قال: ثم أقبل فارس آخر يركض، فقال كقول الأول، فلم يكترث علي (عليه السلام) فجال في متن فرسه.
قال: فيقول شاب من الناس: والله لأكونن قريباً منه، فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح في عينه. أيدعي علم الغيب؟!
فلما انتهى (عليه السلام) إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم، وعرقبوا خيولهم، وجثوا على ركبهم، وحكموا تحكيمة واحدة، بصوت عظيم، له زجل.
فنزل ذلك الشاب: فقال: يا أمير المؤمنين، إني كنت شككت فيك آنفاً، وإني تائب إلى الله وإليك!
فقال علي (عليه السلام): إن الله هو الذي يغفر الذنوب، فاستغفره(1).
إذا عرف السبب بطل العجب:
ويوضح بعضهم السبب في الاعتقاد بأنهم قد عبروا النهر على النحو التالي: «إن الخوارج قصدوا جسر النهر، وكانوا غربه، فقال لعلي أصحابه: إنهم قد عبروا النهر.. فقال: لن يعبروا.
فأرسلوا طليعة، فعاد وأخبرهم انهم عبروا النهر.
وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم؛
____________
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص272 عن المدائني في كتاب الخوارج. ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص406 و407 وراجع الفتوح لابن اعثم ج4 ص120..
فقال علي: والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، والله، لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة.
فتقدم علي إلى «الخوارج»، فرآهم عند الجسر لم يعبروه.
وكان الناس قد شكوا في قوله، وارتاب به بعضهم. فلما رأوا «الخوارج» لم يعبروا كبروا، وأخبروا علياً بحالهم، فقال: والله، ما كذبت ولا كذبت الخ..»(1).
ومن كل هذا يتجلى لهم يقين علي (عليه السلام) بالغيب الذي يخبرهم به، حتى إنه لا يتزعزع حتى مع تعدد المخبرين بخلافه، وحتى مع حلفهم ثلاث مرات على صحة ما يخبرون به.
وذلك لأنه (عليه السلام) يرى الأمور على حقيقتها، إلى درجة أنه لو كشف له الغطاء، ما ازداد يقيناً.
احتجاجات علي (عليه السلام) وتراجعات «الخوارج»:
لقد كانت احتجاجات علي (عليه السلام) وأصحابه على «الخوارج» كثيرة، وكانت لها آثارها الإيجابية الكبيرة.. حيث رجع منهم الألوف التي قد تصل إلى العشرين ألفاً حسب بعض النصوص.
وقد ذكرنا شطراً من تلك الاحتجاجات في فصل مستقل غير اننا نشير هنا إلى بعض ما يكشف لنا حجم تأثير تلك الاحتجاجات، وذلك من خلال تراجع الألوف من «الخوارج» بسبب تلك الاحتجاجات، فنقول:
إنهم يروون: أنه بسبب احتجاجات ابن عباس على الخوارج «رجع
____________
(1) الكامل في التاريخ ج3 ص345.
وقال ابن اعثم، وابن شهر آشوب، والإربلي: «استأمن إليه منهم ثمانية آلاف، وبقي على حربه آربعة آلاف»(2).
وقيل: «بل استأمن إليه منهم ألفان»(3).
وقال أبو وائل: «خرجنا أربعة آلاف فخرج إلينا علي، فما زال يكلمنا حتى رجع منا ألفان»(4).
وذكر ابن عساكر: أنه قد نتج عن الاحتجاج عليهم أن «رجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقتل سائرهم على ضلالة»(5).
غير أن البعض يذكر: ان احتجاج ابن عباس عليهم في حروراء لم يؤثر شيئاً، وطلبوا علياً ليكلمهم، فلما كلمهم علي (عليه السلام) رجع ابن الكواء، وعشرة من أصحابه(6)، وأقام الباقون على غيهم. وأمَّروا عليهم الراسبي، وعسكروا بالنهروان، فسار إليهم علي (عليه السلام) حتى بقي على فرسخين منهم. وكاتبهم، وراسلهم، فلم يرتدعوا.
فأرسل إليهم ابن عباس، فكلمهم وكان علي (عليه السلام) وراءه يسمع ما
____________
(1) مجمع الزوائد ج6 ص241 وقال: رواه الطبري، وأحمد بعضه، ورجالهما رجال للصحيح.
