عبد الهادي المخوضر
إذا كان العقد الرابع الميلادي قد شهد نقلةً جديدةً في بناء القصيدة الشعرية على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة فان العقد التسعيني من القرن الميلادي قد شهد ولادة القصيدة العربية من الشعر الحر البحراني على يد مبدعه الاستاذ عبد الهادي المخوضر.
وإذا كانت الرؤى السياسية المختلفة قد شاركت في صياغة التركيبة الفنية للشعر الحر، فان الضرورة العقائدية التي دفعت بأديب البحرين، "عبد الهادي المخوضر" إلى أن يبعث بالقصيدة العربية من الشعر الحر ليبثّها
هكذا تميزت مدرسة المخوضر "الابداعية"، فالحس الفاطمي الذي يحمله مشروعه الأدبي، قد سجّل حضوراً مهمّاً في اثبات المأساة الفاطمية، والجهد الابداعي قد وظّفهُ "المخوضر" للتعبير عن الرؤية البحرانية التي يعيشها الشاعر فيحمل هو اجس البحرانيين إلى الأمة الإسلامية، ولعل ابداعيات المخوضر الأدبية، دعوة كريمة إلى رواد الحواضر الأدبية لتكريس الجهود الابداعية من أجل اثبات قضية أهملتها المشاريع السياسية، وأماتتها المحاولات التنظيرية المبطّنة.
أعاد المخوضر أمجاد الولاء البحريني، كما أعاد إلى الأذهان إنبعاث القصيدة الملتزمة، ولعل المشاريع التجديدية التي شهدتها القصيدة الأدبية كانت على حساب المسلّمات والثوابت، لكن "محاولات المخوضر" الأدبية كانت تجديداً لصياغة هذه المسلمات والثوابت، أي أن "مدرسة المخوضر" التجديدية كانت انبعاثاً فنياً طموحاً، تلتقي مع مدرسته التقليدية الناضجة، فتعبّر عن توجهات الشاعر الملتزمة.
استطاع "المخوضر" أن يشارك في المشروع الفاطمي بصياغته الجديدة، ووفّق في الوقت نفسه أن يحافظ على ثوابت هذا المشروع فيبعثهُ إطلالةَ تاريخ على أمة مظلومة.
في ديوانه الموسوم "عليك تبكي السماء" قدّم محاولاته الناجحة، وعبّر
[141] واليك باقةً من مقطوعاته:
في ظلمة الليل
والحزن مدرن
يخِّبىء الاجساد
قد حملوا الجسم على الاعواد
شهيدةٌ خبّأها الثوار
في ظلمة الليل
والحزن في أفئدة ثكلى...
ـ أين يخبئونها وها هموا عادوا
سيفتحون قبرها
ويجمعون الحطب والنار
سيحر قون الجسد المذبوح
ويحرقون ضلعها المكسور
ويشعلون النار
فضَّجت الثورة في الاعماق
شقوا لها القبر وخطوا بدموع الحزن.. "أين الثار"؟!!!
فانتفض التراب مثل النور
وضج "أين الثار"؟!!
فعانق الحسين من ترابها الثورة والاصرار
بالودج المنحور..!!
فداؤكِ يا أم أوداجي
فداءُ هذا الضلع نحري
صدري المرضوض
وطفلك بطفلي المذبوح
ـ على ذراعي ـ لن يجفَّ دمُه الفّوار
وحرق دارك بحرق خيمي.."
وصاح "يا أماه لا
وعا نقوا القبر وعادوا والخطى جرحٌ
تذكّروا أن لهم أمّاً
ثائرة... دماؤها على بقايا عتبات الدار!!
[142] الزهراء على تراب الطف.. واولداه!!
