والقرآن الكريم استعمل كلمة شهيد بمعنى شاهد كما في قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء.
قال الطبرسي في تفسيره للاية: فكيف يصنع هؤلاء الكفار إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم وجئنا بك يا محمد على
____________
1- مجمع البحرين للطريحي باب شد 3: 77 منشورات مكتبة الهلال بيروت 1989 م.
2- القاموس المحيط للفيروز آبادي باب شهد 1: 588 دار احياء التراث بيروت ط أولى 1412 هـ.
3- جوامع الجامع للطبرسي 89 الطبعة الثانية الحجرية 1362 هـ ش. طهران.
(لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).(2) وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله يوم تأتي من كل أمة بشهد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال: يأتي النبي (صلى الله عليه وآله)يوم القيامة من كل أمة بشهيد بوصي نبيها وأوتي بك يا علي شهيداً على أمتي يوم القيامة.(3) إذن فكلمة شهيد التي هي القتل بين يدي الامام، تعني الشهادة على الأمة بالطاعة وعلى النبي بالاداء والنصيحة، ومن هنا يظهر أن لا فرق بين كلمتي شاهد وشهيد، ففاطمة (عليها السلام) شهيدة بين يدي إمامها، شاهدة على الأمة بعد رسولها وعلى هذا فلا معنى للتفريق بين مصطلح الشهيد الذي هو شاهد كذلك.
ثم أن الحديث يتعرض إلى مطلب مهم آخر لا ينبغي اغفاله أو التعرض إليه بالتشكيك والشبهات، فقد أوضح أن بنات الأنبياء لا يطمثن، فان
____________
1- نفس المصدر: 86.
2- كنز الدقائق 3: 408 وزارة الارشاد الإسلامي طهران.
3- تفسير العياشي 1: 242 المكتبة العلمية الإسلامية طهران 1380 هـ.
صحيح أن التركيب الفسلجي يقتضي أن تتعرض المرأة ما تتعرض اليها النساء من شؤون خاصة تتعلق بتركيبتها الجسمية المقتضية للانجاب والتناسل، إلاّ أن ذلك لا يمنع أن تكون الطهارة الظاهرية من مقتضيات الطهارة النفسية التي ترقى اليها المرأة وتتكامل ببلوغها إلى مرتبة تميّزها عن غيرها، فما الضير إذن أن تتميز بنات الأنبياء بهذه الخصوصية الكريمة حيث ترفّعن ـ تكريماً لمقامهن السامي ـ عن هذا الحدث وإن لم يكن مخلاّ بالمرأة كمرأة، إلاّ أن ارتفاعه من مقتضيات التنزيه والاكرام، وليس ذلك بعزيز فان في زماننا هذا من النساء مَنْ لم تر الدم حتى في ولادتها وليس هناك خلل فسلجي في تركيبتها بل أن حالاتها طبيعية جداً مع الاحتفاظ بقدرتها ولياقتها الانجابية.
وعلى هذا فان المدارس الاعتذارية باتت تتداعى أمام موضوعية الحدث، وتنهزم أما اصرار وارادة الأمة المتصدية للكشف عن الحقائق، وتعرية القراءات الانفعالية الممسوخة التي تريد أن تحوّل ثوابت الأمة إلى مشتهيات تثقيفية ساذجة.
شعراء
المحسن بن علي (عليه السلام)
السيد الحميري
شهد القرن الهجري الثاني انقلابات فكرية إلى جانب انعطافاته السياسية، ذلك اثر قيام الدولة العباسية على انقاض الدولة الأموية البالية.
لم تكن هذه الانعطافات تحولات سياسية فحسب بل كانت قد نشأت على اساس جدليات فكرية شاركت في تقديم رؤية اسلامية ثورية، تحتّم على الأمة الانعطاف الفكري الذي يستتبعه تحولا سياسياً رشيداً.
