«وكبر الناس حين رأوه واستبشروا، وذهب عنهم ما كانوا يجدون»(1).
وفي نص آخر: «فكبر علي رضي الله عنه والناس، وأعجبهم ذلك»(2).
وأن أحداثا كهذه تمس الناحية العقيدية والإيمانية للناس. ولاسيما على مستوى حرب تخاض ضد من يحملون اسم الإسلام، ويظهرون زهداً وعبادة، وهم الأهل والعشيرة والإخوان.. ثم تكون لها تلك النتائج الكبرى والحاسمة.
وهي أحداث مثيرة، فلا غرو أن يتناقلها الناس، باندفاع وبحرص، واهتمام بالغ.
وهذا أيضاً أحد الأمور التي سيكون علي (عليه السلام) مسروراً لها، وذلك لما لها من الأثر الايجابي على ذهنية الناس، ونظرتهم للأمور، وموقفهم منها، إن حاضراً وان في المستقبل القريب أو البعيد على حد سواء.
4 ـ إن مراجعة نصوص حادثة النهروان تشير إلى أن علياً (عليه السلام) قد اخبرهم بأكثر من خبر، بل إنه حتى بالنسبة للمخدج نفسه، لم يكتف بالإخبار عنه، بل اخبر أيضاً بالعلامات التي فيه، وأصر على التعرف عليها. كما ذكرته هذه الرواية. بل تقدم أنه أخبرهم حتى بعدد الشعرات التي على يده.
____________
(1) راجع مسند احمد ج1 ص 88 وكنز العمال ج11 ص 286، عن احمد، والحميدي، والعدني. والبداية والنهاية ج7 ص 294.
(2) تقدمت الإشارة لمصادر هذا النص قبل صفحات يسيرة.
ولأجل ذلك نقول: إن المؤمنين الحقيقيين هم العقلاء حقاً. ومن هنا عرفنا أيضاً أن «الخوارج» كانوا أخفاء الهام سفهاء الأحلام. ولأجل ذلك أيضاً كان معاوية يعمل على أن يستخف قومه ليطيعوه، تماماً كما فعل فرعون مع قومه.
ومن الواضح: أن الإيمان حين يأتي عن طريق الصدمة، فانه لا يكون له ذلك الرسوخ والعمق. وسرعان ما تعود النفس الأمارة بعد هدوء الحال إلى محاولاتها لتزوير الحقيقة. ولأجل ذلك نلاحظ: أن الذين كانوا يطلبون المعجزات من الأنبياء كان إيمانهم سطحياً، ومدخولاً، ومشوباً إلى درجة كبيرة.
أما الإيمان العميق والصحيح فهو إيمان أولئك الذين عرفوا الحق بفطرتهم، ولمسوه بوجدانهم، وعاينوه بعين بصيرتهم.
وبذلك نستطيع أن نفهم بعمق كيف أنه بعد أن فرغ علي (عليه السلام) من أهل النهروان، وخطب الناس بالنخيلة: قام إليه رجل منهم، فقال: ما أحوج أمير المؤمنين اليوم إلى أصحاب النهروان، ثم تكلم الناس من كل ناحية ولغطوا(1).
____________
(1) الشيعة في التاريخ ص42 عن شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص 146.
إشهار أمر المخدج:
وإن مراجعة نصوص حديث المخدج تعطينا: انه (عليه السلام) كان يسعى إلى إشهار أمره ونشره.
أما ما رواه إبراهيم بن ديزيل، عن حبة العرني، بعد وصفه ذا الثدية حيث قال: «فلما وجدوه قطعوا يده، ونصبوها على رمح، ثم جعل علي (عليه السلام) ينادي: صدق الله، وبلغ رسوله. لم يزل يقول ذلك هو وأصحابه بعد العصر، إلى أن غربت الشمس، أو كادت»(1).
