الصفحة 155

هذا عدا عن صعصعة، وابن عباس وقيس بن سعد وغيرهم. ممن كانوا مهتمين بمحاججتهم، ومحاولة إقناعهم.

تناقضات في موقف «الخوارج»:

ويذكر المؤرخون، والنص هنا لابن قتيبة: أن الخوارج «.. بينما هم يسيرون، فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له؛ فعبروا إليه الفرات، فقالوا له: من أنت؟

قال: أنا رجل مؤمن.

قالوا: فما تقول في علي بن أبي طالب؟

قال: أقول: إنه أمير المؤمنين، وأول المسلمين إيماناً بالله ورسوله.

قالوا: فما اسمك؟

قال: أنا عبد الله بن خباب بن الأرت، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم.

فقالوا له: أفزعناك؟

قال: نعم.

قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من رسول الله، لعل الله ينفعنا به.

قال: نعم، حدثني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: ستكون فتنة بعدي، يموت فيها قلب الرجل، كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً.

فقالوا: لهذا الحديث سألناك. والله، لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً. فأخذوه وكتفوه. ثم أقبلوا به، وبامرأته، وهي حبلى متم، حتى نزلوا تحت نخل؛ فسقطت رطبة منها؛ فأخذها بعضهم؛ فقذفها في فيه.


الصفحة 156
فقال له أحدهم: بغير حل، أو بغير ثمن أكلتها؟.

فألقاها من فيه.

ثم اخترط بعضهم سيفه، فضرب به خنزيراً لأهل الذمة؛ فقتله.

قال له بعض أصحابه: إن هذا من الفساد في الأرض.

فلقي الرجل صاحب الخنزير، فأرضاه من خنزيره.

فلما رأى منهم عبد الله بن خباب ذلك، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى؛ ما علي منكم بأس. ووالله، ما أحدثت حدثاً في الإسلام، وإني لمؤمن، وقد أمنتموني؛ وقلتم: لا روع عليك.

فجاؤوا به، وبامرأته؛ فأضجعوه على شفير النهر، على ذلك الخنزير، فذبحوه، فسال دمه في الماء.

ثم أقبلوا على امرأته، فقالت: إنما أنا امرأة، أما تتقون الله؟

فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة؛ فيهن أم سنان، قد صحبت النبي (عليه الصلاة والسلام).

فبلغ علياً خبرهم؛ فبعث إليهم الحارث بن مرة؛ لينظر فيما بلغه من قتل عبد الله بن خباب والنسوة، ويكتب إليه بالأمر.

فلما انتهى إليهم ليسألهم، خرجوا إليه فقتلوه.

فقال الناس:

يا أمير المؤمنين، تدع هؤلاء القوم وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا سيرنا إليهم، فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام»(1).

____________

(1) راجع: الإمامة والسياسة ج1 ص146/147 والبداية والنهاية ج7 ص288. ومصادر كثيرة أخرى سيأتي شطر منها حين نتحدث عن مفاصل من هذا النص، في دلالاتها في

=>


الصفحة 157

السم في الدسم:

وقد لفت نظرنا ما ذكرته بعض الروايات التي تحدثت عن ابن خباب، فهي تقول: «أتوا على عبد الله بن خباب وهو في قرية له، قد تنحى عن الفتنة، فأخذوه وقتلوه»(1).

ومع أنه سيأتي: في العنوان التالي ما يثبت عدم صحة دعوى اعتزاله في بيته، فإننا نطلب من القارئ الكريم أن يتأمل في هذا الكلام الذي ينضح بالسم، حيث يراد بكلمة «قد تنحى عن الفتنة» الإيحاء بوجود شبهة في صوابية موقف أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعدم ظهور الحق لهم حتىصح التعبير عنها بأنها فتنة.. وبذلك يمكن التخفيف من جريمة المارقة، وتوجيه اتهام لأمير المؤمنين (عليه السلام) في قتله إياهم..

