الأهداء
سيدتي فاطمة ..
أيتها الصديقة الشهيدة ..
يا أم المحسن الشهيد ..
كم يعجبك أيتها الممتحنة أن نتوسل إليك بهذه الكنية الحزينة ..
فانها مثار آلامك الأبدية ..
وإذا غابت عنا هذه الكنية بين
تداعيات الكتمان .. وانهزامية الخذلان ..
لأن "محسنك"
حقيقة مضيّعة .. وكوثر مهدور ..
فان فصول هذا الكتاب تذكرة لتلك الفاجعة المؤلمة ..
فاقبليني سيدتي في كتابي هذا
شاهداً على كل ما جرى لك من محن وبلاء ..
واليك يا سليلة الزهراء ..
شقيقتي الكبرى "العلوية أم حيدر"
فبينا أنا مشغول باعداد هذا الكتاب حتى جاء نعيك المفجع ..
سبعٌ عجاف لم أرك أيتها البارة ..
فان محنتك ومحنة الاخريات من نساء العراق المثكول
امتدادات من محنة أمك فاطمة ..
مقدمة
الحمد لله رب العالمين .. وصلى الله على محمد وآله المنتجبين المهديين.
تُعد القصيدة الشعرية قراءة ناضجة لفترة تاريخية معينة، واستقصاءً رشيداً لملامح تلك الفترة ومعالمها، ولعل مقطوعة أدبية واحدة تُغني عن دراسة تاريخية مضنية، تدخل في حيثياتها نزعةٌ غير رشيده، أو رشيدة إلا انها حذرة تخفي من ورائها معالم قضية سعى الكاتب إلى تجنبها حذراً، أو إخفائها طمعاً.
والقصيدة الشعرية فضلا عن ترسيم ملامح فترة زمنية، فهي تدافعات هواجس تزدحم في صدر الشاعر ليخرجها مقطوعة أدبية تُعبّر عن طموحات تلك الفترة وآلامها.. أي أن القصيدة الشعرية هي تسجيلٌ لمشاهد حسية من محنة سياسية مرتجلة، أو عبثية سلطوية مقيتة حلت في الأمة وأسست منهجة حكم زحفت على الأمة لتستوعب كل فتراتها الزمنية، إذن فالقصيدة الشعرية مشاهدات واعية لفترة زمنية معينة كما انها قراءة ملحمية واعية يتجاوز بها الشاعر حدود المحذور، ويخترق من خلالها
كانت قصيدة أعشى همدان(1) عينة جيدة للمكتّمات الأدبية، وقد روتها المشاريع التاريخية تحت عنوان "المكتمات" فقد جاءت عبارة الطبري عند روايته لهذه المقطوعة بقوله: وكان مما قيل من الشعر في ذلك [أي في وثبة التوابيين وجهادهم ضد الحكم الأموي] قول أعشى همدان، وهي احدى المكتمات كنّ يكتمن في ذلك الزمان، ثم روى قصيدته كاملة(2). وتبعه على
____________
1- قال أعشى همدان في قصيدة له يمدحُ التوابيين ووثبتهم ضد الحكم الأموي المنحرف، فمن قصيدته التي تسمى "بالمكتّمات".
فاني وإن لم أنسهُنَّ لذاكرٌ | رزيئةَ مخبات كريمِ المناصبِ |
توسل بالتقوى إلى الله صادقاً | وتقوى الإله خير تكساب كاسبِ |
وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها | وتاب إلى الله الرفيع المراتبِ |
تخلى عن الدنيا وقال اطرحتُها | فلستُ اليها ما حييتُ بآيب |
وما أنا فيما يُكبرُ الناس فقدهُ | ويسعى له الساعون فيها براغب |
فوجههُ نحوَ الثويةِ سائراً | إلى ابن زياد في الجموع الكباكب |
بقوم همُ أهلُ التقية والنُهى | مصاليتُ أنجاد سراةُ مناجبِ |
مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبَهُ | ولم يستجيبوا للأمير المخاطبِ |
فساروا وهم من بين مُلتمسِ التُقى | وآخرَ مما جرَّ بالأمس تائب |
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا | اليهم فحُّسوهم بييض قواضبِ |
إلى أن يقول:
فان يقتلوا فالقتلُ اكرمُ ميتة | وكل فتىً يوماً لا حدى الشواعبِ |
وما قُتِلوا حتى أثاروا عصابةً | مُحِلين ثوراً كالليوث الضواربِ(3) |
2- انظر تاريخ الطبري 4: 472 مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1939 م.
3- تاريخ الطبري 4: 274.