تمشي وفي أضلاعها هزةٌ | ورعشة تسليها عارمه |
إذ وقفت وعينها أدمعٌ | وصرخةٌ.. وعبرة هائمه |
تخمش وجه الحب في حسرة | ورأسها ـ لو ترها ـ لاطمه |
وقد رمتْ في الطف أوجاعها | من؟ قيل هذي أمهُ فاطمه |
تحنو على أوصاله تارةً | وروحها في حسرة آلمه |
"حسين.. أين الرأس هذا دمٌ | منبعثٌ في ثورة عارمه |
أبحث عن رأسك في أمة | عليك لم تبرح هنا ناقمه" |
"واولداه ان قلبي دمُ | عليك.. فالجرح به مؤلمُ |
أراك والسيوف في غدرها | يا جسدٌ تنهشهُ الاسهم |
سهم على قلبك في خاطري | ثلَّث قلبي... فاستفاق الدم |
يا ولدي جسماً قتيلا ولم | يبرح وما غسله مسلمُ |
بل جالت الخيل على صدره | كسّرت الاضلع والاعظم |
يا ولدي أجب فؤاد الاسى | أليس في قلب الاسى مأتم؟!! |
من الذي جدّل أوصاله | من حفر الصدر ومن كسرا؟ |
واحتضنت فاطمُ في لهفة | ريحانة القلب.. فما ذا أرى |
أرى السماء عانقت حزنها | واهتزت الارض وذاب الثرى |
واولداه إن جرحي هنا | مجدّل الاوصال فوق العرا |
واولداه... وانثنت فاطمٌ | في ألم تقبّل المنحرا |
لكم فقدتٌ والفؤاد انبرى | لكن كيوم الطف ما أثّرا |
يا للأسى والنحر في فيضه | يبقى ويبقى في دم أدهرا |
يا ولدي حسين ريحانتي | أصبغ شعرى بدمِ المنحر |
أطلبُ ثأراً في لوعة | من ألم الايام والاعصر |
زهراء هذا ابنك ما زال لم | يبرح دماً والثأرُ لم يثأرِ |
الجرح ما زال فأين الذين | يُشفيه... يا فاطم هيا اثأري |
خذي سيوفاً من دم هادر | من عرصة الطف ومنها اعبري |
زهراء أن صبرت على | أضلاعك فالآن لا تصبري |
أتبعثين الارض ثوريةً | أم تطلبين الثأر في المحشرِ |
قالت: أنا الزهراء ثأرُ وذا | ثأر جديد الجرح لا يندمل |
ان كان صبري يوم إن كُسِّرت | أضلاع صدري والاسى ينهمل |
أو انْ صبرت إن هوى (محسنُ) | فكيف صبري والحسين قتل؟!! |
والخيل فوق الصدر رداحةٌ | تكسِّر الاضلاع.. لا أحتمل |
سأحمل اليوم سيوف الفدا | قِدماً، وللجليل فلأبتهل |
يا رب أين ثأره أينه؟! | (ذا حسين في العرا منجدل) |
أثور للحسين أفدي دمي | ومن دماه بدمي المتصل |
يا دهرُ كم فيك أساً ماله | بعد مآسي الطف من موئلِ |
فيه رسول الله مصروع والـ | زهراء يا مظلومة الأول |
هذا عليُ المرتضى في دم | يا نائحات الدهر فابكي علي |
والحسن المسموم في كربلاء | مجدّل في دمه المرسلِ |
ان قيل: السبط قتيلٌ بها | فمصرع الاطهار قد قيل لي |
للطف ثأرُ فاطلبي ثأره | وعن حسين امتي فاسألي |
تريه ما زال وفوق الثرى | والشمر ما زال فيها اقتلي |
يشع يوم الحشر يفتنُ لوجه نيِّرِ
واقفةٌ فاطمةٌ نوراء مثل القمرِ
أطل منها الحزن والاسى بأشجى الصور
فاطمةٌ داميةُ العينين يوم المحشر
واقفة على ذيول جنة المقتدر
ـ فاطمة مالِوقوفك؟! ادخليها وابشري
زهراء.. هذه الجنان فانعميها واصبري أدارتِ القلب وأبدتْ مِن شجونِ الذكر
ما أشعل الفؤاد هذا حزنها في الأثر
"... ظلامتي رباه قد أشجت عيون القدر
يا عدلُ.. يا حكيم.. شعَّ العدلُ بين البشرِ
تنعَّم الخلق وحزني فاللظى المستعرِ.."
فيسكنُ الخاطر جبرئيلُ: زهراء... اثأري
واعرضي ظلامةَ الايام كالمعتصر
زهراء أين يبدأ الثأرُ بأشجى الفِكر؟!!
