لا ريقها المعسول يشفيه | ولا فرع البشامه(1) |
هيهات ذلك ضعف رأى | كيف صفو العقل رامه |
سام العزا صباً محال | عنده ما كان سامه |
لم يكفه الدمع المكفكف | والجوى المبدي اضطرامه |
أفما بذاك علامة | لوذو حجى يرعى العلامه |
خل الجوى لمتيم | خلى السرور لمستدامه |
لا يستطيع سوى الشجون | فكيف وهي غدت قوامه |
غدت الكآبة نفسه | حتى أقامته مقامه |
تلقى مدامعه رواه | وحرم مهجته طعامه |
اولم يرعك الاكرمون | وما قضت لهم الكرامه |
وقيامة بالطف قامت | دون ادناها القيامه |
زلزالة اهدت قوارعها | إلى الكون اصطلامه(2) |
طخياء كالحة السواد | كأن ساريها حمامه(3) |
فرعاء يكتسب الدجى | من جنح طايرها ظلامه |
طارت فاكسبت الوجود | غياهباً أوهت نظامه |
____________
1- البشامة: شجر طيب الرائحة.
2- اصطلم الشيىء: استأصله.
3- الطخياء: المظلمة.
فياضة الكربات مثل | البحر يلتطم التطامه |
كالسيل اقدم كلما | كفكفت زاد به غرامه |
موارة دوارة | لهواتها جثث وهامه(1) |
يزجي رحاها ساهر | ان عب بحر الحتف عامه |
تلقى الجبال تمر من | سطواته مر الغمامه |
متلفتات ليس يدري | الفذ منها ما أمامه |
من معشر ضرب الجلال | بهم على العليا خيامه |
أدنى منازلها السماك | ومن أظلتها الغمامه |
وموطىء الاقدام منها | النسر كاهله وهامه |
من احمد المختار منصبه | وحيدرة الشهامه |
بجبينه نور النبوة | بين عينيه الامامه |
يعلوه عنوان الجلال | به وسيماء الفخامه |
غضبان يحتقر الوجوه | وما بلت يده حسامه |
موف على الدفعات | عز الله اشجع من اسامه(2) |
متبسماً يلقى العدى | كالليث اذ يلقى سوامه(3) |
____________
1- الموارة: مبالغة لما تره وهي المتحركة بسرعة.
2- الاسامة: الأسد.
3- السوامة: الماشية.
غير ان اما أن يجوز | المجد أو يلقي حمامه |
عشق الفناء فليس دون | الحتف ما يشفي غرامه |
طرب اذا اضطرب الغريق | كأنما الخطر السلامه |
حتى اذا حم الحمام | وصوبت يده سهامه |
وتصدعت شمل الهدى | صدعاً أبى الدهر التئامه |
قرعت أساس المجد نافذة | فاسرعت انهدامه |
هدت ذرى رضوى | وأردت يذبلا ورمت شمامه |
وأشمت المجد الاشم | برغم ماجده رغامه |
يا أمة ولغ الشقاء | بها فاركبها سنامه |
ورأى الضلال محله | منها فملّكها زمامه |
ما راقبت لنبيها | عهداً وما راعت ذمامه |
قتلت أحبته وما | قنعت ان اغتصبت مقامه |
وجرت كذاك فلم تزل | ابداً له فيهم ظلامه |
جعلت حشاه فدى السهام | وماء مهجته أدامه |
هاتي كرآئمه يساق | ومثلها تركوا كرامه |
فبناته نهباً كأن | أباحها الدين اغتنامه |
ليزيد تلحو بعد كوفته | بلا ستر شآمه |
أسرى يعز عليه ما | يلقين من بعد الكرامه |
هذا ومهجته بأيدي | الخيل قد رضوا عظامه |
وكريمه البدري فوق | قنانه لاقى تمامه |
أكذا بدور الحسن لم | تبرح لها الخطى قامه |
تروي الرماح أوامها | منه وما روت أوامه |
والماء نصب لحاظه | يلتاح ناظره جمامه(1) |
ياللرجال لحادثات | قد طبق الدنيا ركامه |
أرأيت مبعوثاً لقوم | هكذا جعلوا ختامه |
قطعوا عناداً رحمه | الادنى وما خافوا أثامه |
أهل الشقاء لهم مقام | مالنا تلك المقامه |
سادوا لنا بالسبق والمأموم | لا يعدوا إمامه |
أهل العدالة والوثاقة | والجلالة والسآمه |
ما أن عليهم لا ولو | كفروا بخالقهم لوامه |
والصمت عن افعالهم | حتم قضى الدين التزامه |
سبوا النبي غصبوا الوصي | ضربوا البتول بلا ملامه |
حرقوا المصاحف غيّروا | من بيت ربهم مقامه |
____________
1- الجمام: الكثير.