إذن فالظرف السياسي قد أسس لوناً أدبياً خاصاً سمي "بالمكتمات"، كانت تعبيراً عن نفس مكتوم يُنفّس الشاعر به عن هواجسه واحساساته، ثم هو خلاصة لتاريخ مقهور وحق ممتهن. وإذا كانت المكتمات الأدبية قد اختفت لفترة سياسية معينه ثم أظهرت المشاريع التاريخية وسجّلتها الجهود الثقافية، فان "مكتّمات أدبية" تعاني من قهر ثقافي لا زال متسلطاً على المشروع الأدبي، يكتم أنفاسه أو يخفيه تحت معذّرات تبريرية، كالحفاظ على وحدة الأمة وعدم الاثارة لتاريخ انتهى، لا حاجة لنا في اعادته، إلى غير ذلك من التبريرات الانهزامية التي تُلغي تراثاً أدبياً وحقائق تاريخية، هكذا هي قصائد هذا الكتاب مكتّمات دائمة لم يُرفع عنها المحذور، ولا تتمتع بحقها المسموع، تلغيها الجهود الثقافية، وتكتمها المشاريع التاريخية، فثقافة المأساة الفاطمية لا تزال تدخل تحت عناوين الحظر الأدبي الذي من خلاله أسست بعض المدارس الثقافية محاولات اخفاء تقليدية كانت جهودها منصبّة لمسح القضية التاريخية بحجة الحفاظ على وحدة الأمة وسلامتها من الانشقاق، علماً أن محاولات الاخفاء هذه هي أولى مراحل التفرقةِ والانشقاق لدى الأمة، أي تعيش الأمة بين الواقعية التاريخية وبين التمويه القصصي الذي يلتف على الحقيقة فتضطرب عندها الرؤية وتختلف من
____________
1- راجع ابن الأثير في الكامل 3: 345 دار الكتاب العربي بيروت ط5 1985 م.
هذه هي مكتمات هذا الكتاب، تحاول الخروج عن سلطنة المشروع الثقافي الذي صنّفها في عداد الممنوع، والانفلات من قبضة التقليديات المفروضة على القضية التاريخية سواء كانت على أساس سردي، أو على شكل مقطوعة شعرية تخرج من بين مطاوي كتاب انفلت عن تقليديات الممنوع، أو مشاريع ثقافية جزئية إلاّ انها متناثرة لم تستقل بعنوان بل جاءت كترتيبات إندماجية تسترقُ الفُرَصَ وتتحين المواقف.
لذا بدأت قصائد الكتاب من نصف القرن الهجري الثاني حيث استطاعت المشاريع الأدبية الشيعية أن تنفتح على الاعلان عن مظلومية آل البيت (عليهم السلام) بحذر شديد، ظهرت ملامحه على نفس المقطوعة الأدبية التي تجرأت على هذا النمط الثقافي ـ الاعلامي، لذا فان فترة القرن الهجري الأول قد حُجبت عن المشاركة في هذا المشروع الأدبي مع ما تملك من تراث أدبي فاطمي مقهور بين الاخفاء والتعتيم حتى أن المتتبع لأدبيات هذه الفترة لم يعثر من بعيد أو قريب على أدبيات فاطمية تحكي مظلومية الزهراء (عليها السلام)ومأساتها مع أن هذه الفترة لعلها أثرى الفترات الأدبية التي أظهرت مظلومية الزهراء (عليها السلام) وذلك لشواهد منها:
أولا: أن المجتمع العربي مجتمع "تسجيلي" يهتم بأرشفة المواقف التاريخية في محاولات أدبية تتعدها القصيدة الشعرية، وتُظهرها أدبيات المشاهد الذي كان يُسجل الموقف في مخيلته الأدبية الشعرية.
ثانياً: كانت التكتلات السياسية عبارة عن طبقات شعرية تترصد أية
ثالثاً: كان الاعلان عن الموقف السياسي المعارض أو المؤيد من خلال المشروع الأدبي الذي يتشكل على أساس المقطوعة الشعرية المتكونة من البيت الواحد إلى القصيدة حتى الملحمة الشعرية الكاملة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا نعقل فترة سياسية مهمة مع ما صاحبتها من وقائع دينية ـ إجتماعية حساسة دون أن تُسجل مشاريعها الأدبية موقفها الواضح من الرفض أو التأييد.
إن مشاريع المكتّمات الأدبية شواهد تاريخية على خنق أي مشروع ثقافي رافض لتوجهات السلطة، أو معارض للانفلاتية الشرعية أو الخروقات التي يرتكبها النظام، ففي أي رحاب حر يمكن التعبير عن المعارضة السياسية إذن؟
وفي أي رحاب ثقافي مخنوق يمكن للمشروع الأدبي أن يتحرك من خلاله بحرية تعبيرية كاملة؟ هذا ما سبّبَ في حذف تراث شعري حاول اظهار خروقات السلطة الحاكمة وارتكابها لأفظع مظلومية جرت على آل بيت النبي الاطهار (عليهم السلام) التي كانت أهم عناوينها مظلومية الزهراء (عليها السلام)، حتى غدت مشاريع الأدب الفاطمي من أهم مكتّمات تلك الفترة التي تورّط حتى من حاول اظهار المكتمات الأدبية، في اخفائها، فالطبري ومثله ابن الأثير وغيرهم الذين حاولوا اظهار هذه المكتّمات وتسجيلها في مشاريعهم الأدبية لم يجرؤا على رفع الحظر المضروب على المشروع الأدبي الفاطمي الذي حدد معالم تلك الفترة السياسية ونقل صورة المأساة.
