حجة الاسلام
الدكتور
الشيخ أحمد الوائلي
لم يُعدْ الخطيب، الذي يُمثّله الشيخ أحمد الوائلي حافظاً مجرّداً يُلقي ما حفظه على سامعيه، ويردد ما قرأه على متلقيه، بل أحدث في مجال خطابته قفزة نوعية في مجال التحقيق والتدقيق، فضلا عما جمعه من تحصيلاته الحوزوية ليضيف اليها دراسته الاكاديمية، فيخرج بحصيلة علمية تحقيقية أدبية.
إن متطلبات الخطابة اليوم لم تعد حالة تقليدية يتكلفها الخطيب ليتلقاها المستمع،.
ولم يُعد الحدث التاريخي الملقى على المنبر مسؤوليةً ترديدية مجردة، يُلقيه الخطيب بأنه هكذا ورد، وهكذا يُلقى، وهكذا يُستقبل، بل انفتح الخطيب على الأدب المنبري ليحاور من خلاله الأمة، ويشخّص متطلباتها وينقل همومها على أساس المحاولة التحقيقية.
التزم الخطيب الذي مثّله الشيخ أحمد الوائلي في حدود مسؤوليته التحقيقية، وانطلق من التزامه الأدبي ليقدم مأساة الزهراء (عليها السلام) على انها العينة الممتازة للتاريخ المتخاذل الذي أحدثته الظروف غير الناضجة، وكانت واقعة اسقاط المحسن (عليه السلام)شاهداً مريراً على تلك المأساة.
كيف يدنو إلى حشاي الداء | وبقلبي الصديقة الزهراء |
من أبوها وبعلها وبنوها | صفوة ما لمثلهم قرناء |
أفق ينتمي إلى أفق الله | وناهيك ذلك الانتماء |
وكيان بناه أحمد خلقاً | ورته خديجة الغراء |
وعلي ضجيعه بالروح | صنعته وباركته السماء |
أي دهماء جللت أفق الاسلام | حتى تنكَّر الخلصاء |
أطعموك الهوان من بعد عزِّ | وعن الحب نابتِ البغضاء |
أ أضيعت آلاء أحمد فيهم | وضلال أن تجحد الالاء |
أولم يعلموا بأنكِ حب | المصطفى صبن تحفظ الآباء |
أفأجر الرسول هذا، وهذا | لمزيد من العطاء الجزاء |
أيها الموسع البتولة هضماً | ويك ما هكذا يكون الوفاء |
بلغة خصها النبي لذي | القربى كما صرحت به الانباء |
لا تساوي جزءاً لما في سبيل الله | أعطته أمُكِ السمحاء |
ثم فيها إلى مودة ذي القربى | سبيلٌ يمشي به الاتقياء |
لوبا أكرموك سُرَّ رسول الله | يا ويح من اليه أساءوا |
أيذادُ السبطان عن بلغة العيش | ويعطى تراثه البعداء |
وتبيت الزهراء غرثى ويُغذى | من جناها مروان والبغضاء |
أتروح الزهراء تطلب قوتاً | والذي استرفدوا بها أغنياء |
يا لوجد الهدى، أجل وعلى | الدنيا وأوعيت عليه العفاء |
تهنهي يا ابنة النبي عن الوجد | فلا برحت بكِ البُرحاء |
وأريحي عيناً وان أذبلتها | دمعة عند جفنها خرساء |
وانطوى فوق أضلع كسروها | فهي من بعد كسرهم انضاء |
وتناسي ذاك الجنين المدمَّى | وان استوحشت له الاحشاء |
وجبين محمد كان يرتاح | اليه مبارك وضّاء |
لطمته كفُ عن المجد والنخوة | فيما عهدتها شلاّءُ |
وسوار على ذراعيك من سوط | تمطّت بضربه اللؤماء |
في حشايا الظلام في مخدع | الزهراء آهُ ولوعة وبكاء |
وهي فوق الفراش نضو من الاسقام | كالغصن جفَّ عنه الماء. |
ألرزايا السوداء لم تبق منها | غير روح ألوى بها الأعياء |
ومسجَّى من جسمها وسمته | بالندوب السياط كيف تشاء |
