الصفحة 290

إلى أن قال: فطالت خصومتهم وخصومة علي بالكوفة , ثم أصبحوا يوماً وقد زالوا براياتهم , وهم خمسة آلاف عليهم ابن الكواء , فقطع بقتالهم. وأرسل علي إليهم عبد الله بن عباس، وصعصعة بن صوحان , من عبد القيس , فناشدوهم ودعوهم إلى الجماعة, فأبوا عليهم.

فلما رأى علي ذلك أرسل إليهم: إنا ندعوكم إلى مدة نتدارس فيها كتاب الله، لعلنا نصطلح فمادّوه بضعة عشر ليلة.

فقال علي (عليه السلام): إبعثوا منكم اثني عشر نقيباً ونبعث منا مثلهم، ثم ابرزوا بنا إلى مكان ـ سمّاه ـ يجتمع الناس فيه، ويقوم فيه خطباؤنا بحججنا.

ففعلوا، ورجعوا إلى الناس.

فقام علي فتشهد، وقال:

أما بعد, فإني لم أكن أحرصكم على هذه القضية, وعلى التحكيم, ولكنكم وهنتم في القتال, وتفرقتم علي, وحاكمتموني بالقرآن, فخشيت إن أبيت الذي عرض علي القوم من كتاب الله أن يتأولوا كتاب الله علي (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون. ذلك بأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون).

وخشيت أن يتأولوا علي قول الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرمٌ، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة).


الصفحة 291
وخشيت أن يتأولوا علي قول الله في الرجل وامرأته: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما).

فيقولوا لي إن أبيت أن أحكم فيها: قد دعاك القوم إلى كتاب الله ليحكم بينهم، قد فرض الله في الكتاب حكمين في أصغر من هذا الأمر، الذي فيه سفك الدماء، وقطع الأرحام، وانتهاك المحارم، فتخاصموني من كتاب الله، بما ترون أن لكم الحجة علي، فأجبت حين دعيت إلى الحكم بكتاب الله، وخشيت وهنكم وتفرقكم.

ثم قامت خطباء علي فنحوا في النحو الذي احتج به علي، حتى إذا فرغوا قام خطباء الحرورية فقالوا: إنكم دعوتمونا إلى كتاب الله فأجبناكم، ودعوتمونا إلى العمل به حتى قتلت عليه القتلى يوم الجمل ويوم صفين، وقطعت فيه الأرحام، ثم شككت في أمرك وحكمت عدوك، فنحن على أمرك الذي تركت، وأنت اليوم على غيره إلا أن تتوب وتشهد على نفسك بالضلالة فيما سلف.

فلما فرغوا من قولهم قال علي: «أما أن أشهد على نفسي بالضلالة فمعاذ الله أن أكون ارتبت منذ أسلمت، أو ضللت منذ اهتديت، بل بنا هداكم الله وبنا استنقذكم الله من الضلالة، ولكن حكمت منا حكماً ومنهم حكماً، وأخذت عليهما أن يحكما بكتاب الله وسنة نبيه والسنة الجامعة غير المفرقة، فإذا فعلا كنت ولي هذا الأمر، وإن خالفا لم يكن لهما علي حكم».

فكثر قول علي وقولهم، واختصامهم، ثم تفرقوا فنبذ بعضهم إلى بعض، فأرسل علي إليهم عبد الله بن عباس وصعصعة، فقال لهم

الصفحة 292
صعصعة: اسمعوا مني أعظكم بكلمات، فإن الخصومة قد طالت منذ هذه الأشهر، يا قوم أذكركم الله والإسلام أن تكونوا شيناً لأهل القرآن، فإنكم والله قد فتحتم أمراً لو دخلت فيه هذه الأمة بأسرها ما بلغت غوره أبداً.

قالوا: يا صعصعة إنا نخشى إن أطعناك اليوم أن نبين عاماً قابلاً.

قال: يا قوم إني أذكركم الله والإسلام أن تعجلوا فتنة العام خشية فتنة عام قابل.

قال ابن الكواء ـ وهو رئيسهم الذي دعاهم إلى البدعة التي ركبوها ـ: يا قوم ألستم تعلمون أني دعوتكم إلى هذا الأمر وأنا رأسكم اليوم فيه؟!

قالوا: بلى.

قال: فأنا أول من أطاع. فإن هذا واعظ شفيق على الدين.