هذا ولعل الظرف السياسي المتراخي هو الذي أباح للسيد الحميري أن ينشر مكتماته حتى تبعه أهل عصره فأذاعوا منها طرفاً، وأشاروا إليها نتفاً.
فكانت القصيدة الحميرية فاتحة عهد لأن تتنفس مكتمات الأدب العربي لتحال إلى اطروحات فكرية فضلا عن كونها اطروحات سياسية متحدية.
هذه هي الأسباب التي دعت أن يتخطى الكتاب من القرن الأول الهجري إلى النصف الثاني من القرن الثاني الهجري الذي تفجرت فيه المكتمات الأدبية إلى صيحات ثورية حقيقية.
كانت مسألة الاسقاط التي تعرضت اليها السيدة فاطمة الزهراء (عليه السلام)، من أهم ملامح تلك الفترة السياسية الواثبة على حقوق آل البيت (عليهم السلام)، حيث أظهرت خطورة الموقف السياسي الحاد الذي سحق من خلاله كل الاعراف الدينية والاجتماعية مدى استعداد القوى السياسية إلى قلب المعادلات والثوابت، لذا جاءت مسألة الاسقاط، قراءة واعيةً لفترة سياسية عارمة بكل توجهاتها السلطوية المقيتة، فلم تقف في طريقها أية مرتكزات دينية أو أعراف اجتماعية، فكان الكتاب مشروع أدبي أظهر معالم هذه الفاجعة المؤلمة، وامتد هذا المشروع ليشمل حتى القصائد التي تحدّث عن مأساة السيدة الزهراء (عليها السلام) دون التصريح بمسألة الأسقاط لأسباب سياسية صرفة.
ان استقلالية الأدب المحسني بشخصيته المستقلة، أرفد الدائرة الأدبية بالجهود النهضوية الذي ينتمي إليها الأدب الشيعى يوم أسس الأدب الحسيني فصارت إليه شخصيته المستقلة ومعالمه المعروفة، ولعل أهم ما حققه هذا المشروع هو أرشفة الأدب المحسني وحفظه في مشروع خاص يمكن أن يكون فاتحة عهد جديد لمشاريع أدبية محسنية جديدة تتبناها جهود تحقيقية أخرى لتسد ثغرات هذا التأسيس وتزيد من دراسته دراسة تحقيقية تاريخية.
ان محاولتنا هذه اجابة لكل تخرصات المشاريع التبريرية التي حاولت الشطب على فترة تاريخية مقدسة من التراث الإمامي، وتفنيد لكل التخرصات المتدافعة بين واقعية الحدث وبين رغبة التثقيف الساذج، فهو إذن، قراءة واعية لفترة زمنية أخفتها المحاولات التثقيفية المضادة، التي لم تستطع الصمود أمام واقعية الاحداث الإسلامية الجلية.
قم المقدسة
في الأول من ربيع الأول 1418 هـ
محمد علي السيد يحيى الحلو
تمهيد
كل شيء لم يعد على حاله، فالشمس المشرقة المرسلة بخيوطها الذهبية الصفراء تبعث باحزانها اليوم منكسفة كئيبة.. والسماء الزرقاء الصافية تجلجل بدوي صامت يبعث على فزع مذهل يلف أهل المدينة وقد عمَّ الخبر أرجائها.. "النبي قد مات، النبي فارق الدنيا، النبي التحق بالرفيق الأعلى.." صحية تأخذ بأهلها إلى حيث الابعاد المجهولة الحزينة.. والعاصفة الحمقاء تبعث بزوابعها حتى تكاد تقتلع الأرض ومَنْ عليها..وكأن الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، والناس.. الناس أولئك الذين تحدّقوا حول رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتبارون في الدنو منه ويفتخرون بالقرب له ويتنافسون من صحبتهم اليه يفترقون اليوم في أحياء المدينة وشعابها، فالانصار أولئك الذين تدافعوا على قربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقدّموا له كل غال ونفيس يتحلقون اليوم حول سيدهم سعداً في مسجد النبي(صلى الله عليه وآله)يتشاورون في أمر البيعة..و الأوس منهم ينخرطون إلى سيدهم أسيد بن حضير وهو يثبّط الانصار عن سيد الخزرج سعداً منافسة منه لسعد ليقول لأوس الانصار "والله لئن وليتها الخزرج مرة لازالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر فبايعوه فانكسر على سعد
ولعل الانصار لم يقبلوا بمقالة أبي بكر ولا يرضوا من أنفسهم منافسه الأمر أهله، فلم يغب عنهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي: يا معاشر الانصار،
____________
1- انظر الكامل في التاريخ 2: 221، 222.
