الإلهي، والحكم الشرعي. وأن يحفظوا دينهم، وأنفسهم.

ولأجل ذلك، فهو لا يخشى على ضياع شيء احتفظ به لنفسه يخاف فقده. وليس في حياته نقطة ضعف يخشى اطلاّع الناس عليها.

إذن.. فلماذا لا يعطي الناس حرية الكلام، والجهر بما يضمرونه، والافصاح عما يفكرون به ويتصورونه؟!

وحتى لو كان الحاكم الإسلامي غير معصوم فلماذا يمنع الناس من مطالبته بتصحيح الخطأ، وإعادة الأمور إلى نصابها.

نعم.. وهذا هو مبدأ علي (عليه السلام) في سياساته مع «الخوارج» وغيرهم، فقد

الصفحة 146
رووا: أن رجلاً من «الخوارج» جاء إلى علي (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يسبك.

قال: فسبه كما سبني.

قال: ويتوعدك.

قال: لا أقتل من لم يقتلني.

ثم قال: لهم علينا ثلاث: أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها، وأن لا نمنعهم الفيء مادامت أيديهم في أيدينا. وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا(1).

تحرك «الخوارج»: خلاصة تاريخية:

ولأجل أن تتضح الأمور لابد من العودة إلى النصوص التاريخية لنستنطقها، ولنتعرف من خلالها على سير الأحداث..

فنقول:

إنه حين بلغ علياً (عليه السلام) ما جرى بين أبي موسى وعمرو بن العاص في دومة الجندل كتب (عليه السلام) إلى ابن الكواء، والراسبي، وزيد بن الحصين، ومن معهم من الناس، يطلب منهم الالتحاق به، ليتوجه إلى حرب معاوية.

فرفضوا ذلك، وقالوا له: إنما غضبت لنفسك، وطلبوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر، ثم ينظرون فيما بينهم وبينه، فأيس (عليه السلام) منهم.

ويقولون: إنه (عليه السلام) «رأى أن يدعهم، ويمضي بالناس إلى أهل الشام، فيناجزهم. فقام في أهل الكوفة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما

____________

(1) كنز العمال ج11 ص287 و308 عن أبي عبيد، والبيهقي، وابن أبي شيبة.


الصفحة 147
بعد، فإن من ترك الجهاد.. الخ..».

«فبينما علي (رض) معهم في الكلام، أتاه الخبر: أن «الخوارج» خرجوا على الناس. وأنهم قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبقروا بطن امرأته، وهي حامل. وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أم سنان.

فلما بلغ علياً (رض) ذلك بعث إليهم الحرث بن مرة العبدي، ليأتيهم، وينظر صحة الخبر فيما بلغه عنهم، ويكتب به إليه، ولا يكتمه شيئاً من أمرهم.

فلما دنا منهم، وسألهم قتلوه. وأتى علياً (رض) الخبر بذلك وهو بمعسكره فقال الناس: يا أمير المؤمنين، على ما ندع هؤلاء وراءنا يخلفونا في أموالنا، وعيالنا؟! سر بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم سرنا إلى أعدائنا من أهل الشام.

وجاءهم منجم يقال له: مسافر بن عدي الأزدي. فطلب منه أن يسير إليهم في ساعة معينة، وإلا فإنه سيلقى وأصحابه ضرراً شديداً، ومشقة عظيمة. فخالف علي (رض)».

ثم لما قرب منهم طلب أن يسلموه قتلة إخوانه ليقتلهم بهم، ويكف عنهم حتى يلقى أهل الشام، فلعل الله أن يأخذ بقلوبهم ويردهم إلى خير مما هم عليه.

فقالوا: كلنا قتلناهم، وكلنا مستحلون لدمائكم، وأموالكم، ودمائهم.

ثم كلمهم قيس بن سعد بن عبادة، فلم يستجيبوا الخ..(1).

____________

(1) نور الأبصار ص101 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص90 و92. وغير ذلك كثير.


الصفحة 148
وقد لخص أمير المؤمنيين (عليه السلام) ما جرى بينه وبين «الخوارج» في كلام وجهه إلى أصحابه فكان مما قال: «حتى إذا عاثوا في الأرض مفسدين وقتلوا المؤمنين أتيناهم فقلنا لهم: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا.

فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا استحللنا دماءهم ودماءكم.

وشدت علينا خيلهم ورجالهم؛ فصرعهم الله مصارع القوم الظالمين. ثم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم، فإنه أفزع لقلوبهم، وأنهك لمكرهم، وأهتك لكيدهم، فقلتم.. الخ..»(1).

ونلاحظ هنا: أن ما فعله (عليه السلام) حيث أمرهم بالمضي من فورهم إلى عدوهم، مع ملاحظة الأمور التي ذكرها.. قد جاء مطابقاً لفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث لاحق جيش أبي سفيان بعد أحد حتى بلغ حمراء الأسد، وكان الذين معه هم خصوص من أصيبوا في غزوة أحد، كما هو معلوم، فراجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي للإطلاع على تفاصيل ما جرى.

أذى «الخوارج» لعلي (عليه السلام):

وحين يواجه الإنسان التحدي من الآخرين، والتعدي عليه من دون مبرر مقبول أو معقول.. ويكون غير قادر على رد التحدي، والثأر لنفسه، فليس له أن يدعي: أن هذا الضعف صفح، وأن الهروب عفو.

وأما حين يكون قادراً على ردع المعتدي. فإن كان عفوه يمثل

____________

(1) الإمامة والسياسة ج1 ص157 وأنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص367 و368.


الصفحة 149
تفريطاً بما لا يحق له التفريط به، أو تشجيعاً وإغراءً بالعدوان على الضعفاء، فليس له الحق في أن يبادر إلى هذا العفو، بل لابد له من أن يمارس الردع المؤثر والفاعل، والقوي والحاسم.

فإذا انحصر الأذى بشخصه، ثم كظم غيظه، مع قدرته على ردّ الحجر من حيث جاء، فذلك هو الصفح الجميل، والعفو عن الذنب، الذي دعا إليه الإسلام والقرآن.

وهذه هي حاله (عليه السلام) مع هؤلاء القوم، الذين كانوا يؤذونه ويصفح عنهم، ويذنبون معه، ويعتدون عليه ويعفو ويتجاوز رفقا بهم، واستصلاحاً لهم.

ومن أمثلة ذلك: أنه كان يخطب يوماً؛ فقال: إذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليمس أهله، فإنما هي امرأة كامرأة.

فقال رجل من «الخوارج»: قاتله الله كافراً ما أفقهه.

فوثب القوم ليقتلوه.

فقال (عليه السلام): «رويداً إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب»(1).

وقال علي بن البطريق: «إن علياً كان قد مرن على سماع قول «الخوارج» أنت كافر. وقد كفرت»(2).

الموقف الشرعي الدقيق:

وإن معالجة أمير المؤمنين (عليه السلام) لأمر «الخوارج» قد جاء النموذج الأمثل، والمثل الرائع للحكمة، والروية، والأناة والحزم،

____________

(1) الشيعة في التاريخ ص42 ونهج البلاغة ج3 ص254.

(2) راجع مصادر نهج البلاغة ج4 ص 297 عن شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص470.


الصفحة 150
والمرونة، ثم هو التجسيد الدقيق للالتزام بحدود الله، والسياسة الربانية للعباد والبلاد.

وقد لخص (عليه السلام) موقفه من هؤلاء القوم، بعد أن ذكر أمر الحكمين، بقوله: «.. فانخذلت عنا فرقة منهم، فتركناهم ما تركونا»(1).

وذكر (عليه السلام) أيضاً موقفه هذا بصورة أكثر تفصيلاً، فقال: «إن سكتوا تركناهم ـ أو قال: عذرناهم ـ وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم»(2).

وفي نص آخر: أنه (عليه السلام) سمع رجلاً من «الخوارج» يقول: لا حكم إلا لله ـ تعريضاً به في التحكيم يوم صفين ـ فقال علي (عليه السلام): «كلمة حق أريد بها باطل».

ثم قال: «لكم علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله تذكرون اسم الله. ولا نمنعكم من الفيء مادامت أيديكم معنا. ولا نبدؤكم بقتال»(3).