فقام معه قريب من خمسمائة، ودخلوا في جماعة أمر علي. وبقي قريب خمسة آلاف، فقاتلهم وقاتلوه، حتى أوصلهم إلى آبارهم.

ثم اعتزل منهم أهل النخيلة، وهم قريب من ألف رجل. فأقرهم، على أن يأخذوا أعطيتهم، لا يزيدون عليها من كل ما مر بهم، ولا يثيرون أحداً، ولا يقطعون سبيلاً.

وقال علي: ذروهم ما تركوكم.

فلم يزالوا على ذلك حتى قتل علي رضي الله عنه(1).

____________

(1) تهذيب تاريخ دمشق ج7 ص305 ـ 307 وراجع أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص 353 و 354.


الصفحة 293

ابن الكواء، وعلي (عليه السلام):

لما جاء علي (عليه السلام) إلى أهل حروراء، قال لهم: يا هؤلاء، من زعيمكم؟

قالوا: ابن الكواء.

قال: فليبرز إلي.

فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يا ابن الكوّاء، ما أخرجكم علينا بعد رضاكم بالحكمين، ومقامكم بالكوفة؟!

قال: قاتلت بنا عدواً لا نشك في جهاده، فزعمت: أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، فبينما نحن كذلك، إذ أرسلت منافقاً وحكمت كافراً. وكان مما [من] شكك في أمر الله أن قلت للقوم حين دعوتهم: «كتاب الله بيني وبينكم، فإن قضى علي بايعتكم، وإن قضى عليكم بايعتموني»، فلولا شكك لم تفعل هذا والحق في يدك.

فقال علي: يا ابن الكواء إنما الجواب بعد الفراغ، أفرغت فأجيبك؟

قال: نعم.

قال علي: أما قتالك معي عدواً لا نشك في جهاده فصدقت، ولو شككت فيهم لم أقاتلهم.

وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله في ذلك ما يستغني به عن قولي. وأما إرسالي المنافق، وتحكيمي الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنساً، ومعاوية حكم عمرواً، أتيت بأبي موسى مبرنساً، فقلت: لانرضى إلا أبا موسى، فهلا قام إليّ رجل منكم، فقال: يا علي، لا نعطي هذه الدنية فإنها ضلالة؟


الصفحة 294
وأما قولي لمعاوية: إن جرني إليك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إلي تبعتني، زعمت أني لم أعط ذلك إلا من شك، فقد علمت: أن أوثق ما في يدك هذا الأمر، فحدثني ـ ويحك ـ عن اليهودي والنصراني، ومشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام؟.

قال: بل معاوية وأهل الشام أقرب.

قال علي: أفرسول الله (صلى الله عليه وآله) كان أوثق بما في يديه من كتاب الله أو أنا؟!.

قال: بل رسول الله.

قال: أفرأيت الله تبارك وتعالى حين يقول: قل فأتوا بكتاب من عند الله، هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين. أما كان رسول الله يعلم: أنه لا يؤتى بكتاب هو أهدى مما في يديه؟.

قال: بلى.

قال: فلم أعطى رسول الله القوم ما أعطاهم؟

قال: إنصافاً وحجة.

قال: فإني أعطيت القوم ما أعطاهم رسول الله.

قال ابن الكواء: فاني أخطأت، هذه واحدة، زدني.

قال علي: فما أعظم ما نقمتم عليّ.

قال: تحكيم الحكمين، نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمهما شكاً وتبذيراً.

قال علي: فمتى سمي أبو موسى حكماً، حين أرسل؟ أو حين حكم؟


الصفحة 295
قال: حين أرسل.

قال: أليس قد سار وهو مسلم وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟

قال: نعم.

قال علي: فلا أرى الضلال في إرساله.

فقال ابن الكواء: سمي حكماً حين حكم.

قال: نعم إذاً، فإرساله كان عدلاً، أرأيت يابن الكواء لو أن رسول الله بعث مؤمناً إلى قوم مشركين، يدعوهم إلى كتاب الله، فارتد على عقبه كافراً، كان يضرّ نبي الله شيئاً؟

قال: لا.

قال علي: فما ذنبي أن كان أبو موسى ضل؟ هل رضيت حكومته حين حكم، أو قوله إذ قال؟!.

قال ابن الكواء: لا ولكنك جعلت مسلماً وكافراً يحكمان في كتاب الله.