2- انظر الكامل في التاريخ 2: 221، 222.
____________
1- حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني 1: 63.
هكذا أشهدهم على أنفسهم وشهدوا على أنفسهم أنه قد بلّغ خير تبليغ وسمعوا مقالته ووعوها، فكيف لهم أن يستبدلوها بمقالة أبي بكر حتى يذكّرهم بعصبيتهم التي طحنتهم سنين عجاف؟! وما أن أنهى أبو بكر مقالته هذه حتى تقدم إليه عمر فقال له: ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعه وبايعه الناس بين مغلوب مقهور كسعد وخزرجه وقد خرج من المسجد مغاضباً لم يبايع، وبين معاند حاسد لخزرج سعد وسيدهم، كأسيد بن حضير من الأوسيين الذين تحركت فيهم حمية الجاهلية فذكّرتهم بدمائهم التي لا زالت لم تجف بين خزرجها وأوسها من الانصار..
فتدافعوا لبيعة أبي بكر حرصاً منهم على أن لا يكون الأمر في سعد يوم كان خصمهم تقاتلهم نزعة الحيين القبلية، فاختار أُسيد أبا بكر على منافسه سعد، وذهبت به العصبية على أن يُخرجها من أهله الانصار المدنيين ليضعها في أهل المهاجرة من المكيين، وهكذا عرف أبو بكر كيف تُنكأ جراحات الحيين بعد أن "عافاها الله" لتلئم بحبه وحب رسوله (صلى الله عليه وآله)، وإذا استطاع الخليفة أن يغلب الحيين من المدينة لينتزعها لعصبته فان أبا سفيان قد يئس من الأمر وهو السيد المطاع في قومه قد رأى أن الأمر يتلاقفه أقل حي من قريش ـ كما عبّر هو بقوله ـ فان أبابكر لم يغب عنه أن يتغلب على نزعة أبي سفيان الذي قال لعلي والعباس: ما بال هذا الأمر في أقل حي من
____________
1- المراجعات للسيد عبدالحسين شرف الدين رواه عن الطبراني والحاكم والنسائي ومسند أحمد بن حنبل وغيرهم. راجع المراجعات: 164 وما بعدها.
إذن لم يغب عن أبي بكر مناورات السياسة لدى أبي سفيان ومساوماته في الحكم والامارة، ولم يخف على أبي سفيان وغيره أن الأمر يكون في أوسط العرب داراً ونسباً ـ كما احتج أبو بكر نفسه على الانصار ـ فكيف والحال هذه يتقدمهم أبو بكر وهو في أقل هي من قريش؟ وليس أبو سفيان وحده قد احتج بتأخر أبي بكر عن أحياء العرب فان أبا قحافة حينما سمع ابنه أبا بكر يصيح بوجه أبي سفيان، دنا من أبي بكر وقال له: أعلى أبي سفيان ترفع صوتك يا عتيق الله؟ وقد كان بالأمس سيد قريش في الجاهلية لقد تعديت طورك وجزت مقدارك(2).
هذه نزعة القبلية الجاهلية التي احتج بها أبو بكر على الانصار وأثار غبارها في وجوههم فقد واجهته اليوم حتى من أقرب الناس إليه من أبيه وغير أبيه، فقد تسرّع أبو بكر بحجته هذه، فالحجة عليه اذن لا على غيره، فقد حاجّ نفسه بنفسه، ورمى بكنانته على صدره، وأحدث عليه فتقا لا يرتقه هو ولا غيره، فان في المسلمين من هو أقرب منه حسباً ونسباً، ولم يغب ذلك عن ذهن أبي بكر فانه ارتكز في نفسه وعند غيره أن في القوم لرسول الله أقرب حسباً، وإليه أقصر نسباً، فبنو هاشم عصبتهُ وحامّتهُ وحشاشتهُ، وعلي فيهم خير من عرفته قريش وغير قريش، أول من أسلم،
____________
1- تاريخ الطبري 3: 902.
2- مروج الذهب 2: 314.