أطاحت الدولة العباسية بالنظام الأموي على أساس حركات عسكرية وتنظيم مسلح ـ وان شاركت الحركات الميدانية العسكرية في اسقاط النظام
كان العباسيون قد كسبوا الجولة وتحققت طموحاتهم السياسية بالوصول إلى دست الحكم، إلاّ أن خيبة أمل حصلت لدى الأمة بعد أن تخلت السياسة العباسية عن شعاراتها وهو الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، بل نعت الأمة على العباسيين تراجعهم عن مبادىء ثورتهم وتحولها إلى اطروحة أموية جديدة إلاّ أنها بلباس هاشمي جميل، يجعل اطروحة النسب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) غاية للوصول إلى مآربه، وبات آل رسول الله الأقربين ـ وهم آل علي ـ مشردون محبوسو الأنفاس، يتوجسون من بني عمومتهم كل طارىء يأخذ كبيرهم ليلحق بصغيرهم، تنفيذاً لخطة سياسية فكرية تكمن من ورائها تخلية الميدانين الفكري والسياسي للنظام، فالعلويون باتوا يشكلون محور خطر يأخذ بالعباسيين في كل حين، وصار أهل البيت (عليهم السلام)معارضة صامتة تنعى على العباسيين ابتعادهم عن برنامجهم الأصلاحي، بعد تأسيسها مدارس سياسية تسعى إلى ترويض الاحداث لصالحها.
هذه صورة مجملة عن الخط السياسي العام الذي عاشه السيد الحميري، ولم يكن السيد الحميري بعيداً عن هذه الاحداث بل لم يكن
في هذه الفترة بالذات كانت المدرسة الأدبية الشيعية قد تخلت عن السير التقليدي الأدبي، الذي يلتزمه الشاعر ليرضي الذوق العام، فالغزل والمديح والهجاء إلى غير ذلك من الأغراض الشعرية باتت في المفهوم الأدبي الشيعي ترفاً ثقافياً لا يساعده الظرف السياسي المستجد الذي يتصدى للاطاحة بقيم الأمة ومبادئها، فالشاعر الشيعي يعيش في زحمة مخاضات فكرية أولدت سياسات كان لها شأنها في ترسيم الملامح العامة لكتابة التاريخ الإسلامي الذي اختزل في اسلوبه الجديد مسلّمات تاريخية، وأدخلت المفردة التاريخية في خضم محاولات التسييس حتى بات الحدث الإسلامي يختفي خلف جدران السياسية الاعلامية العباسية، فما كان الخط الثقافي الشيعي الذي يوجهه آل البيت (عليهم السلام) إلاّ أن يتصدى لمحاولات التزييف الفكري هذه وكانت الوسيلة الاعلامية الرائجة وقتذاك، القصيدة الشعرية التي من خلالها يحاول الشاعر تقديم اطروحته الفكرية، ولعل السيد الحميري كان باكورة الأعمال الأدبية لتلك الفترة، فقد حشّد كل طاقاته للتعبير عن مظلومية آل البيت (عليهم السلام) فضلا عن تخصصه في فهرسة كرامات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهرسةً أدبية، وحفظها ضمن أرشيف القصيدة العربية التي سجّلت له باجلال جهداً رائعاً وعملا دؤوباً مبدعاً، فكانت
ان "المدرسة الحميرية الأدبية" كانت مدرسة توثيقية تاريخية التزمت اسلوب التوثيق وفهّرست الحدث الإسلامي وفق النهج المعصومي الذي كان يرسم ملامحه الإمام الصادق (عليه السلام) وقتذاك، لذا فان "المدرسة الحميرية" يمكن أن تكون دالة في منهجة الحدث الإسلامي والاستفادة منها في إعادة قراءة التاريخ.
ان النزعة التوثيقية في الشعر الحميري أعطت للقصيدة العربية بعداً آخر وهو البُعد العلمي الذي جعل القصيدة العربية تشارك في معالم كتابة التاريخ
[1] قال السيد الحميري:
ضربت واهتضمت من حقها | وأذيقت بعده طعم السلع |
قطع الله يدي ضاربها | ويد الراضي بذاك المتبع |
لا عفى الله له ولا | كفَّ عنه هول يوم المطلع(1) |
[2] وقال أيضاً:
انها أسرع أهل بيته | ولحاقاً بي فلا تفشي الجزع |
____________
1- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم. لأبي علي النياطي البياضي 3: 13 المكتبة المرتضوية.
