الصفحة 160
بلزوم تثبيت العرش الأموي.

ومما يشهد لما ذكرناه: النصوص الدالة على أن قتال أهل البصرة لهم، ومساعدة التجار للمهلب بالأموال قد كان بهدف الحفاظ على تجارتهم، بسبب انقطاع مواد الأهواز وفارس، فراجع(1).

وقد كان اندفاعهم أحياناً لحرب «الخوارج»، بسبب الخوف منهم كما هو الحال في عهد يزيد، وابن الزبير(2).

وشاهد آخر: وهو أننا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول لهم: «أفتذهبون إلى معاوية، وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في دياركم وأموالكم؟!»(3).

وإن كنا نجد نصاً آخر يفيد: أنه (عليه السلام) يرى قتال معاوية أهم فقد جاء عنه (عليه السلام) أنه قال: «بلغني قولكم: لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت علينا؛ فبدأنا بهم، إلا أن غير هذه الخارجة أهم على أمير المؤمنين،سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا في الأرض جبارين ملوكاً، ويتخذهم المؤمنون أرباباً، ويتخذون عباد الله خولاً، ودعوا ذكر «الخوارج»، قال: فنادى الناس الخ...»(4).

____________

(1) راجع على سبيل المثال: الكامل للمبرد ج3 ص312و313 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص146و181.

(2) الأخبار الطوال ص270و271.

(3) المصنف ج3 ص148، والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص170 عن صحيح مسلم، وتيسير المطالب في آمالي الإمام أبي طالب ص35، وكنز العمال ج11 ص280 ورمز إليه بـ [عب، ما، وخشيش، وأبو عوانة، وابن أبي عاصم، ق].

(4) الإمامة والسياسة ج1 ص145.


الصفحة 161
ونقول:

لعل هذا القول منه (عليه السلام) قد كان بعد قتل «الخوارج» في النهروان، ولم يعد للخوارج أي شأن، وصاروا يخرجون على شكل شراذم ضعيفة، وغير قادرة على تحقيق نصر يذكر، وبإمكانهم دفعها بأعداد يسيرة.. فكان الناس يتخذون ذلك ذريعة للتهرب من التوجه لما هو أهم، وخطره أعظم. ولكنهم حينما نجم قرن الشيطان، وظهر «الخوارج»، وصاروا يفسدون في الأرض.. حاول أهل الكوفة أن يحسموا أمرهم، ويدفعوا غائلتهم، فكان أهل الكوفة يصرون على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبدأة بـ«الخوارج»؛ لأنهم لا يستطيعون أن يسيروا إلى حرب معاوية، ويبقى هؤلاء بين أظهرهم.

يقول النص التاريخي: «فقام إليه الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا، سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشرك الخ..»(1).

وعند الدنيوري: «أتدع هؤلاء على ضلالتهم، وتسير؛ فيفسدوا في الأرض، ويعترضوا الناس بالسيف؟! سر إليهم بالناس، فإن تابوا وقبلوا، فإن الله يحب التوابين، وإن أبوا فأذنهم بالحرب، فإذا أرحت الأمة منهم سرت إلى الشام»(2).

____________

(1) تاريخ الطبري ج4 ص61، وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج2 ص368، وراجع: تاريخ ابن خلدون ج2 ـ قسم2 ص180، والبداية والنهاية ج7 ص288، والفخري في الآداب السلطانية ص94، والكامل لابن الأثبر ج3 ص342 وراجع ص340، والفصول المهمة لابن الصباغ ص91و90، والإمامة والسياسة ج1 ص147.

(2) الأخبار الطوال ص207.


الصفحة 162
فإن هذا الكلام قد كان في بداية ظهور «الخوارج»، وقتلهم بن خباب، وإفسادهم في الأرض، كما قلنا.

الشجاعة واليأس:

وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن سرّ إقدام ابن وهب الراسبي على طلب مبارزته مع علمه أن من يبارز أمير المؤمنين لن يكون مصيره سوى البوار والفناء هو أحد الأمرين:

1ـ يأس من الحياة حين لابد من مواجهة الموت في ساحات القتال.