ابن خباب من عمال أمير المؤمنيين (عليه السلام):

وإذا كانت هذه الرواية تقول: إنهم قد أتوا ابن خباب إلى منزله، فاستخرجوه، وقتلوه.. فإن ثمة نصوصاً أخرى تقول:

إنه كان مستطرقاً، ومعه زوجته أو أم ولده، فالتقوه وقتلوه..ولعل هذا لا يختلف عن قولهم:

إن الصريم لقي عبد الله بن خباب بالبدار ـ قرية بالبصرة ـ وهو متوجه إلى علي (عليه السلام) بالكوفة، معه امرأته، وولده، وجاريته(2).

____________

<=

الفصول المختلفة.

(1) كنز العمال ج11 ص27 عن مصادر كثيرة مثل: مسدد، والطيالسي، وخشيش في الاستقامة عن أبي مجلز. ورواه ابن النجار، عن يزيد بن رويم.

(2) مجمع الزوائد ج6 ص230.


الصفحة 158
وفي نص آخر: إن علياً (عليه السلام) كان قد أرسله عاملاً عليهم فقتلوه(1).

وهذا النص لا يتعارض مع النص الآخر الذي يقول: «.. أرسله إليهم علي فقتلوه. فأرسل إليهم: أقيدونا بعبد الله فقالوا: كيف نقيدك، وكلنا قتله؟!»(2).

هذا.. وقد صرح ابن شهر آشوب: بأنه كان عاملاً لعلي (عليه السلام) على النهروان(3).

وإن كان المسعودي يقول: إنه رحمه الله كان عاملاً لعلي (عليه السلام) على المدائن(4).

والظاهر: أن المسعودي يتحدث عن مرحلة سابقة. بحيث يكون عاملاً لأمير المؤمنيين (عليه السلام) على المدائن مدة، ثم صار عاملاً له على النهروان..

ولنا أن نحتمل: أن ولايته على النهروان لم تتم، إن أخذنا بنظر الاعتبار تعبير الطوسي رحمه الله بأن علياً (عليه السلام) قد أرسله عاملاً عليهم، فقتلوه..

تخصيص المطالبة بابن خباب:

إن مراجعة كتب التاريخ تعطينا:

____________

(1) المبسوط للشيخ الطوسي ج7 ص270.

(2) تهذيب الكمال ج14 ص447.

(3) مناقب آل أبي طالب ج3 ص188.

(4) مروج الذهب ج2 ص404.


الصفحة 159
أن «الخوارج» قد قتلوا حتى رسل علي (عليه السلام) إليهم، وهو أمر يرفضه الوجدان الإنساني، وجريمة يأنف من ارتكابها حتى أهل الجاهلية.. بل لقد قتلوا النساء والأطفال. الأمر الذي يربأ بنفسه من ارتكابه حتى أحط الناس وأرذلهم..

فهل يتورعون بعد هذا عن قتل إنسان مستطرق، ثم بقر بطن امرأته. فكيف إذا كان عاملاً لعلي (عليه السلام) فعلاً، أو حتى فيما سبق؟كما ذكرته بعض الروايات.

ولعل مطالبته (عليه السلام) بقتلة ابن خباب إنما كانت من جهة أنهم كانوا قد بدأوا جرائمهم به وبأم ولده..

وإلا، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يميز بين مسلم ومسلم، في التزام توفير الأمن له، وفي الاقتصاص ممن يعتدي عليه..

ويدلنا على ذلك موقفه (عليه السلام) ممن يعتدي على المرأة المعاهدة، فيأخذ منها بعض حليها، دون أن يعترضه أحد حيث اعتبر أنه لو أن امرءاً مسلماً مات من هذا أسفاً ما كان عنده ملوماً، بل كان به جديراً.. (1)

مع أن المرأة المعاهدة ليست على دينه، ولا هي في درجة المرأة المسلمة، ولا هو مسؤول عن حمايتها..