وحتى بعد أن انتهى من حرب النهروان فإنه (عليه السلام) لم يغير سياسته هذه معهم، فقد روي:

عن أبي خليفة الطائي، قال: «لما رجعنا من النهروان لقينا ـ قبل أن ننتهي إلى المدائن ـ أبا العيزار

____________

(1) الغارات ج1 ص213 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص98 والإمامة والسياسة ج1 ص177 و135 والبحار ج30 ص2 وج33 ص571 ونهج السعادة ج5 ص245.

(2) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص352 وبهج الصباغة ج7 ص155 و54 و142 والكامل لابن الأثير ج3 ص334 و335 ونقل عن الطبري أيضاً.

(3) الإلمام ج1 ص36.


الصفحة 151
الطائي، فقال لعدي: يا أبا طريف، أغانم سالم؟ أم ظالم آثم؟

قال: بل غانم سالم.

قال: الحكم إذن إليك!

فقال الأسود بن يزيد، والأسود بن قيس المراديان ـ وكانا مع عدي ـ: ما أخرج هذا الكلام منك إلا شر، وإنا لنعرفك برأي القوم.

فأخذاه، فأتيا به علياً، فقالا: إن هذا يرى رأي «الخوارج»، وقد قال كذا وكذا لعدي.

قال: فما أصنع به؟!

قالا: تقتله.

قال: أقتل من لا يخرج علي؟!

قالا: فتحبسه.

قال: وليست له جناية أحبسه عليها؟! خليا سبيل الرجل»(1).

صلوات الله وسلامه: على علي أمير المؤمنين، مثال العدل، ومعدن الفضل، ونبراس الهدى وعلم التقى. ولعن الله مناوئيه، وشانئيه، وحاسديه وأصلاهم جهنم وساءت مصيرا.

الفساد والافساد:

وقد بذل أمير المؤمنيين (عليه السلام) محاولات كثيرة، لإقناعهم بالحق، ومنعهم من شق عصا الطاعة.. «وقد خطب علي (رض) بخطب ذوات عدد» على حد قول

____________

(1) تاريخ بغداد ج14 ص365 و366.


الصفحة 152
الصنعاني(1). وقد أورد في نهج البلاغة عدداً منها(2).

بالإضافة إلى أنه كان يحاول الاتصال بأولئك الذين يعتزمون الالتحاق بهم، وينهاهم عن ذلك، وقد «وعظهم بكل قول، وبصّرهم بكل وجه فلم يرجعوا»(3).

ثم إنهم.. رغم ذلك كله وسواه: «قتلوا عدة نساء، وسبوا، وفعلوا أفاعيل من هذا القبيل»(4).

وقال البري التلمساني: «ثم اجتمعوا، وشقوا عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء، وقطعوا السبل، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت ذبحاً. وقيل: إنهم ضربوا عنقه، وبقروا بطن امرأته، وهي حبلى»(5).

وقد ذكر أيضاً: أنهم قتلوا رسول أمير المؤمنيين (عليه السلام) إليهم، وهو الحارث بن مرة العبدي(6).

وقتلوا ثلاث نسوة فيهن أم سنان، قد صحبت النبي (صلى الله عليه وآله). وذبحوا ابن خباب، وبقروا بطن امرأته(7).

____________

(1) نظم درر السمطين ـ ص117..

(2) راجع على سبيل المثال: نهج البلاغة ـ الخطب رقم 121 و123 و118 ج2 ص7 و11 و2 والخطبة رقم 117 ص117.

(3) الفخري في1 الآداب السلطانية ص94.

(4) الفخري في الآداب السلطانية ص94.

(5) الجوهرة في نسب علي (عليه السلام) وآله ص103 وراجع البداية والنهاية ج7 ص288.

(6) راجع مروج الذهب ج2 ص404 و405 والإمامة والسياسة ج1 ص147 وغير ذلك.

(7) الإمامة والسياسة ج1 ص147 ومروج الذهب ج2 ص404 وفيه: وقتلوا غيرها من النساء. والكامل لابن الأثير ج3 ص342 وذكر فيه أم سنان بالإضافة إلى النسوة الثلاث وراجع أنساب الأشراف ج2 ص368.