.. بالحسن المسموم.. من فؤاده المنفطرِ
تقول: لا.. يقول: أم بضلعك المنكسرِ
تصيح: لا يقول: أم بالمحسن المعفَّرِ
لا فأجال الطرفَ.. يالدهشة التحيرِ
.. فأوفدت أحزانها في لوعة التصبرِ
وأخرجت كفي أبي الفضلِ شهيد الغير
... ما ذنب هاتين سلاح ثائر منتصرِ
وكانتا سيفاً تقارعانِ.. عبر السّيرِ
وكانتا تقارعان سلطة التجبّرِ
مقطوعتان.. لم تزالا في شجون الاعصرِ
وكانتا حمى الحسين السبط خير البشر
أحزان عاشوراء ثأر الله يوم المحشر
وكربلاء شمعةُ منها انصباب العِبَرِ
[144]
الثأر يا زهراء..
.. الثأر.. يا زهراء
هذا دمُ الحسينْ
تصيحُ: أين الثار
قلبٌ على السموم
نحرٌ على الدماء
يستنهض الاحرار
الثأر للحسنْ
الثأر للحسينْ
(بتول) أين الثأر
سبطان يقتلان
فأين الحسنان
شرارة الثوار
قفي على البقيعْ
ولتذرفي الدموعْ
واستنهضي الاثار
ولفِلفي... زهراء
فؤاده الجريحْ
يا بضعة المختارْ
وطعنة المسمارْ
وعصرةُ الجدارْ
وامضي لكربلاءْ
وصّبغي اليدين
من منحر فوارْ
مقطّعْ الاوصال
هذا دم الحسينْ.. ورأسه يدارْ
وعرِّجى البقيعْ
وصبّغي الحسنْ من منحر الحسينْ
وصيحي أين الثارْ
أدرت النظر | وصغتُ الفِكر |
وهمت على.. | سايحات الذكر |
وعادت لنا | ذكريات السنين |
فسرحتْ مِن | ذكرياتي العبر |
وطفتُ وإذ أنابين الشهورْ | وإذ هلَّ شهرُ المآسي (صفر) |
فأوقدتُ حزني على الطيبين | على الطاهرين هداة البشر |
ففي سبعة منه سبط الرسول | مصابٌ عليه وحزنٌ أمر |
تجرعَ من غصص العادياتْ | وروحي فداهُ من السم خر |
وفيه الرضا الاريحي المهابْ | غريباً قضى مثل بدر أغر |
على فقده زفرةٌ وشجون | أيا سيداً مثل بدر عبر |
عليه فؤادي يصبُ الأسى | على ثائر من هداةِ مُضر |
وفيه تزور السبايا الحسين | وقد أتعبنها طويل السفر |
وقد تتلوى عليها السياط | تذوق الاسى والعذاب الأمر |
وزينب فيه تحب اللقاء | وتجرع من كل حزن أمر |
وعادت وقد لوّحت بالرؤوس | رماحُ الاعادي تهيج الذكر |
ألمّتْ بهن خطوب الزمان | فعدن أسارى بثوبِ الكدر |
(أعد ذكرهم) فالفؤاد على | مصاب الاحباء آه انفطر |
وقبل مضيٍّ لأيامه | مصيبة فقد رسول البشر |
وفاطمة ودموع الفؤاد | ترشّحُ منها دموع الفِكر |
"أبي من لنا يرفع العاديات | فهذا فؤادي عليك اعتصر" |
وتعدو الليالي على فاطم | ويُكسر ضلع ويحُمى ظهر |
ومسمار باب عرى صدرها | وخدرٌ وعز مضى وانحسر |
على قلبنا كل حزن جديد | إذا ما مضى الدهر عادتْ ذِكر |
أراك على القلب مثل السيوف | وآه عليك (مآسي صفر)(1) |
____________
1- عليك تبكي السماء. ديوان عبد الهادي المخوضر. دار الهادي بيروت طبعة اولى 1992 م.
