فاسترجعت.. ثم ذكرت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد شهد لحرقوص بالجنة ثلاث مرات. ثم قالت: ومن؟!.
«قلت: زيد بن حصن الطائي.
فبكت، وقالت: والله، لو اجتمعت الأمة على الرمح الذي طعن به زيد لكان حقاً على الله أن يكبهم جميعاً في النار»(1).
موقف ابن عباس برواية «الخوارج»:
وإذا كان «الخوارج» قد رووا عن عائشة ما تقدم، وقد يجدون من يصدقهم في ذلك، بسبب ما عرف عن عائشة من عداوة وضدية مع علي (عليه السلام)، ومخالفة له، حتى لقد شنت عليه حرباً في يوم الجمل، قد حصدت أكثر من عشرين ألفا من المسلمين.
وإذا كانوا قد ادعوا أن علياً (عليه السلام) قد ندم على قتلهم، وبكى عليهم.
فإن ذلك لم يكن ليقنع الناس، فإن مناظرات ابن عباس لهم التي كان له الفلج فيها عليهم، والتي شاع أمرها وذاع في البلاد والعباد، كانت مرة المذاق، بالغة الحدة والأثر عليهم. فكان أن حاولوا الالتفاف عليها أيضاً، من ناحيتين: فقرروا أولاً: أن الفلج لم يكن لابن عباس عليهم. بل كان الفلج لهم على ابن عباس.. ثم زادوا على ذلك: أن ابن عباس قد أيدهم، ووقف إلى جانبهم، بسبب ذلك. وامتنع من مشاركة علي (عليه السلام) في قتالهم.
____________
(1) العقود الفضية ص 68.
ولم يقيموا وزنا إلى كل ذلك التأييد والتسديد، والجدال الذي كان يقوم به ابن عباس في مناصرته لعلي (عليه السلام)، وتأييده طوال حياته إلى أن وافاه أجله رحمه الله.
ونذكر من رواياتهم في هذا المجال ما يلي:
1 ـ قال الحارثي الإباضي، بعد أن ذكر صورة لمناظرة لابن عباس مع «الخوارج» تظهر أن الفلج كان لهم عليه(1).
«..وانصرف عنهم، وهو مقر لهم، ومعترف لهم: أنهم قد خصموه، ونقضوا عليه ما جاء به، مما احتج به عليهم.
فرجع ابن عباس إلى علي، فلما رآه قام إليه وناجاه، وكره أن يسمع أصحابه قولهم، وحجتهم التي احتجوا بها.
فقال علي: ألا تعينني على قتالهم؟.
فقال ابن عباس: لا والله، لا أقاتل قوماً قد خصموني في الدنيا، وإنهم يوم القيامة لي أخصم، وعليّ أقوى، إن لم أكن معهم لم أكن عليهم.
واعتزل عنه ابن عباس رضي الله عنه. ثم فارقه.
وكتب إليه علي (عليه السلام) يؤنبه بمال أخذه من البصرة من بيت المال، فقال له: قد عرفت وجه أخذي المال أنه كان بقية دون حقي، من ما أعطيت كل ذي حق حقه. قد علمت أخذي للمال من قبل قولي في
____________
(1) العقود الفضية ص 51 ـ 59.
2 ـ وفي السير، من كتاب النهروان: «حدثني مسعود بن الحكم الهمذاني: أن ابن عباس قال للحسن:
إنكم لأحق بيت في العرب أن تتيهوا كما تاهت بنو إسرائيل، قمتم بكتاب الله، وسنة نبيه (عليه السلام)، فجاهدتم بها. ثم جعلتم حكماً على كتاب ربكم. ثم قتلتم خيار المسلمين وفقهاءهم، وقد أفنوا المخ واللحم، وأجهدوا الجلد والعظم من العبادة، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله»(2).
3 ـ وعن ابن عباس، قال: أصاب أهل النهر السبيل. أصاب أبو بلال السبيل(3).
ونلاحظ هنا على ما تقدم:
1 ـ أن عكرمة الخارجي مولى ابن عباس ـ قد حاول هو الآخر أن ينسب إلى ابن عباس: أنه يرى رأي «الخوارج»(4).