آووا طريد نبيهم | طروا الذي آوى فهامه |
حرماته هتكوا أحلوا | باختيارهم حرامه |
وتخلفوا عمداً مع اللعن | المؤكد عن اسامه |
هذا وهم ساداتنا | أولادهم ربي سلامه |
والفرد منهم حرم الباري | على الخلق اتهامه |
ان صح فالتوحيد مم ولم | أجد به اهتمامه |
والجاحدون وأهل دين الشرك | لم وضعوا الخضامه |
وعلام يقتلهم ولم | يخلف مرامهم مرامه |
بالله حلفة صادق | الفاً وخمسون انقسامه |
ما أسلموا إسلامهم | بل عضبه الماضي اقامه |
وبه استقاموا عنوة | وعلى الحقيقة لا استقامه |
ليسوا هم منه ولا هو | منهم قدر القلامه |
قنعوا من الباقي بما نالوا | من الفاني حطامه |
وزهت لها الرايات فوق | رؤسهم مثل العمامة |
وصرير صوت النعل تستحلي | سماعهم بغامه |
واستعذبت بطباعها | من فعلها المردي زقامه |
فليعلمن معاشر | أن تأت فاطمة القيامه |
وليندمن هناك قوم | حيث لا تغني الندامه |
وليسئلن عن الوصي | وحكمه قضت اهتضامه |
ولأي أمر طفلها | في بطنها رضوا عظامه |
وبأي حد زندها | بالسوط قد جعلوا وشامه |
ولهيب بيت الوحي | بالنيران لم وصلوا ضرامه |
ويل أم هاشم ما لفاطم | قدر سعد واحترامه |
ويل قضى أبد الزمان | على بني الدنيا دوامه |
ويل قرعت السن منه | ندامة لا بل غرامه |
لترى نفيلة بل امية | بل سمية بل حمامه |
أضعاف ما كسبته | ساعة يجمع الباري انامه |
والفضل عدلا والقضاء | بكف عادله انتقامه |
قد قلت للساري المغب | المحمس الوجناء عامه |
علق بقطع البيد | وصال السرى سأم السئامه |
يزجي لها زيافة | في سيرها مثل النعامه |
لبس الدجى برداً وصير | جنح غيهبه لثامه |
غول السرى شربت | بطاح الحق وابتلعك اكامه |
بالله ان جئت الطفوف | مبلغاً عني سلامه |
من بعد ان قبلت تربته | واكثرت التثامه |
وشفيت دائك إذ مسحت | بوجهك العالي رغامه |
ومعارج الافلاك حيث | قيامها يتلو قيامه |
وسمعت اصوات الدعاء | وقولهم لهم الكرامه |
فاذكر له الشوق الملح | وكيف هيمه هيامه |
واخبره ان الصب بعد | لقاك لم يعرف منامه |
ما لذ برد العيش من ذكراه | بعدك وانصرامه |
يشتاق برقاً كلما | استعلى عراقياً فشامه |
انفاسه قيد الزفير | وسجعه سجع الحمامه |
[26] وله من قصيدة أخرى:
ياصب كم تتحسر | ولكم تنوح وتزفر |
كم ينظم الآلام قلبك | والمدامع تنثر |
كم يتبع الاضعان | لحظاً جفنك المستعبر |
كم تندب الاطلال | وهي بندبها لا تشعر |
كم تلتحيك العاذلون | وكم لهم تتعذر |
كم تكتمن لظى الفؤاد | وماء دمعك يظهر |
كم لونك المصفر يصفح | بالغرام ويخبر |
كم تجمل الدعوى | وما تجري الجفون يفسر |
كم ضعف صبرك عن | أحاديث الهيام يعبر |
كم طرفك المطروف | يرعى النائمين ويسهر |
كم ليل شوقك صبحه | بمسرة لا يسفر |
كمد الحشى تقضي نها | رك والدجى تتزفر |
وبفكرك الساري | عهدت عوارفا لا تحصر |
ما بال سمعك لا يعي | نصحاً ولا يتدبر |
إلى أن يقول راثياً بها النبي (صلى الله عليه وآله) وما جرى على عترته الطاهرة:
وتراثه نهب الأ | جانب يستباح ويقهر |
وكتابه عما أراد | محرف ومخير |
وبسوط أعداه | كريمته تهان وتحقر |
وجنينها سقط | وأضعلها لعمري تكسر |
ووصيه قود البعير | يقاد وهو مزمجر |
وحبيبه كالشاة | ظلماً بالمهند ينحر |