كما أن الذي يموت أسفاً هو إنسان مسلم له كرامته الكبيرة عند

____________

(1) راجع: نهج البلاغة ج1 ـ الخطبة 27 وهي خطبة الجهاد وراجع: عيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص236 والأخبارالطوال ص211 والكامل في الأدب ج1 والعقد الفريد ج4 ص69 والكافي ج5 ص4 والأغاني ج15 ص45 ومقاتل الطالبيين ص27 ومعاني الأخبار ص309 وأنساب الأشراف ج2 ص442 والبيان والتبيين ج1 ص170 والغارات للثقفي وغير ذلك.


الصفحة 160
الله، ومع أن الاعتداء على تلك المرأة لم يصل إلى درجة قتلها، ولا جرحها، ولا هتك حرمتها بالاعتداء على عرضها مثلاً، ولو في أدنى مستوياته، بل كان بسبب أخذ بعض حليها منها.

خوارج البصرة هم المفسدون:

وقد ذكرت بعض النصوص: أن خوارج البصرة هم الذين قتلوا ابن خباب. وقد احتج عمر بن عبد العزيز على اثنين من «الخوارج» فقال: «فأخبراني عن أهل النهروان، وهم أسلافكم، هل تعلمان أن أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دماً، ولم يأخذوا مالاً. وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خباب وجاريته، وهي حامل؟!

قالا: نعم..»(1).

وفي نص أن عمر بن عبد العزيز احتج على بعض «الخوارج»؛ فكان مما قال: «فأهل النهروان خرج أهل الكوفة منهم، فلم يقتلوا ولا استعرضوا، وخرج أهل البصرة فقتلوا عبد الله بن خباب، وجارية حاملاً، ولم يتبرأ من لم يقتل ممن قتل واستعرض»(2).

وقال ابن الأثير: «قيل: لما أقبلت الخارجة من البصرة، حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلاً يسوق امرأة على حمار، فدعوه، فانتهروه، وأفزعوه..»(3).

____________

(1) الكامل في التاريخ ج5 ص47.

(2) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص162.

(3) الكامل في التاريخ ج3 ص341 وأنساب الأشراف ج2 ص367 و368.


الصفحة 161
ثم ذكر ما جرى له، وقتلهم إياه.

أضاف نص آخر: «أنهم سألوه عن أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي، فأثنى عليهم خيراً، فذبحوه فسال دمه في الماء، وقتلوا المرأة وهي حامل متم. فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله، فبقروا بطنها، وذلك سنة سبع وثلاثين»(1).

ونقول:

إننا لا نملك تفسيراً لهذا الفرق الظاهر بين سلوك خوارج البصرة وخوارج الكوفة، سوى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد عاش مع أهل الكوفة، وعرفوا الكثير من القيم والمبادئ والأخلاق من خلاله (عليه السلام)، فهو القائل لأهل العراق: «وركزت فيكم راية الإيمان، وعرفتكم حدود الحلال والحرام » فتأثير علي (عليه السلام) فيهم، قد أوجب اختلاف حالاتهم وممارساتهم، كما رأينا..

الكوفيون.. وقتال «الخوارج»:

ثم إن النص الذي قدمناه تحت عنوان تناقضات في موقف «الخوارج»، قد صرحت الفقرة الأخيرة منه بأن أهل الكوفة (الناس) هم الذين طلبوا من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يبادر إلى دفع شر «الخوارج»، بعد أن أفسدوا في الأرض، بقتلهم الأبرياء، وقطعهم السبيل.

مع أن بعض النصوص تقول: إن علياً (عليه السلام) قد بذل جهداً كبيراً في بعث الناس لقتالهم.. وان الذين أجابوه كانوا جماعة يسيرة..

فأي ذلك هو الذي كان؟!

____________

(1) أسد الغابة ج3 ص150.