2ـ أو أنه كان يطمع طمعاً كاذباً، حيث منّته نفسه أمراً يستحيل عليه تحقيقه، وهو أن ينتصر على أمير المؤمنين (عليه السلام).

فإنه (عليه السلام) حينما طلب منه الراسبي البراز: تبسّم ثم قال: «قاتله الله من رجل ما أقل حياءه! أما أنه ليعلم: أني حليف السيف، وحديل الرمح، ولكنه أيس من الحياة، أو لعله يطمع طمعاً كاذباً»(1).

وربما يكون هذا أيضاً: هو حال الخارجين على حكومات الجبابرة، فإما هم يطمعون بالنصر.. أو أنهم لابد لهم من مواجهة الموت، لأن أولئك الحكام لن يتركوهم وشأنهم، بل لابد أن يقتلوهم، إما في معركة أو بدونها.

وقد قال المهلب بن أبي صفرة لأصحابه وهو يحذرهم من «الخوارج»: «.. فإن القوم خائفون وجلون، والضرورة تفتح باب الحيلة»(2).

____________

(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص132، وشرح النهج للمعتزلي.، وكشف الغمة ج1 ص267.

(2) الكامل في الأدب ج3 ص315.


الصفحة 163


الباب الثامن
ذلك مبلغهم من العلم





الصفحة 164

الصفحة 165


الفصل الأول
الجهل.. والعلم





الصفحة 166

الصفحة 167

الجهل والجفاء:

لا ريب في أن «الخوارج» كانوا يعانون من الجهل الذريع، ومن السفاهة القاتلة ما يفوق حد الوصف. وكانوا في الأكثر اعراباً جفاةً، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ونذكر من شواهد ذلك ما يلي:

1 ـ إن أبا حمزة حينما دخل المدينة في سنة130ه. «بلغه: أن أهل المدينة يعيبون أصحابه، لحداثة أسنانهم، وخفة أحلامهم»(1) فقام خطيباً في أهل المدينة، فكان مما قال: «يا أهل المدينة، بلغني أنكم قلتم، تتنقصون أصحابي: شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويلكم إلخ..»(2).

____________

(1) الأغاني ج20 ص105 والعقود الفضية ص209 وراجع ص215.

(2) الكامل في التاريخ ج5 ص390 وتاريخ الأمم والملوك ج6 ص59 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص115 وراجع ص119 وج2 ص267 والأغاني ـ ط ساسي ج20 ص104و105و107 ونهج البلاغة ج1 ص83 والعقود الفضية ص207 والعقد الفريد ج4 ص144 والبيان والتبيين ج2 ص124، ولم يذكر: أنهم عيروه بأصحابه شباب إلخ..


الصفحة 168
2 ـ وعن علي (عليه السلام): «.. وأنتم معاشر أخفاء (صغار خ. ل) الهام، سفهاء الأحلام»(1).

وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً قوله: «يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام»(2).

ومن المضحك: أنهم قد رووا عكس ذلك أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله): فقد روي أنه جاءته صدقة بني تميم، فقال: هذه صدقة قومي، وسمعته يقول: «ضخم الهام، رجح الأحلام، وأشد على الرجال في آخر الزمان»(3).

ولاريب في أن هذا الحديث فيه تحريف ووضع، وأخلق به أن يكون قد وضع من قبل «الخوارج»، الذين عرف عنهم: أنهم إذا احبوا أمراً صيروه حديثاً، كما سنرى.

ومن الواضح: ان بني تميم ليسوا هم قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا ميزة لهم من حيث القرابة عن غيرهم من سائر قبائل العرب..

كما أن اللافت هنا هو: أن أكثر «الخوارج» الأولين قد كانوا من بني تميم، فوضعت هذه الرواية على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) في مدحهم!!