وكسير من الضلوع تحامت | أن يراه ابن عمها فيساء |
فاستجارت بالموت والموت للروح | التي أدّها العذاب شفاء |
وبجفن الزهراء طيف تبدّى | فيه وجهُ الحبيب والسِّيماء |
وذراعا خديجة وابتهالُ | الأم تشتاق فرخها ودعاء |
فتمشت بجسمها خلجات | ومشى في جفونها إغماء |
وبدت في شفاهها همهماتٌ | لعلي في بعضها ايصاء |
بيتيمين وابنتين وباللأم | نبضٌ بقلبها الانباء |
ووصايا نمت عن الهضم والعتب | روتها من بعدها أسماء |
ثم ماتت ولهى فما أقبح | الخضراء مما جنوه والغبراء |
سجيِّت في فراشها وعليٌ | وبنوه على الفراش انحناء |
وتلاقت دموعهم فوق صدر | كان للمصطفى عليه ارتماء |
وعليٌ بمدمع يقتضيه الحزنُ | سكباً وتمنعُ الكبرياءُ |
فاحتوى فاطماً اليه ونادى | عزّيا بضعة النبي العزاء |
وتولى تجهيزها مثل ما | أوصته من حين مدت الظلماء |
وعلى القبر ذات حزناً ونَّدت | دمعة من عيونه وكفاء |
ثم نادى وديعةً يا رسول | الله رُدَّت وعينها حمـراء(1) |
____________
1- ديوان الوائلي: الشيخ أحمد الوائلي. انتشارات الشريف الرضي 1412 هـ.
حجة الإسلام
الشيخ عبد الستار الكاظمي
أغلقت بغداد الأدبية أبوابها على تراثياتها الأزرية، وتخميسات الشيخ جابر الكاظمي، وروائع السيد عيسى الكاظمي، ومقطوعات الشيخ كاظم آل نوح، وغيرهم من شعراء مدرسة الولاء الامامي الذي سجّل تاريخ آل البيت (عليهم السلام) في أرشفة ولائية متميزة، ولم تعقم هذه المدرسة إلى الأبد، بل أوجدت قابلية الانتماء اليها على مدى أجيال أدبية قادمة من خضمِّ صراع ثقافي عقائدي يُبرز أهمية الاغراض الشعرية الأخرى في القصيدة العربية
هذا ما حصل للشيخ عبد الستار الكاظمي فقد قرأ روائع الأزري، واستلهم ولائيات جابر الكاظمي، ونزح إلى مدرسة السيد عيسى الكاظمي، وحاكى ملاحم الشيخ كاظم آل نوح.. والاستاذ الشيخ عبد الستار الكاظمي لم تكن روائعه الأدبية من تقليديات شعراء أسلافه، بل قرأ لذاته وأسس لذاته مدرسة ولائية كاظمية خاصة، على طراز بغدادي أنيق..
ضم إلى حوزته الفقهية، دراساته الاكاديمية الأدبية، فهو بالاضافة إلى دراساته الحوزوية فقد انضم إلى السلك الاكاديمي في تحصيله، ووفق إلى نيل شهادة الماجستير في الأدب العربي فضلا عن خطابته المنبرية وتوجهه التبليغي الصميم.
تبكيكِ عيني عَبرَةً ساجمه | يا زهرةَ الفِردَوسِ يا فاطمه |
سبحانَ من سوّاكِ بَدراً تمام | أنوارُهُ تَجلو سوادَ الظلام |
ولِلهدى يدعوكِ خيرُ الأنام | أيَّتُها الصِّدِّيقةُ العالمه |
بيتُكِ في ظلِّ أبيكِ الرسول | مَهْبِطُ أملاكِ السَّما يا بَتول |
ميزانُكِ القرآنُ نورُ العقول | وأنتِ في ترتيلهِ هائِمه |
زهراءُ في صفاتِكِ الزاهِره | واضحةٌ آياتُكِ الباهره |
مِنكِ معاني العترةِ الطاهِره | ظاهرةٌ ناضِرةٌ قائِمه |
لمّا مضى والدُكِ المصطفى | ناديتِ: يا دُنيا عَليكِ العَفا |
والدهرُ قد جارَ وما أَنصَفا | مُذ غَصَبتكِ الزُمرةُ الظالمه |
حين اعتدى عليك اهلُ العِناد | في ظُلمهم لَمّا طَغَوا في الِبلاد |