ورجاله مثل الا | ضاحي بالسيوف تجزر |
وبناته فوق الركا | ئب باديات حسر |
حسرى تلاحظها الا | جانب لم تجد ما يستر |
مثل السبايا يستبا | ح أزارها والمعجر |
ومتونها بيد السياط | يشق فيها أنهر |
وعليله ساقاه | قيداً بالدما تتفجر |
ويتيمها بالعنف يقهر | بالسياق ويزجر |
وسؤال سائلها اذا | سأل الترفق ينهر |
ورؤوس سادتها | باطراف الرماح تشهر |
وقلوبها بالثكل تشعل | والمدامع تمطر |
حال تكاد له الـ | شداد بسبعها تتفطر |
ويروح منها البدر | منخسف السنا لا يبدر |
واليوم مفتقد الضيا | ء وشمسه تتكور |
أحمد بن زين الدين الاحسائي
في المشروع الأدبي الشيعي وجدت القصيدة العربية انفراجاً ملحوظاً في الاغراض الشعرية المتعددة بعد ما كان محصوراً في نطاق الغرض الشعري الواحد، أي أن الفترة الزمنية الثقافية تخصصت بغرض شعري واحد تكاد القصيدة العربية تتقوقع في اطاره الضيق، "والاحادية الشعرية" كانت ترجمة للهيمنة الفكرية المتسلطة على المشروع الأدبي التي تبعث القصيدة الشعرية على أساس رغباتها وفي ضمن دائرتها الأدبية المحدودة فالعصر الأموي مثلا شهد "تأطير" القصيدة في نطاق المديح المتدني تنفيذاً
كانت بدايات العصر العباسي انفتاحاً على مشروع سياسي أدبي أدخل القصيدة العربية في مباراة سياسية يفتخر بها على الأمويين الذين انقضى عهدهم تواً، والاعلام العباسي متشنجٌ لاثبات "أولويته النسّبية" لتسنّم منصب الدولة على أنقاض آل أمية الأبعدين نسباً وحسباً من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذه كانت اطروحة بني العباس تفاخر بالانساب وتزاحم على الالقاب، فمن المنصور إلى الرشيد حتى المأمون وإلى المتوكل، ألقاب توّجتها السياسة العباسية إغداقاً على خلفائها الذين أحالوا المشروع الأدبي في خدمة التوجهات السياسية العباسية، وهكذا ذهبت القصيدة العربية تتسابق مع النشاطات الثقافية الأخرى توظيفاً لها في خدمة البلاط. وتفرّقت الاغراض الشعرية على عدد التشعبات السياسية التي توزعت على أساس الدولة والامارة والوزارة والكتلة والجماعة لتلك العهود السياسية.
وتبقى القصيدة الشيعية خارج نطاق تسييس الغرض الشعري الذي أملته الظروف السياسية المرتجلة، ويبقى الشاعر الشيعي متحفّظاً دائماً من أجل تنفيذ رسالته الفكرية فيلقيها في قصيدته الشعرية ويتحمّل تبعات
[27] قال في احدى قصائده:
نفحــات مـن روائمي نـجد | بـرديّ وجـدي بـرديّ وجـدي |
وانفخي في الروح ما ينعشني | وانفخي بالروح جدي جدي |
واعهدي ريَّ عهاد هطلت | بلَّ لبيَّ وأراني عهدي |
واخبري أهل اللوى ما فعلوا | والحمى والمنحني من بعدي |
قطنوا في ربعهم أم ظعنوا | فعسى يهدي اليهم نجدي |
ليت شعري إذ مضوا هل علموا | أنهم دون البرايا قصدي |
فارقوني لا لتقصيرهم | بل لذنبي وقصور الجدِ |
رَجَعَ اللهُ ليلاتي بهم | وأراني قربهم في بُعدي |
ولهم عندي بأرض وطئوا | وضع خدي وهو فخر عندي |
صاح ما حالةُ من فارقهم | ورُمى من دهره بالضدِ |
زمنٌ أسلمُ ما أعرِفُهُ | أنه بي منطو بالحقدِ |
كم علا أهل العلا فادِحهُ | بخطوب رددت ما يُبدي |
وله كل صباح وَمَسا | دائراتٌ بأهيلِ المجدِ |