(2) الفتوح ج4 ص125 والمناقب لابن شهر آشوب ج3 ص189، وكشف الغمة ج1 ص365 و367.
(3) مصادر هذا النص كثيرة فراجع: الخصائص للنسائي ص147، وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص99 وستأتي مصادر أخرى إن شاء الله تعالى..
(4) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص99..
(5) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق [بتحقيق المحمودي] ج3 ص152..
(6) راجع: كشف الغمة للأربلي ج1 ص264 و265.
فتقدم علي (عليه السلام) إليهم، فكلموه، وذكروا ما نقموه عليه، فأجابهم عنها، فاستأمن ثمانية آلاف.
فأمرهم بأن يعتزلوه في ذلك الوقت، ثم حارب الباقين، فقتلهم. وكانوا أربعة آلاف(1).
ولعل بعض المؤرخين يتحدث عن مرحلة وواقعة، ويتحدث غيره عن مرحلة وواقعة أخرى، فإن الألفين إنما رجعوا حين كلمهم ابن عباس. ويبدو أن ذلك كان بتوجيه وتلقين مباشر حيناً، وبمشاركة حيناً آخر من أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه.
ونسجل ملاحظة هنا: وهي أن من يراجع احتجاجات ابن عباس يجد أنها قوية وحاسمة، وقد نص عدد من المؤرخين على ان ألفين على الأقل قد رجعوا نتيجة لتلك الاحتجاجات فلا يصح قولهم: إن احتجاجاته لم تؤثر شيئاً.
ويقال: إنه بعد أن احتج عليهم ابن عباس: «رجع عبد الله بن الكواء في ألفي رجل، وبقي الباقون، وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، ثم سمّوا الراسبية. ثم أخذوا في الفساد؛ فقال علي (عليه السلام): دعوهم.
حتى إذا أخذوا الأموال وسفكوا الدماء، ومروا بالمدائن ولقيهم عبد الله بن خباب..».
إلى أن يقول النص: «فقتلوه، وبقروا عن بطن امرأته، وقتلوا نسوة، وولداناً؛ فخرج إليهم، وقال:
إدفعوا إلينا قتلة إخواننا، ونحن تاركوكم.
____________
(1) راجع: كشف الغمة ج1 ص265 و267.
بهذا وعظهم (عليه السلام):
قد عرفنا أنه (عليه السلام) قد خطب «الخوارج» بخطب ذات عدد، وأنه قد ردهم بكلامه الحلو في غير موطن.. مما يعني أن تجمع النهروان لم يكن هو الأول، ولا كان هو الأخير في سلسلة بغيهم على إمامهم، وجمعهم الجموع لحربه (عليه السلام).
ونورد هنا فقرة واحدة مما خطبهم (عليه السلام) يوم النهروان، فقد قال:
«نحن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وعنصر الرحمة، ومعدن العلم والحكمة، نحن أفق الحجاز، بنا يلحق البطيء، وإلينا يرجع التائب»(2).
ويلاحظ: أن هذه هي نفس كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)، التي واجه بها الوليد بن عتبة، حين طلب منه البيعة ليزيد لعنه الله. ثم يلاحظ: أن هذه الصفات تناقض تماماً صفات «الخوارج»، حسبما سيأتي بعض التوضيح له في فصول هذا الكتاب..
آخر ما وعظهم به علي (عليه السلام):
«لما استوى الصفان بالنهروان تقدم أمير المؤمنين علي بن أبي
____________
(1) البدء والتاريخ ج5 ص136 و137..
(2) راجع: نهج البلاغة ج2 ص283..
أما بعد.. أيتها العصابة التي أخرجتها عادة المراء والضلالة، وصدف بها عن الحق الهوى والزيغ، إني نذير لكم أن تصبحوا غداً صرعى بأكناف هذا النهر، أو بملطاط من الغائط، بلا بينةٍ من ربكم، ولا سلطان مبين.
ألم أنهكم عن هذه الحكومة، وأحذركموها، وأعلمكم أن طلب القوم لها دهن منهم، ومكيدة. فخالفتم أمري، وجانبتم الحزم فعصيتموني، حتى أقررت بأن حكمت، وأخذت على الحكمين، فاستوثقت، وأمرتهما أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فخالفاً أمري، وعملا بالهوى، ونحن على الأمر الأول، فأين تذهبون، وأين يتاه بكم».