فأي حق قصده عليٌ في محاججته وأي اعتراف أذعن إليه أبو بكر في جوابه؟
ألم يكن أبوبكر قد أخذ البيعة عن رضا المسلمين؟ فلمَ لا يحتج بذلك على علي وعلى غير علي؟ ولِمَ أذعن لمحاججته إذن؟ فاعترف له بحقه واعترف أنه لم يرع له ذلك الحق؟ أهو حق المشورة وقد احتج الأخرون أن البيعة قد أخذت باجماع المسلمين؟ فأين كان عليٌ وغيره من الهاشميين إذن؟ أم هو حق الخلافة للأقرب حسباً والأقصر نسباً كما احتج أبو بكر على غيره من الانصار؟ وهل ينكر أبو بكر أن في المسلمين أقرب من علي في حسبه؟ فهو ابن أبي طالب شيخ البطحاء، قد دانت له الرقاب وأذعنت لسيادته العرب، أم ينكر أنه أقصر نسباً من رسول الله فهو ابن عمه وختنه على ابنته؟ وغير هذا وذاك فان علياً أعلم الناس وأشجعهم وأزهدهم إلى غير ذلك من صفات الامامة ولياقات الخلافة.
فقد قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم
____________
1- المسعودي مروج الذهب 2: 703.
لا سيف إلاّ ذو الفقار | ولا فتى إلاّ علي(2) |
وهو أزهدهم حتى قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي ان الله تعالى زينك بزينة لم يزين العباد بزينة هي أحب اليه منها، زهدك فيها وبغضها إليك..(3) ولم ينكر أبو بكر ولا غيره فضل علي وفضيلته، ولم يسع لأبي بكر إلاّ أن يُجهِزَ على الاحداث المتسارعة في غير صالحه، فان الأمر لا يدرك إلاّ بأخذه سراعاً، وأن الفرصة لا تعود إلاّ بالتسلل في الخفاء مرة وبالوثوب أخرى، فان الذي يطلب أمراً كأبي بكر لا يهون عليه تركه دون أخذه بأي حال، فان الامور لم تستوسق له والناس أهالهم ما أقدم عليه أبو بكر وأصحابه: فان للمهاجرين والانصار يوم السقيفة خطب طويل ومجاذبة في
____________
1- أسد الغابة لابن الأثير 4: 44 دار احياء التراث العربي ـ بيروت.
2- تاريخ الطبري 2: 514 دار سويدان بيروت.
3- رواه ابن الاثير في أسد الغابة 4: 23 والعلامة الحلي في كشف اليقين: 85 وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي.
هذا ما اختزنته ذاكرة الانصار والمهاجرين، فالمشاهد لم تغبْ، والاحداثُ لم تنسَ بعد، فأي أمر يقرهُ المسلمون لأهل السقيفةِ عند ذاك؟ وما الذي يفعله أهلُ السقيفةِ وقد رأوا المسلمين قد أنكروا عليهم غير أخذهم بالقوةِ خوف أن تُفلت الأمور من أيديهم فتنقلب عليهم، وهل لمن أراد الأمور كمثلهم إلاّ أن يعاجلهم؟ فمديده عمر إلى أبي بكر للبيعة وتبعه على ذلك أبو عبيده بن الجراح تحزّباً، ولحقهم أسيد بن حضير تعصّباً وانكفأ الآخرون يرتطمون بمبايعته تخاذلا، وإلى ذلك أشار عمر بقوله: إنا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من بيعة أبي بكر خشيت ان فارقت القوم ولم
____________
1- المسعودي مروج الذهب 2: 703.
2- الكامل لابن الاثير 2: 221 دار الكتاب العربي.
3- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 40 مؤسسة إلاّ علي بيروت.
____________
1- الكامل لابن الأثير 2: 222.
فليعاجلوا علياً اذن وليأخذوا البيعة منه قهراً وغلبة، أو طوعاً وانصياعاً، ومعلوم أن الحق لا يذهب سدى ولا يخذله أهله كما أنه لا يخذل أهله، فعليٌ لم يبايع اذا خلّي هو ونفسه، وانه لم يرضَ إذا تُرِكَ لسبيله، فان السقيفة العارمة تَسحقُ كل من يقف في وجهها اليوم بالقهرِ والغلبةِ، وتسالم كل من أيدها بالطوع والانصياع، فانه الانقلاب الذي يسحق كل شيء ويثب على كل شيء. فمن هو عليٌ في مفهوم الواثبين على الأمر غلبةً وقوة؟ ومن هذا وذاك وأولئك اذا توقّف إنجاح المجازفةِ على سحقِ كل الثوابتِ والمسلّمات؟ فانها الغلبةُ وانها المعاجلةُ وانها الخدعةُ، فليعبّروا عنها ما يشاؤون فان باب الاعتذار واسع بعد ذلك، ومحاولات التبرير سخيّة، وليقضوا أمرهم ثم فليكن ما يكون.
____________
1- راجع المسعودي مروج الذهب 1: 12.