فلا نستطيع قبوله، فان علياً (عليه السلام) لا يرضى بقطع يد القتيل، لأن هذا قد يكون نوعاً من المثلة المنهي عنها، إلا أن يكون الناس هم الذين فعلوا به ذلك في غيابه ومن دون موافقة منه (عليه السلام).
وعلى كل حال فقد روي عن يزيد بن رويم قال: [بعد أن ذكر أنه كان عاملاً لعلي (عليه السلام) على باروسما، ونهر الملك] فأتاه من أخبره عن أمر «الخوارج»] «قال علي (عليه السلام): يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج، أحدهم ذو الثدية.
فلما طحن القوم، ورام استخراج ذي الثدية، فاتبعه، أمرني أن أقطع له أربعة آلاف قصبة. وركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال:
____________
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص 276 عن ابن ديزيل في صفينه.
قبل.. وبعد النهروان:
إن الأمر لم يقتصر على إخبار علي (عليه السلام) بأمر ذي الثدية. ونحو ذلك مما يدخل في نطاق حرب «الخوارج» له (عليه السلام). بل تعداه إلى ما قبل وبعد حرب النهروان، حيث نجد علياً (عليه السلام) يستمر في إعطاء الدليل تلو الدليل على أنه هو الذي اختصه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمعارف والعلوم التي عرفه الله إياها. وذلك حين يخبر الناس أيضاً بمستقبل هذا الخط الانحرافي عن صراط الله. وذلك فور عثوره على المخدج..
فعن حبة العرني قال: لما فرغنا من النهروان قال رجل: والله لا يخرج بعد اليوم حروري أبداً.
فقال علي (عليه السلام): «مه، لا تقل هذا! فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنهم لفي أصلاب الرجال، وأرحام النساء. ولا يزالون
____________
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص 277 و278 ومناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 415.
وقد ذكرت بعض الروايات اسم الحسن والحسين (عليهما السلام) في هذه القضية، فعن أبي جعفر الفراء، قال: شهدت مع علي النهر. فلما فرغ من قتلهم قال: أطلب المخدج.
فطلبوه، [فلم يجدوه، وأمر أن يوضع على كل قتيل قصبة]، فوجدوه في وهدة [منتقع ماء]، رجل أسود، منتن الريح، في موضع يده كهيئة الثدي، عليه شعرات، فلما نظر إليه، قال: صدق الله ورسوله فسمع أحد ابنيه، إما الحسن، أو الحسين يقول: الحمد لله الذي أراح أمة محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه العصابة.
فقال علي: (لو لم يبق من الأمة إلا ثلاثة، لكان احدهم على رأي هؤلاء.إنهم لفي أصلاب الرجال، وفي أرحام النساء)(2).
ومن الواضح: أن كلامه لم يأت رداً على قول أحد ولديه (عليهما السلام)، لأن الحمد على إراحة الله الأمة من عصابة أهل النهروان، لا يعني أن قتلهم في النهروان سوف يمنع من ظهور غيرهم ممن ينتحل نحلتهم في الأمة على مر الزمان.
فالله قد أراح الأمة من هؤلاء، وعلي (عليه السلام) يخبر عن ظهور آخرين منهم في الأمة في الأزمنة التالية..
____________
(1) تاريخ بغداد ج8 ص 275.
(2) كنز العمال ج11 ص 277 عن الطيالسي، ومجمع الزوائد ج6 ص 242 عن الطبراني في الأوسط.
الفصل الثالث
أنا فقأت عين الفتنة
مما سبق:
قلنا فيما سبق: إن «الخوارج» كانوا يطمحون إلى تسجيل نصر حاسم على مخالفيهم، حتى أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث قد زين لهم الشيطان، وأنفسهم الأمّارة بالسوء: على أنهم ظاهرون.. أو على الأقل كانوا يطمعون بالحصول على بعض المكاسب الدنيوية، التي لونوها بلون الدين، وصبغوها بصبغته..