____________
(1) العقود الفضية ص 95 وحول أخذه المال [من قِبَلِ قوله في أهل النهروان] راجع: العقود الفضية ص40.
(2) العقود الفضية ص 67.
(3) العقود الفضية ص 68.
(4) سير أعلام النبلاء ج5 ص 22 وميزان الاعتدال ج3 ص 96 وقاموس الرجال ج6 ص 327 عن ذيل تاريخ الطبري. ومختصر تاريخ دمشق ج17 ص 144 وفتح الباري [المقدمة] ص 425.
2 ـ إن النص المذكور آنفاً يحاول أن يدعي: أن «الخوارج» هم فقهاء المسلمين، تماماً على عكس ما عرف عنهم، ولهج به أعلام الأمة، ومؤرخوها كما أوضحناه في بعض فصول هذا الكتاب.
3 ـ أما بالنسبة لقضية استيلاء ابن عباس على أموال البصرة، ومفارقته علياً (عليه السلام)، فقد أثبتنا عدم صحة هذه القضية في كتاب مستقل طبع بعنوان: ابن عباس وأموال البصرة، فراجع.
من تزوير التاريخ أيضاً:
وما تقدم يوضح: لنا حجم التزوير الذي يحاول «الخوارج» المتأخرون ممارسته، وهم حيث يحاولون الاستفادة من عنصر التقديس لصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذي دخل في التكوين الفكري والإيماني للناس في وقت لاحق، حينما احتاج الحكام إلى تلميع صورة أناس من الصحابة يهمهم أمرهم.
فأراد بقايا «الخوارج» تبرئة أنفسهم، حين نسبوا، الخارجين على أمير المؤمنين إلى الصحابية، بل زعموا ـ زوراً وبهتاناً ـ أنهم من أهل بدر، وبيعة الرضوان. واستدلوا بذلك على صلاحهم.
بل لقد نسبوا بعض الخلّص من أصحاب علي (عليه السلام) ـ زوراً ـ إلى أنهم من «الخوارج»، كابن عباس، وأبي الهيثم بن التيهان، وصعصعة بن صوحان وغيرهم.
ويستمر في ذكر أسماء من زعم أنهم كانوا من الصحابة، وكانوا من «الخوارج».
ثم إن الحارثي الإباضي يقول إزاء ما ورد في حق المارقة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فيجب احترام الصحابة، وقول الحق فيهم.
وتحمل الأحاديث الواردة في «الخوارج»، على الصفرية والأزارقة، الذين يستحلون دماء أهل القبلة، وسبي ذراريهم، ونسائهم»(2).
وقد أشار الحارثي إلى أن المراد بـ«الخوارج»، هم خصوص الأزارقة والصفرية في غير هذا الموضع من كتابه أيضاً، فراجعه.
____________
(1) العقود الفضية ص 47 و48 وراجع ص 46 و63 و64.
(2) العقود الفضية ص 63.
إننا نسجل هنا ما يلي:
1 ـ إن الذين ذكر أسماءهم على أنهم من الصحابة لا تجد للكثير منهم حتى الأسماء ذكراً في كتب الصحابة، ولو على سبيل الاحتمال، ومعنى هذا أن ثمة خداعاً واضحاً وتزويراً ظاهراً، لا مجال لتبريره.
2 ـ إن الالتجاء إلى ما شاع لدى بعض الفرق من تقديس لكل من رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يجدي في تصويب ما عليه «الخوارج»، ولا يعطيهم شرعية لمواقفهم. لاسيما وأن «الخوارج» أنفسهم يحكمون على مشاهير الصحابة بالكفر، والخروج من الدين(1).
وتكفيرهم للصهرين، وكل من شايعهما وتابعهما لا يستطيع أحد أن ينكره، أو أن يشكك فيه.
3 ـ إن وجود هؤلاء الأشخاص ـ حتى لو كانوا من الصحابة ـ لا يستطيع أن يلغي قول النبي (صلى الله عليه وآله) في «الخوارج». ولا يمكن أن يبرئهم من جريمة مروقهم من الدين التي أثبتها عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وإحالة الأمر على الأزارقة، والصفرية لا يلغيه عمن عداهم، لاسيما وأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وصفهم لعلي (عليه السلام) بالمارقين. وأخبره أنه (عليه السلام) سوف يقاتلهم.. وأخبره (صلى الله عليه وآله) أيضاً عن وجود ذي الثدية فيهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور، وفي مختلف المصادر والمراجع مسطور.