فمضى واتبعته والها | بعد غيض(1) جرعته و وجع(2) |
[3] وقال:
وفاطم قد أوصت بأن لا يصليا | عليها وأن لا يدنوا من رجا القبر |
علياً ومقداداً وأن يخرجوا بها | رويداً بليل في سكون وفي ستر(3) |
____________
1- غيض: السقط الذي لم يتم خلقه. راجع القاموس المحيط للفيروز آبادي باب غاض 2: 499 دار احياء التراث العربي بيروت.
2- مناقب ابن شهر اشوب 3: 362 المطبعة العلمية قم.
3- أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين 3: 422.
البرقي
أبو محمد عبدالله بن عمار البرقي
لم يكن القرن الثالث الهجري بأحسن حال من سابقه، فقد كانت السياقات الثقافية الحاكمية تحتم على الطبقة الواعية من التصدي إلى المحاولات الفكرية المنبعثة من مصادرة الحدث الإسلامي، وقولبته ضمن صياغة ثقافية يرسمها النظام لكي لا تتعدى مقرراته الفكرية.
إختفت في هذه الحقبة القراءة الواعية للتاريخ، وتمسّك النظام الحاكم ببرمجة الفكر الإسلامي ضمن معطيات سياسية مقررة، فصُنّف المثقف أنذاك
قتل البرقي سنة 245 وذلك بعد أن وصلت قصيدته النونية إلى البلاط العباسي وقرأها المتوكل ليجد فيها:
فهو الذي امتحن الله القلوب به | عما يجمجمن من كفر وإيمان |
وهو الذي قد قضى الله العلي له | أن لا يكون له في فضله ثاني |
وإن قوماً رجوا إبطال حقكم | أمسوا من الله في سخط وعصيان |
لن يدفعوا حقكم إلاّ بدفعهم | ما أنزل الله من أي وقرآن |
فقلدوها لأهل البيت انهم | صنو النبي وانتم غير صنوان(1) |
فأمر المتوكل بقطع لسانه، واحراق ديوانه ففعل به ذلك فمات بعد أيام.
هذه هي أنشطة شعراء التشيع أنذاك، وهذه هي أساليب السلطة الحاكمة في إخماد الحس الإسلامي الذي يثبت قضية اسلامية لا تنسجم والتوجه العام للدولة، وعند هذا فكيف يراد اثبات قضية باتت من أخطر القضايا التاريخية التي تدين النظام فيما بعد، فمأساة الزهراء (عليها السلام) كانت خلاصة للحدث الإسلامي بكل خروقاته وكبواته، ومظلوميتها كانت ارهاصاً مبكراً لمظلومية الأجيال الإسلامية المتعاقبة، بما في ذلك آل البيت (عليهم السلام) التي ستجري عليهم ملاحم من الظلم والتنكيل تتعاقب على تنفيذها الانظمة السياسية الحاكمة التي تنتزي فيما بعد على منصب الخلافة الإسلامية، لذا فان البرقي وغيره من الشعراء لم يقدموا سوى رمزية أدبية تُظهر معالم المأساة الفاطمية يتماشون التصريح بوقائع الحدث الفاطمي والحصول على أدنى شاهد لاثبات قضيتهم.
أكد البرقي مسألة الهجوم على الدار واحراقه ليثبت هذا الحدث
____________
1- أدب الطف 3: 283 دار المرتضى بيروت.
[4] فقال:
وكللا النار من بيت ومن حطب | والمضرمان لمن فيه يسبان |
وليس في البيت الاكل طاهرة | من النساء وصدّيق وسبطان |
فلم أقل غدرا بل قلت قد كفرا | والكفر أيسر من تحريق ولدان |
وكل ما كان من جور ومن فتن | ففي رقابهما في النار طوقان(1) |
[5] وقال أيضاً:
فلم يوار رسول الله في حدث | حتى تعصب فرعون لها مان |
واستخرجا فدكاً منها وقد علما | بأنها حقها حقاً بتبيان(2) |
____________
1- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم لأبي علي النباطي البياضي 3: 13 المكتبة المرتضويه.
2- المصدر نفسه.