وبإلقاء نظرة سريعة على الظروف وسير الأحداث آنذاك يتضح بشكل قاطع: كم كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مظلوماً، ومفترىً ومتجنّى عليه آنئذ، ولكنه تقبل الحدث بمسؤولية، وعالجه معالجة قاطعة، وحاسمة، يتجلّى فيها الحزم والثبات والحكمة.
ثم إنهم بعد أن أفسدوا في الأرض، وقتلوا الأبرياء، كان لابد لأمير المؤمنين، صلوات الله وسلامه عليه، وهو الرجل الفذ الذي لم يكن ليساوم ولا ليهادن أحداً على حساب دينه ومبدئه من أن يقف منهم ذلك
فكانت موقعة النهروان، التي لم يفلت منهم فيها إلا اقل من عشرة. ولم يستشهد من المسلمين إلا اقل من عشرة، كما اخبر (عليه السلام) به.
ثم كانت بعض الشراذم تخرج عليه الفينة بعد الفينة، فكان صلوات الله عليه يقضي عليها ويسحقها بسرعة الواحدة تلو الأخرى، وينزل بهم الضربات القاصمة التي لا فلاح بعدها، ولم يكن ليفسح لهم المجال ليمكنوا لأنفسهم ما دام أنهم يفسدون في الأرض، ويقتلون الأبرياء ويخيفون ويقطعون السبيل.
وكانت حركاتهم تلك تتسم بالارتجال، والسرعة، والعنف، وذلك لما يجدونه في نفوسهم حسبما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام).. ولما ذكرناه من طبيعة تركيبتهم عموماً، ولغير ذلك من أمور.
ونريد في هذا الفصل إلقاء نظرة على ما روي عنه (عليه السلام) من أنه هو الذي فقأ عين الفتنة، وماذا يعني (عليه السلام) بقوله هذا..
فنقول..
أنا فقأت عين الفتنة:
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: «أنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجرؤ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها» أضاف في رواية أخرى لهذا النص قوله (عليه السلام): «لو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون».
أو «ما قوتل فلان، وفلان».
وقد قال عدي بن حاتم: «لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه، فانه ما وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفي يده من الله سبب»(2).
نعم، لقد كانت حرب هؤلاء جميعاً مخاطرة كبرى، لا يمكن الإقدام عليها لأي كان من الناس إلا لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام). ولأجل ذلك نجد أبا بكر لم يقدم على قتال أهل القبلة إلا بعد أن ادعى أنهم قد ارتدوا عن الإسلام.
والسر في ذلك يرجع إلى الأمور التالية:
1 ـ القوة السياسية للناكثين:
لقد كان على رأس الناكثين طلحة والزبير، وهما من أهل السابقة في الإسلام.
ثم أم المؤمنين عائشة، وهي المرأة الشجاعة، والذكية جداً، وزوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم، وبنت أبي بكر. وقد وضعت الأحاديث في فضلها. وكانت تحظى برعاية وعناية خاصة ـ لم تكن
____________
(1) راجع: نهج البلاغة، بشرح عبده الخطبة رقم 89، وتاريخ اليعقوبي ج2 ص 193 والغارات للثقفي ج1 ص 6 و7 و16 وحلية الأولياء ج4 ص 186 وج1 ص68 وكنز العمال ج11 ص 285، ورمز له بـ [ش، حل، والدورقي] والبحار ط قديم ج8 ص 556 وط جديد ج32 ص 316 وكشف الغمة ج1 ص 244 والبداية والنهاية ج7 ص 289 ـ 294 وترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق ج3 ص 175 وكفاية الطالب ص 180 والخصائص للنسائي ص 146 وفي شرح النهج للمعتزلي ج7 ص 57: إن «هذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير، وهي متداولة، منقولة، مستفيضة».