الشيخ جعفر الهلالي
أطل على ثقافة الساحل الخليجية، بحكم ولادته في الحاضرة الأدبية البصرية، فجمع بين عراقية العطاء البصري وبين ساحلية الأدب الخليجي، ونقل تجربته الادبية هذه إلى النجف العلمية حيث الحوزة تبسط ذراعيها على حواضر الأدب الإسلامية، لتوجّه الأدب المجّرد إلى أدب ملتزم مسؤول.
قدّم عطاءات أدبية كانت معظمها تحقيقية، وأكد في محاولاته محاكمة التاريخ باسلوب أدبي رائع، واختزل في ملحمته العلوية قراءة التاريخ المضنية
في هذه الملحمة العلوية كانت مأساة الزهراء (عليها السلام) واسقاط المحسن الدليل القاطع لمجريات الحدث العلوي، وكانت المأساة الفاطمية تقريراً مُسبقاً لأحداث علوية قادمة، ومقدمة لملاحم دامية سوف تُحدثها مأساة فاطمة (عليها السلام).
أما ما عزز روعة ملحمته سابقته العلمية التحقيقية. واطلالة على بعض حياته توقفنا على ذلك:
"هو الشيخ جعفر بن الشيخ عبد الحميد بن ابراهيم بن حسين بن علي الهلالي البصري النجفي.
ولد في البصرة عام 1927 م ونشأ منها على والده ودرس في المدارس الرسمية وتعلم الخطابة الحسينية وواصل دراسته العلمية في النجف الاشرف فأخذ الفقه والأصول والمنطق والعلوم العربية على يد مجموعة من الاساتذة منهمالسيد أحمد النحوي الاحسائي والشيخ حسين الفرطوسي والسيد جواد العاملي والشيخ علي البصري والسيد حسين بحر العلوم والشيخ علي بن يحيى القطيفي والسيد محمد تقي الحكيم، ولما أسست كلية الفقه في النجف كان أحد طلابها لأربع سنوات وتخرج منها سنة 63 ـ 1964 حاصلا على شهادة البكا لوريوس في العلوم العربية والاسلامية..
بدأ ينظم الشعر مبكراً وله نماذج شعرية منها:
ذكراك با بطل الخلود بمسمعي | خطرت فكانت في القصيدة مطلعي |
وتفجرت بفمي فرحت أبثها | مدحاً تفوح بنشرك المتضوع |
ماذا يقول أخو القريض وأنت من | قدراً سموت على السماء الارفع |
إلى آخر القصيدة
ومما قاله في الحسين (عليه السلام):
قف بالطفوف وحي السبط مكتئباً | وحيى فيه العلى والمجد والحسبا |
وحي فيه بدنيا الحقِّ رمز هدى | ما زال يكشف عنا الزيف والرِّيبا |
إلى آخر القصيدة.
من مؤلفاته:
1 ـ معجم شعراء الحسين (عليه السلام)، عمل موسوعي ضخم يضم تراجم مئات من الشعراء العرب من مختلف الاقطار العربية ممن نظموا الشعر في الامام الحسين (عليه السلام).. لا يزال قيد التبويب والتنظيم.
2 ـ الفيلسوف محمد باقر الداماد (دراسة)
3 ـ بحث في منهج ديكارت.
4 ـ الأذواء والذوات.
5 ـ مع المؤرخين، تناول فيه الشبهات التي أوردها بعض المؤرخين على الامامية.
6 ـ مستدرك على كتاب الكنى والالقاب.
8 ـ المجالس الحسينية تناول فيها تاريخ وأحوال النبي (صلى الله عليه وآله) والزهراء والائمة (عليهم السلام).
9 ـ الاوليات: اهتم فيه بتسجيل أوائل الاحداث والاخبار الحادثة للمرة الأولى على نهج ابن قتيبة والسيوطي فيما كتبوه عن الاوائل.
10 ـ ديوان الهلالي: ضم جميع شعره عامة في أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم.
11 ـ الملحمة الغراء في مدح سيد الاوصياء.
12 ـ الادب العربي في الاحساء: ترجم فيه لجماعة من أدباء وشعراء الاحساء.."(1)
13 ـ مقالات أدبية في جملة تراثنا الفصلية التي تصدرها مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)لاحياء التراث.
____________
1- الملحمة العلوية للشيخ جعفر الهلالي تحقيق محمد سعيد الطريحي. المقدمة.