ويلاحظ: أنها قد جاءت على نسق العبارة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله)،

____________

(1) تاريخ الطبري ج4 ص63 والكامل في التاريخ ج3 ص344 والمصنف للصنعاني ج10 ص157 ومنحة المعبود ج2 ص185 ومسند الطيالسي ص24 والفصول المهمة لابن الصباغ ص92 ونهج البلاغة بشرح محمد عبده، الخطبة رقم 35 وبهج الصباغة ج3 ص110 عن الطبري ـ والموفقيات ص327 ونور الأبصار ص102.

(2) خصائص الإمام علي (عليه السلام) للنسائي ص140 وسنن أبي داود ج4 ص244 والسنن الكبرى ج8 ص170 ومستدرك الوسائل ج2 ص148 ومسند أحمد ج4 ص357 والبداية والنهاية ج7 ص290.

(3) البرصان والعرجان ص309 وقال في هامشه: أنظر صحيح مسلم 1957.


الصفحة 169
وعن علي (عليه السلام) في ذمهم، وهي الرواية المتقدمة.

3 ـ قال رجل من أصحاب أمير المؤمنين لعبد الله بن وهب الراسبي، زعيم خوارج النهروان: «أنت ـ والله ـ ما فهمت في دين الله ساعة قط. وما زلت جلفاً جافياً مذ كنت»(1).

4 ـ قال الحسن البصري: «العامل على غير علم كالسالك على غير طريق. والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلباً لا تضروا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا تضروا بالعلم، فإن قوماً طلبوا العبادة، وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد.

ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا»(2). يريد بذلك «الخوارج».

5 ـ وحينما أرسل علي بن عبد الله بن العباس دعاته، وصف لهم البلاد، فكان مما قاله لهم: «.. وأما الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كاعلاج، ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى»(3).

ونظير ذلك ورد عن الأصمعي أيضاً، فراجع(4).

____________

(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص126.

(2) جامع بيان العلم ج1 ص165.

(3) معجم البلدان لياقوت ج2 ص352 وأحسن التقاسيم ص293 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج1 ص204 والسيادة العربية، والشيعة والإسرائيليات ص93 والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص102.

(4) روض الأخيار ص67، والعقد الفريد ج6 ص248.


الصفحة 170
6 ـ وما أحسن ما وصفهم به رئيس معتزلة بغداد، بشر بن المعتمر، حيث ذكر خلوهم من العلم والفهم، وذكر حرقوص بن زهير، أحد زعمائهم، المقتول في النهروان، فقال:


ما كان من أسلافهم أبو الحسنولا ابن عباس ولا أهل السنن
غر مصابيح الدجى مناجبأولئك الأعلام لا الأعارب
كمثل حرقوص، ومن حرقوص؟فقعة قاع حولها قصيص
ليس من الحنظل يشتار العسلولا من البحور يصطاد الورل
هيهات ما سافلة كعاليةما معدن الحكمة أهل البادية(1)

الفقعة: الرخو من الكمأة. والقصيص: شجر تنبت الكمأة في أصلها.

7 ـ وقال لهم عمر بن عبد العزيز: «فاتقوا الله، فأنتم جهال، تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتردون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف، ويخاف عندكم من امن عنده، وشهد إلخ..»(2).

8 ـ وفي حرب شيبان الخارجي مع مروان يقول النص التاريخي: «فصبر معه جماعة من الأعراب، فلحقوا بأهاليهم»(3).

9 ـ وقال الحسن البصري في كلام له عن العلم، ويشير به إلى «الخوارج»: «إن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا»(4).

____________

(1) الحيوان للجاحظ ج6 ص455.

(2) العيون والحدائق ص46 ومروج الذهب ج3 ص192.

(3) المصدر السابق ص162.

(4) جامع بيان العلم ج 1 ص165.


الصفحة 171
وقد أشار عدد من المؤلفين والمؤرخين إلى ما كان عليه «الخوارج» من البداوة والجهل والجفاء، فراجع..(1).

قصم ظهري اثنان:

وهؤلاء هم الجهال المتنسكون، الذين قال عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام): «قصم ظهري اثنان عالم متهتك، وجاهل متنسك»(2).