2 ـ القاسطون وقوتهم المتميزة:
وأما القاسطون.. فكان يتزعمهم معاوية بن أبي سفيان، الذي جعله عمر على عرش الشام. وكان يعامله معاملة متميزة بالمقارنة مع معاملته لكل من عداه من عماله. وقد استمر على عمله ذاك في عهد عثمان أيضاً، مع كل ما كان يحظى به من حفاوة وشأن لدى عثمان.
وقد طال مقامه في الشام إلى عشرات السنين، حتى لقد تربى أهل الشام على نهجه، وانسجموا مع اتجاهاته، وأصبحت البلاد التي يحكمها سفيانية الفكر والمنحى، بكل ما لهذه الكلمة من معنى. ولم يعرف أهلها إلا الإسلام الأموي السفياني، إسلام الأطماع والمآثم، والموبقات والجرائم. الذي كان يتخذ الدين وسيلة إلى الحصول على المزيد من المكاسب، وأداة لتحقيق الأهداف والمآرب.
وقد أعطانا أمير المؤمنين، وصفاً دقيقاً لحالتهم تلك، حينما قال لأصحابه: «.. قاتلوا الخاطئين، القاتلين لأولياء الله، المحرفين لدين الله، الذين ليسوا بقراء الكتاب، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء بالتأويل، ولا لهذا
____________
(1) راجع: أنساب الأشراف ج1 ص 442 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص 614.
ملاحظة هامة:
وقبل أن نواصل الحديث عن هذا الموضوع نسجل ملاحظة هامة على الفقرة الأخيرة في كلامه (عليه السلام)، فانه اعتبر أن سيرة كسرى وقيصر كانت سيرة غير إنسانية. وأنها مرفوضة جملة وتفصيلاً..
وهذا الأمر يجعلنا نقف موقف المتأمل في قول الخليفة عمر بن الخطاب عن معاوية: كلما دخل إلى الشام ونظر إليه: هذا كسرى العرب(2).
وكذا في قول عمر نفسه أيضاً: «إني تعلمت العدل من كسرى!!». وذكر خشيته وسيرته!! (3).
فان تعلمه للعدل من كسرى، مع وجود نبي الإسلام، وتعاليم القرآن، وذكره لخشية كسرى وسيرته، لهو أمر يثير الدهشة حقاً!! وأية خشية كانت لدى كسرى؟ وأية سيرة أعجبته من سيره؟ والنص المتقدم يدل دلالة واضحة على أن سيرته لم تكن سيرة الحق والتقى. ولأجل
____________
(1) الإمامة والسياسة ج1 ص 144 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص 57.
(2) الاستيعاب بهامش الإصابة ج3 ص 396 و397 وراجع: الإصابة ج3 ص 434 وأسد الغابة ج4 ص 386 والغدير ج10 ص 226 عنهم ودلائل الصدق ج3 قسم 1 ص 212.
(3) أحسن التقاسيم ص 18.
والعجيب انه يظهر إعجابه بمعاوية ويصفه بكسرى العرب. فشتان ما بين هذه المواقف منه، وبين واقع كسرى المزري والمهين، والبعيد كل البعد عن الشأن الإنساني، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام)..
عودة إلى الحديث السابق:
وبعد.. فإن هناك الشبهات والأضاليل، والمغالطات، التي كان يتوسل بها معاوية، فيما يرتبط بمقتل الخليفة عثمان، وبالنسبة لموقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من مقتله، ومن خلافته ومن خلافة الذين سبقوه بصورة عامة.
مع أن أمير المؤمنين كان قد بين له: «أن الذين باشروا قتل عثمان، قتلوا يوم قتلوه. وأما الآخرون من الثائرين، فلا يستحقون القتل، فقد تأولوا عليه القرآن، ووقعت الفرقة، ولا يجب عليهم القود»(1).
كما أن من الواضح: أن معاوية لم يكن ولي دم عثمان.
وحتى لو كان وليه، فقد كان عليه أن يرفع أمره إلى الخليفة الشرعي، ويحاكمهم إليه..