قال علي: ويلك يا ابن الكواء، هل بعث عمرواً غير معاوية؟ وكيف أحكمه، وحكمه على ضرب عنقي؟ إنما رضي به صاحبه كما رضيت أنت بصاحبك، وقد يجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله. أرأيت لو أن رجلاً مؤمناً تزوج يهودية أو نصرانية، فخافا شقاق بينهما، ففزع الناس إلى الله، وفي كتابه: (فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها)، فجاء رجل من اليهود، أو رجل من النصارى،

الصفحة 296
ورجل من المسلمين، اللذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله، فحكما.

قال ابن الكواء: وهذه أيضاً، أمهلنا حتى ننظر.

فانصرف عنهم علي.

قال صعصعة بن صوحان: يا أمير المؤمنين، إئذن لي في كلام القوم.

قال: نعم، ما لم تبسط يداً.

قال: فنادى صعصعة ابن الكواء، فخرج إليه، فقال: أنشدكم الله يا معشر الخارجين. ألا تكونوا عاراً على من يغزو لغيره، وألا تخرجوا بأرض تسمُّوا بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام خشية ضلال عام قابل.

فقال له ابن الكواء: إن صاحبك لقينا بأمر قولك فيه صغير، فامسك(1).

قال ابن حيان: «كان مع علي جمعية يسيرة، إنما جاء على ان يردهم بالكلام، وقد كانت «الخوارج» قريباً من خمسة آلاف» فقتلهم علي (عليه السلام)»(2).

وقبل أن نختم هذا الفصل نورد نصاً لمحاورة يقال: إنها جرت بين نافع بن الأزرق الخارجي والإمام الباقر (عليه السلام)..

والحقيقة هي أنها إنما جرت بين نافع مولى ابن عمر، لا ابن الأزرق كما سيتضح، والمحاورة هي التالية..

____________

(1) العقد الفريد ج4 ص 351 ـ 353.

(2) راجع: الثقات ج2 ص 296.


الصفحة 297

هل حاور الإمام الباقر نافع بن الأزرق؟!

قال الشيخ المفيد: «جاءت الأخبار: أن نافع بن الأزرق جاء إلى محمد بن علي (عليهما السلام)، فجلس بين يديه، يسأله عن مسائل في الحلال والحرام.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام) في عرض كلامه: قل لهذه المارقة، بما استحللتم فراق أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته، والقربة إلى الله بنصرته؟! فسيقولون لك: إنه حكم في دين الله، فقل لهم: قد حكم الله تعالى في شريعة نبيه (صلى الله عليه وآله) رجلين من خلقه، فقال: فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، وحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعد بن معاذ في بني قريظة: فحكم فيهم بما أمضاه الله.

أو ما علمتم: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن، ولا يتعدياه، واشترط ردّ ما خالف القرآن من أحكام الرجال.

وقال حين قالوا له: حكمت على نفسك من حكم عليك، فقال: ما حكمت مخلوقاً، وإنما حكمت كتاب الله.

فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن واشتراط رد ما خالفه، لولا ارتكابهم في تدعيهم البهتان؟

فقال نافع بن الأزرق: هذا والله كلام ما قرّ بسمعي قط، ولا خطر مني ببال، وهو الحق إن شاء الله)(1).

____________

(1) الإرشاد للمفيد ص265، والاحتجاج ج2 ص57/58.


الصفحة 298
وذكر في تفسير القمي مناظرة بين نافع بن الأزرق ـ ووصفه بأنه مولى عمر بن الخطاب ـ مع أبي جعفر الباقر(عليه السلام)، في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك. وفي هذه الرواية: أن نافعاً كان بصحبة هشام هذا، وقد تواطأ معه على أن يسأل الإمام عن مسائل بهدف أن يخجله ـ فكانت النتيجة هي إقرار نافع بأنهم (عليهم السلام) أوصياء رسول الله وخلفاؤه(1).

وروي: أن نافع بن الأزرق سأل أبا جعفر (عليه السلام)، قال: اخبرني عن الله عز وجل متى كان؟

قال: متى لم يكن حتى أخبرك الخ(2).

وهذه الفقرة موجودة في الرواية السابقة، كما في الكافي والاحتجاج.

وفي ذيل الرواية التي في الكافي ما يدل على أن نافعاً مولى ابن عمر كان من «الخوارج»، فقد جاء فيها: أن الإمام الباقر (عليه السلام) قال له:

ما تقول في أصحاب النهروان، فإن قلت: إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت.

[أي ارتددت عن مذهب الخوارج الذي تقول به] وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد كفرت.