الصفحة 162
إننا في مقام الإجابة على هذا السؤال نقول:

إن كثيرين من الذين خرجوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا بالنسبة إلى الكوفيين ـ وهم جيش علي (عليه السلام) ـ الابناء، والإخوان، وذوي القربى.. إذن، فقد كان من الطبيعي أن يترددوا ويتباطؤا في الإقدام على قتال جيش يضم كثيرين من هؤلاء. فكيف إذا فرض أن يكون هذا القتال شرساً وضارياً إلى حد أن تُستأصل شأفتهم أو تكاد؟!

ولأجل ذلك، ولأنه لا مجال للقصاص قبل الجناية فقد كان من الطبيعي أن يمهل علي (عليه السلام) «الخوارج»، ويتركهم، ويتحمل ما يواجهونه به من أذى مادام أنهم لم يخلّوا بالأمن، ولم يخرجوا عن دائرة الانضباط.

أما حين ارتكبوا الجرائم والعظائم، وأفسدوا حياة الناس، فإن عليه من موقع كونه المسؤول الأول عن حياة الناس، وعن أمنهم بمختلف وجوهه أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يطالبهم بإنصاف الناس من أنفسهم.

حتى إذا ظهر إصرارهم على التزام خط الفساد والافساد، لم يبادر إلى الانتقام لنفسه، بل عفا عنهم في كل ما آذوه به، ولكنه بالنسبة لحفظ الواقع العام أوقع بهم العقوبة الإلهية التي يستحقونها.

وقد ساعد ما أظهره «الخوارج» من قوة وغلظة، وإصرار على هتك الحرمات، وعلى ارتكاب أعظم الموبقات ـ قد ساعد الكوفيين على تلمّس خطرهم العظيم، وإدراك أن الناس إذا كانوا يحبون الراحة، فإن عليهم أن يعرفوا أن الذهاب إلى حرب معاوية معناه أن يواجهوا خطرين.

أحدهما: أمامهم وهو معاوية.

والآخر: خلفهم وهو «الخوارج».


الصفحة 163
وسيكون خطر «الخوارج» أشد لأنه يتهدد العيال والذرية والأموال. فعليهم أن يختاروا درأ هذا الخطر أولاً.. ويبقى خطر معاوية بانتظار عزمة صادقة من عزمات أهل الإيمان والنجدة.

ولن يفيدهم شيئاً إصرارهم على التثاقل عن مواجهته. بل هو سيوقعهم ربما بأعظم الكوارث، وأشد النكبات، وقد حصل ذلك بالفعل؛ وذلك بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام). وبعد ما جرى للإمام الحسن الزكي صلوات الله عليه.

ما جرى..

ولكن رغم ذلك كله.. فإن إدراك الكوفيين لهذه الحقيقة لم يفد في إيجاد الحماس لديهم لقتال «الخوارج»، وذلك لأكثر من سبب، والشاهد على ذلك أنه حين خطبهم علي (عليه السلام) قبل خروجه إلى النهروان لم يجبه إلا اليسير منهم(1).

وقد رضي أمير المؤمنيين (عليه السلام) بمن أجابه، وسار بهم إلى حرب «الخوارج» في النهروان. وكان الذين نفروا معه لا يتجاوزون الأربعة آلاف مقاتل، كما ورد في بعض النصوص، وقيل غير ذلك..

وكان لابد له (عليه السلام) من أن يعمل على ترسيخ يقين أصحابه بحقانية هذه الحرب، بما كان يملكه من حجج قاطعة لأي عذر، ومزيلة لأي ريب وقد تمكن من ذلك بالفعل، وأعانه «الخوارج» على أنفسهم.. إلى حد أن أهل الكوفة رضوا باستئصال شأفة «الخوارج» أو كادوا، دون أن يجدوا في أنفسهم أي حرج أو أسف.. ودون أن يصدر منهم أي

____________

(1) الفتوح لابن اعثم ج4 ص100.


الصفحة 164
اعتراض ذي بال..

وقد حسم الأمر بصورة قاطعة ونهائية ما ظهر لهم بما لا مجال فيه للريب أو للشك من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بقتلهم، وهذا ما أكدته لهم العلامات المتصلة بالغيب التي عاينوها في أكثر من موقف في سير الأحداث مع هؤلاء القوم..