____________
(1) راجع العقود الفضية ص 70 و167.
5 ـ إن عد ابن ملجم في جملة الصحابة هو الآخر جريمة كبيرة، وخزي عظيم، يدل على الجهل الذريع بحقيقة هذا الرجل. أو على التعصب البغيض الذي يجرّ صاحبه للكذب والاختلاق، والتزوير المفضوح..
الباب الرابع
علي (عليه السلام).. والخوارج
الفصل الأول
علي (عليه السلام) وشعارات الخوارج
شعارات «الخوارج»:
إن شعارات «الخوارج» كانت دينية في ظاهرها، ورنانة ومثيرة، وقادرة على أن تجتذب إليها أولئك الناس الذين ينطلقون في مواقفهم من خلال مشاعرهم وأحاسيسهم. ولا يملكون من المعايير الفكرية ما يمكنهم من تقييم الأمور بطريقة صحيحة وموضوعية.
بل كانت تلك المشاعر والأحاسيس تختلس منهم فرصة التفكير الهادئ والرصين، لتكون ترجمتها هيجاناً عارماً، وفتكاً فظيعاً، وبطشاً بشعاً ومريعاً.
ويزيد هذه الشعارات تأثيراً في عنف حركة «الخوارج» هو كونها تنطلق في تلك المناخات الموبوءة والمريضة، وفي ظل مظاهر الانحراف الأموي عن جادة الحق والدين.
بالإضافة إلى: أن تلك الشعارات كانت تتناغم مع مشاعر الشباب الذين يميلون إلى التمرد، وحب الاستقلال، والرغبة بالاضطلاع بأعمال كبيرة، تجذب أنظار الآخرين. وغير ذلك من حالات تختزنها شخصية الشباب الناشئ، والحدث الذي لم يجرب الأمور، بل يندفع إليها برعونة وطيش، وبلا حساب.
وهكذا.. فقد كانت تلك الشعارات تسقط أمام ضغط الواقع، وتتلاشى في زحمة نزوات الأهواء، وعثرات الميول ـ وينتهي الأمر بحاملي تلك الشعارات إلى أن يصبحوا ـ حسبما تنبأ به علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ في نهاية الأمر لصوصا سلابين.
سمات.. وحالات:
وإذا أردنا أن نستعرض سمات وحالات «الخوارج» في النصوص التاريخية، فسنجد ـ كما قد تقدم في تمهيد الكتاب: أن من هذه الصفات والحالات التي عرفوا بها:
أن السنتهم ذليقة بالقرآن..
وأن لهم سمت وخشوع.
وأنهم يحسنون القيل.
ويسيئون الفعل.
وأنهم يسألون كتاب الله، وهم أعداؤه.
ويدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء.
وأن شعارهم هو: لا حكم إلا لله.
وأن ازرهم تكون إلى نصف الساق. وان سيماهم التحليق. أو التسبيل.
إلى غير ذلك مما يجده المتتبع لسيرتهم وأحوالهم.
بين الواقع والشعار:
وإذا راجعنا الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصف «الخوارج»، وبيان علاماتهم وصفاتهم، فإنها تفيدنا: أن على الإنسان المؤمن والواعي أن لا ينخدع بالمظاهر، وان لا يعتبرها الميزان والمعيار في الحق والباطل، وفي الصلاح والفساد، وأن عليه أن لا ينساق وراء الشعارات الثورية والبراقة. ما لم يتأكد من محتوى الشعار وخلفياته.
أي أن عليه أن يرصد حركة الواقع بدقة ووعي ليتعرف على دوافع إطلاق الشعار، وعلى العوامل التي أفرزت تلك المظاهر.
وقد كان أصحاب الطموحات، وطلاب اللبانات وما زالوا يحاولون الاستفادة من شعارات مغرية، وأساليب ذات طابع إنساني، أو ديني في سبيل الوصول إلى مآرب، وتحقيق أهداف لا تنسجم ولا تتلاءم معها، إن لم تكن أقرب إلى الانحراف والخيانة واللصوصية منها إلى الإنسانية والشرف والدين.