هذه هي السقيفة، وهذه تحركاتها، فهي إذن حالةٌ طبيعية في أعراف الانقلاباتِ العسكرية والمناوراتِ السياسية، وهي طبيعيةٌ إذن في مفهومِ الوثوبِ على قضية لم يُذعنَ الناسُ لها، فالثوابتُ لا زالت هي نفسُ الثوابتِ التي درج عليها المسلمون، والاعرافُ هي نفسُ الاعراف التي أذعن اليها المسلمون، والذاكرةُ لم تُغيّرها الخطبُ والمهاترات، والجدال وتزويق الالفاظ لا يلغي ما ارتكز عند المهاجرين والانصار من النصوص الواضحة الجلية، ففي علي حفظ كل المسلمين وقائع الاستخلاف، وفي علي روى كل واحد منهم منقبةً أو فضيلةً، وفيه جرت على يد كل منهم مكرمة نبوية جليلة، فكيف والحال هذه يقنع المسلمون الخلافة في غير علي، وكيف بعد ذلك كله يأخذ المسلمون من غير علي أحكامهم وقد شهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) له بالقضاء والعلم والزهد والشجاعة ومن ثم شهد له بانه يحب الله ورسوله كما يحبه الله
ساعات عدة لينتهي كل شيء، ويُغلق كل شيء، ويعطل كل شيء، فلا معارضة الزهريين، ولا مماطلة الأمويين، ولا شقشقة الانصار، فالزهريون دخلوا تحت مظلة الشيخيين لينتهي الأمر بعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص تابعين ضعيفين قد رضيا الخلافة دون علي بن أبي طالب، والأمويون قد أخذوا نصيبهم من الامارة بعد توعيد وتهديد أبي سفيان حتى ولي ابنه امارة، فدعى لهم وأيدهم وأقر ما في أيديهم، والانصار هدرت شقشقتهم بعد خذلان أسُيد بن حضير باخوانه الخزرج ليخرجها من أيديهم منافسة، فنكصوا الخزرج عن سيدهم سعداً وانقادوا لمنافسهم أُسيد جهلا وتغريراً.
هذه هي الحالة العامة الهائجة المائجة في المدينة، وهذه هي الحالة العامة من الخذلان والنكوص لتلك الاحياء التي سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصه في علي واستخلافه له، فقد تخاذل الناس عنه، وقد توازر القوم عليه، فما الذي يمنع هؤلاء الذين ارتبط مصير مهمتهم ببيعة علي وبسط يده اليهم، وهل في أعراف المناورات السياسية غير معاجلة علي ومَنْ امتنع مثله من أصحابه بأخذ البيعة قهراً وغلبةً حتى لو كلف الأمر اقتحام الدار، أو تطلّب الأمر تهديدهم بالقتل مرة وبالاحراق أخرى؟ وهل يمنع القوم حرمة علي في داره أو يمنع القوم وقوف بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)في وجوههم تعذّلهم على ما
فحسبت فاطمة أن في خروجها استنجاداً بهذه الاعراف الانسانية واستنهاضاً لتلك التقاليد العربية من أن تضام المرأة أو تنهتك حرمتها، أو تمنع الآخرين من اقتحام الدار درأً للفتنة وتطييباً للخواطر، إلاّ أن القوم لهم حساباتهم فان الفرصة مؤاتية لأخذ البيعة وأي تأخير أو تردد أو تراجع سيقلب الأمور في غير صالحهم فهل بعد هذا إنتظار؟ وهل بعد هذا تردد وتراجع؟
إذن فخروج الزهراء للقوم كان عملا بمقتضيات النجدة والمروءة، تصد القوم وتمنعهم ذوداً عن علي واطفاءً للنائرةِ، آملةً أن ينسحب القومُ وقد ردعتهم أعرافُ النخوة والشهامة، وكان هجوم القوم عملا بمقتضيات المعاجلةِ العسكريةِ ومناوراتِ السياسةِ فأيُ تأخيير أو تردد في أخذ البيعة من علي سيُسقط الأمر من أيديهم وتنقلب العواقب بما لا يحمدوها.
وإذا عرفنا ذلك عرفنا ضرورة الاقدام على أي اجراء من شأنه ضمان انجاح عمل القوم في تضييع الفرصة على علي وعلى غير علي، وضمان اسكات أية معارضة من شأنها أن تُعّرقل عمل الانقلاب على أقل تقدير إن
فروايات الهجوم على الدار واسقاط المحسن سنوردها عن طرق الفريقين تاركين تمحلات الاعتذار والتبرير لمن يسلك هذه الطرق الوعرة على حساب الواقعية والموضوعية.
روايات الهجوم على الدار
أولا: ما ورد عن طرق الامامية..
1 ـ كتاب سليم بن قيس:
أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس، قال: كنت عند عبد الله بن عباس في بيته، و معنا جماعة من شيعة علي (عليه السلام) فحدثنا، فكان فيما حدّثنا أن قال: يا أخوتي! توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم توفي فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدوا، وأجمعوا على الخلاف...