وقد ابتلى بهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد كانت الضربة التي تلقاها (صلوات الله وسلامه عليه) من هؤلاء الجهال المتنسكين، الذين كانوا يرون أنفسهم أعلم من باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله)، أشد وأقوى من كل الضربات، فلو أنهم لم يقفوا ذلك الموقف البغيض في صفين وبعدها، وتركوا الأمور تجري على حسب ما يريده (عليه السلام)، لتغير وجه التاريخ، ولربما كان قد عم الإسلام العالم، ولم يكن قد بقي ثمة مبرر لمهادنة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية، ثم استشهاده، ولا كان ثمة أثرٍ لفاجعة كربلاء، ولا لغير ذلك من مصائب ورزايا تعرضت لها الأمة الإسلامية، والبشرية جمعاء، حيث إنها لم تكن لتوجد من الأساس.

نعم.. لقد كان هذا الجهل المركب، واعتقادهم أنهم أعلم من أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومعه تظاهرهم بالنسك والزهد، من أشد المصائب وأنكاها.. قال ابن الجوزي:

____________

(1) راجع: تاريخ ابن خلدون ج3 ص165 وفجر الإسلام ص259و361 وضحى الإسلام ج3 ص332 وبعدها وتاريخ المذاهب الإسلامية ص68/69 والخوارج في الإسلام لعمر أبي النصر ص18 وقضايا في التاريخ الإسلامي ص37 عن تاريخ الأمم والملوك ج5 ص516.

(2) البحار ج2 ص111و106 وج1 ص208 وميزان الحكمة ج6 ص509.


الصفحة 172
«.. وقد كانت الخوارج تتعبد، إلا أن اعتقادهم: أنهم أعلم من علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وهذا مرض صعب»(1).

وقال: «.. ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم، واعتقادهم أنهم أعلم من علي (رضي الله عنه)»(2).

«الخوارج».. يرجعون إلى تلامذة علي (عليه السلام):

وبعد.. فإن الكل كانوا يعرفون: أن أهل البيت (عليهم السلام) هم معدن العلم، وموضع الرسالة.. والكل يعلم ايضاً اختصاص ابن عباس بعلي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومشاركته له في حروبه، [حتى حروب النهروان ضد الخوارج] ودفاعه عن قضاياه، وكونه علوياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وقد أحس «الخوارج» بحاجتهم إلى الإلمام بشيء من الأحكام، إذ لم يعد جائزاً لهم هذا الاستغراق في ظلمات الجهل حتى بأبده البديهيات، وهم يدعون: أنهم يحاربون الأمويين بدوافع دينية، فلم يجدوا أمامهم سوى ذلك الذي كرهوه، وحاربوه، وشيعته وأولياءه فلجأوا إليهم في ذلك، ولذلك نلاحظ أن نجدة الحروري الخارجي كان يسأل ابن عباس عن مسائل أشكلت عليه، ويعتمد على إجابته فيها..

فقد روى يزيد بن هرمز، قال: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس يسأله عن أشياء، فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه، وحين كتب جوابه، فقال ابن عباس: لولا أرده عن شر يقع فيه، ما كتبت إليه، ولا نعمة عين.

____________

(1) تلبيس إبليس ـ ص93.

(2) تلبيس إبليس ص95.


الصفحة 173
قال: فكتب إليه:

إنك تسألني عن سهم ذوي القربى الذي ذكر الله عز وجل من هم؟ وإنا كنا نرى قرابة رسول الله هم، فأبى ذلك علينا قومنا.

وساله عن اليتيم متى ينقضي يتمه، وأنه إذا بلغ النكاح، وأونس منه رشد دفع ماله، وقد انقضى يتمه.

وسأله هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقتل من صبيان المشركين أحداً، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقتل منهم أحداً. وأنت فلا تقتل، إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الغلام الذي قتله.

وسأله عن المرأة والعبد، هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا الباس، وأنه لم يكن لهم سهم معلوم، إلا أن يجزن من غنائم المسلمين(1).