أمير المؤمنيين (عليه السلام) وشعارات «الخوارج»:
وقد كان أمر «الخوارج» واضحاً بيناً لكل من مارس الأمور، وأحكمته التجارب، وجرى وفق المعايير الصحيحة في فهم الأمور وتقييمها.
ومن هنا، فإننا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بذل محاولات مضنية وكبيرة في سبيل تعريف «الخوارج» على مواقع خطئهم في فهم الأمور. وقد ناظرهم، وأقام عليهم الحجة، فرجع منهم إلى الحق من رجع، وهم كثيرون، وبقيت ثلة كبيرة منهم، لم يرتدعوا عن غيهم، رغم أنه (عليه السلام) قد أوضح لهم أنه: لم يحكم الرجال في دين الله، وإنما حكم القرآن، لأن حكم الكتاب واحد(1).
وقد أدان هذا النوع من العمل، وهذه الطريقة من الممارسة وأوضح حقيقة ما يرمون إليه حين أعلن أن شعارهم الذي يقول: لا حكم إلا لله كان مجرد خدعة، رسمت معالمها عن سابق علم وتصميم، وأطلق كلمته التي ذهبت مثلاً: «كلمة حق يراد بها باطل»(2).
____________
(1) راجع: المعيار والموازنة ص 172 و177 و199 وكنز العمال ج11 ص 291 عن ابن أبي حاتم في السنة. والبيهقي في الأسماء والصفات والأصبهاني واللالكائي.
(2) راجع: مسند أحمد ج5 ص 44 و36 والمعيار والموازنة ص 170 وكنز العمال ج11 ص 180 و294 ورمز للمصادر التالية: [حم. ق. ط وابن جرير] ومجمع الزوائد ج 6 ص 230 عن أحمد، والبزار والطبراني، وتاريخ بغداد ج1 ص 160 وج10 ص 305 وفرائد السمطين ج1 ص 277 والبداية والنهاية ج7 ص 292 والخصائص للنسائي ص 139.
ونظم درر السمطين ص 116 وكشف الغمة ج1 ص 264 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص 188 وذخائر العقبى ص 110 وعن تاريخ اليعقوبي ج2 ص 191 وعن الاشتقاق ص 220 والرياض النضرة ج3 ص 224 والثقات ج2 ص 295 وتذكرة الخواص ص 99 ونهج البلاغة ج3 ص 197 وج1 ص 87 وبشرح النهج للمعتزلي ج1 ص 104 والكامل لابن الأثير 3/334 و335.
لما حكمت الحرورية قال علي (عليه السلام): ما يقولون؟.
قيل: لا حكم إلا لله.
قال: الحكم لله، وفي الأرض حكام، ولكنهم يقولون: لا إمارة، ولابد للناس من إمارة يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الفاجر، والكافر، ويبلغ الله فيها الأجل(1).
وعن قتادة قال: لما سمع علي المحكِّمة قال:
من هؤلاء؟!.
قيل له: القراء.
قال: بل هم الخيابون العيابون.
قيل: إنهم يقولون: لا حكم إلا لله.
قال: كلمة حق عزي بها [أو أريد بها] باطل الخ.. (2).
فهذه الشعارات التي كانوا يطلقونها، والتي كانت تفعل فعل السحر في نفوس السذج والبسطاء من الناس. قد جعلت استجابة هؤلاء، الناس إليهم، سريعة ورعناء، ومن دون أن يكلف المستجيبون أنفسهم عناء
____________
(1) المصنف ج10 ص 150 وكنز العمال ج11 ص 286 و309 ورمز له بـ [عب. ق. ش] وراجع: العقد الفريد ج2 ص 388 وراجع: أنساب الأشراف ج2 ص 377 [بتحقيق المحمودي] ونهج البلاغة ج1 الخطبة رقم 40 وفجر الإسلام ص 259.
(2) المصنف للصنعاني ج10 ص 150 والمعيار والموازنة ص 170 وكنز العمال ج11 ص 273 وفي هامشه عن منتخب كنز العمال، وعن جمع الجوامع، وعن الجامع الكبير.