إلى أن قال... فانطلق قنفذ، فأخبر أبا بكر، فوثب عمر غضبان، فنادى خالد ابن الوليد وقنفذاً، فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب علي (عليه السلام)، وفاطمة (عليها السلام) قاعدة خلف الباب، قد عصّبت رأسها، ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقبل عمر حتى ضرب الباب، ثم نادى: يابن أبي طالب! افتح الباب.
فقالت فاطمة: يا عمر! أما تتقي الله عز وجل، تدخل عليَّ بيتي وتهجم على داري؟
فأبى أن ينصرف.
يا أبتاه! يا رسول الله!..(1)
2 ـ كتاب سليم بن قيس كذلك:
عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت سلمان الفارسي، قال:... فقال عمر لأبي: ما يمنعك أن تبعث اليه فيبايع، فانه لم يبق أحد الا قد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة؟
وكان أبو بكر أرق الرجلين، وأرفقهما، وأدهاهما، وأبعدهما غوراً، والآخر أفظهما وأغلظهما، وأجفاهما.فقال أبو بكر: من نرسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذاً، وهو رجل فظ، غليظ، جاف من الطلقاء، أحدبني عدي بن كعب.
فأرسله اليه، وأرسل معه أعواناً وانطلق، فاستأذن على علي (عليه السلام) فأبى أن يأذن لهم، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر، وهما جالسان في المسجد والناس حولهما، فقالوا: لم يؤذن لنا.
____________
1- كتاب سليم بن قيس: 249 منشورات دار الفنون بيروت 1400 هـ ـ 1980 م قال النعماني في غيبته: وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الأئمة (عليهم السلام) خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الاصول التي رواها أهل العلم من حملة حديث أهل البيت (عليهم السلام) وأقدمها لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل انما هو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وسمع منهما، وهو من الأصول التي ترجع الشيعة اليها ويعوِّل عليها.. (*)
____________
*- كتاب الغيبة: 101 محمد بن ابراهيم النعماني مكتبة الصدوق طهران.
فانطلقوا فاستأذنوا.فقالت فاطمة (عليها السلام):
أُحرّج عليكم أن تدخلوا عليَّ بيتي بغير إذن.
فرجعوا، وثبت قنفذ الملعون، فقالوا: إن فاطمة قالت كذا وكذا، فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن.
فغضب عمر، وقال: مالنا وللنساء. ثم أمر أُناساً حوله أن يحملوا الحطب، فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابناهما(1).
ثم نادى عمر حتى أسمع علياً (عليه السلام) وفاطمة:
والله لتخرجنّ يا علي، ولتبايعن خليفة رسول الله، والا أضرمت عليك.
فقالت فاطمة (عليها السلام): يا عمر مالنا ولك؟
فقال: افتحي الباب، والاّ أحرقنا عليكم بيتكم.
فقالت: يا عمر أما تتقي الله، تدخل عليّ بيتي.
____________
1- هنا تعارض بين التكليف الشرعي الذي لا يحل لأحد أن يدخل دار أحد دون اذنه، والاعراف الاجتماعية التي تفرض على الرجل أن يتحرج من التعامل مع امرأة بالعنف والقسوة، وبين الانقلاب العسكري الذي يتطلب معاجلة القوم لاتخاذ ما يلزم، وإلا فان تضييع الفرصة أو التأخير عن أي عمل عسكري مباغت سيُكلّف الانقلابيين حركتهم وأنفسهم، لذا كانت مقتضيات المباغتة العسكرية، وعدم ملاحظة التحرج الديني أو الاجتماعي من دواعي تحرك الخليفة بهذا الاسلوب العنيف، وعدم تضييع الفرصة العسكرية بالانصياع إلى مقتضيات المرؤة، والا فان عليه ألا يقدم على عمل خطير كهذا، فان في حساباته المسبقة مواجهة مثل هذا وأكثر.
3 ـ تفسير العياشي:
إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يقبض حتى أعلم الناس أمر علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقال انه مني بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي، وكان صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المواطن كلها، وكان معه في المسجد يدخله على كل حال وكان أول الناس ايماناً، فلما قبض نبي الله (صلى الله عليه وآله) كان الذي كان لما قد قضى من الاختلاف وعمد عمر فبايع أبا بكر ولم يدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله)بعد، فلما رأى ذلك علي (عليه السلام)ورأى الناس قد بايعوا أبا بكر خشي أن يفتتن الناس ففرغ إلى كتاب الله وأخذ بجمعه في مصحف فارسل أبو بكر إليه أن تعال فبايع فقال علي: لا أخرج حتى أجمع القرآن فارسل إليه مرة أخرى فقال: لا أخرج حتى أفرغ فارسل اليه الثالثة ابن عم له يقال له قنفذ، فقامت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحول بينه وبين علي (عليه السلام)، فضربها فانطلق قنفذ وليس معه علي (عليه السلام) فخشى أن يجمع عليٌ الناس فأمر بحطب فجعل حوالي بيته ثم انطلق عمر بنار فأراد أن يحرق على علي بيته وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فلما رأى علي ذلك خرج فبايع كارهاً غير طائع.(2)
____________
1- المصدر السابق.