وحسب نص البلاذري عن عبد الله بن هرمز قال: كنت كاتب عبد الله بن عباس إلى نجدة، وكتب إليه يسأله عن النساء، هل كنّ يحضرن الحرب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟! وهل كان للعبد في المغنم سهم؟ ومتى كان يضرب للصبي؟ ويسأله عن سهم ذوي القربى.

فكتب إليه: أن النساء كن يحضرن الحرب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيرضخ لهن بسهم، وأنه لا سهم للعبد في المغنم. وانه كان لا يضرب للصبي بسهم حتى يحتلم. وأن عمر بن الخطاب عرض عليه أن يزوج

____________

(1) مسند أحمد ج1 ص248/249 وج4 ص83 ومجمع الزوائد ج5 ص341 وسنن النسائي ج2 ص179 والخراج لأبي يوسف ص24 ـ 25 والأموال لأبي عبيد ص463 وجامع البيان ج15 ص6 وأحكام القرآن للجصاص ص62و60 والسنن الكبرى ج6 ص342و343 وسنن أبي داود بيان مواضع الخمس وشرح النهج للمعتزلي ج12 ص212 ولسان الميزان ج6 ص148..


الصفحة 174
من سهم ذوي القربى أيمنا، ويقضي عن غارمنا، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا، وأبى ذلك علينا(1).

وروى أبو الفرج الأصفهاني بسنده عن عمر الركاء قال: «بينما ابن عباس في المسجد الحرام، وعنده نافع بن الأزرق، وناس من «الخوارج»، يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين، أو ممصّرين حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس، فقال: أنشدنا، فأنشده:


أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكرغداة غدٍ أو رائح فمهجر

حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه نافع بن الأزرق، فقال: الله يا ابن عباس، إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام، فتتثاقل عنا، ويأتيك مترف من مترفي قريش، فينشدك: إلخ..»(2).

قال المبرد: «وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس، فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة»(3).

ثم ذكر المبرد شطراً من تلك المسائل، فراجع.

وروي: أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس في آية (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)? فقال ابن عباس:

____________

(1) الأغاني ج1 ص34/35 والكامل في الأدب ج3 ص228و229.

(2) أنساب الأشراف ج1 ص517.

(3) الكامل في الأدب ج3 ص222.


الصفحة 175
هو الذي لا كفؤ له، أي لا ينظر إلى النار برحمته. وأهل الجنة ينظرون إليه في ثوابه، وكرامته ورحمته، ولا يرونه بأبصارهم(1).

وروى الزبيريون: أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال: ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي(2).

ولعله إنما ذكر له عمر ليرضيه بذلك، وإلا، فإن عمر، لم يكن معروفاً بالرواية فضلاً عن أن يكون أروى الناس.

رواية «الخوارج» عن مسلمة أهل الكتاب:

وقد ذكر الحارثي الإباضي: أن مسلم بن أبي كريمة، المتوفى في خلافة ابي جعفر المنصور سنة 135هـ، وثبت وجوده عام ثمانية وخمسين للهجرة(3). قال: «من لم يكن له أستاذ من الصحابة، فليس هو على شيء من الدين، وقد منّ الله علينا بعبد الله بن عباس بن عبد المطلب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وهم الراسخون في العلم. وعلى آثارهم اقتفينا، وبقولهم اقتدينا، وعلى سيرتهم اعتمدنا وعلى منهاجهم سلكنا»(4).

فهو يجعل عبد الله بن سلام من الراسخين في العلم، الذين اقتفى «الخوارج» آثارهم.

مع أن الراسخين في العلم هم خصوص الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، وحتى ابن عباس فإنه ليس منهم.

____________

(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص105 عن الجامع الصحيح [للربيع بن حبيب] ج3 ص27 رقم 855.

(2) الكامل للمبرد ج3 ص230.

(3) راجع: العقود الفضية ص139.

(4) العقود الفضية ص140.