عترة المختار قد فرّقهم | كلَّ نجد بينهُ أو وهدِ |
فمضى في فرضه حيدرةٌ | بِحسامِ للمرادي مُردي |
وأهينت فاطمة بل ضربت | وقضت مغصوبةً للرِفدِ |
واستقلوا لأذاها حِنَقاً | ثم زادوها بقتل الولدِ |
فسقوا شَبرها سمهُم | فقضى لهفي لسمِ صَرَد |
وحسينٌ قلبها مهجتها | جائهم لما دعوه يهدي |
فتعاووا حولهُ أكلبهُم | كلُ نغل وخبث وغدِ |
جائهم في نفر قادَهُمُ | للقِفا وهو لهم كالشهُدِ |
شُهدا يقدمهم شاهدهم | أسداً أكرِم به من أسد |
وأشداءُ على الكفار ما | ماونوا عن حربهم عن شدِّ |
كم أبادوامن رجيم وهُمُ | يا رعى الله قليل العد |
فقضوا يا ليتني كنت بهم | غير ان الجد أصل الرد |
وحسين بعدهم إذ قتلوا | صار فرداً وهو سر الفرد |
داعياً يا قوم من ينصرنا | وهو معنا بجنان الخلد |
فاجابوه العدا سوف ترى | كل مكروه بضرب الهندي |
قتلوه ظامئاً بل قطعوا | رأسه منه بماضي الحد |
ثم علوه برُمح فاذا | هو كالبدر ببرج السعد(1) |
____________
1- عن الديوان المخطوط للشاعر الموجود في مكتبة الحرم الرضوي تحت رقم 14294 والتي أوقفها السيد محمد باقر السبزواري محرم 1405 هـ.ق.
الشيخ حسن الخطي
لم تقتصر "رثائيات الأدب الشيعي" على اظهار المأساة واستجلاب العواطف فحسب، بل غدت المأساة الشيعية منطلقاً للكمال الاجتماعي الذي من خلاله تستطيع الأمة بناء ذاتها والرجوع إلى أصالتها التي أفقدت جانباً مهما منها الظروف السياسية الحاكمية غير الرشيدة، ودعت هذه المأساة إلى استلهام روح الصبر والثبات من لدن أئمة آل البيت (عليهم السلام) وجعلها مشروعاً تنظيرياً تصبو من خلاله إلى تشكيلة الشخصية الإسلامية التي حرص على ايجادها الأئمة الاطهار (عليهم السلام).
أحدثت هذه "المدرسة الرثائية الوعظية" تحولا ملحوظاً في أغراض القصيدة الرثائية، ولم يعد الرثاء حالة استعطاف وتحريك مشاعر، بل صار الرثاء سبباً تربوياً يستطيع الشاعر من خلاله إلى ان ينحى منحى الموجّه المرشد، وتتغير ملامح الرثاء الأدبي من البكاء على الاطلال الجاهلي، إلى حالة تربوية يوجهها شاعر آل البيت (عليهم السلام) مستلهما من سلوكية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) محاولة بناء واكتمال.
قدّم الشيخ حسن الخطي نموذجاً ناجحاً من هذا اللون الرثائي وسلك مسلكاً تربوياً يستغل به مأساة آل البيت (عليهم السلام) ليقدّم طروحاته الاخلاقية، ويؤكد في محاولته هذه إلى أن الدنيا لم تكن دار راحة واستقرار، بل هي دار عناء وبلاء منطلقاً من توجيهات آل البيت (عليهم السلام)، ويستدل على أنها كذلك، بما جرى على خيرة الخلق وأفضل البرية محمد و آل محمد عليهم صلوات الله أجمعين، وكونهم أقرب الخلق إلى الله تعالى وأحبهم اليه وأفضلهم عنده، ومع
[28] واليك نموذجاً من مقطوعته "الرثائية الوعظية":
ومن ينظر الدنيا بعين بصيرة | يجدها أغاليطاً وأضغاث حالم |
ويوقظه نسيان ما قبل يومه | إلى انها مهما تكن طيف نائم |
ولكنها سحارة تظهر الفنا | بصورة موجود بقالب دائم |
ولا فرق في التحقيق بين مريرها | وما يدعي حلوا سوى وهم واهم |
فكيف بنعماها يغر أخو حجر | فيقرع ان فاتت لها سن نادم |
وهل ينبغي للعارفين ندامة | على فائت غير إكتساب المكارم |