____________

(1) تفسير القمي ج2 ص 284، تفسير سورة الزخرف، والبحار ج 10 ص 161 و162 والرواية في الاحتجاج ج2 ص 95 وليس فيها كلمة ابن الأزرق. وكذا في الكافي ج8 ص 120 وقال في مرآة العقول ج26 ص 513 ـ 515: هو نافع بن سرجس، مولى عبد الله بن عمر، كان ذمياً.. وكان ناصبياً، خبيثاً، معانداً لأهل البيت (عليهم السلام). يظهر من أخبارنا أنه كان يميل إلى رأي الخوارج، كما يدل عليه هذا الخبر..

(2) الاحتجاج ج2 ص54.


الصفحة 299
قال: فولى من عنده، وهو يقول: أنت أعلم الناس حقاً حقاً الخ(1).

ونقول:

أولاً: إن مولى ابن عمر بن الخطاب هو نافع بن سرجس، لا نافع بن الأزرق..

ثانياً: إن ابن الأزرق قد قتل في واقعة الدولاب في سنة 65 هجرية(2)، أي في وقت (كان عمر الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام)، لا يزيد على سبع سنوات. وهو في كنف أبيه الإمام السجاد صلوات الله وسلامه عليه.. فلا يعقل أن تكون تلك الحادثة قد جرت له معه (عليه الصلاة والسلام).

وأما نافع بن سرجس مولى عبد الله بن عمر، فقد توفي في سنة 117 هجرية(3).

وقد كان ناصبياً خبيثاً يميل إلى رأي «الخوارج»(4).

ومعنى ذلك هو أن الروايات المتقدمة إنما تتحدث عن هذا الثاني دون الأول، لكن الرواة قد خلطوا بينهما..

ولعل شهرة ابن الأزرق بمذهب «الخوارج» جعلت أذهان الرواة، تنصرف إليه، فيقحمون كلمة ابن الأزرق بصورة عفوية.. أو استنادا إلى هذا الارتكاز العفوي إن صح التعبير.

____________

(1) الكافي ج8 ص 122.

(2) الكامل في التاريخ ج4 ص 195.

(3) البحار ج10 ص 161/162.

(4) الكافي ج8 هامش ص 120.


الصفحة 300
ثالثاً: إن كلمة ابن الأزرق وكلمة مولى عمر بن الخطاب قد وردتا في رواية واحدة، وصفاً لنافع واحد. كما تقدم في رواية القمي.. وهذا يؤيد ما ذكرناه بصورة ظاهرة وقوية أيضاً.

رابعاً: إن ما ذكرته الرواية من قول ابن الأزرق أخيراً: «هذا والله كلام ما قر بسمعي قط، ولا خطر مني ببال». يثير الدهشة، فإن هذا الكلام قد سمعه «الخوارج» في أول ظهورهم وبداية بغيهم على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد اعترفوا به، ورجع منهم الكثيرون عن غيهم بسببه. ولا يعقل أن يخفى ذلك على مثل ابن الأزرق الزعيم فيهم، والذي تقوم نحلته على هذا الأساس بالذات وهذا شاهد آخر على أن المقصود ليس هو نافع بن الأزرق، بل مولى ابن عمر كما قلنا.


الصفحة 301


الفصل الرابع
تزوير الخوارج للحقائق





الصفحة 302

الصفحة 303

«الخوارج» يفتئتون على علي (عليه السلام):

إن موقف علي (عليه السلام) من «الخوارج» كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار. وهو منسجم مع التصديق بما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنهم بمروقهم من الدين، وبأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم..

وعلى هذا الأساس فلا مجال للتصديق بما رواه «الخوارج» أنفسهم عن علي (عليه السلام) في ضد ذلك.

ورواه آخرون ممن تابعوهم في ذلك أيضاً، ربما عن غفلة منهم عن التصرف الذي مورس في النصوص الثابتة، فضلاً عن غفلتهم عن حقيقة السر الكامن وراء هذا النوع من التغييرات.. فرووا ـ والنص لابن كثير: أن علياً سئل عن «الخوارج» أمشركون هم؟!

فقال: من الشرك فرّوا.

فقالوا: أفمنافقون؟!.

فقال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.

قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟!.


الصفحة 304
قال: إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم ببغيهم علينا(1).