الصفحة 176

الصفحة 177


الفصل الثاني
رجال ينسبون إلى الخوارج





الصفحة 178

الصفحة 179

بداية:

قد ذكرنا في بعض فصول الكتاب سعي «الخوارج» لتزوير الحقيقة، وأنهم يكذبون حتى في ما لا يصح ولا يمكن الكذب فيه، حتى زعموا: أن علياً (عليه السلام) ندم على قتل «الخوارج»، وأنه بكى عليهم.. وغير ذلك من أباطيل.

وزعموا أن عائشة أيدتهم.

وكذلك ابن عباس.

وعدوا صعصعة بن صوحان منهم.

وكذلك أبا الهيثم بن التيهان.

إلى غير ذلك مما لا يرجع إلى أساس، وتكذبه الشواهد القاطعة، والبراهين الساطعة..

ولكن ذلك لا يعني أن لا يكون هنالك من مال إليهم، وأيدهم ومالأهم، إما خوفاً منهم، او بغضاً منه بعلي، أو اعتقاداً.


الصفحة 180
ونذكر هنا طائفة من هؤلاء وأولئك مع التذكير بأن عدداً منهم هم من زعماء «الخوارج» الذين قادوا الحروب، وليس لديهم أثارة من علم، ولا سبيل هدى..

فنقول:

عكرمة من «الخوارج»:

وقد كان عكرمة من «الخوارج» وكان أمره في ذلك أشهر من أن يذكر(1).

وكان يحدث برأي نجدة الحروري، وخرج إلى المغرب، وكان أول من أحدث فيهم رأي الصفرية(2)، فـ«الخوارج» بالمغرب عنه أخذوا(3).

وفي نص آخر: وقف على باب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر، وكان يرى رأي الإباضية(4).

وكان يتهم بالكذب(5).

____________

(1) راجع: ميزان الاعتدال ج3 ص93و95و96 وشرج النهج للمعتزلي ج5 ص76 وفجر الإسلام ص261 والمنتخب من ذيل المذيل ص122 وتنقيح المقال ج2 ص256 والأعلام للزركلي ج4 ص244 وفتح الباري [المقدمة] ص424و425 والعقود الفضية ص65 والطبقات الكبرى ج5 ـ ص292و293 وقاموس الرجال ج6 ص326و327 عن الكافي. وعن المعارف لابن قتيبة، ووفيات الأعيان ج3 ص265 والمغني في الضعفاء ج2 ص438 وتذكرة الحفاظ ج1 ص96 والمعارف ص457 وشذرات الذهب ج1 ص130 والضعفاء الكبير للعقيلي ج3 ص373 ومختصر تاريخ دمشق ج17 ص144و152و151 وراجع: الكامل للمبرد ج3 ص215.

(2) سير أعلام النبلاء ج5 ص20و21و30 وراجع: ميزان الاعتدال ج3 ص96 وقاموس الرجال ج6 ص327 وراجع مختصر تاريخ دمشق ج17 ص142و151 وفتح الباري [المقدمة] ص425و426.

(3) سير أعلام النبلاء ج5 ص21 ميزان الاعتدال ج3 ص96 وفتح الباري [المقدمة] ص425و426.

(4) سير أعلام النبلاء ج5 ص22 وميزان الاعتدال ج3 ص95و96.

(5) الطبقات الكبرى ج5 ص288و289 وميزان الاعتدال ج3 ص93و94و95و96/97

=>


الصفحة 181
وليس يحتج بحديثه، ويتكلم الناس فيه(1)، وكذبه على ابن عباس معروف ومشهور(2).

وقد أوثقه عبد الله بن عباس عند باب الحش، فقيل له: ألا تتقي الله؟

فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي(3).

وكان يتختم بالذهب، ويغني، ويُتهم في أمر الصلاة، واللعب بالنرد ـ فراجع ترجمته..

أبو عبيدة، معمر بن المثنى:

إن البعض ينسب إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى: أنه كان يرى رأي الصفرية من «الخوارج» (4).

وتقدم قول أبي حاتم السجستاني: «كان يكرمني بناءً على أني من

____________

<=

وقاموس الرجال ج6 ص327 والمغني في الضعفاء ج2 ص439 والمعارف ص438 ومختصر تاريخ دمشق ج17 ص149و151والمنتخب من ذيل المذيل ص122.