2- تفسير العياشي 2: 307 المكتبة العلمية الإسلامية طهران.
4 ـ تلخيص الشافي للشيخ الطوسي:
روى ابراهيم بن سعيد الثقفي، قال: حدثنا أحمد بن عمرو البجلي قال: حدثنا أحمد بن حبيب العامري، عن حمران بن أعين عن أبي عبدالله جعفر بن محمد (عليه السلام)قال: والله، ما بايع علي حتى رأى الدخان قد دخل بيته.
5 ـ بحار الانوار للعلامة المجلسي:
حدثنا أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى التلعكبري قال: حدثنا أبي (ره) قال: حدثنا أبو علي محمد بن همام قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك الفزاري الكوفي، قال: حدثني عبد الرحمن بن سنان الصيرفي عن جعفر بن علي الجواد عن الحسن ابن مسكان عن المفضل بن عمر الجعفي عن جابر الجعفي عن سعيد بن المسبب قال في حديث طويل يذكر فيه وصية عمر بن الخطاب وفيها:
أتيت دار علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين، وابنتيهما زينب وأم كلثوم، والأمة المدعوة بفضة، ومعي خالد بن الوليد وقنفذ مولى أبي بكر، ومن صحب من خواصنا، فقرعت الباب عليهم قرعاً شديداً، فأجابتني، فقلت لها قولي لعلي... إلى أن قال:...(1) فقالت: إن أمير المؤمنين علياً مشغول، فقلت: خلي عنك هذا وقولي له يخرج وإلاّ دخلنا عليه وأخرجناه كرهاً.
فخرجت فاطمة، فوقفت من وراء الباب، فقالت:
أيها الضالون المكذبون ماذا تقولون وأي شيء تريدون؟
____________
1- تلخيص الشافي 3: 76.
فقلت: ما بال ابن عمك قد أوردك للجواب، وجلس من وراء الحجاب؟ فقالت لي:
طغيانك يا شقي أخرجني وألزمك الحجة وكل ضال غوي.
فقلت دعي عنك الاباطيل وأساطير النساء، وقولي لعلي يخرج لا حب ولا كرامة.
فقالت: أبحزب الشيطان تخوفني يا عمر؟ وكان حزب الشيطان ضعيفاً.
فقلت: إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل، وأضرمتها ناراً على أهل هذا البيت وأحرق من فيه أو يقاد علي إلى البيعة.
وأخذت سوط قنفذ فضربتها، وقلت لخالد بن الوليد: أنت ورجالنا هلمّوا في جمع الحطب، فقلت اني مضرمها.
فقالت: يا عدوا الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين.
فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني من فتحه، فرمته فتصعّب عليّ فضربت كفيها بالسوط فآلمها.
فسمعت لها زفيراً وبكاءً فكدت أن ألين وأنقلب عن الباب، فذكرت أحقاد علي وولوغه في دماء صناديد العرب، وكيد محمد وسحره..
فركلت الباب، وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه وسمعتها وقد صرخت صرخة حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها وقالت:
وسمعتها تمخض وهي مستندة إلى الجدار فدفعت الباب ودخلت فأقبلت إلي بوجه أغشى بصري، فصفقت صفقة على خديها من ظاهر الخمار فانقطع قرطها وتناثر إلى الأرض.
فخرج علي فلما أحسست به أسرعت إلى خارج الدار، وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما:
نجوت من أمر عظيم.
ـ وفي رواية أخرى قد جنيت جناية عظيمة لا آمن على نفسي، وهذا علي قد برز من البيت ومالي ولكم جميعاً به طاقة.
خرج علي، وقد ضربت يديها إلى ناصيتها، لتكشف عنها وتستغيث بالله العظيم ما نزل بها، فأسبل علي عليها ملاءتها وقال لها يا بنت رسول الله، إن الله بعث أباك رحمة للعالمين، وأيم الله لئن كشفت عن ناصيتك سائلةً إلى ربكِ ليهلك هذا الخلق لأجابك، حتى لا يبقى على الأرض منهم بشراً، لأنك وأباك أعظم عند الله من نوح الذي غرق من أجله بالطوفان جميع من على وجه الأرض وتحت السماء، إلا ن كان في السقيفة وأهلك قوم هود بتكذيبهم له، وأهلك عاداً بريح صرصر، وأنت وأبوك أعظم قدراً من هود، وعذّب ثمود وهي اثنا عشر الفاً بعقر الناقة والفصيل، فكوني يا سيدة النساء رحمة على هذا الخلق المنكوس، ولا تكوني عذاباً. واشتد بها المخاض