السيد المرتضى (قدس سره)
على أعتاب القرن الرابع الهجري، شهد العالم الإسلامي تحوّلا فكرياً سلبياً نتيجة أفول عصر الغيبة الصغرى الذي تعاهده السفراء الأربعة حيث شكّلوا حلقة الوصل بين الإمام عجل الله فرجه الشريف وبين الأمة، فالأمة تقودها الشرعية الالهية فكرياً وان كانت تحت ظروف سياسية غير رشيدة، وملاحقات أمنية مشددة، وغياب القيادة الشرعية الإلهية قد أحدث انفجارات متلاحقة كان دويها تمثّله الاضطرابات الفكرية التي اخترقت فكر الأمة القادمة من خارج حدودها، وكانت القيادة السياسية ترتجل في
تزعّم هذه الحركة الإصلاحية، السيد المرتضى وذلك بعد وفاة الشيخ المفيد، والأمة بمختلف طوائفها لا زالت بحاجة إلى قيادة فكرية، فكان السيد المرتضى من أبرز المرشحين، لهذه المرجعية التي كانت تضم تحت مظلتها مختلف علماء الطوائف الإسلامية، وكان السيد المرتضى يتعامل مع الجميع على أساس توحيد الرؤية وائتلاف الكلمة، وبالفعل شهد مجلس السيد المرتضى ومحفله العلمي مختلف التشكيلات العلمية القاطنة في العاصمة العباسية يوم كانت تنازع اطروحة آل البيت (عليهم السلام) في كل مبتنياتها، ومع هذا الظرف الحساس فقد استطاع السيد المرتضى أن يسجّل حضوره العلمي وقيادته المرجعية للطوائف الإسلامية المختلفة، وكان في خضّم هذا الظرف الحساس يُلقي اجاباته حيثما كانت الأمة بحاجة إلى إجابات موضوعية واعية، ولعل القراءة التاريخية الناضجة كانت تغيب عن قطاعات الأمة بمختلف فصائلها، وكانت اجابات السيد المرتضى الواقعية لا تحجبها الظروف السياسية أو قيادته الاستثنائية، فأسس رؤيته الواعية
[6] قال في قصيدته بعد ذكر فضائل علي (عليه السلام):
برئتُ الى الرحمن ممن لفاطم | على فدك بالسوط قنّعها قسرا |
فماتت وآثار السياط بجنبها | ونحلتها غصباً ومقلتها عبرا |
وغسّلها الهادي الوصي وضمها | إلى قبرها ليلا وأودعها سرا |
فلما أضاء الصبح جاؤا لدفنها | فما وجدوا الزهراء ولا عرفوا القبرا |
فلما أرادوا نبشها ثار مغضباً | وسلّ الحسام العضب واعتقل السمرا |
فصاح عليهم مغضباً يا آل غالب | فأقسم بالرحمن أجزركم جزرا |
فما نطقوا في نبشها قط كلمة | ولا شهروا سيفاً ولا برحوا شبرا(1) |
____________
1- أسرار الشهادة: 541 للفاضل الدربندي. منشورات الاعلمي طهران.
علي بن المقرب
بدأت المدرسة الأدبية التقريرية على أنقاض المدارس التاريخية التبريرية أي أن هذه المدارس روعيت في توجهاتها النزعة الشخصية للكاتب التاريخي، فالقضية التاريخية تدخل في عمليات "تجميلية" تبرر المواقف المرتجلة لبعض الوجودات المدعّمة "بالحصانة المقدسة" التقليدية التي أسبغتها أحاديث القداسة والتجليل للصحابي، وعندها تنّفلتُ المشاريع التاريخية في عمليات التبرير والاعتذار للقضية التاريخية مراعاة للاعتبارات، الشخصية المفتعلة.
في خضّم ذلك ظهرت المدرسة الأدبية التقريرية وسجّلت حضورها الثقافي الذي من خلاله قدّمت مبتنيات مدرسة آل البيت (عليهم السلام) وقرأت التاريخ بموضوعية وأمانة.
كان القرن السابع الهجري يحفل برواد هذه المدرسة التقريرية، وتزعَم هذه الظاهرة في البلاد الاحسائية الأمير علي بن المقرّب كما تزعم نشاط الحركات السياسية الناضجة في هذه البلاد، وقاد الحركة الأدبية إلى حيث الموضوعية التقريرية، كما قاد البلاد إلى حيث السلامة الفكرية في خضمّ هذا الهيجان الفكري المتلاطمة آراءه بين المدارس الإسلامية المختلفة، واستطاع أن يرسي بلاده الساحلية على ضفاف سواحل المدرسة الإمامية ليقودها إلى شواطيء النجاة.