(1) الطبقات الكبرى ج5 ص293 وميزان الاعتدال ج3 ص94 وفتح الباري [المقدمة] ص425.

(2) راجع ما قاله ابن المسيب لمولاه: برد. وما قاله ابن عمر لمولاه: نافع. وذلك في المصادر المتقدمة، ترجمة عكرمة.

(3) ميزان الاعتدال ج3 ص94 وقاموس الرجال ج6 ص327 والمعارف ص456 وشذرات الذهب ج1 ص130 والضعفاء الكبير ج3 ص374 ومختصر تاريخ دمشق ج17 ص151 وفتح الباري [المقدمة] ص425 ووفيات الأعيان ج3 ص265و266.

(4) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص76 وسير أعلام النبلاء ج9 ص446 ونشوار المحاضرات ج3 ص291 وفجر الإسلام ص265 ونقل أيضأً عن المعارف ص543 والبيان والتبيين ج3 ص264 ـ 266 وج1 ص341 و343 و346 والأمالي للسيد المرتضى ج1 ص636 ونور القبس ص110.


الصفحة 182
خوارج سجستان»(1).

غير أن أبا عبيدة لم يكن له شأن يذكر في العلوم الإسلامية الرئيسية.

فقد قال عنه الذهبي: «.. لم يكن بالماهر بكتاب الله، ولا العارف بسنة رسول الله،ولا البصير بالفقه، واختلاف أئمة الاجتهاد، بل وكان معافىً من معرفة حكمة الأوائل، والمنطق، وأقسام الفلسفة»(2).

إذن.. فلم يكن قوله بنحلتهم مؤشراً للسذج من الناس على صحتها وسلامتها. ولا يفيد ذلك في تأييدها.

اتهام إمام المالكية:

وبعد.. فقد اتُّهِمَ مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، بأنه يرى رأي «الخوارج» (3).

ويذكر الزبيريون: أن مالك بن أنس المديني كان يذكر عثمان وعلياً، وطلحة، والزبير، ويقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر(4).

ولكن البعض قد أنكر بشدة نسبة الإمام مالك إلى مذهب «الخوارج»، فقد نقل أن أبا حيان كتب على هامش الكامل في سنة 717هـ: أن الرجل الموصوف بأنه خارجي هو: مالك بن أنس بن مالك بن

____________

(1) سير أعلام النبلاء ج9 ص147 وعن انباه الرواة ج3 ص281 ونشوار المحاضرة ج3 ص391.

(2) سير أعلام النبلاء ج9 ص447.

(3) راجع: الكامل للمبرد ج3 ص215 وشرح النهج للمعتزلي ج5 ص76 والعقود الفضية ص65 وتقوية الإيمان ص55 عن الجرح والتعديل لجمال الدين القاسمي ص28.

(4) الكامل في الأدب ج3 ص215 وشرح النهج للمعتزلي ج5 ص76.


الصفحة 183
مسمع البكري، ثم البصري، أحد رؤساء أهل البصرة، وفقهائهم، وعبادهم.

وقال أبو حيان: إن مالكاً كان على الخوارج أشد من الموت الزؤام، والداء العقام.

وقد سئل عن أهل حروراء، فقال: أحسب قول الله تعالى: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً فيهم نزلت)(1).

و«الخوارج» يبغضون المالكية أشد البغضاء، لأن إمامهم يقول بكفرهم في بعض الروايات عنه(2).

أبو وائل، أبو بلال:

وربما ينسب إليهم أيضاً أبو وائل شقيق بن سلمة(3).

وقد تقدم: أن «الخوارج» أنفسهم ينتحلونه، ويروون عن ابن عباس قوله: أصاب أهل النهر السبيل، أصاب أبو بلال السبيل(4).

لكن ابن أبي الحديد المعتزلي يقول عن أبي وائل..: «.. ولم يختلف في أنه خرج معهم، وانه عاد إلى علي (عليه السلام) منيباً مقلعاً»(5).