فهم إذن إخوان باغون، وليسوا مرّاقاً من الدين كما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم فارّون من الشرك وليسوا بمنافقين.. وهل ذكرهم لله كثيراً وتظاهرهم بالعبادة وقراءة القرآن يبعدهم عن دائرة النفاق والكفر؟! فإننا قد نجد في المنافقين من يعبد الله ليلاً ونهاراً، ليخدع بذلك من يسعى لإسقاط أطروحته، والقضاء على نهجه.. خصوصاً إذا علمنا أنهم: يقرؤن القرآن ولا يجاوز تراقيهم..

وفي نص آخر: أن علياً (عليه السلام) أرسل ابن عباس إلى أهل حروراء، فنظر في أمرهم وكلمهم، ثم رجع فقال له (عليه السلام): ما رأيت؟

فقال ابن عباس: والله، ما أدري ما هم.

فقال علي (عليه السلام): رأيتهم منافقين.

قال: والله، ما سيماهم بسيما المنافقين، إن بين أعينهم لأثر السجود وهم يتأولون القرآن.

فقال (عليه السلام): دعوهم ما لم يسفكوا دماً، أو يغصبوا مالاً. وأرسل إليهم ما هذا الذي أحدثتم الخ(2).

وعن الحسن، قال: لما قتل علي رضي الله عنه الحرورية، قالوا: من هؤلاء يا أمير المؤمنين؟ أكفار هم؟

قال: من الكفر فرّوا.

____________

(1) البداية والنهاية ج7 ص290 عن ابن جرير، وغيره والعقود الفضية للحارثي الإباضي ص 63 والأشعثيات ص 234 وتاريخ الأمم والملوك ج5 ص 73 والإباضية ص 83.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 310 عن ابن ديزيل في صفينه.


الصفحة 305
قيل: فمنافقون؟!.

قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً.

قيل: فما هم؟.

قال: قوم أصابتهم فتنة، فعموا فيها، وصمُّوا (1).

ولعل هذا الذي روي عن الحسن إنما هو حكاية لما قاله علي (عليه السلام) حين سئل عن أصحاب الجمل. كما ورد(2)، فراجع..

الرواية الصحيحة:

والنص الصحيح، الموافق لما اخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولسائر ما صدر عن علي (عليه السلام) في حق «الخوارج». هو النص الذي أورده ابن أعثم، فهو يقول: «.. فلم يزل يخرج رجل بعد رجل، من أشد فرسان علي، حتى قتل منهم جماعة، وهم ثمانية.

وأقبل التاسع، واسمه حبيب بن عاصم الأزدي، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء الذين نقاتلهم أكفار هم؟!

فقال علي: من الكفر هربوا، وفيه وقعوا..

قال: أفمنافقون؟!

قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.

قال: فما هم يا أمير المؤمنين، حتى اقاتلهم على بصيرة ويقين؟!

____________

(1) المصنف للصنعاني ج10 ص 150 وكنز العمال ج11 ص 286 و276 عنه.

(2) العقد الفريد ج4 ص330.


الصفحة 306
فقال علي: هم قوم مرقوا من دين الإسلام كما مرق السهم من الرمية، يقرأون القرآن، فلا يجاوز تراقيهم، فطوبى لمن قتلهم.

قال: فعندها تقدم حبيب بن عاصم هذا نحو الشراة ـ وهو التاسع من أصحاب علي ـ فقاتل حتى قتل.

واشتبك الحرب بين الفريقين. فاقتتلوا قتالاً شديداً. ولم يقتل من أصحاب علي إلا اولئك التسعة»(1).

وبعدما تقدم نقول:

لقد حان الآن موعد اعطاء أمثلة يسيرة تبين لنا بعض أخبارهم، من خلال مزاعمهم هم، فنقول:

رواية «الخوارج» لقصة ذي الثدية:

إن إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) عن أمر ذي الثدية، وتركيز أمير المؤمنين (عليه السلام) على هذا الأمر، واهتمامه بإظهاره، وتأكيداته المتكررة على وجوده بين القتلى يوم النهر، ثم ظهور صدقه وصحة قوله لهم (عليه الصلاة والسلام) كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار ـ قد أحرج «الخوارج»، وجعلهم يضيقون ذرعاً، لأنه تضمن إدانة صريحة لكل حركتهم. وأظهر مناقضتها للدين، وللحق الصريح، وللنص الصحيح.