قرر الأمير علي بن المقرب مأساة السيدة الزهراء (عليها السلام)، وسجّل قراءاته التاريخية الموضوعية في قصيدته هذه، وأكد من خلالها تداعيات سياسية تتهاوى تحت واقعية التقرير الموضوعي للتاريخ.
ياليت شعري فمن أنوح منهم | ومن له ينهلُّ فيض أدمعي |
اللوصي حين في محرابه | عمم بالسيف ولما يركع |
أم للبتول فاطم إذ منعت | عن إرثها الحق بأمر مجمع |
وقولُ من قال لها يا هذه | لقد طلبت باطلا فارتدعي |
أبوكِ قد قال بأعلى صوته | مصرّحاً في مجمع فمجمع |
نحن جميع الانبياء لا نرى | أبناءنا لإرثنا من موضع |
وما تركناه يكون مغنماً | فارضي بما قال أبوك واسمعي |
قالت فهاتوا نحلتي من والدي | خير الانام الشافع المشفّع |
قالوا فهل عندك من بيّنة | نسمع معناها جميعاً ونعي |
فقالت ابناي وبعلي حيدر | أبوهما أبصر به وأسمع |
فأبطلوا إشهادهم ولم يكن | نص الكتاب عندهم بمقنع |
ولم تزل مهضومة مظلومة | برّد دعواها ورضّ الاضلع |
أم للذي أودت به جعدتهم | يومئذ بكأس سمّ منقع(1) |
ألى آخر القصيدة.
____________
1- إدب الطف 4: 32.
القاضي النعمان
ابو حنيفة النعمان بن
محمد بن منصور بن احمد التميمي
كانت الدولة الفاطمية تجربة جديدة تدخلها فلسفة النظام الإسلامي، فالدولة الأموية كانت بكل دقائقها انفلاتةً سياسية قدّمت الأمة من خلالها تضحيات فكرية فضلا عن التضحية الجسدية التي راح من خلالها الآلاف من الأبرياء، والتجربة العباسية كانت أكثر وقعاً على الأمة بعد أن أصيبت بخيبة أمل استهدف طموحاتها للوصول إلى ما كانت ترجوه من إقامة
أولا: إن الموقف الأمني الذي يعيشه آل البيت (عليهم السلام) والرقابة المشددة من قبل النظام لم يتح المجال للثوار من مواصلة الاتصال بآل البيت (عليهم السلام) وتلقي المعلومات الكاملة لصياغة الثورة وبرمجة تحركاتها، بل لم يستطع القائد أن يتصل بالإمام خصوصاً وأن القائد يعيش في ظروف أمنية سيئة يتعرض من خلالها إلى التشريد والملاحقة والاختفاء، فكيف والحال هذه يستطيع القائد أن يتحرك بحريته ليواصل لقاءاته بالامام (عليه السلام) ومشاورته؟
ثانياً: كانت بعض الثورات العلوية مرتجلة، قد تغلبت عليها النزعة الانتقامية من النظام دون النظر إلى حيثيات امكانياتها.
ثالثاً: لم تكن بعض الثورات تتوافق مع آل البيت (عليهم السلام) لتوجسها من
رابعاً: كانت بعض التكتلات السياسية التي تريد أن تتحرك ضمن شرعية معينة تجعل في مقدمتها شعارات علوية براقة، أو قيادة علوية ممتازة تتصدر تحركاتها لتكسب من خلالها شرعية حركية عامة، علماً أن هذه التكتلات لم تكن قد اتفقت مع آل البيت (عليهم السلام) لا منهجاً ولا إسلوباً.
هذه بعض الاسباب التي ساعدت على اخفاق الثورات العلوية التي تحركت إبّان الدولة العباسية وحتى الدولة الأموية كذلك، لذا لم تكن هذه الثورات جديرة في الحصول على النتيجة المتوخاة، كونها لم تكن ضمن اطار آل البيت (عليه السلام)، واعتقدت في آل البيت قيادة معطلة أرجئتها الظروف السياسية وغير صالحة على الأقل في هذا الظرف السياسي المشدد، لذا بررت ابتعادها عنهم كعمل تكتيكي مما سبب في اخفاقها وتعثرها.