ومهما يكن من أمر، فإن شبهات معاوية وأضاليله المختلفة قد أثرت أثرها، ليس بالنسبة لأهل الشام فقط، بل بالنسبة لغيرهم أيضاً، حتى ليذكرون أن الصحابي المعروف عبد الله بن مسعود في أربع مئة من
____________
(1) الخوارج في العصر الأموي ص 66 عن شرح النهج للمعتزلي ج4 ص 16.
3 ـ قوة المارقين:
أما المارقون فكانوا معروفين بكثرة العبادة، وقراءة القرآن، وقد أرسل مروان بن الحكم وهو والي المدينة إلى الإمام الحسن (عليه السلام) يقول له: «أبوك الذي فرق الجماعة، وقتل أمير المؤمنين عثمان، وأباد العلماء والزهاد، يعني الخوارج..»(2).
وهذا الزهد الظاهري، وهذه العبادة كان هو الأسلوب والأمر الذي مكنهم من أن يجتذبوا السذج والبسطاء من الناس إليهم وجعل اكتشاف حقيقة أمرهم أمراً بالغ الصعوبة، فلم يكن الإقدام على حربهم بالأمر المستساغ ولا الميسور.. وهم في الظاهر: المسلمون، الزاهدون، العابدون.
وقد روى أحمد: أنه بعد قتل أهل النهروان: كأن الناس وجدوا من أنفسهم من قتلهم، فحدثهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بحديث مروقهم من الدين، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: «وآية ذلك: أن فيهم رجلاً أسود مخدج.. إلى إن قال: وكبر الناس، حين رأوه، واستبشروا، وذهب عنهم ما كانوا يجدون»(3).
كما أن جندب بن عبد الله الأزدي قال:
____________
(1) الخوارج في العصر الأموي ص 67 عن صفين للمنقري ص 115.
(2) راجع: بهج الصباغة ج5 ص 266 وج3 ص 232 وتذكرة الخواص ص 307.
(3) البداية والنهاية ج7 ص 294 وتاريخ بغداد ج14 ص 363 وبهج الصباغة ج7 ص187.
وقد كان لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن، وفيهم أصحاب الثفنات، وأصحاب البرانس.
ثم تذكر الرواية: أنه عاد إلى صوابه، وعرف الحق، بعد الإخبارت الغيبية التي سمعها من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقوله (عليه السلام) لمن أخبره بعبور «الخوارج» النهر: صدق الله ورسوله وكذبت، ما عبروا، ولن يعبروا..
ثم أخبرهم (عليه السلام) بأنهم سيقتلون الرجل الذي يذهب إليهم ومعه المصحف، ويدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه.. ثم حصول ذلك بالفعل(1).
وقد جرى مثل ذلك لأحد فرسان «الخوارج»، حين جاء إلى علي (عليه السلام) ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين؛ فسأله (عليه السلام) عن سبب ذلك، فأخبره بأنه قد برئ منه يوم صفين، وسماه مشركاً بسبب التحكيم، قال: «فأصبحت لا أدري إلى أين أصرف ولايتي. والله لأن أعرف هداك من ضلالتك أحب إلي من الدنيا وما فيها.» فقال له علي (عليه السلام): ثكلتك أمك، قف مني قريباً أريك علامات الهدى من علامات الضلالة.
____________
(1) مناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 406 وخصائص أمير المؤمنين للشريف المرتضى ص 28 و29 و كشف الغمة ج 1 ص 277 وراجع كنز العمال ج 11 ص 274 ـ 276 عن الطيالسي. ومجمع الزوائد ج 6 ص 241.
فقال له: من دون النهر، أو من خلفه؟!
قال: بل من دونه.
فقال: كذبت والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا يعبرون أبداً حتى يقتلوا.
فقال الرجل: فازددت فيه بصيرة.
فجاء آخر يركض على فرس له، فقال له مثل ذلك، فرد عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل الذي رد على صاحبه.