ثم تذكر الرواية: أن خطيبهم طلب من علي (عليه السلام) أن يتوب من الكفر كما تابوا فقال علي (عليه السلام): أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر، أبعد إيماني بالله، وجهادي في سبيل الله، وهجرتي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقر بالكفر؟! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ولكن منيت بمعشر أخفّاء الهام سفهاء الأحلام، والله المستعان.
ثم حمل عليهم، فهزمهم(1) وسنتحدث عن بعض تفاصيل الحرب فيما يأتي
____________
(1) الموفقيات ص325 و327 والخطبة موجودة في تاريخ الأمم والملوك ج4 ص62 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص458 والإمامة والسياسة ج1 ص109 والمستدرك على نهج البلاغة ص68 راجع الأخبار الطوال ص207 و208.
كيفية إقرارهم بقتل ابن خباب:
وقد بادر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى انتزاع اعتراف من القتلة بما صدر عنهم، حيث يقول النص التاريخي: إنه (عليه السلام) قال: «الله أكبر، نادوهم: اخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله، فناداهم ثلاثاً كل ذلك يقولون هذا القول»(1).
وفي نص آخر: أنه (عليه السلام) قال: «.. أيكم قتل عبد الله بن خباب بن الأرت وزوجته، وابنته، يظهر لي أقتله بهم، وأنصرف عهداً إلى مدة، حكم الله أنتظر فيكم؟
فنادوا: كلنا قتل ابن خباب، وزوجته، وابنته، وأشرك في دمائهم.
فناداهم أمير المؤمنين: إظهروا إلي كتائب، وشافهوني بذلك؛ فإني أكره أن يقر به بعضكم في الضوضاء، ولا يقر بعض ولا أعرف ذلك في الضوضاء، ولا استحل قتل من لم يقر بقتل من أقر، لكم الأمان حتى ترجعوا إلى مراكزكم كما كنتم.
ففعلوا، وجعلوا كلما جاء كتيبة، سألهم عن ذلك؛ فإذا أقروا عزلهم ذات اليمين، حتى أتى على آخرهم.
ثم قال: إرجعوا إلى مراكزكم. فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات: رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم؟
فنادوا كلهم: نعم.
فالتفت إلى الناس؛ فقال: الله أكبر، الله أكبر، والله، لو أقر بقتلهم
____________
(1) تاريخ بغداد ج1 ص206.
وعزل بسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات، كل ذلك يسويه على ركبتيه من اعوجاجه. ثم شد الناس معه؛ فقتلوهم، فلم ينج منهم تمام عشرة ».
ثم تذكر الرواية: أنهم لما لم يجدوا ذا الثدية قال: ائتوني بالبغلة؛ فإنها هادية مهدية، فركبها، ثم انطلق حتى وقف على قليب الخ..(1).
علي (عليه السلام) يدعوهم إلى حكم المصحف:
وتذكر رواية جندب أنه (عليه السلام) بعد أن ردّ قول الذين أخبروه بأنهم قد عبروا النهروان.
بل في بعض الروايات: أنه (عليه السلام) كان يقسم أنهم لم يعبروه، وأن مصارعهم دونه(2).. قد أخبر جندباً بأنه سوف يرسل إليهم رجلاً يقرأ المصحف؛ فيدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، ولكنهم سوف يقتلونه. وأنه لن يقتل من أصحابه (عليه السلام) عشرة، ولا ينجو منهم عشرة. قال جندب:
«.. فانتهينا إلى القوم، وهم في معسكرهم الذي كانوا فيه، لم يبرحوا. فنادى علي في أصحابه، فصفّهم. ثم أتى الصف من رأسه ذا إلى رأسه ذا، مرتين. ثم قال:
من يأخذ هذا المصحف، فيمشي به إلى هؤلاء القوم، فيدعوهم إلى
____________
(1) مناقب الإمام علي (عليه السلام)، لابن المغازلي ص413 و414. وفي هوامشه عن مصادر كثيرة أخرى فلتراجع، وقاموس الرجال ج5 ص436/437 عن أبي عبيدة وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص282 عن أبي عبيدة.
(2) راجع: مروج الذهب ج2 ص405.
فلم يجبه إلا شاب من بني عامر بن صعصعة.