والكلمة الأخيرة في كنز العمال 11/281 عن [ابن وهب. م. ابن جرير. أبي عوانة. حب. ابن أبي عاصم. ق].
والذي ساعد على ذلك: أن الذين كانوا على مستوى مقبول من الثقافة والمعرفة، وكان يمكنهم تعريف الناس على حقائق الأمور، كانوا غير موجودين في صفوف «الخوارج»، وإذا كان منهم من لديه شيء من المعرفة، فإنه كان قد اختار طريق الانحراف، وكان يعمل على انتهاز الفرصة لتحقيق طموحاته ومآربه.
وقد روى سعيد بن جمهان قال:
كنا مع عبد الله بن أبي أوفى، يقاتل «الخوارج» ـ وقد لحق غلام لابن أبي أوفى بالخوارج ـ فناديناه:
يا فيروز، هذا ابن أبي أوفى!.
قال: نعم الرجل لو هاجر.
قال: ما يقول عدو الله؟.
قال: يقول: نعم الرجل لو هاجر.
فقال: هجرة بعد هجرتي مع رسول (صلى الله عليه وآله)؟ يرددها ثلاثاً ـ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: طوبى لمن قتلهم، ثم قتلوه. قال عفان في حديثه: وقتلوه، ثلاثاً(1).
وعن أبان قال: خرجت خارجة من البصرة، فقتلوا، فأتيت أنساً: فقال: ما للناس فزعوا؟
____________
(1) مسند أحمد ج4 ص 382 و357.
قال: يقولون ماذا؟!.
قال: قلت: يقولون: مهاجرين.
قال: إلى الشيطان هاجروا، أو ليس قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا هجرة بعد الفتح(1).
ومهما يكن من أمر فإن ما قام به (عليه السلام) من تعريف الناس على خلفيات تلك الشعارات، وبيان زيفها لهم قد آتى ثماره، حيث لم يستطع زعماء «الخوارج» أن يربحوا إلى صفوفهم إلا الأحداث والجهال الذين ليس لديهم أثارة من علم، ولا سابقة في الإسلام. وقد رجع الألوف من نفس أولئك الذين خدعوهم بشعاراتهم في بادئ الأمر ـ رجعوا بسبب ـ ما ظهر لهم، بعد أن أقام (عليه السلام) عليهم الحجة، وجلىّ لهم الحقيقة.
وقد رأينا: أن أنساً، وابن أبي أوفى اللذين كانا على اطلاع تام بما جرى بين علي (عليه السلام) وبين «الخوارج»، وباحتجاجاته (عليه السلام) عليهم، وبإيضاحاته المتتالية لفساد ما يستندون إليه، وما يعتمدون عليه ـ قد رأينا ـ أنهما قد اتخذا الموقف الصحيح من تلكم الشعارات الخادعة. وأعلنا للناس بفسادها تأسياً بعلي (عليه السلام).
تفصيلات عن موقف علي (عليه السلام):
وبعد.. فإن مراجعة حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيرته تفيدنا:
____________
(1) المصنف ج10 ص 152.
ثم إنه قد أطلق في حرب الجمل كلمته المشهورة الأخرى، حينما قال: إنما يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.
وقال: إعرف الحق تعرف أهله(2).
2 ـ قد يقال: إن علينا أن نفهم موقف «الخوارج» على أنه منطلق من شبهة دخلت عليهم، أو جعلتهم يشكون في صواب مواقف علي (عليه السلام) فاتخذوا على أساس ذلك مواقف حادّة، تنطلق من حقد يجيش في صدورهم، ثم خالط ذلك حب الدنيا، والطموح إلى الحصول على شيء من حطامها، ولاسيما لدى زعمائهم..
ونقول في مقام توضيح ذلك وتصحيحه: إن علينا أن نضيف إلى ذلك أيضاً: أنه يفهم من الروايات الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الجهل الذريع، إذا استحكم في الإنسان، وخالطه شيء من العجب بالنفس نتيجة لقراءتهم القرآن من دون تدبر، وعبادتهم المضنية من دون خشوع، فإنه يؤدي إلى الهلاك المحتم، وإلى الدمار المريع، ويهلك ذلك الحرث والنسل، حيث يكون ذلك سبباً في أن يصبح الهوى شريعة، والانحراف ديناً، ولا يبقى ثمة ميزان يعرف فيه الحق من
____________
(1) لا يحتاج ذلك إلى مصادر فإن أغلب من تحدث عن صفين ذكر ذلك عنه (عليه السلام).