قال الرجل الشّاك: وهممت أن أحمل على علي، فأفلق هامته بالسيف.
ثم جاء فارسان يركضان قد أعرقا فرسيهما، فقالا: اقر الله عينك يا أمير المؤمنين، أبشر بالفتح، قد ـ والله ـ قتل القوم أجمعون.
فقال علي: أمن خلف النهر، أو من دونه؟!
قال: لا بل من خلفه، إنهم لما اقتحموا خيلهم النهروان، وضرب الماء لبات خيولهم رجعوا، فأصيبوا.
فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام) لهما: صدقتما.
فنزل الرجل عن فرسه، فأخذ بيد أمير المؤمنين وبرجله، فقبلهما.
فقال علي (عليه السلام): هذه لك آية(1).
____________
(1) الكافي ج1 ص 280.
مكانة علي (عليه السلام):
أما أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): فرغم أن بيعته قد جاءت في أعقاب ثورة عارمة أودت بحياة الخليفة الثالث عثمان. ورغم أن الأخطبوط الأموي، الذي كان غير مرتاح لوصوله (عليه السلام) إلى الحكم. كان يعمل بجدٍ وجهد بالغ على وضع العراقيل، وخلق المشاكل الكبيرة أمام مسيرة العدالة وحاكمية خط الشريعة، بقيادته صلوات الله وسلامه عليه.
نعم ـ رغم ذلك ـ فإنه (عليه السلام) كان له من المكانة فيما بين المسلمين، ما لم يكن لكل أحد سواه آنئذ, وكانت الأمة لا تزال تسمع من، وعن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، الكثير الكثير في حقه، وتأكيد عظيم فضله ومنزلته، فهو مع الحق، والحق معه، وهو مع القرآن والقرآن معه، يدور معه حيث دار(1).
وفي نص آخر: عنه (صلى الله عليه وآله): علي مع الحق، والحق مع علي وهو مع القرآن والقرآن معه، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض (2).
وهو (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى، وهو اخو النبي، ووصيه، ووزيره،وخليفته، وولي كل مؤمن من بعده، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى لكثرته، وتنوع نصوصه.
____________
(1) كشف الغمة ج2 ص 35 وج1 ص 141 ـ 146 والجمل ص 36 وتاريخ بغداد ج14 ص 321 ومستدرك الحاكم ج3 ص 119 و124 وتلخيصه للذهبي بهامشه وراجع نزل الأبرار ص 56 وفي هامشه عن مجمع الزوائد 7/234 وعن كنوز الحقائق ص65 وكنز العمال 6/157 وشرح النهج للمعتزلي ج18 ص 72.
(2) ربيع الأبرار ج1 ص 828/829.
وقد قال ابن قتيبة، بعد أن أشار إلى اختلاف أهل العراق في صفين: «ثم قام عدي بن حاتم فقال: أيها الناس، لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه. ولا وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفي يده من الله سبب»(1).
والذي كان يربط على قلوب الناس، ويأخذ بأعناقهم إلى التسليم والإذعان هو ما يرونه من صدق إخباراته الغيبية (عليه السلام) حسبما ذكرناه.
الصحابة مع علي (عليه السلام):
كما أن مما زاد في ظهور فضل علي (عليه السلام)، وصوابية مواقفه: أن عدد الصحابة الذين حضروا معه صفين كان ثمان مئة رجل، وقد جعلهم فرقة خاصة، وأمر عليهم قيس بن سعد (2).
وحين كلم ابن عباس «الخوارج» كان من جملة ما قاله لهم: «أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار، ومن عند صهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعليهم نزل القرآن، وهو اعلم بتأويله منكم».
____________
(1) الإمامة والسياسة ج1 ص121 وبهج الصباغة ج4 ص264 عنه.
(2) الإمامة والسياسة ج1 ص49.
وحسب نص آخر: «جئتكم من عند أمير المؤمنين، ومن عند أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عند المهاجرين والأنصار. ولا أرى فيكم أحداً منهم لأبلغكم ما قالوا، أو أبلغهم ما تقولون»(2).