فقال له علي: خذ.
فأخذ المصحف [فقال له]: أما إنك مقتول، ولست مقبلاً علينا بوجهك حتى يرشقوك بالنبل.
فخرج الشاب بالمصحف إلى القوم، فلما دنا منهم حيث يسمعون قاموا، ونشبوا الفتى قبل أن يرجع [قال] فرماه إنسان؛ فأقبل علينا بوجهه، فقعد.
فقال علي: دونكم القوم.
قال جندب: فقتلت بكفي هذه [بعد ما دخلني ما كان دخلني] ثمانية قبل أن أصلي الظهر. وما قتل منا عشرة، وما نجا منهم عشرة، كما قال»(1).
تأثير نهج علي (عليه السلام) في «الخوارج»:
إن أهل العراق لم يعرفوا علياً إلا لمدة وجيزة كانت مليئة بالحروب والمآسي، مشحونة بالكوارث على مختلف المستويات، والاتجاهات.
وكان العراقيون يعيشون أجواء الحرب والقتال منذ عهد عمر بن الخطاب، الذي جعل العراق منطلقاً لحملاته العسكرية في فتوحات بلاد فارس، وسائر المناطق الشرقية..
____________
(1) راجع: كنز العمال ج11 ص276 عن الطيالسي، مجمع الزوائد ج6 ص241 و242 عن الطبراني في الأوسط. وذكره أيضاً في منتخب كنز العمال. مطبوع مع مسند أحمد..
وكان لوجود أمير المؤمنين فيما بين أظهر العراقيين تلك الفترة الوجيزة، برغم كل ما واجهه من انشغالات وصوارف أثر في عقليتهم وثقافتهم، ثم في حالاتهم الإيمانية. وحتى في وعيهم السياسي والديني، وفي مختلف شؤونهم..
حتى إنه (عليه السلام) ليقول لأهل العراق: «ركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام»(1).
بل إن معاوية حينما واجه عكرشة بنت الأطرش، لم يجد مناصاً من الاعتراف بتأثير أمير المؤمنيين (عليه السلام) في أهل العراق حيث قال ـ كما تقدم ـ: «هيهات يا أهل العراق نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا»(2).
علي (عليه السلام) لا يبدؤهم بالقتال:
وكما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يبدأ أحداً بقتال.. كان علي كذلك، ولم يكن موقفه من «الخوارج»، إلا امتداداً لهذه السياسة.. فقد قال علي (عليه السلام) لأصحابه:
«كفوا عن الخوارج حتى يبدؤوكم»(3).
____________
(1) نهج البلاغة ج1 ص168 بشرح عبده. المطبعة الرحمانية بمصر.
(2) العقد الفريد ج2 ص112 وبلاغات النساء ص104 ـ ط سنة 1972م وصبح الأعشى..
(3) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص371 ونور الأبصار ص102 والبداية والنهاية ج7 ص289 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص271 و272 وغير ذلك من
=>
ومن المضحك المبكي: أن نجد في أتباع الخط الأموي من يحاول ـ أحياناً ـ أن يقلد أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الناحية، فقد «كان المهلب يقول لبنيه: لا تبدأوا «الخوارج» بقتال حتى يبدؤوكم، ويبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم»(2).
والأدهى والأمر أننا نجد حتى «الخوارج» الذين كان دينهم الإجرام والقسوة إلى درجة ذبح الأطفال، وبقر بطون النساء، والغارات التي لا ترحم.. ـ نجد ـ: أنهم في بعض الأحيان تصدر منهم أفعال تأثروا فيها بما أشاعه (عليه السلام) في الناس.. ومنها عدم البدء بالقتال؛ فإن أبا حمزة الخارجي حين التقى بمحاربيه في قديد، قال لأصحابه: «كفوا عنهم ولا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم بالقتال، فواقفوهم، ولم يقاتلوهم، فرمى رجل الخ..»(3).
لا تتبعوا مولياً:
وكان من سيرة علي (عليه السلام) أن يأمر أصحابه: أن لا يتبعوا مولياً، ولا يجهزوا على جريح.. وقد أمرهم في النهروان أيضاً بأن لا يتبعوا
____________
<=
مصادر ستأتي في فقرة تفاصيل منسقة..
(1) البرصان والعرجان ص333.