فانقَلَبوا عن شرعِ ربِّ العِباد | إِذ أِسَّسوِها فِتنةً غاشِمه |
قال احرقوا دار عليٍّ وَمَرْ | قالوا بها الزهراءُ مَهُ مالخَبَر |
قال وإنْ فَأَحْرَقوا في الأثر | بابَ الهُدى والنِعمةِ الدائمه |
في هَمِّها مرّت على الساخطِ | جاءت وبينَ البابِ والحائِطِ |
قد عُصرت من ظالم ساقِطِ | في الدَّفعَةِ الغادِرَةِ الآثِمه |
قد أنبتوا المِسْمارَ في صَدرِها | وأسقَطُوا الجنينَ في عَصرِها |
فَضجَّتِ الأملاكُ من صبرها | وَيلٌ لِمَنْ كانَتْ لهُ خاصِمه |
مصائبٌ صَبَّتُ بتِلكَ الفِتن | جرَّعها الأعداءُ كأسَ الِمحَن |
ما ذاقَتِ الراحةَ أُمُّ الحسن | حتّى مَضَتْ علَيهمُ ناقِمه |
مظلومَة قد كسروا قلبَها | تَدعوا على أَعدائها رَبَّها |
مكسورة الضِّلعِ فَضَتْ نَحْبَها | مهمومة مَحرومة واجِمه |
أيا مكسورة الضِلع | سيبقى جارياً دمعي |
ألا يا اُمّي الزهراء | بهمي طيلةَ العُمرِ |
أنا في حالكِ أدرى | لأنّي صاحبُ الأمرِ |
بصدري أحملُ الصبرا | ولكن فتّني صبري |
وعيني لم تَزل عبرى | لذاكَ الضلعِ والكسرِ |
لما لاقيتِ من صَدع | سيبقى جارياً دمعي |
معَ الأحزانِ والهمِّ | سكنتِ دارَ أحزانِ |
ومن ضِلعِكِ يا اُمّي | وَرثتُ نارَ أشجاني |
وممّا ذُقتِ مِنْ هَضم | وجُرِّعتِ مِنَ الثاني |
أثار الدهرَ في الظُّلمِ | وأبدى كُلَّ طغيانِ |
فمن آلائك طبعي | سيبقى جارياً دمعي |
أيا أُمّاهُ من يقوى | ويقضي طولَ أعمارِ |
وعن فكري فلا تُطوى | وتُنسى قصةُ الدارِ |
فهذي مُهجتي تُكوى | بجمرِ البابِ والنارِ |
سأبقى دونما سلوى | إلى ما قدّر الباري |
فمن أغصانِكِ فرعي | سيبقى جارياً دمعي |
أرى أحبابَنا تنعى | وتدعو أيُّها المهدي |
أتَنسى البابَ والضِلعا | وتُجري الدَّمعَ في الخدِّ |
ولاستِنهاضِهِمْ أرعى | قضاءَ الواحدِ الفردِ |
ويوماً أسْحَقُ الجَمعا | إذا ما حان لي وعدي |
لأخذ الثأر في الجمع | سيبقى جارياً دمعي |
فهل للقلبِ أن ينسى | جنيناً طاحَ مظلوما؟ |
لهُ لَمْ يَسْمَعوا حِسّاً | بريئاً راحَ مهموما |
لِقلبِ الرِجسِ ما أقسى | وقد روّاهُ محتوما! |
تلاقي شيعتي الشمسا | ويبدو الأمْرَ معلوماً |
مع القرآنِ والشَّرع | سيبقى جارياً دمعي |
ستتلو آيةُ السيفِ | فصولَ الثأرِ في الصُبح |
وللأجدادِ والَهفي | ودمعي جَدَّ في السَّحِّ |
على المَذْبُوحِ في الطفِّ | سَتَعلو رايةُ الفتحِ |
وفي ثاراته أُشْفي | غَليلي دُونَما صَفحِ |
ومِنْ أحزانِكُم وَضعي | سيبقى جارياً دمعي |
المهندسة السيدة
كوثر شاهين
لم تقتصر أدبيات الرثاء الفاطمي على مدارس الشعر التقليدية من الحواضر العراقية، أو بلدان الساحل الخليجي كالقطيف والبحرين، بل استطاعت هذه المأساة أن تزحف حتى إلى أدبيات الشام الحلبية التي أسدل الستار على مدارسها الشعرية الإمامية منذ عهد الحمدانيين، إلاّ من بقايا ومضات سريعة عابرة، أو لمحات خاطفة حذرة تشير من قريب أو من بعيد إلى مراث شيعية خاصة.