الصفحة 153
وقال عبد الله بن شداد لعائشة، عن علي (عليه السلام): «والله، ما بعث إليهم حتى قطعوا الطريق، وسفكوا الدماء، وقتلوا ابن خباب، واستحلوا أهل الذمة»(1).

«واعترضوا الناس، وأخذوا الأموال، والدوابّ، والكراع، والسلاح، ودخلوا القرى، وساروا حتى انتهوا إلى النهروان.

فلما لحقهم علي (عليه السلام).. أقام أياماً يدعوهم، ويحتج عليهم، فأبوا أن يجيبوا، وتعبأوا لقتاله.

فعبأ الناس، ثم خرج إليهم، فدعاهم، فأبوا، وبدأوه بالقتال، فقاتلهم، وقتلهم»(2).

ويلاحظ: أن أفاعيلهم هذه لم ترض أصحابهم أنفسهم، فإنهم: «ساروا حتى قطعوا النهروان، وافترقت منهم فرقة يقاتلون [يقتلون] الناس. فقال أصحابهم: ما على هذا فارقنا علياً، فلما بلغ علياً صنيعهم.الخ..»(3).

ولعل هذا قد سهل عودتهم، حينما وعظهم علي (عليه السلام)، واحتج عليهم، وبصّرهم.

ومهما يكن من أمر، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد قبل أن يبادر إلى حرب هؤلاء القوم أو يوضح للناس حالهم، ليكونوا على بصيرة من أمرهم، وعلى يقين بصحة ما يقدمون عليه فأخبر الناس بأن حديث

____________

(1) تهذيب تاريخ دمشق ج7 ص305 والبداية والنهاية ج7 ص281 ومسند أحمد ج1 ص86 و87 وغير ذلك من مصادر ذكرناها في موضع آخر من هذا الكتاب.

(2) جواهر الأخبار والآثار [مطبوع بهامش البحر الزخار] ج2 ص371.

(3) راجع: منتخب كنز العمال [بهامش مسند أحمد] ج5 ص429 وكنز العمال ج11 ص271 ورمز فيه إلى: [ابن راهويه. ش.ع.وصحّح].


الصفحة 154
المارقة ينطبق على هؤلاء، وقال: بعد ذكره لذلك الحديث:

«.. والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله»(1).

الرسول اليهودي في أمان:

ومن المفارقات: أن «الخوارج» قد قتلوا رسول علي (عليه السلام) إليهم، وهو الحارث بن مرة العبدي ـ كما أشرنا إليه في فقرة: «الفساد والإفساد». فعاد أمير المؤمنيين (عليه السلام) فأرسل إليهم رسولاً من يهود السواد [وذلك لكي لا يقتلوه كما قتلوا رسوله المسلم؛ فإنهم لا يستحلون قتل غير المسلمين] فطلب منهم أن يبعثوا إليه بقتلة إخوانه، ثم يتركهم إلى أن يفرغ من معاوية.

فبعثوا إليه: كلنا قتلة أصحابك، وكلنا مستحل لدمائهم، مشتركون في قتلهم(2).

والظاهر: أن رسل علي (عليه السلام) إلى «الخوارج» كانوا كثيرين. وقد ذكرت بعض المصادر: أنه (عليه السلام) أرسل إليهم البراء بن عازب، وأنه بقي يدعوهم ثلاثة أيام(3).

____________

(1) المصنف للصنعاني ج10 ص148 وفي هامشه عن المصادر التالية: مسلم ج1 ص343 وفرائد السمطين ج1 ص276 و116 وعن الطبقات الكبرى ج4 – قسم2 ص36 والبيهقي ج8 ص170 وكنز العمال ج11 ص280 ورمز إلى البيهقي، ومسلم، وعبد الرزاق، وخشيش، وابي عوانة، وابن أبي عاصم. وراجع: الرياض النضرة ج3 ص225 ونزل الأبرار ص60 وفي هامشه عن مسلم ج2 ص748.

(2) مروج الذهب ج2 ص405.

(3) تاريخ بغداد ج1 ص 177.