(2) شرح نهج البلاغة ج4 ص196 والكامل في الأدب ج3 ص381..
(3) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص112 وراجع: العقود الفضية ص203.
فقلده أبو حمزة الخارجي مع محاربيه في قديد أيضاً، فإنه لم يسمح باتباع المدبر، ولا بالإجهاز على جريح حين طلب منه ذلك، وقال: «لا أخالف سيرة أسلافنا»(2).
مع أن سيرة أسلافه كانت ضد ذلك، كما هو معلوم.
إقامة الحجة أولاً:
وكان علي (عليه السلام) لا يقاتل أحداً حتى «الخوارج» إلا بعد أن يقيم عليه الحجة، وكذلك قال أبو حمزة الخارجي لأصحابه، حين التقى بابن عطية: «لا تقاتلوهم حتى تختبروهم، فصاحوا، فقالوا: يا أهل الشام، ما تقولون في القرآن والعمل؟ الخ..»(3).
____________
(1) تاريخ بغداد ج1 ص160.
(2) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص112.
(3) المصدر السابق ج5 ص123.
الفصل الرابع
آخر الدواء الكي
أو جنت على نفسها براقش
توضيحات للسياق التاريخي
1 ـ التعبئة:
قال ابن قتيبة وغيره: «.. فرجع علي، فعبأ أصحابه، فجعل على الميمنة حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبث بن ربعي [أو معقل بن قيس]. وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة. وعلى أهل المدينة ـ وهم ثمان مئة رجل من الصحابة ـ قيس بن سعد بن عبادة [وقال الشبلنجي، وابن الصباغ: كان على المقدمة]. ووقف علي في القلب في مضر.»
2 ـ رواية الأمان:
قال الإربلي: «لم يزل يعظهم، ويدعهم، فلمّا لم ير عندهم انقياداً ركز لهم راية أمان».
وعلى حد تعبير ابن قتيبة «قال: ثم رفع لهم راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري. فناداهم أبو أيوب: من جاء منكم إلى هذه الراية، فهو آمن [زاد الشبلنجي وابن الصباغ:
ومن دخل المصر فهو آمن، ومن انصرف إلى العراق، ومن خرج من هذه الجماعة فهو آمن، فانه لا حاجة لنا في سفك دمائكم»(1).
3 ـ التفرق والتراجع:
زاد ابن الأثير، والشبلنجي، وابن الصباغ: «ومن انصرف إلى الكوفة، فهو آمن، ومن انصرف إلى المدائن فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا في سفك دماءكم. فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي في خمس مئة فارس. وخرجت طائفة أخرى منصرفين إلى الكوفة، وطائفة أخرى إلى المدائن. وتفرق أكثرهم، بعد أن كانوا اثني عشر ألفاً، فلم يبق منهم غير أربعة آلاف» (2).
«وأمر الذين استأمنوا أن يعتزلوه، ولا يشاركوا في الحرب المتوقعة»(3).
4 ـ قبل أن تبدأ الحرب:
«قال: وقدم الخيل دون الرجالة، وصف الناس صفين وراء الخيل، وصف الرماة صفاً أمام صف. وقال لأصحابه كفوا عنهم حتى يبدؤوكم».
____________
(1) راجع المصادر الآتية في الهوامش الثلاثة التالية.
(2) النص الذي بين المعقوفتين نقلناه من: نور الأبصار ص 102 والفصول المهمة لابن الصباغ ص93 والكامل في التاريخ ج3 ص346. ونعود من جديد لذكر النص الذي هو لابن قتيبة، وسائر المصادر الآتية في الهامش التالي..
(3) المصادر في الهامش التالي ما عدا كتاب الإمامة والسياسة. والفتوح لابن أعثم ج4 ص125 والمناقب لابن شهر آشوب ج3 ص189.
5 ـ «الخوارج» يبدأون الحرب:
«قال وأقبلت الخوارج، حتى إذا دنوا من الناس نادوا: لا حكم إلا لله، ثم نادوا الرواح الرواح إلى الجنة.
قال: وشدوا على أصحاب علي شدة رجل واحد: والخيل أمام الرجال. فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، فخمدوا.