زاد في نص آخر قوله: «أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله وابن عمه الخ..» إلى أن قال: «فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار»(3).
وحسب نص آخر: «أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وختنه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) معه»(4).
وفي رواية: «جئتكم من عند صهر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وابن عمه. وأعلمنا بربه، وسنة نبيه، من عند المهاجرين والأنصار»(5).
____________
(1) المناقب للخوارزمي ص 184 وتذكرة الخواص ص 99.
(2) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق [بتحقيق المحمودي] ج3 ص 151.
(3) خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي ص 147 وفي هامشه عن: المناقب لابن شهر آشوب ج1 ص 267 وعن البداية والنهاية ج7 ص 276 و281 وعن تاريخ اليعقوبي ج2 ص 167 ومستدرك الحاكم ج2 ص 150 وتلخيص المستدرك للذهبي [مطبوع بهامش المستدرك] ولم يذكر العبارة الأخيرة..
(4) مجمع الزوائد ج6 ص 240 عن الطبراني وأحمد ببعضه ورجالهما رجال الصحيح.
(5) الكامل في الأدب ج3 ص 211 وراجع: نور الأبصار ص 98 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 84 وبهج الصباغة ج7 ص 171 والعقد الفريد ج3 ص 389.
فأخبرتها: أنه لما تفرقت المحكّمة من عسكر المؤمنين لحقناهم، فقتلناهم.
فقالت: ما كان معك من الوفد غيرك؟!.
قلت: بلى، ستون، أو سبعون.
قالت: أفكلهم يقول مثل الذي تقول؟.
قلت: نعم.
قالت: قص علي القصة الخ..»(1).
قوة موقف علي (عليه السلام):
وعلى كل حال.. فان مكانة علي، والتفاف صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حوله، قد جعل أعداءه (عليه السلام) يواجهون صعوبات كبيرة في إقناع الناس، بأن يدخلوا معهم في حربهم الظالمة له، أو اقناعهم بمعذوريتهم في موقفهم على الأقل.
ويزيد هذا الأمر صعوبة: السلوك المتميز لحكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) في فترة مليئة بالأحداث، زاخرة بالمشكلات، حيث أصبح واضحاً لدى العدو والصديق: أنها المثال، الكامل لحكومة الحق والعدل، والخير، وأنها لا مجال فيها للخدع والمساومات، ولا موضع
____________
(1) تاريخ بغداد ج1 ص 160 وتذكرة الخواص ص 104 و105 وبهج الصباغة ج7 ص 188 و120.
كما أن الناس قد رأوا بأم أعينهم: أنه (عليه السلام) لم يعط خصومه أي امتياز، إلا وفق ما تقتضيه وتفرضه شرائع الدين وأحكامه.
ومما يشير أيضاً: إلى فشل «الخوارج» في إحداث خلل حقيقي في نظرة الناس إلى علي (عليه السلام), وثقتهم بعلمه وصدقه: أن معقل بن قيس قال للخريت بن راشد حينما واقفه: «خبّرني: لو أنك خرجت حاجاً، فقتلت شيئاً من الصيد، مما قد نهى الله عز وجل عنه. ثم أتيت علياً فاستفتيته في ذلك، فأفتاك. هل كان عندك رضى؟!.
فقال: بلى، لعمري، إنه عندي لرضا. وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): أقضاكم علي.
فقال له معقل بن قيس: فكيف ترضى به في علمه، ولا ترضى به فيما حكم؟!.
فقال: لأني لا أعلم أحداً من الناس حكّم في شيء هو له.
فقال: يا هذا، إن الذي لا تعلمه أنت هو أكثر من الذي علمته. إنا وجدنا علياً يحكم في جميع ما اختلفنا فيه، وقد رضينا بحكمه، فاتق الله الخ»(1).
____________
(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص 77.