ولم يكن إخباره (عليه السلام) للناس بصورة قاطعة بعدم عبور «الخوارج» للنهر هو الأول، ولا كان كشف حقيقة ذي الثدية هو آخر هذه الإخبارات الغيبية التي ساعدت على حسم الأمر بصورة نهائية في عقل ووجدان الناس الذين قتلوا «الخوارج» أو قاتلوهم معه.

وكان الذي أقنعهم بالمسير إلى «الخوارج» هو إخباره (عليه السلام) للناس بأمر ذي الثدية، وأنه في «الخوارج»، فقد روي عن زيد بن وهب الجهني: أنه كان في الجيش مع علي كرم الله وجهه، الذين ساروا إلى «الخوارج»، فقال علي كرم الله وجهه: أيها الناس، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم (صلى الله عليه وآله) لا اتكلوا على العمل.

وآية ذلك: أن فيهم رجلاً له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض.


الصفحة 165
فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، تتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟!

والله، إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله.

قال زيد بن وهب: فلما التقينا وعلى «الخوارج» يومئذٍ عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهم: ألقوا الرماح، وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدكم يوم حروراء(1).

فرجعوا ورموا برماحهم، وسلوا السيوف. وشجرهم الناس برماحهم.

قال: وقتل بعضهم إلى بعض، وما أصيب من الناس يومئذٍ إلا رجلان.

فقال علي كرم الله وجهه: التمسوا فيهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه.

فقام علي كرم الله وجهه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض، قال: أخرجوهم، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر، ثم قال: صدق الله، وبلغ رسوله.

فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: يا أمير المؤمنين، بالله الذي لا إله إلا هو، لسمعت هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! فقال: أي والله الذي لا إله إلا هو.. حتى استحلفه ثلاثاً، وهو يحلف له»(2).

كما أنه (عليه السلام) قد قال لأصحابه: حين انتهى من قتال «الخوارج» ولم يجدوا في بادئ الأمر ذا الثدية: ائتوني بالبغلة فإنها هادية

____________

(1) في صحيح مسلم: أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء. وهو الصحيح.

(2) نزل الأبرار ص60 و61 وفي هامشه عن صحيح مسلم ج2 ص748 و749.


الصفحة 166
مهدية. فأتوه بها فركبها.. ثم تذكر الرواية عثورهم على المخدج..

وسيأتي: أنها كانت بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم(1).

وعلى كل حال: فإن النص القائل بأن أهل الكوفة هم الذين طلبوا البدء بقتال «الخوارج» (2) فهو إن صح، فإنما كان بعد أن رأوا ان امتناعهم عن ذلك سوف يؤدي بهم إلى مواجهة خطرين لا قبل لهما بهما، هما معاوية من جهة، و«الخوارج» من جهة. وقد أوضح لهم ذلك (عليه السلام) بصورة جلية بعد أن ذكر لهم (عليه السلام) حديث ذي الثدية حيث قال: «افتذهبون إلى معاوية واهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في دياركم وأموالكم؟ والله، إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الحرام، وأغاروا في سرح الناس»(3).

وفي نص آخر: «لما خرجت «الخوارج» بالنهروان قام علي رضي الله عنه في

____________

(1) راجع: كنز العمال ج11 ص275 ومجمع الزوائد ج6 ص41 عن الطيالسي والمحاسن والمساوئ ج2 ص99 وخصائص الإمام علي (عليه السلام) للنسائي ص144 وفي هامشه عن تاريخ بغداد ج7 ص237 وج1 ص160.

(2) راجع: الفخري في الآداب السلطانية ص94 وراجع الكامل في التاريخ ج3 ص342 والبداية والنهاية ج7 ص288 وأنساب الأشراف ج2 ص368.