كان لتفاعل مدرسة السيدة كوثر شاهين الأدبية مع المأساة الفاطمية، أثرهُ في انفتاح الدائرة الأدبية السورية على معالم الرثاء الفاطمي بعد انحسارها لاسباب سياسية خَطّتْ للمدارس الأدبية حدود المحذور الذي لا يمكن تجاوزه أو تخطيه، والسيدة كوثر شاهين اخترقت هذه الحدود، وانفتحت على مدرسة أدبية رائعة أعادت للادب السوري حيويته، وللقصيدة الحلبية الحمدانية مجدها المضيّع، وتراثها العزيز..
إن أهمية مقطوعة السيدة كوثر شاهين تتأتى من وعي الحس النسوي ومشاركته للوجدان الإسلامي في قراءة التاريخ، وتبويب الاحداث على أساس وعي ناضج رشيد.
أيقِظ حروفَ الشعرِ ذاكَ ولائي | للمصطفى الهادي غدي ورجائي |
في مولدِ الزهراءِ جئتُ مُصَلّياً | أدعو بحرفِ الخالقِ المِعطاءِ |
(إنّا) يقول الله في تنزيله | بالحرف: (أعطيناك) من لأَلاءِ |
نُوراً تجدهُ بفاطم أمحمّدٌ | (بالكوثر) الطُّهرِ الهُدى للرائي |
سِبْطَاكَ خيرُ الخلق بين ملائكِ | في جنّةِ من خيرةِ الأبناءِ |
وأبوهما نورٌ لفاطم مُذ حَبا | في حِجرِك المشفوعِ بالأعباءِ |
نُوران في رأس لآدم ثمّ في | جَدٍّ أرادَ النَذْرَ بالإيفاءِ |
نَذراً كإسماعيلَ يفدي قلبه | مئةُ تنيخُ بقاحِل الصحراءِ |
ويعودُ عبدالله يحمِلُ (نورَه) | وأخوه عمُّكَ جاهراً بنداءِ |
والكعبة الزهراء تشهدُ مولداً | للنور (صِنوكَ) رائعاً بعَلاءِ |
سَمَاهُ ربُكَ بالعَليّ مناجياً | وأبا تَراب قلتَ بالإيلاءِ |
فهو القسيم الحقُّ يوم الملتقى | وهو الوصيّ، العلمُ، باب ولاء |
زوَّجتَهُ الزهراء تحنو مثلما | أمّ رؤوم ترتجي بإباءِ |
ولفاطم قلت: انْظُري خيرَ الاُلى | من ربّ عرش ناظر بسماءِ |
هذا أبواكِ اختاره لرسالة | واختار زوجك حامي الفُقراءِ |
والدينِ والقُرآنِ والآي الذي | قد جاء جِبريلٌ بخير أداءِ |
يا بَضْعَة المختار يا اُمّ الهُدى | يا اُمّ زينَب كيف لي وولائي |
للعِترة الأطهار يسري في دمي | أختطّ حرفاً والدموع دمائي |
في (الطفّ) في (أُحد) و (مُؤتة) أو ما | لاقيتِهِ يوماً بظُلم بلاءِ |
ناديتِ يا أبتاه فانْظُر نحونا | والأرضُ مادت كُلُّها لنداءِ |
والمحسنُ المعصومُ من سمّاهُ في | رَحِم حبيبُ الله في العلياءِ |
أجهضتِ واويلاه من ظُلم سرى | والنار حول الدار بالأرجاءِ |
فبكت سماءٌ والشِّعاب وما بها | ألماً لصوت ندائكِ البَكّاءِ |
كالطير مجروحاً غدَت زهراؤنا | بفجيعَتَين تلاقَتا وعَناءِ |
موتِ النبيّ ببيت أحزان غَدَت | وفجيعةِ الخِذلان بعد ولاءِ |
وَالُوهُ قال محمّد لمن ابتغى | نورَ الجِنان فحبُّهُ إحيائي |
والمبُغِضونَ لهم جهنّم مَوئلااً | والله يبغُضهم بكلّ قضاءِ |
وَعْثَاءَ درب كم خطوتِ سبيلها | وورِثتِ نُور النور والآباءِ |
كي تُفرعين الحقّ في السبطين في | أُمّ المصائب زينب ليلاءِ |
سمّاك سيدةَ النساءِ طهورة | زهراءُ أنت محجّتي ورجائي(1) |
____________
1- ومضات من نهج الثورة: 107.