قال الثعلبي: لقد رأيت «الخوارج» حين استقبلتهم الرماح والنبل كأنهم معز اتقت المطر بقرونها، ثم عطفت الخيل عليهم من الميمنة والميسرة، ونهض علي في القلب بالسيوف والرماح، فلا والله ما لبثوا فواقاً حتى صرعهم الله، كأنما قيل لهم موتوا فماتوا».
6 ـ الغنائم:
قال: «وأخذ علي ما كان في عسكرهم من كل شيء، فأما السلاح والدواب، فقسمه علي بيننا. وأما المتاع والعبيد والإماء، فانه حين قدم الكوفة رده على أهله»(1).
تفاصيل في روايات أخرى:
وفي بعض الروايات: أنهم «رموا أصحابه. فقيل له قد رمونا. فقال:
____________
(1) الإمامة والسياسة ج1 ص 149 و تجد ما تقدم كلاً أو بعضاً في المصادر التالية أيضاً: نور الأبصار ص 102 والكامل في التاريخ ج3 ص 345 و346 والمناقب لابن شهر آشوب ج3 ص 189 و193 وراجع الفصول المهمة لابن الصباغ ص 93 وكشف الغمة ص 265 والفتوح لابن أعثم ج4 ص 125 والفرق بين الفرق ص 80 والأخبار الطوال ص 207 وراجع البداية والنهاية ج7 ص 289 وأنساب الأشراف ج2 ص371 و372 وفيه تفاصيل وتوضيحات ومناقب الإمام علي لابن المغازلي ص 414 والبحار ط قديم ج8 ص 563 و565 وسفينة البحار ج1 ص 383 و384.
فقال علي: الله اكبر، الآن حل قتالهم، احملوا على القوم الخ..»(1).
وقال ابن الطقطقا: «لما التقى «الخوارج» بالنهروان أجفلوا قدامه إلى ناحية الجسر. فظن الناس أنهم قد عبروا الجسر فقالوا لعلي (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، إنهم قد عبروا الجسر؛ فالقهم قبل أن يبعدوا.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ماعبروا وان مصارعهم دون الجسر، والله لا يقتل منكم عشرة ولا يبقى منهم عشرة.
فشك الناس في قوله، فلما أشرفوا على الجسر رأوهم لم يعبروه، فكبر أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالوا له:
هو كما قلت يا أمير المؤمنين.
قال: نعم والله، ما كذبت ولا كذبت، فلما انفصلت الوقعة، وسكنت الحرب اعتبر القتلى من أصحاب علي (عليه السلام)، فكانوا سبعة»(2).
ثلاث حملات للخوارج:
وتذكر بعض النصوص: أن «الخوارج» قاموا في بداية الأمر بحملات ثلاث ضد جيش أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي كان يقارب عدده
____________
(1) راجع بعض المصادر في الهامش السابق.
(2) الفخري في الآداب السلطانية ص95.
فقد روى الخطيب البغدادي: «أن الخوارج حملت على الناس، حتى بلغوا منهم شدة. ثم حملوا عليهم الثانية، فبلغوا من الناس أشد من الأولى، ثم حملوا الثالثة حتى ظن الناس أنها الهزيمة.
فقال علي: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا يقتلون منكم عشرة، ولا يبقى منهم عشرة.
فلما سمع الناس ذلك حملوا عليهم، فقتلوا»(1).
عدد القتلى والناجين:
وقد كانت هذه الحملات بعد أن رجع من «الخوارج» من رجع، وانصرف منهم من انصرف، ودارت رحى الحرب، ثم انجلت عن الباقين، وقد قتلوا جميعاً، ولم يفلت منهم إلا أقل من عشرة.
وقد اختلفوا في عدد من قتل منهم.
فقيل خمسة آلاف تقريباً.
وقيل أربعة آلاف.
وقيل أقل وأكثر من ذلك(2).
____________
(1) تاريخ بغداد ج14 ص 365.
(2) راجع الثقات لابن حبان ج2 ص 296 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص193 والفتوح لابن أعثم ج4 ص 125 و123 ومناقب الإمام علي لابن المغازلي ص 415 واثبات الوصية ص 147 وأنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص 371 والخرائج والجرائح ص 209 والبحار ط قديم ج8 ص 562 و562 والبداية والنهاية ج7 ص 289 وتاريخ بغداد ج1 ص 182 وكشف الغمة ج1 ص 267 ومروج الذهب ج2 ص
=>