مرداس بن أدية:

وينتحل «الخوارج» أيضاً مرداس بن أدية وعلل المبرد ذلك بقوله: «..

____________

(1) الكامل في الأدب ج3 ص215 وشرح النهج للمعتزلي ج5 ص76.

(2) تقوية الإيمان ص55/56 وراجع هامش الكامل للمبرد ج3 ص215.

(3) الغارات ج2 ص947.

(4) العقود الفضية ص68.

(5) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص99.


الصفحة 184
لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته، وبيانه. تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً إلى الحق».

وتحتج له بقوله لزياد، حيث قال على المنبر: والله، لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاصي.

فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم (عليه السلام)، إذ يقول: «وإبراهيم الذي وفى. ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى»(1). وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم.

والشيعة تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي (صلوات الله عليه): «إني لست أرى رأي «الخوارج»، وما أنا إلا على دين أبيك»(2).

الحسن البصري:

وربما ينسب إليهم أيضاً ـ وهم كذلك ينتحلونه ـ الحسن بن أبي الحسن البصري(3).

وقد ذكر المبرد ذلك، فقال: «فأما أبو سعيد الحسن البصري، فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم.

____________

(1) سورة النجم ـ 37 ـ 41.

(2) الكامل للمبرد ج3 ص214/215.

(3) العقود الفضية ص65.


الصفحة 185
وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنّا.

ثم يذكر علياً، فيقول: لم يزل أمير المؤمنين (رحمه الله) يتعرّفه النصر، ويساعده الظفر حتى حكّم، فلم تحكّم والحق معك؟! ألا تمضي قدماً لا أبا لك، وأنت على الحق»؟!!.

وقال أبو العباس: «وهذه كلمة فيها جفاء إلخ..»(1) ولا يقول إلا من ينحل مذهب «الخوارج»، أو يميل إليه..

ابن عمر:

كما أن ابن عمر كان يمالئ «الخوارج».

فقد ذكر ابن حزم: أنه كان يصلي خلف الحجاج ونجدة(2). وكان أحدهما خارجياً، والثاني أفسق البرية.

ونقول:

لعل تعظيم «الخوارج» لأبيه عمر بن الخطاب هو الذي دعاه إلى ممالأة نجدة الخارجي، ويعزز ذلك أنه كان يرى الصلاة خلف كل متغلب، ونجدة متغلب.

لكن كيف صح ذلك له، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بمروق «الخوارج» من الدين؟!

____________

(1) الكامل ج3 ص215و216.

(2) المحلى ج4 ص213 وراجع: بدائع الصنائع ج1 ص156.


الصفحة 186

إياس بن معاوية:

وقد يقال: إن إياس بن معاوية كان يرى رأي «الخوارج» أيضاً، وذلك لما ذكره الزمخشري، قال: «أخذ الحكم بن أيوب الثقفي عامل الحجاج إياس بن معاوية، فشتمه، وقال: أنت خارجي منافق، ائتني بمن يكفل بك.

قال: ما أجد أعرف بي منك.

قال: وما علمي بك، وأنا شامي، وأنت عراقي؟!

قال إياس: ففيم هذا الثناء منذ اليوم؟!

فضحك وخلى سبيله»(1).

لكن الحقيقة هي أن ذلك لا يكفي لإثبات هذه التهمة على أياس، فإن الحكام قد يوجهون تهماً لبعض المعروفين ليجدوا السبيل للتنكيل بهم..

أنس بن مالك:

وعن علي بن زيد بن جدعان: «أن أنساً دخل على الحجاج، فقال: يا خبثة، شيخاً جوالاً في الفتن، مع أبي تراب مرة، ومع ابن الزبير أخرى، ومع ابن الأشعث مرة، ومع ابن الجارود أخرى، والله لأجردنك جرد الضب».

ثم تذكر الرواية: أن أنساً كتب إلى عبد الملك بذلك، فعالج عبد الملك الأمر بينهما(2).

____________

(1) ربيع الأبرار ج1 ص699.

(2) الموفقيات ص328و329.