في القرن الثالث الهجري نضجت بعض الحركات العلوية الثورية كاطروحة تنظيمية، وعمل سري دقيق، إلاّ انها أخفقت كاطروحة تنظيرية تتعهد بالتزام مبدأ آل البيت (عليهم السلام) فكان الفاطميون قد تطلعوا إلى الحكم على أساس الفلسفة الاسماعيلية القاضية بامامة اسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وأولاده من بعده، ولسنا في صدد استعراض عقيدتهم، بل الذي نريد تأكيده أن الدولة الفاطمية قامت على أساس شعارات علويه إلاّ إنها على حساب المبادىء الإمامية الاصيلة، نشطت الحركة الثقافية في الدولة الفاطمية وازدهرت القصيدة العربية لتتخذ أغراضاً فنية جديدة
ولد القاضي النعمان(1) سنة 259 هـ وتوفي سنة 363 هـ وكان عدوله من المذهب المالكي إلى المذهب الإمامي أثراً في قربه لمؤسس الدولة الفاطمية "عبدالله المهدي" ورافق الدولة الجديدة خطوة فخطوة، فبعد وفاة المهدي ولاه القائم بأمر الله قضاء طرابلس الغرب وفي عهد المنصور تولى قضاء المنصورية، وكان قضاؤه يشمل سائر المدن الافريقية مرجعاً لجميع القضاة حتى عهد المعز لدين الله الذي قربه اليه، وأدناه مجلسه..
واليك بعضاً من مقتطفات ارجوزته:
____________
1- راجع ترجمة أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين 1: 223، وتنقيح المقال للشيخ عبدالله المامقاني في ترجمة القاضي النعمان.
الحمدلله بديع ما خلق | عن غير تمثيل على شيئ سبق |
بل سبق الاشياء فابتداها | خلقاً كما أراد إذ براها |
لم يتخذ صاحبةً ولا ولد | ولم يكن جل له كفواً أحد |
ولا له من خلقه وزيرُ | ولا شريك لا ولا ظهير |
إلى أن يقول في الأوصياء الأثني عشر بعد النبي (صلى الله عليه وآله):
أحمده شكراً على نعمائه | تعرض المزيد من آلائه |
والحمد لله الذي قد انتجب | محمداً من خلقه لما انتخب |
فخصه بالوحي والنبوة. | وخص بالأمره والأخوه |
من بعده أبالحسين والحسن | فسلَّم الأمر إليه إذ ظعن |
صلى عليهما الذي اختارهما | واختار من بعدهما آلهما |
فاختصهم بالفضل والكرامة | وجعل الحجة والامامة |
فيهم فلم تزل عليهم تقتصر | حتى انتهت إلى الإمام المنتظر |
ثم يقول أن لكل نبي وصي:
أجمعت الأمة فيما قد عرف | من قولها واتفقت لاتختلف |
أن أبا إذ تولى أدماً | صلى عليه ربنا وسلما |
أوصى إلى شيث فخلى شبثاً | خليقة ولم يكن مبعواً |
وصي عيسى فحكموا فيما رووا | وصية الرسل معاً حتى انتهوا |
إلى محمد النبي المصطفى | فاختلفوا وليس بالحق خفا |
في ذكر اختلاف الناس في وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله):
ذكر قومٌ أنه أوصى | إلى علي في الذي قد نصا |
بأهله وماله وعترته | وبالقيام بعد في أمته |
وقال قوم انما أوصاه | باهله إذ جاءه قضاه |
ومالهِ قالوا على الكلية | ولم يكن أوصاه بالرعية |
وقال قوم نحن لسنا ندري | أوصاه أولم يوصه بالأمر |
وقيل بل قد جمع في وصيته | بالدين والكتاب كل أمته |
وقال قوم لم تكن وصية | منه إلى خلق من البرية |
بأنه لم يكن يدعيها | غير علي ام يقوم فيها |
ولا ادعاها أحد كان اعتقد | خلاف ما قال علي لأحد |
ذكر الرد على من زعم أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يوصي إلى أحد:
يقال للزاعم للخلاف | بأنه لم يوص ان النافي |
ليس بشاهد على ما أجمعوا | فاسمع فان القول ما قد تسمعُ |
فان يقل بنية قوية | فأنت ما أدراك بالوصية |