(3) المصنف للصنعاني ج10ص148 وفي هامشه عن السنن الكبرى ج8 ص170 وعن مسلم ج1ص343 وراجع: كنز العمال ج11 ص271 و280 عن خشيش، وابي عوانة، وعبد الرزاق، ومسلم وابن أبي عاصم والبيهقي، وعن ابن راهويه، وابن أبي شيبة وغيرهما ومنتخب كنز العمال [مطبوع بهامش مسند أحمد] ج5 ص429 والرياض النضرة ج3 ص225 ونظم درر السمطين ص116 ومجمع الزوائد ج6ص238 وفرائد السمطين ج1 ص286 ونزل الأبرار ص60 وكفاية الطالب ص177 والبداية والنهاية ج7ص291 وراجع مسند أحمد ج1 ص91 و92.


الصفحة 167
أصحابه فقال: إن هؤلاء القوم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس. وهم أقرب العدو إليكم. وإن تسيروا إلى عدوكم أنا أخاف أن يخلفكم هؤلاء في أعقابكم الخ..»(1).

فأدركوا: أن عليهم أن يطيعوا علياً فيما يأمرهم به، فإنه الصواب بعينه، وهكذا كان.

____________

(1) مسند أحمد ج1 ص91.


الصفحة 168

الصفحة 169


الفصل الثالث:
في المواجهة





الصفحة 170

الصفحة 171

الجيشان:

سيأتي أن عدد «الخوارج» الذين قتلوا في النهروان كان يتراوح ما بين الألف وخمس مئة قتيل، وعشرة آلاف. ورقم الأربعة آلاف هو المرجح من بين تلك الأقوال لدى عدد من المؤرخين.

وإذا كان الذين قتلوا هم جميع جيشهم، ولم يفلت منهم إلا أقل من عشرة، فانه يصبح واضحاً أن هذا الرقم بالذات هو عدد جيشهم في واقعة النهروان.

وأما بالنسبة لعدد جيش علي (عليه السلام)، فإنه كان قليلاً فقد كان معه (عليه السلام) جمعية يسيرة، لأنه إنما جاء ليردهم بالكلام حسبما قاله ابن حبان(1)..

وأما قول بعضهم إن عدد جيشه (عليه السلام) كان اثني عشر ألفاً(2)، فهو بعيد.

ويؤيد قول ابن حبان: أن ابن اعثم يذكر: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بذل محاولات جادة لجمع الناس لحرب «الخوارج»، وخطب

____________

(1) الثقات ج2 ص296.

(2) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص271..


الصفحة 172
الناس لأجل ذلك عدة مرات.

وبعد خطبته الثالثة: أجابه الناس سراعاً، فاجتمع إليه أربعة آلاف رجل، أو يزيدون، قال: فخرج بهم من الكوفة وبين يديه عدي بن حاتم الطائي، يرفع صوته، وهو يقول:


نسير إذا ما كاع قوم وبلدوابرايات صدق كالنسور الخوافق(1)

ويشهد لذلك أيضاً، ما عرفناه، عن أهل العراق، من أنهم بعد حرب صفين كانوا شديدي التخاذل عن الحرب، وأن علياً (عليه السلام) قد لاقى الأمرين في استنفارهم لحرب معاوية، ولم يتمكن من ذلك حتى استشهد صلوات الله وسلامه عليه، والغصة في قلبه والشكوى منهم على لسانه.

علي (عليه السلام) والمنجم:

وروى ابن ديزيل قال: عزم علي (عليه السلام) على الخروج من الكوفة إلى الحرورية. وكان في أصحابه منجّم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة، وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار، فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذى، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت، وأصبت ما طلبت.

فقال (عليه السلام): أتدري ما في بطن فرسي هذه، أذكر هو أم أنثى؟

قال: إن حسبت علمت.

فقال علي (عليه السلام): من صدقك بهذا فقد كذب القرآن، قال الله تعالى:

____________

(1) الفتوح لابن اعثم ج4 ص105..


الصفحة 173
(إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام)، الآية.

ثم قال (عليه السلام):

إن محمداً صلى الله عليه ما كان يدعي علم ما ادّعيت علمه، اتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها؟ وتصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها؛ فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه.