(2) كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي ص 84 و195 والطرائف ص 5 والبحار ج27 ص 279 وج4 ص 126 ومستدرك سفينة البحار ج2 ص 344 والمعيار والموازنة ص 5 والتدقيق الرباني ص 195.
3 ـ إن الأمر الصادر بقتل هؤلاء رغم تظاهرهم بالعبادة، وبقراءة القرآن، لا يبقي مجالاً للتعلل، والقعود، والسكوت عن الانحراف بحجة: أن جهلهم عذر لهم، وان إسلامهم وعبادتهم سياج وحصن لهم يلوذون به ويلجأون إليه..
وحتى لو فرضنا: أنهم مقتنعون بمواقفهم، فإن قطعهم ويقينهم لا يبرر مواقفهم الخاطئة التي تمس في خطئها جوهر الدين، أو على حساب حياة ووحدة واستقرار، وطمأنينة، وانتظام أمور المسلمين جماعات، وأفرادا..
بل إن عليهم أن يلتزموا خط الطاعة والانقياد لولي أمرهم العارف بالدين، والصادع بالحق، الذي هو مع الحق والحق معه، يدور معه حيثما دار.
وحتى لو كان ذلك يصدر منهم من منطلق رؤيتهم لأنفسهم، بأن لهم الحق في أن يجتهدوا، وأن يقرروا، ولو على تقدير تصنيفهم في دائرة الجاهل المركب. أو رؤية الناس لهم، على أنهم قد اجتهدوا فأخطأوا، وأرادوا الحق، فوقعوا في الباطل، بحسن نية، وسلامة طوية، فإن ذلك كله لا يصلح عذراً لهم في معصية إمامهم، ثم الولوغ في دماء المسلمين بهذه الطريقة البشعة، كما أنه لا يصلح للاعتذار به عن التصدي لفسادهم وانحرافهم، ودفع غائلتهم، ومنعهم من الفساد في الأرض، وفي الدين.
5 ـ إن الجاهل إذا اتخذ سبيل النسك، والعبادة، طريقاً له فانه لا يخدع الناس بمظاهره وحسب، بل إنه هو نفسه أيضاً ينخدع بنفسه حيث يتخيل أنه قد وصل إلى درجات عالية لم يصل إليها غيره، وأنه أصبح يمثل إرادة الله سبحانه على الأرض، وتصبح لديه الجرأة على التصدي لأعمال، لم يكن يجرؤ على التفكير فيها من قبل، ويقدم على مواقف خطيرة، قد تمس مصير الأمة بأسرها، وقد يعطي لنفسه الحق بان يقول في الدين، ويصدر الفتاوى ويبتكر النظريات فيه، فيخبط خبط عشواء، وتظهر من جراء ذلك البدع، وتصبح الأهواء شريعة، والشهوات ديناً..
وينخدع بمثل هؤلاء السذج والبسطاء، حيث يرون هؤلاء الجهلة عباداً ونساكاً، ويدعون لأنفسهم العلم والمعرفة، ويطلقون الشعارات البراقة والخادعة، ويصورون لهم أنفسهم على أنهم هم القيمون على الدين، وعلى شريعة سيد المرسلين.. كما كان الحال بالنسبة للخوارج موضع بحثنا هنا..
ومن ذلك كله نعرف بعضاً من المغزى العميق، الذي تشير إليه كلمة علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «قصم ظهري اثنان: عالم متهتك.
كما أننا مما تقدم وسواه ندرك بعض السر لما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق «الخوارج»، من أنهم:
شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة(2).
وفي لفظ آخر: يقتلهم خيار أمتي، وهم شرار أمتي(3).
6 ـ إن الجريمة التي ارتكبها «الخوارج» في حق الدين والأمة، والتي ستبقى آثارها إلى يوم القيامة.. بسبب جهلهم، وانقيادهم لأهوائهم، وإظهارهم النسك والعبادة ووو.. الخ..