فانبروا لمواجهة هذا الواقع بمحاولة تزويرية للحقيقة وللتاريخ، لم تقنع أحداً من الناس إلا إن كان من «الخوارج» أنفسهم، وهم معاشر اخفاء الهام سفهاء الأحلام. فرووا للناس قصة ذي الثدية بطريقة تضمنت

____________

(1) الفتوح لابن أعثم: ج4 ص 127 ـ 128.


الصفحة 307
الاعتراف بأن علياً قد كشف أمر ذي الثدية، ولكنها حاولت اعتبار ذلك مجرد تمثيلية وخدعة منه (عليه السلام) للناس!!.

وإليك روايتهم المشوهة لهذه القصة، فهم يقولون: «.. في السير أيضاً، من كتاب النهروان، عن جابر بن زيد: أن علياً أظهر الندامة للناس.

قيل له: قتلت قوماً، وأظهرت الندامة عليهم، وطفقت تمدحهم، وتزين أمرهم؟!، لتخلعن، أو لتقتلن.

فلما أصبح قال: ابتغوا في القتلى رجلاً، فوجدوا نافعاً مولى ترملة، صاحب رسول الله صلى الله عليه. وكان صالحاً مجتهداً، قطع الفحل يده.

فقال: هذا هو.

فقال له الحسن: هذا نافع مولى ترملة.

قال له: أسكت، الحرب خدعة.

وهذا الرجل هو الذي التبس به على القوم أمر دينهم، وظنوا أنه علامة للباطل..»(1).

واللافت للنظر هنا: أننا لم نجد في ما بأيدينا من كتب تراجم الصحابة من اسمه ترملة، أو من اسمه نافع مولى ترملة.

____________

(1) العقود الفضية ص 69.


الصفحة 308

ندامة علي (عليه السلام) في روايات «الخوارج»:

ويحرص «الخوارج»، والمؤلفون منهم على تسجيل ندامة علي (عليه السلام) على قتلهم، وأنه حين قتلهم بكى عليهم بكاء مراً، ووصفهم بالأوصاف الحميدة.

فرووا عن قنبر مولى علي، قال: «تحولت أنا وعلي إلى النهر بعد القتال، فانكب طويلاً يبكي.

فقال: ما يبكيك؟!.

قال: ويحك، صرعنا ههنا خيار هذه الأمة وقراءها.

فقلت: إي والله، فابك.

فبكى طويلاً، ثم قال: جدعت أنفي، وشفيت نفسي.

فاظهر الندامة على قتله إياهم(1).

وتلقى الحسن بن علي (عليه السلام) أباه حين دخل الكوفة. فقال: يا أبتي، أقتلت القوم؟!.

قال: نعم.

قال: لا يرى قاتلهم الجنة.

قال: ليت أني أدخلها، ولو حبواً»(2).

ويروي الخوارج أيضاً: أنه لما فقد علي (عليه السلام) تلك الأصوات بالليل، كأنها دوي النحل قال: أين أسود النهار، ورهبان الليل؟!.

____________

(1) العقود الفضية ص 68.

(2) العقود الفضية ص 67.


الصفحة 309
قالوا له: قتلناهم يوم النهر(1).

وقال الحارثي الإباضي أيضاً: «..قال في كتاب بيان الشرع ـ وهو من الكتب العمانية القديمة، المعتبرة، المعتمدة:

قيل: لما قتل علي بن أبي طالب أهل النهروان أمر بعيابهم، فجمعت، فإذا مصاحف وترايس. فذكروا أنه أصيب في عسكرهم أربعة آلاف مصحف إلا مصحف.

فبكى علي حتى كادت نفسه تخرج.

ويقال: إنه دخل على ابنته أم كلثوم، فهنأته بالظفر بهم.

فقال علي: أصبح أبوك من أهل النار، إن لم يرحمه الله..»(2).

«الخوارج» يروون تأييد عائشة لهم:

ولم يكتف «الخوارج» بتصوير علي (عليه السلام) بصورة النادم على قتلهم، والباكي المتلهف من أجلهم، بل هم يروون: أن عائشة أم المؤمنين أيضاً قد أيدت أنهم قد ظلموا، وقتلوا بغير حق، فهم يروون أن عبد الله بن شداد قدم المدينة، فأرسلت إليه عائشة، فقالت: يا عبد الله، لما قتل علي أصحابه..

فحدثها بالقصة كلها..

فقالت: ظلمهم.

قالت: هل تسمي أحداً ممن قتل؟!.

قال: نعم. حرقوص بن زهير السعدي.

____________

(1) العقود الفضية ص 67.

(2) العقود الفضية ص 80.