وينبغي للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله؛ لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها، وصرفته عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها. فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضداً ونداً.

اللهم لا طير إلا طيرك، ولا ضر إلا ضرك، ولا إله غيرك.

ثم قال: نخالف ونسير في الساعة التي نهيتنا عنها.

ثم أقبل على الناس فقال:

أيها الناس، إياكم والتعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كالكاهن، والكاهن كالكافر، والكافر في النار.

أما والله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبداً ما بقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي من سلطان.

ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم، فظفر بأهل النهر، وظهر عليهم.

ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الناس: سار في الساعة التي أمر بها المنجم، فظفر وظهر. أما أنه ما كان لمحمد

الصفحة 174
صلى الله عليه منجم ولا لنا من بعده، حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر. أيها الناس توكلوا على الله، وثقوا به فإنه يكفي ممن سواه(1).

وإن هذا البيان المسهب منه (عليه السلام) يغني عن أي بيان، بل هو أغنى بيان وأوفاه فكل لسان سواه عييّ، وكل من يدعي المعرفة عنده غبي، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى الأئمة من ولده الطاهرين.

التحدي الفاشل لليقين بالغيب:

قد ذكرت النصوص: أن الحرورية جاءوا فكانوا أولاً من وراء النهر، فأخبروا علياً بذلك. فقال: والله، لايقتل اليوم رجل من وراء النهر.

فقالوا له: قد نزلوا: فأعاد (عليه السلام) قوله هذا.. ثم أعادوا قولهم، فكرر (عليه السلام) مقالته.

وقالت الحرورية، بعضهم لبعض: يرى علي أنا نخافه؟!.. فأجازوا أي عبروا النهر.

فقال (عليه السلام) لأصحابه: «لا تحركوهم حتى يحدثوا».

ثم تذكر الرواية: أنهم ذهبوا إلى منزل ابن خباب، وكان على شط الفرات، فأخرجوه.. ثم قتلوه وشقوا عما في بطن أم ولده.

فطالبهم (عليهم السلام) بقاتله، فقالوا: كلنا قتله.. فأعادوا عليهم ذلك ثلاثاً، فسمعوا نفس الإجابة. فقتلوهم جميعاً، ثم طلب منهم أن يطلبوا المخدج في القتلى، فقالوا: ما وجدنا، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت.. ثم

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص270.


الصفحة 175
تذكر الرواية أنه (عليه السلام) بحث بين القتلى حتى وجده في حفرة فيها قتلى كثير الخ..(1).

فترى انه (عليه السلام) لا يقبل ما أخبروه به من أنهم قد عبروا النهر، ويقسم أنه لا يقتل رجل من وراء النهر.

بل إنه يحدد موقع قتلهم بصورة دقيقة وواضحة، بعد أن أقسم له من أخبره ثلاث مرات: أنه رآهم قد عبروا النهر، لما بلغهم وصوله (عليه السلام) خوفاً من قتاله. فلا يقبل منه، ويقسم على عدم صحة ما أخبره به، وذلك في النص التالي:

وذكر المدائني قال: لما خرج علي (عليه السلام) إلى أهل النهر أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض، حتى انتهى إلى علي (عليه السلام)، فقال:

البشرى يا أمير المؤمنين.

قال: ما بشراك؟

قال: إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك؛ فأبشر؛ فقد منحك الله أكتافهم.

فقال له: الله! أنت رأيتهم عبروا؟!

قال: نعم.

فأحلفه ثلاث مرات، في كلها يقول: نعم.

فقال علي (عليه السلام): والله، ما عبروه، ولن يعبروه، وإن مصارعهم لدون النطفة. والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لن يبلغوا الأثلاث، ولا قصر

____________

(1) راجع: تاريخ بغداد ج1 ص205ز206 وراجع ج2 ص290 و291 وأمثال هذا الحديث مذكور في عشرات المصادر التي تتحدث عن حرب النهروان..