إن هذه الجريمة تفوق في هولها وفظاعتها وعمقها كل جريمة على الإطلاق، حتى استحقوا أن يصفهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بأنهم شر الخلق والخليقة.
فلو أنهم لم يقفوا ذلك الموقف حين رفع معاوية وجيشه المصاحف، وسمعوا قول إمامهم، وامتثلوا أمره بمواصلة الحرب، حتى تفيء الفئة الباغية لأمر الله سبحانه، لتغير مجرى الحوادث في التاريخ، ولكانت اجتثت الشجرة الخبيثة من فوق الأرض، ولم يبق لها ثمة من قرار..
____________
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص 284.
(2) مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 56 وأرجح المطالب ص 599 ط لاهور وعن مجمع الزوائد ج6 ص 239 والشيعة في التاريخ ص 42 عن مسند احمد بن حنبل عن مسروق عن عائشة وقريب منه عن تاريخ بغداد ج1/160 وشرح النهج للمعتزلي ج2/267.
(3) مجمع الزوائد ج6 ص 239 عن البزار والطبراني في الأوسط وفي المحاسن والمساوئ ج2 ص99: أن النبي (صلى الله عليه وآله): عن ذي الثدية: أنه يقتل مع شر جيل يقتلهم خير جيل.
ثم إنهم قتلوا أمير المؤمنين علياً صلوات الله وسلامه عليه، غيلة بعد ذلك.. فمكنوا لمعاوية، ولكل من هم على شاكلته من أن يستمروا في خططهم لهدم الإسلام، وطمس معالمه، وتسخير كل شيء في سبيل أهواءهم ومصالحهم.
وقد كانت تلك خدمة جليلة أسداها «الخوارج» للحكم الأموي، ولكل المنحرفين عن خط الرسالة، وعن أهل بيت النبوة، عليهم الصلاة والسلام. دون أي مقابل.. سوى ما جروا على أنفسهم، وعلى الأمة، وعلى الدين من ويلات وكوارث.
ويبتلي «الخوارج» بعد وفاة أمير المؤمنين بمحاربة نفس هذا الحكم الذي مكنوا هم أنفسهم له. فيكيلون له ويكيل لهم الضربات القاصمة.
7 ـ إن ما ورد في الروايات عنه (صلى الله عليه وآله) من كونهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يدل على أنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنهم قد خرجوا منه كما دخلوا فيه.
إذن فاعتبارهم على شيء من الدين والإسلام، لا يتناسب مع هذه الروايات، ولا ينسجم معها. وقد قال الجاحظ رداً على من كان يحمد الله على أنه لم يشهد حروب الجمل، وصفين، والنهروان، وفتنة ابن الزبير.
ونحن لا نوافق الجاحظ على الفقرة الأخيرة، فإن ابن عمر قد وافق نجدة وصلى خلفه، كما سنرى.
8 ـ إن قوله (عليه السلام): «نعم، إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير الخ»(2).
يفيدنا أن الخوارج يرون: أنه ليس للحاكم أن يتصرف أي تصرف يرى فيه صلاح المسلمين ودفع شر أعدائهم. وفي هذا تعطيل لدوره كحاكم. فهم إذن يريدونه مأموراً للرعية لا آمراً. فأوقعهم ذلك في الخطأ والتناقض، فهم أنفسهم لا يمكنهم أن يضبطوا أمورهم إلا بواسطة تعيين حاكم وأمير لهم، وكانوا يفعلون ذلك، ولا يصبرون على العيش بدونه، بل لا يتهيأ لهم ذلك ولا يقدرون عليه. ولكنهم يصرون على أمير المؤمنين أن لا يتصرف كأمير وحاكم، زاعمين له أن حق الحاكمية: إنما هو لله فلا يصح لغيره أن يتصرف!!.
9 ـ والغريب في الأمر: أنهم قد خلطوا أيضاً بين التحكيم وبين الحاكمية مع أن التحكيم غير الحاكمية، فإنه يمكن التحكيم والطلب من الحكمين أن يحكما بموجب القرآن، وهذا ليس معناه: أنهما قد
____________
(1) البيان والتبيين ج3 ص 130.
(2) شرح نهج البلاغة ج2 ص307 وفجر الإسلام ص 259.